ويصبح الهدف الأسمى لحكام العرب، ان يبقوا على كراسهيم، وهم لا يدرون، مرارة الحرب، الحرب التى باتت هى الوسيلة للبقاء، وإن كانت الحرب ضد مغتصب، فأهلا بها، والجميع عليه أن يلبى، أما أن تكون الحرب ضد مُختَلفِ فى الرأى، فتلك هى الماساة التى تعبر عنها الكاتبة السورية، فى صورة أخرى لمعاناة المرأة العربية، ولتقول أن رغبات الحكام، يدفع ثمنها النساء .. قبل الرجال.

نداء الواجب

بهـية كحيل

 

أطفئت أنوار المدينة، فخيمت العتمة في ساحاتها، الكلاب تنبح، الذئاب تعوي، والخطيئة تحوم في الطرقات، تموء قطط شباطية  على أرصفة الخوف والظلمة في المدينة الثكلى، خلعت يأسها وشمرت عن آلامها، فمياه النهر الذي يتوسط المدينة،عذبة منعشة، الشمس حارة محرقة ألهبت حواسها، للخوف شهوة و للحب ضريبة يجب أن تدفع، لا بد من أن تدفع، انسلت بهدوء من وراء قطعة قماش نصف مهترئة معلقة على باب البناء ،الذي لم يكتمل إنشاؤه بعد.

ابتلعت قهرها ومسحت دمعة بطرف سبابتها، فقد نام الأولاد الأربعة جائعين، الغرفة البائسة التي تقع في الطابق الأرضي تنوء بفقرها، فالزوج رحل منذ سنتين ولم تعد تعلم عنه شيئاً، رحل ليلبي نداء الواجب، كما قال لها في آخر ليلة جمعتهما، رحل وترك لها أربعة أفواه جائعة، ثماني عيون حائرة تجلد صباحاتها ومساءاتها، وترك لها جسداً أثقلته الآلام، يفور عافية وشباباً، لا تمتلك غيره،  وها هي ذي الآن تجول في شوارع المدينة تبحث عن عمل بهذا الرأسمال، الذي تملكه فهي لا تملك إلا العافية والشباب، سامحك الله يا أبي لمَ لم تدعني أكمل تعليمي، قالوا عني: إنني جميلة ويجب أن أتزوج، وأن أنستر في بيت زوجي، أين أنت أيها الزوج الذي ستسترني، لمَ تركتني ورحلت؟ ما الذي دفعك للرحيل؟ وما الذي أجبرك على الغياب.. تنوء الذاكرة بوجعها (البلد ينادي)، قالها وغاب في لجة الحرب، نعم البلد يناديك، ونحن نناديك أيضاً، نحن بحاجة إليك، فالبلد له ملايين الأولاد، أما نحن فليس لنا سواك، ثلاثون عاماً تفور بجسدها، تقتفي أثر الرجولة على دروب عبّدتها نار الشهوة، كحبة سكر لذيذة الطعم، ابتلعها النهر غاصت به وغاص بها، ذابت ولم تعد تسمع سوى صدى نداء حفر في ذاكرتها جرحاً غائراً ما زال ينزف عتباً) يقف الأب أمام والدتها مشيراً بسبابته يجب أن نزوجها، البنت زواجها سترة يا امرأة، اختبأت خلف الباب تسمع الحوار وتبكي لفراق صديقاتها في المدرسة الإعدادية( تجرفها مياه النهر العذبة )سلاحف، أسماك، أوراق، شجر، طحالب لزجة( تشبه لزوجة أفواه بعضهم تئن بصمت، فالنهر كاد أن يكتم أنفاسها، تشهق ترتعد، ترفع رأسها فوق الماء لتأخذ نفساً، تراهم مكومين في صفحة السماء، أربعة أولاد لم يتجاوز أكبرهم العاشرة، تذرف عيونهم لون الكرامة، دمع الانكسار، يلوح الأسى في قسماتهم الحائرة، تغشي وجوههم صفرة الجوع، ثم هدير طائرة يفتت لوحة السماء، ترتجف ترتعش وتغوص ثانية، يضمها النهر ويبتلعها بنهم، سمكة زينة بديعة التكوين تصفعها موجة مثقلة برواسب كريهة الرائحة، حيث تفرغ المدينة المنحوسة، فضلات أيامها، بقايا أحذية مدنية وعسكرية، فوارغ أسلحة، رائحة نيران وبارود وعرق.

أدار وجهه الرجل المدجج...ابتسم بمكر وخبث لعق شفتين شققتهما أشعة الشمس وعلى ورقة صغيرة سجل لها عنواناً ورقماً، ثم ببرود لئيم (سيعطونك حصتين بدل الواحدة) عودي بعد يومين، شهقت، استنشقت ماء آسناً، غالبت الموجة وخرجت من النهر تركض حافية القدمين.. على ضفاف الشوك وركام الخيبة، تراب، شظايا، أحجار، وبقايا زجاج لن يعود كما كان، آلم قدميها الغضتين كما وصفهما الرجل القميء، تنوء بوجعها تصيح بألم صيحات مكتومة، تبتلع ذلها، تزدرد ابتسامة وهي تضع لهم وجبة العشاء، تجلس بعيدة تراقب حبات الرز المغموسة بذلها وعرقها .

أمي لذيذ هذا الطعام ( قالها أوسطهم )، أحدهم يترك الملعقة ويلتهم وجبته بيديه  يلتفت إليها الكبير: لماذا لا تأكلين يا أمي؟ نظر إليها بعينين تفيضان بواكير أسئلة لم تتضح معالمها بعد .

تأوي إلى فراشها متعبة، فالنهر شديد الجريان أنهك أعطافها وخلف كدمات زرقاء على جسدها.. التفت بثوب أسود فضفاض، وهجعت في ركن قصي من الغرفة البائسة سنونوة مهيضة الجناح، يظهر أمام عينيها خيال رجل.. طيف ذكر ..مدجج أيضاً لكنه يستلّ سكيناً من جعبته يقترب، يصرخ، يا فاجرة ثم يهوي عليها.

 تشعر بنشوة لا مثيل لها وبلذة لا يشبهها شيء طعناته تروي روحها، وتبعد شبح إثم عن ذاتها تقترب منه أكثر، تحملق في عينيه اللتين نسيت لونهما، فتخترقها طعناته بقوة أكبر تهمس له بحرارة.. فيصيح بغضب يا عاهرة.

تغرق بعرقها في ثوبها الأسود الفضفاض تئن تحت وطأة ليلة قاسية ، تدفن وجهها في شبه وسادة، تحت غطاء ممزق، وتظل صرخات الزوج الذي رحل ليلبي نداء الواجب تصم أذنيها، تدمي قلبها تسكن جوارحها يا فااااااا.......

رغم ذلك وفي الصباح التالي تنهض متثاقلة، تخلع ثوبها الفضفاض، تعقص شعرها الكستنائي الجميل، وتمشي بلا وعي باتجاه النهر، فلتذهب الحرب اللعينة إلى الجحيم، وليذهب زوجي إلى الجحيم أيضاً، ها هي ذي المدينة المنكوبة، تدخل غرفة الإنعاش وفي برزخ الأخلاق بين الموت والحياة فقدت عذريتها وغاصت في الوحل.

تناسلت المدينة، نعم تناسلت في غيبوبتها، فأنجبت أولاد حرام.

جسداً بلا روح، سارت حتى وصلت إلى دوار الصخرة، في مدينة حلب، اقتربت بانكسار من السيارة الفارهة، ناداها: تعالي ،أشار بيده أن اصعدي يلفحها وهج حار، يلفها صقيع بارد إنه لا يعدو كونه نصف رجل، أعوامه المتراكمة تجلد روحها، فتفيض مسامات جلدها قرفاً وكرهاً، رائحة فمه النتنة تثير اشمئزازها ولا تمتلك إلا أن تبتسم وتدفع هي وأولادها ضريبة حرب قذرة لم تدع ولم تذر، وضريبة ذلك الذي ذهب ليلبي نداء الواجب تاركاً إياها من دون أي شعور بالإثم.