يندرج كتاب "خارج المكان" لإدوارد سعيد والصادر سنة 2000 ، ضمن الكتابة الذاتية أو التخييل الذاتي. صدر الكتاب عن دار الآداب للنشر والتوزيع ببيروت وترجمه إلى العربية فواز طرابلسي. بدأ إدوار سعيد بكتابة مذكراته في ماي 1994 حين علم بمرضه العضال وانتهى من تأليفها سنة 1998. ويبين سعيد أهمية الذاكرة في استرجاع المكان في فترات مختلفة من حياته. يقول في بداية كتابه "خارج المكان": "لعبت ذاكرتي دورا حاسما في تمكيني من المقاومة خلال فترات المرض والعلاج والقلق الموهنة. ففي كل يوم تقريبا، وأيضا فيما أنا أؤلف نصوصا أخرى، كانت مواعيدي مع هذه المخطوطة تمدني بتماسك وانضباط ممتعين."
ويرى إدوارد سعيد أن الدافع لكتابة مذكراته هو حاجته إلى تجسير المسافة في الزمان والمكان، بين حياة اليوم وحياة الأمس. والتعبير عن ذكرياته في جغرافيا المكان، خصوصا جغرافيا الارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن. فكل واحد من الأمكنة التي عاش فيها في القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية، شكلت جزءا من نموه وحياته وهويته ووعيه. كما يعتبر سعيد أن المدارس التي درس بها تعد ضمن تلك الأمكنة التي احتلت مكانا مميزا في ذاكرته وكتابه. وهي صور مصغرة عن تجاربه المدرسية التي تستحق الوصف والسرد والتي عاشها وارتبط بها رغم مرور خمسين عاما.
ويحكي الكاتب ذكرياته وكيف شكل استعمار فلسطين بداية لبحثه عن المكان الذي ولد فيه، والذي شكل هويته اللغوية والثقافية المتعددة بالرغم من التهجير الجماعي والمنفى. ويمكن اعتبار مذكرات إدوارد سعيد كشهادة راسخة للانتماء لأرض فلسطين بمدنها وأهلها وجذورها التاريخية الثابتة والعميقة. سيجد الكاتب نفسه في ترحال دائم خارج المكان، خارج فلسطين، أرض الانتماء والذكريات المليئة والمفعمة بالحياة. كما يتذكر سعيد محنة التهجير والإجلاء من داخل المكان إلى خارجه نحو المنفى قائلا: "ذلك أنه مع ربيع 1948 كانت عائلتي الموسعة كلها قد أجليت عن المكان، وعاشت في المنفى منذ ذلك الحين. على أني في عام 1992 تمكنت للمرة الأولى، منذ مغادرتنا عام 1947 من زيارة المنزل الذي تملكه عائلتي في القدس الغربية، والمنزل الذي نشأت فيه أمي في الناصرةـ، ومنزل خالي في صفد وغيرها من المنازل". ويضيف: "وجدتني أروي قصة حياتي على خلفية الحرب العالمية الثانية، وضياع فلسطين، وقيام دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وسقوط الملكية في مصر، وسنوات الناصرية، وحرب عام 1967 وانطلاق حركة المقاومة الفلسطينية، والحرب اللبنانية، واتفاقية أوسلو. كل هذه الأحداث موجودة ضمنا في مذكراتي، ويمكن تبين حضورها العرضي هنا وهناك."
وما يثير الاهتمام في السردية الذاتية لسعيد هو محاولته الدائمة ترجمة تلك التجارب التي عاشها في لغة مختلفة. وحسب قوله كل منا يعيش حياته في لغة معينة، ومن هنا فإن الكل يختبر ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات. كما يعتبر الانفصال الكبير في حياته هو ذلك الانفصال بين اللغة العربية، لغة الأم، وبين اللغة الانجليزية، وهي اللغة التي بها تعلم وعبر ككاتب وكباحث. لذلك كانت مهمة سرد ذكرياته معقدة، ناهيك عن الطرائق المختلفة التي بها تختلط عليه اللغتان، نظرا لاختلاف الألفاظ والأنساق التعبيرية.
ويقول عن كتابته الذاتية: "وآمل أن لا أبدو متبجحا إن قلت إن الجديد في إدوار سعيد المركب الذي يظهر من خلال هذه الصفحات، هو عربي أدت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك الثقافة، تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات."ويقول المترجم فواز طرابلسي عن ترجمته لكتاب "خارج المكان" لإدوار سعيد: "كانت المعركة بين إنجليزية إدوار سعيد عسيرة متطلبة لأدق دقائق المعاني والأحاسيس والمشاعر والأفكار والأوصاف. فأسلوب إدوارد ممتنع، كما يعترف هو نفسه في تقديمه لهذه المذكرات، وقد جهدت لجعله ممتنعا. أحيانا، كنت أتغلب عليه، وأحيانا أخرى أعترف بأنه تغلب عليّ. ومع ذلك، انصب كل جهدي على جعل إدوارد يتكلم اللغة العربية."
في هذا السياق، يمكن اعتبار "خارج المكان" صوتا لمن لا صوت له، في عالم من الضوضاء والتعتيم وتزييف التاريخ. ينفتح النص الأدبي على الواقع الذاتي والجماعي للتعبير عن الفلسطيني في مواجهة الهمجية المعاصرة التي تمارس الكذب ومصادرة حقوق المكان والإنسان والعيش في المنفى. إنها المنفى التي يعيشها الكاتب كتجربة ذاتية وكتجربة الشعب الفلسطيني المحتل بكل آلامها ومعاناتها والتطلع إلى الانعتاق والتحرر. يقول إدوارد سعيد في مذكراته: “عندما أسمع الآن إشارات إلى القدس الغربية، فإنها تعني دوما بالنسبة إلي الأحياء العربية لمرابع طفولتي. وما يزال يصعب عليّ أن أتقبل حقيقة أن أحياء المدينة تلك، حيث ولدت وعشت وشعرت بأني بين أهلي، قد احتلّها مهاجرون بولونيون وألمان وأمريكيون غزوا المدينة وحولوها رمزا أوحد لسيادتهم، حيث لا مكان للحياة الفلسطينية التي انحسرت إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها. فلقد أضحت القدس الغربية الآن يهودية بالكامل، وطرد منها سكانها السابقون نهائيا في أواسط العام 1948. ”يقول الكاتب اللبناني إلياس خوري: "خارج المكان" هو الشعب الفلسطيني ... وإدوارد روى قصته ... بصفته فلسطينيا، ومن الشعب الفلسطيني".
يتذكر إدوارد سعيد الفترة الزمنية التي تلت النكبة مباشرة لعام 1948. ويقدم الكاتب أحوال العائلات التي كان يعرفها. وكيف كانوا وكيف أصبحوا بعد اللجوء؛ يعانون من الفقر والانتقال من منزل لآخر. وتحولت حياتهم إلى عالم من اليأس والإحباط. كما يصف معاناته في مذكراته حين سافر إلى نيويورك قائلا: "لقد حولتني ضخامة نيويورك الهائلة وبناياتها الشاهقة إلى ذرة تافهة؛ فأخذت أتساءل عن موقعي من هذا كلّه. "ويعبر الكاتب عن إحساسه بالمنفى والاغتراب في المكان الجديد، حتى ولو تعلق الأمر بنيويورك، بحيث لم يستطع التأقلم بسهولة مع الهوية الجديدة والمكان الجديد. لكنه استطاع بناء عالمه الخاص وإثبات الذات في مكان لا يرحم. ويضيف: "إن عدم اكتراث أحد بوجودي منحني شعورا غريبا بالتحرر لأول مرة في حياتي ... لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967، فقد دفعتني صفعة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فلسطين." وسيتحول إدوارد سعيد بعد هزيمة 1967، من أكاديمي جامعي إلى مثقف عام يخاطب الجمهور الأمريكي، ويطمح إلى أن يصبح صوتا فلسطينيا وإن كان وحيدا، ليصارع من أجل المكان؛ بهدف دحض الرواية الإسرائيلية، والتغطية الإعلامية الأمريكية المساندة لإسرائيل.
في هذا السياق، تعرض إدوارد سعيد إلى المضايقات بسبب كتابه "الاستشراق "، وبسبب محاولاته الحديث عن الصهيونية وربطها بالاستعمار لفلسطين. وسيبقى لدى سعيد شغف دائم للصراع مع المكان، ليس للدفاع عن أفكاره فحسب، بل للدفاع عن قضيته وقضايا المضطهدين؛ بوصفه إنسانا متعددا ومتجددا، ومنتميا إلى سؤال القضية من أجل الاعتراف والإنصاف وبناء الذات واستعادة المكان. إنه إدوارد سعيد كما رثاه محمود درويش، المتشبع بالقيم الكونية والنزعة الإنسانية. إنه المثقف الّذي ظل باحثًا عن هوية متعددة ومركبة ومتفاعلة مع الآخر، وصراعه مع المكان، وشعوره الدائم بأنه خارج المكان.
يقول إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان": "إلى هذا اليوم، أشعر بأني بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكا. ومع أني لست متوهما أني كنت سأعيش حياة أفضل لو بقيت في العالم العربي، أو عشت ودرست في أوروبا، فما يزال يلازمني بعض الندم. وهذه المذكرات هي في وجه من وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق، إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت قد عشت في نيويورك بإحساس مؤقت على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة الفوائد".
إن ذكريات إدوارد سعيد تجعل من المكان عالما لإثبات الكينونة والوجود، يحمله معه في سكونه وترحاله. يذكره بأفراد عائلته وأصدقائه ومعارفه وما تعرضوا له من معاناة التهجير والتشرد. لقد نفي الكاتب عن المكان، ككثيرين غيره، لكن المكان برمزيته الفلسطينية العميقة استقر بداخله. وتبقى الذاكرة مرآته المتاحة والمفتوحة في انتقاله وتجواله داخل أمكنته المفضلة والمستعادة، ليبقى أمل العودة إلى أرض الانتماء راسخا يغذي الحياة والهوية المتجددة خارج المكان وداخله.
* أستاذ باحث في الترجمة