"كيف قتلتُ أبي" سيرة عائلية. لم تحفل كاتبتها بالتطرّق إلى قضية إسكوبار التي شغلت العالم آنذاك، بل اكتفت من وجوده بتوجيهه الأمر بقتل أبيها. سيرة عائلية يعني أن معظم أحداثها يقع داخل البيت، حيث ينال كل فرد من العائلة حصّته من القصّ

مَن الأقدر على رسم المصائر… الحياة أم الرواية؟

حسن داوود

 

تلقي رواية «كيف قتلتُ أبي» ضوءا على ضحايا بابلو أسكوبار، رجل المخدّرات الأول في كولومبيا وفي العالم. كان قد روّع مدينة مديين، مكان إقامته ومنصّته لتوزيع بضاعته وتهريبها إلى خارج كولومبيا، بل إلى خارج أمريكا اللاتينية.
الرواية تحكي عن إحدى ضحاياه، وكذلك عن عائلة تلك الضحية، أي أننا، في هذه الرواية، نشتّقّ فرعا صغيرا يتمثّل بسقوط واحد من قتلاه، لكن بما لا يتعدّى كونه رقما في حادثة إطلاق نار قام بها واحد من رجال إسكوبار المخلصين له. فهنا، يسقط الضحية في الصفحات الأولى من الرواية، لتتابع عائلته الحياة من دونه. الرصاصة التي قتلت ذاك الأب، والتي أطلقها درّاج من أولئك الذين رسم لنا مسلسل نتفليكس صورا ومشاهد منهم، كان قد قتل عائلة الضحية كلها: الأم وأولادها الخمسة من بينهم ثلاثة توائم ذكور روت سيرتهم الأخت الكبرى في كتاب أول لها، ربما كان الأخير.
«
كيف قتلتُ أبي» سيرة عائلية إذن. لم تحفل كاتبتها بالتطرّق إلى قضية إسكوبار التي شغلت العالم آنذاك، بل اكتفت من وجوده بتوجيهه الأمر بقتل أبيها. سيرة عائلية يعني أن معظم أحداثها يقع داخل البيت، حيث ينال كل فرد من العائلة حصّته من القصّ. الأمّ أولا بالطبع، حيث سيقع على كاهلها إدارة شؤون البيت، ثم الخادمة كاتالينا التي هي أقرب إلى أمّ ثانية، والأخت الكبرى (كاتبة السيرة) التي وقع عليها الاهتمام بالتوائم الثلاثة الذين لا تتوقف جلبتهم ومواجهاتهم طيلة النهار. وهناك الأخ الأكبر. هي صفحات كثيرة تلك التي وصف فيها البيت البعيد عن صخب المدينة. بيت ريفي متسع المساحة ليضمّ إلى ساكنيه حيوانات بيتية وأخرى زائرة، وأشجارا ونباتات من كل نوع. كاد النصف الأول من الرواية يقتصر على تفاصيل العيش اليومي، الأكثر عادية، ما كان يمكن أن يدفع قارئه إلى الظن أن الرواية لن تخرج عن هذا العالم الرتيب.
لكي تتحوّل هذا الصفحات إلى عمل سردي روائي كان ينبغي أن تتوقّف هذه التفاصيل، أو أن تنخرط في مسار متشابك مع إقامة العائلة فيه. كان على الأولاد أن يكبروا مثلا، أو أن تتغيّر الأم مع مرور الوقت، وهذا ما حصل في آخر صفحات الرواية، وأن تتوقف الإبنة الكبرى عن متابعة ما يجري بين أخوتها. هذا ما كان ينتظره القارئ ما دام أن هذا الضرب من متابعة الحياة كما هي، من دون تغيّر يذكر، لن يحفّز على ترقّب شيء سيحدث، أي لن تحفزّ على استمرار القراءة.
وهذا ما حرّك الأخ الأكبر (بابلو) مياهه الراكدة. جرائم إسكوبار، قضت على فرد آخر في العائلة. فصْل بابلو، هو أكثر فصول الرواية مرارة، حيث أمعنت الكاتبة في وصف التغيير الذي ألم بأخيها، جسدا وروحاً. لم يعد بابلو أخاها الذي أقام في بيت العائلة. كان يقضي أكثر أيامه في أماكن ربما كانت منعطفات الطرق وأمكنة الهروب والاختفاء. كان ذلك سينتهي، لا بدّ، بمصير قاتل. لم يصمد ذاك الذي صار شابّا، بل رجلا، إلا أياما بعد أن دهسته دراجةٌ مسرعة (الدراجة مرة أخرى) وقتلته.
تقفز الكاتبة سارة خاراميّو كلينكيرت قفزا من زمن إلى آخر. ما نقرأه مشاهد منفصلة، متسعة حينا وضيقة حينا، من الأزمنة المتباعدة. فجأة ننتقل إلى التوائم الثلاثة وقد صاروا رجالا متباعدين كل يقيم بمفرده، جميعهم كبروا فجأة. أحدهم، سانتي، انتقل إلى أن يصير طبيبا في نقلة واحدة من الصغر، أي من صورته معاركا أخويه. ودابيد تابع شروده وامتهن التصوير. أما الشقيق الثالث توماس فلم نعرف الكثير عما صار إليه، ربما بسبب من الوصف الزائد الذي أُسبغ عليه وهو في صغره.
الرواية هي صناعة المصائر. يبدأ ذلك من متابعة تفاصيل التغيّر الذي يصيب شخصيّاتها. هذا ما يسعى الكاتب الروائيّ إلى نقله أو ابتداعه حتى الإغراق فيه. لكن، في كتاب الكولومبية كلينكيرت تبدو الحياة نفسها، وليس فقط كتابتها، هي ما تقوم بذاك التغيّر الدراماتيكي. هي رواية واحدة. في متنها أعلنت الكاتبة أنها ستكتب عن حياة تلك الأسرة، جاعلة سعيها ذاك حدثا من أحداثها. في الصفحة الأخيرة من الكتاب، وتحت عنوان «شكر»، أدخلت الكاتبة شخصية أمها وبعض أخوتها على إنجازها ما كتبت، جنبا إلى جنب مع أولئك الذين مدّوا لها يد المساعدة والتقييم، والتحرير تاليا، لإتمام الكتاب، هكذا تبدو «كيف قتلتُ أبي» أثرا وحيدا لكاتبته. وهي، من ناحية أخرى، احتفظت لنفسها بأن تروي حياتها الخاصّة كأنها ملحق أُضيف إلى الرواية.
*
صدرت «كيف قتلت أبي» في عام 2020. في 2022 نقلها إلى العربية محمد الفولي لدار خان في 220 صفحة.

 

عن القدس العربي