أطفئت أنوار المدينة، فخيمت العتمة في ساحاتها، الكلاب تنبح، الذئاب تعوي، والخطيئة تحوم في الطرقات، تموء قطط شباطية على أرصفة الخوف والظلمة في المدينة الثكلى، خلعت يأسها وشمرت عن آلامها، فمياه النهر الذي يتوسط المدينة،عذبة منعشة، الشمس حارة محرقة ألهبت حواسها، للخوف شهوة و للحب ضريبة يجب أن تدفع، لا بد من أن تدفع، انسلت بهدوء من وراء قطعة قماش نصف مهترئة معلقة على باب البناء ،الذي لم يكتمل إنشاؤه بعد.
أدار وجهه الرجل المدجج...ابتسم بمكر وخبث لعق شفتين شققتهما أشعة الشمس وعلى ورقة صغيرة سجل لها عنواناً ورقماً، ثم ببرود لئيم (سيعطونك حصتين بدل الواحدة) عودي بعد يومين، شهقت، استنشقت ماء آسناً، غالبت الموجة وخرجت من النهر تركض حافية القدمين.. على ضفاف الشوك وركام الخيبة، تراب، شظايا، أحجار، وبقايا زجاج لن يعود كما كان، آلم قدميها الغضتين كما وصفهما الرجل القميء، تنوء بوجعها تصيح بألم صيحات مكتومة، تبتلع ذلها، تزدرد ابتسامة وهي تضع لهم وجبة العشاء، تجلس بعيدة تراقب حبات الرز المغموسة بذلها وعرقها .
أمي لذيذ هذا الطعام ( قالها أوسطهم )، أحدهم يترك الملعقة ويلتهم وجبته بيديه يلتفت إليها الكبير: لماذا لا تأكلين يا أمي؟ نظر إليها بعينين تفيضان بواكير أسئلة لم تتضح معالمها بعد .
تشعر بنشوة لا مثيل لها وبلذة لا يشبهها شيء طعناته تروي روحها، وتبعد شبح إثم عن ذاتها تقترب منه أكثر، تحملق في عينيه اللتين نسيت لونهما، فتخترقها طعناته بقوة أكبر تهمس له بحرارة.. فيصيح بغضب يا عاهرة.
تغرق بعرقها في ثوبها الأسود الفضفاض تئن تحت وطأة ليلة قاسية ، تدفن وجهها في شبه وسادة، تحت غطاء ممزق، وتظل صرخات الزوج الذي رحل ليلبي نداء الواجب تصم أذنيها، تدمي قلبها تسكن جوارحها يا فااااااا.......
رغم ذلك وفي الصباح التالي تنهض متثاقلة، تخلع ثوبها الفضفاض، تعقص شعرها الكستنائي الجميل، وتمشي بلا وعي باتجاه النهر، فلتذهب الحرب اللعينة إلى الجحيم، وليذهب زوجي إلى الجحيم أيضاً، ها هي ذي المدينة المنكوبة، تدخل غرفة الإنعاش وفي برزخ الأخلاق بين الموت والحياة فقدت عذريتها وغاصت في الوحل.
تناسلت المدينة، نعم تناسلت في غيبوبتها، فأنجبت أولاد حرام.
جسداً بلا روح، سارت حتى وصلت إلى دوار الصخرة، في مدينة حلب، اقتربت بانكسار من السيارة الفارهة، ناداها: تعالي ،أشار بيده أن اصعدي يلفحها وهج حار، يلفها صقيع بارد إنه لا يعدو كونه نصف رجل، أعوامه المتراكمة تجلد روحها، فتفيض مسامات جلدها قرفاً وكرهاً، رائحة فمه النتنة تثير اشمئزازها ولا تمتلك إلا أن تبتسم وتدفع هي وأولادها ضريبة حرب قذرة لم تدع ولم تذر، وضريبة ذلك الذي ذهب ليلبي نداء الواجب تاركاً إياها من دون أي شعور بالإثم.