كما يقال بأن العنوان هو العتبة الأولى للعمل الأدبى، فقد استخدمه الكاتب، ليضع قارئ قصته فى صميم القصة، ويحدد له رؤيتها البعيدة، فإذا كان ذا الشبشب الكبير قد رأى طيف الحبيبة فى النهاية، فإن كل ما سبقها كان وصولا إلى تلك اللحظة الكاشفة، التى يقرا فيها القارئ رؤية الكاتب التى أرادها من خلال هذه القصة، وهى أن الإنسان كثيرا ما يحلم أحلاما فوق طاقته، فهو يحلم بالسماء، لكنه لا يملك الأجنحة التى تطير به إليها. أما الرسالة التى تحملها القصة: عش حياتك وفق ما تهيؤه لك الحياة.

لكن طيفاً أيقظه!

أسامة الرحـيـمي

 

في المدرسة. أخبروه أن النتيجة مع الأستاذ فلان في بيته!

وأين بيت الأستاذ فلان؟

تمشى باتجاهات شتى وفق وصفات متعارضة. في النهاية وصل وجسده يتفصّد عرقا بلّل بعض ملابسه. اكتشف وهو يصعد السلم باتجاه شقة الموظف فلان، أن الشبشب الكبير على قدميه يعوق صعوده. كان واسعا من الأمام فتنزلق قدمه المبللة وتبرز اصابعها عن الحافة، وتبدو منطقة الكعب خالية، يحاول موازنة قدمه بلا جدوى. يلهث لارتفاع درجات السلم أكثر من المعتاد.. يسمع أنفاسه في بئر السلم الخانق. فتح الموظف فلان الباب بعد عدة طرقات. شعره بدا أشعث، ولا يستطيع فتح عينه، ما يزال النوم يهيمن عليه. شاغله سؤال في تلك اللحظة: من أعطى نتيجة سنة دراسية لهذا الخامل؟

ولم أخذها إلى بيته ولم يودعها المدرسة!! حتى لو كانت سنة نقل وليست شهادة؟ خشي أن يفهم الموظف. عيال آخرون تكاثروا حوله على باب الشقة المفتوح

عاد الموظف بجلبابه المكرمش وبيده كومة اوراق منكوشة، وأنصت إليهم واحدا واحدا بلا تذمر، وأبلغهم بمجموعهم تباعاً وكانوا يهللون كلما سمع أحدهم نتيجته، ويتبادلون التهنئة بمودة طفولية

نظر إلى جانبه فجأة فرآها تنظر إليه. لم يكن يعرف أنها جميلة هكذا، وأن لون عينيها بنِّيٌ غامق مثل القهوة. غلبه حياؤه فنظر إلى الأرض. باغته شبشبه الواسع

سأله الموظف عن اسمه وفصله فلم يسمعه، كان منشغلا بإخفاء حجم الشبشب المخجل عنها

سمع الموظف يبلغها برقمها.. تزيد عنه بعدّة درجات، أرجع الفارق لانشغاله بالعمل خلال الدراسة، وهمس لنفسه: بجد هي شاطرة، وهو لا يتفرغ للدراسة تماما..

لا يشغله الآن شيئا بقدر لون عينيها البُنّيّ الغامق، بدَكَانَتِه الرائقة!

طوال العامين يتابعها خِفية، أحب لفتاتها، والاهتزاز الطيفيّ لشعرها المنسدل، وأنفها الصغير من الجانب حين تلتفت، تضيئه بلورات عرق صافية، وبريق سِنَّتِها المائلة كلما افتر ثغرها فرحا.

حمد الله كثيراً أنه في آخر تختة ليختلس نظراته إليها دون أن يلحظه أحد.لا تنظر للخلف عادة، وتتفاعل مع الأساتذة بحماس في مختلف الحصص، ويثنون عليها بدورهم طوال الوقت، لكنها تضحك حين يوبّخ أحدهم زميلا أخفق بإجابة سؤال مربك.

يزعل منها في تلك اللحظات. خاصة حين يلمح شماتة المتفوقين الأغبياء بنظرتها. يهفو قلبه تعاطفا مع زميله الخجلان. لكن شغفه يُعيده لمتابعتها على مضض. ثم يتلاشى غضبه تدريجيا، ويترقب وميض سِنّتها الخاطف. أغلق الموظف بابه بلا اهتمام بعدما أبلغهم بنتائجهم جميعا. فشاعت رائحة عرقه في المكان. وانصرفوا زرافات يتقافزون على السلم..

تمهلت هي تفاديا لزحامهم. بدت للحظة متأفّفة..

تعثر هو في شبشبه وتجنّب هرولتهم، فاضطر للنزول أمامها بتؤدة وبجانب حتى لا ترى الشبشب ولا يدرى إن كانت لاحظته بعيونها اللامعة..

فوجيء بها تتوقف أمام باب شقة في الطابق التالي، وتقول له بصوت بدا إذاعيا لطيفا في فضاء بير السلم الحار: اتفضل

التفت إليها. وقفت ممسكة بالباب، وهو يبادر بالرد عليها تعثّر كعب الشبشب البارز من الخلف في حافة درجة، وترنح فتهاوى، وفي محاولته الإمساك بالدرابزين طاحت فردة شبشب في الهواء بعيدا.. وانفلتت الثانية من قدمه، فأسرع لجمعهما، وهو يلعن سوء حظّه. فلم يتمن قبلا أجمل من تلك اللحظة.. كأنه سمع ضحكة مكتومة!! تشبه ضحكة الشماتة في الفصل؟!

التفت بطرف عينه خطفا، بعدما أمسك بفردتي شبشبه. رآها تضع أصابعها على فمها. وابتسامة سخرية تصل عينيها.

أوجع من ضحكة الشماتة! أسرع على الدرج حافيا. وهو يلعن فردتي الشبشب بغيظ، ويضغطهما بكلتا يديه. ألقاهما إلى عتبة باب السلم لينتعلهما. التصق تراب السلم بباطن قدميه، وتحول لطين خلال خطوات. انزلقت قدماه داخل الشبشب، وقبل أن ينعطف إلى الشارع المتقاطع نظر نحو شباكها ليتأكد أنها لم تره وهو يترنح

حملهما في يده وأسرع إلى البيت في قيظ الظهيرة اللاهب!

رغم فرح كل من حوله بنجاحه، ومداعبتهم له، ظل شاردا يندب حظه العاثر في نفسه، حانقا على الشبشب الذي ألقى به إلى ركن المهملات!

أخلد إلى النوم منتصف المساء، وأغمض عمدا ليغلق الصور التي تعكّر باله منذ عودته حتى غلبه النعاس.

في الصباح صحا مندهشا يتذكر منامه بوضوح.. يقف في منتصف السلم أمام باب شقتها

ترتدي فستانا أجمل ونظراتها أطيب وابتسامتها تضيء المكان، والهواء يُلطِّف الجو بنسائم نشطة

بدا بئر السلم هادئا وديعا، وأوراق شجرة تطل من شباك زجاجي لم يلحظه قبل ذلك. تداعب الضوء وتُلون انعكاساته بأخضر لعوب ملابسه نظيفة لائقة يبدو فيها وسيما أكثر، وحذاءه جديد لامع. ومقاسه محكم. حشد شجاعته ليقول: أحبك. لكن هاتفا أيقظه قبل أن يفتح فمه.

جلس على حافة السرير حائرا نظر إلى الأرض يبحث عن مداسه. فتذكر أحداث النتيجة بالأمس!

مشى حافياً إلى ركن المهملات لينتعل شبشبه الكبير!!.