اختار مهرجان أفينيون الثامن والسبعون لعام 2024 أن يعنون برنامجه لهذا العام بـ«البحث عن الكلمات». وكان مدير المهرجان الجديد الذي بدأ إدارته في العام الماضي، وهو المسرحي البرتغالي تياجو رودريجز Tiago Rodrigues قد أعلن على الجمهور يوم ختام مهرجانه الأول أن المسرح الإسباني سيكون محط اهتمام مهرجان هذا العام، أو ضيفه الأساسي، بعدما استضاف العام الماضي المسرح الإنجليزي. وها هو يعنون المهرجان المطبوع الذي استضاف فيه اللغة الإسبانية بالبحث عن الكلمات: قائلا: «إننا كثيرا ما نُسأل لماذا ننظم هذا المهرجان؟ لماذا لانزال مستمرين فيه منذ تأسيسه عام 1947، في وقت كان المجتمع يبحث عن كلمات تمكنه من العيش المشترك من جديد بعد الحرب العالمية الثانية، والاحتلال النازي لفرنسا، والهولوكوست والمقاومة والتحرير؟ لماذا ننظم هذا المهرجان جيلا بعد جيل، وكأنه كنز نتداوله عبر الزمن؟ لماذا مازلنا ننظم ا ليوم هذا الاحتفاء الكبير بفنون العرض، في عالم تهدده الحروب، وعدم المساواة، والأزمة المناخية، وصعود التطرف والديماغوجية والخطابات المزيفة؟»
والجواب على ذلك كله هو: «أننا مهرجان للإبداع، يحارب من أجل حرية الفنان في البحث عن الكلمات، والأصوات، والحركات والإيماءات والصور التي تتيح له أن يتحدث عن الحياة في هذا العالم. لأننا نؤمن بأن المواجهة بين الفنانين والمشاهدين، وهم يسعون معا للبحث عن الكلمات، هي خدمة ثقافية عامة، تحتاجها أوروبا الآن أكثر من أيّ زمن مضى. لأن هذه المواجهة هي لحظة حيوية لاكتشاف المجهول، ولإيقاظ الحواس، ولتقدير قيمة الاختلاف بين البشر، وللجدل حول التحديات التي تواجه زمننا، وفضلا عن هذا كله لتصور عوالم مغايرة ومحتملة. لذلك فإننا نطالب بأن يكون لدينا الحق في الاحتفاء بالبحث عن الكلمات معا. لأنه بينما نعرف أن الفن ليس ضامنا للسعادة؛ فإننا ندرك أنه يعزز فرص عثورنا عليها. إننا نحب فنون العرض المسرحية المختلفة، ونسعى لأن نشارك هذا الحب مع مشاهدينا. فمثل هذا الحب النضالي يستحق مهرجانا يحتفي به.»
والواقع أن هذا الوعي بطبيعة العلاقة الجدلية بين المبدع المسرحي والجمهور الذي يشاهد أعماله، ويتفاعل معها هي تلك العلاقة التي لابد لها أن تحكم رؤية أي مهرجان يسعى للتطور والنجاح والاعتماد في مسيرته على هذا الجمهور الذي يبحث معه عن غاية الفن عموما. ألا وهي أن تجعل العالم أقل وطأة على المشاهد الذي يعيشه، وأن تقترب به أكثر من لحظة السعادة المرتجاة., وهذا هو السبب في أن برنامج المهرجان، لا يعتمد فقط على ما به من أعمال مسرحية وعروض مختلفة يتجاوز عددها الثلاثين، وتتباين توجهاتها واستقصاءاتها كي تشمل جل فنون العرض المسرحية. فهناك أيضا «مقهى الأفكار» الذي تنظم فيه في صباحات المهرجان – من العاشرة صباحا وحتى السابعة مساء – سلسلة من الندوات المهمة التي تتيح لمجموعة من أبرز الكتاب والعاملين في مجالات الفنون المختلفة والباحثين فضاء للحوار حول القضايا والأفكار المتعلقة بوضع المسرح، وحال العالم الذي يدور فيه.
وهناك أيضا تلك اللقاءات التي تنظم مع المسرحيين الذين تعرض أعمالهم في المهرجان. وكذلك سلسلة من المحاضرات التي يشارك فيها مجموعة مختارة من المثقفين، يدعوهم المهرجان، كي يتيح للمشاهدين – كما في مهرجان هذا العام – فرصة لتلاقح الأفكار بين المسرحي والفيلسوف والمعماري على سبيل المثال. وهي كلها من النشاطات المصاحبة دوما لهذا المهرجان. وقد أضاف لها تياجو رودريجز هذا العام ما يدعوه بمشاغل الفنان Artiste Complice والتي يصبح فيها وجود فنان مسرحي كبير في المهرجان فرصة لابد من انتهازها، كي يقيم ورشات عمل ونقاشات تثري المهرجان. وقد اختار هذا العام الفرنسي بوريس شارماتز Boris Charmatz وهو أحد أبرز مصممي الرقص في فرنسا، والآن في ألمانيا بعدما أصبح عام 2022 مديرا لمسرح Tanztheater Wuppertal Pina Bausch المسمى على اسم أهم راقصة ومصممة رقص ألمانية، لدورها في بلورة أجرومية جديدة ومهمة للرقص الحديث. كما دعا أيضا أحد أبرز كتاب إسبانيا المعاصرين، إنريك فيلا ماتاس Enrique Vila-Matas وهو روائي وكاتب مقالات ليكشف عبر مجموعة من الحوارات التي ستقام معه عن طبيعة العلاقة بينه وبين الكلمات، وعن اللغة الإسبانية خاصة.
وإلى جانب ندوات المقهى وحواراته، ثمة ورشات عمل متعددة تدير حوارا بين الباحثين، والرواة والمبدعين. حول مجموعة من الثيمات التي تتصادى مع الكثير مما يدور في الواقع الأوروبي من ناحية، ومع بعض القضايا التي تطرحها بعض الأعمال التي برمجها المهرجان من ناحية أخرى. فهناك ورشة عن العدالة والأخلاق، وأخرى عن القناع والريشة، وثالثة عن معاداة السامية وكراهية الإسلام، ورابعة عن كيف يتكلم الجسد على المسرح وأجرومية لغاته المختلفة، وخامسة عن العلاقة بين الرياضة والمسرح والإبداع والإعاقة، بمناسبة عرض ينهض بالعبء الأكبر فيه مجموعة من العميان والمعاقين. ... وغيرها من الورشات التي تسعى للإجهاز على مركزية المعرفة، وتوفيرها للجمهور. كل هذا جنبا إلى جنب مع جهود المحطة الإذاعية الشهيرة المعروفة باسم ثقافة فرنسا/ أو فرنسا الثقافية France Culture والتي تنظم الكثير من القراءات والنقاشات الأدبية والمسرحية على مد أيام المهرجان، مما يجعلها دوما في مباراة مع المقهى الثقافي على رفع مستوى الجدل في المهرجان. تحرص فيها على بلورة مكان الأدب والشعر في هذا العالم الذي يعج بالمسرح ومشاهديه.
وهناك أيضا برنامج خاص تحت عنوان «العالم بخير Ça va, ça va le monde» والذي ينطوي على ست قراءات لاكتشاف مؤلفين من أفريقيا وهاييتي، وبشكل عام من أفريقيا الناطقة بالفرنسية والتي يهتم بها المهرجان بشكل متواصل. وهناك أيضا حوارات مع كتاب سبق أن استضاف المهرجان أعمالهم من قبل. وبرنامج آخر يهتم بمن رحلوا حديثا، ويدير حوارا مع ما تركوه في ضمير المسرح الفرنسي أو الأوروبي من آثار باقية. كما يهتم هذا البرنامج بالموسيقى ودورها في الأعمال المسرحية خاصة، وفي حياتنا عامة. وفي هذا القسم برنامجا عن الموسيقى المقدسة، وآخر عن الحوار بين موسيقى الجنوب وموسيقى الشرق، وثالث عن الحوار بين آلتين موسيقيتين شعبيتين إلى حد ما كالأورجن والأوكورديون وغيرها من النشاطات الموسيقية. وثمة ورشة عمل كبيرة اختارت خمسين من فناني العرض الشبان من فرنسا وغيرها من بلدان العالم، كي يتعاملوا مع المهرجان كمعمل لبلورة تجارب جديدة، وللتفاعل الفني بين رؤاهم المختلفة للفن والعالم. وهناك أيضا – وهو أمر جديد في مهرجان هذا العام – الاهتمام بتحويل أحد مدن الضواحي القريبة من مدينة أفينيون – وهي مدينة شارتريز Chartreuse de Villeneuve lez Avignon التي كانت تستخدم عادة في برمجة عرض مهم في مسرحها – إلى مجال لمختلف النشاطات المرافقة للمهرجان، من ندوات ونقاشات صباحية، وورش عمل مفتوحة، بالصورة التي ستجعلها حافلة بالمشاهدين طوال النهار، وليس أثناء عرض المسرحية المبرمجة بها فحسب.
لكن أبرز جديد في مهرجان هذا العام أنه قرر أن يجعل اللغة الإسبانية ضيف الشرف فيه، وبالتالي فقد خصص لها ثلث العروض التي ستقدم به. والواقع أن دعوة لغة، وليس بلدا معينا، تعني، كما يقول رودريجز، أن المهرجان يرى العالم متواصلا ومتفاعلا كلغات، وليس بلدانا تفصلها الحدود والسدود؛ في وقت تتنامى فيه خطابات الانقسام والاستبعاد. ونجد فيه أن حركة البضائع عبر الحدود أسهل كثيرا من حركة البشر. لذلك تبقى اللغة مساحة لممارسة الحرية. لأنك لا تحتاج إلى جواز سفر أو تأشيرة كي تكتب بلغة أخرى. ولأن مهرجان أفينيون كان دائما مهرجانا للكلمات، حيث يستخدم الجميع الكلمات في التمثيل والنقاش، ويبحث الجميع عن الكلمات الصحيحة لمختلف الرؤى والمواقف. فاللغة، وخصوصا عبر الترجمات المختلفة هي العامل الرئيسي في اكتشاف الآخر. ولذلك فإن دعوة اللغة الإسبانية للمهرجان تنطوي على اعتراف بثراء العالم الناطق بالإسبانية، وأهميته في مجال فنون العرض المسرحية. كما تنطوي على الرغبة في الإنصات إلى استقصاءاته وتواريخه المغايرة والمثرية لنا معا. وسوف تتخلل اللغة الإسبانية البرنامج عبر العروض العديدة التي جاءت من إسبانيا ومن أمريكا اللاتينية على السواء. كما ستتردد في الندوات والقراءات والكثير من الأفلام المصاحبة. وهو الأمر الذي فرض على البرنامج المطبوع – والذي كان يستخدم عادة لغتين هما الفرنسية والانجليزية – أن يجعل اللغة الإسبانية لغة ثالثة لكل مطبوعاته هذا العام.
عروض اللغة الإسبانية:
إن العرض الذي سيفتتح به مهرجان هذا العام أعماله، في أكبر فضاءات المهرجان – فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي – هو من أعمال المسرحية الإسبانية الشهيرة آنجيليكا ليديل Angelica Liddle التي سبق أن استضافها المهرجان أكثر من مرة، وتعرفت فيما شاهدتها لها على عنفوان مسرحها العضوي، وما تدعوه بشاعرية العنف. وقد جاءت للمهرجان بعرض بعنوان «شيطان: جنازة برجمان Damon: El Funeral de Bergman» وهو عمل تحتفي فيه بإنجاز المخرج المسرحي والسينمائي السويدي الشهير إنجمار بيرجمان، يستدعي أحلامه وشياطينه والأشباح التي كانت تعمر أعماله السينمائية خاصة. وجاء من الأرجنتين تيثيانو كروثTiziano Cruz بعرضين: أولهما بعنوان «مناجاة Soliloquio » يتناول فيه ما يدور لفقراء الأرجنتين الذين ينحدرون من سلالة سكانها الأصليين قبل وفود الإسبان إليها، وما يعيشونه في عالم لايزال يمارس تراتبات المستعمر القديم في تعامله مع مواطنيه المعاصرين. أما العمل الثاني فهو بعنوان «إخوتي wayqeycuna» بلغة سكان الأرجنتين الأصليين وهو أقرب إلى سيرته ا لذاتية التي تدور حول طقوس أسلافه، وحول ما يدور في أرضهم بسبب النيوليبرالية الجديدة التي تعيشها بلاده.
وجاء للمهرجان من أوروجواي بعملين: أولهما لجابريل كالديرون Gabriel Calderon بعنوان «قصة خنزير Historia d'un Senglar» ينهض على مسرحية «ريتشارد الثالث» الشهيرة لشكسبير، أو بالأحرى على ممثل كان يحلم بأن يؤدي هذا الدور لزمن طويل، فلما اعتلى الخشبة نسي أن يمثل، وبدأ الخلط بين شخصيته وأهوائه والدور الذي يلعبه، في محاولة مسرحية لسبر أغوار السلطة والمسرح على السواء. أما ثانيهما فهو للمسرحية تمارا كوباس Tamara Cubas التي جاءت بعمل جديد لها من سلسلة أعمال أخيرة تجرب فيها منذ عدة سنوات تحت عنوان عام هو «بحر من الصمت Sea of Silence» تتبع فيها رؤى الأسلاف وطقوس التخلص من آثار الاستعمار الإسباني في أوروجواي، وتركز فيها على النسوة المهاجرات اللواتي أنفقت السنوات الأخيرة في تتبع حيواتهن. أما بيرو، فقد جاء منها شيلا دي فيراري Chela De Ferrari بنسخته الخاصة من رائعة أنطون تشيخوف الشهيرة (النورس)، ولكن في نسخة يقوم بها مجموعة من الممثلين المعاقين – وأغلبهم من العميان – في عمل مسرحي صادر عن معهده الخاص لتأهيل المعاقين للمسرح. فإذا انتقلنا إلى شيلي، فسنجد أنها ساهمت هي الأخرى في عروض اللغة الإسبانية حيث جاء منها ماليكو فاسا فالينثويلا Malicho Vaca Valenzuela بعمل بعنوان «استدعاءات Reminiscencia» يستعيد فيه أيام الحصار التي فرضها وباء الفيروس التاجي على سنتياجو العاصمة التي يعيش فيها، وكيف تعامل الناس مع العزلة وكسروا أطواقها.
وهناك عرض أسباني للرقص الحديث جاء من إسبانيا بعنوان «قصة جوانا Juana Fiction » يدور حول الملكة الإسبانية جوانا الأولى في العصر الذهبي لإسبانيا. وآخر يمزج بين فنون السيرك والمسرح جاء هذه المرة من برشلونه عاصمة كتالونيا بعنوان «من نحن Qui Som?» يطرح هذا السؤال الصعب عن النفس الإنسانية في قرننا الحالي وزمننا الصعب. كما تقدم المسرحية الفرنسية جوينال موران Gwenael Morin عرضا بعنوان «كيشوت Quichotta » مأخوذ بالطبع عن أهم النصوص الآداب الإسبانية لسيرفانس، ولكنها تقلب في مسرحها العضوي ذلك النص رأسا على عقب بحثا عن اليوتوبيا في زمن سادت فيه الفوضى وعم الخلل. وحتى العرض الذي جاء من بريطانيا هذا العام، فإنه حاول أن يدير حواره مع إسبانيا، ومع فن الفلامينكو الشهير فيها، حيث سيجلب ينكا إسي جريفز Yinka Esi Graves عملا بعنوان «فعل الاختفاء The Disappearing Act» يتقصى فيه تأثيرات فن الرقص الإسباني الشهير ذاك على مشهد الرقص الحديث الإنجليزي. وسوف تختم هذا الفيض الإبداعي من اللغة الإسبانية، في مسرح أفينيون البلدي أشهر مغنيات هذه اللغة المعاصرين، ألا وهي سيلفيا بيريث كروث Silvia Perez Cruz في ألبومها الجديد المعنون «الحياة كلها في يوم Toda la Vida, un dia».
عروض اللغات الأخرى:
وإذا ما انتقلنا إلى عروض اللغات الأخرى في مهرجان هذا العام، فسنجد أن هناك أكثر من عمل جاء من بولندا: أولها سيحظى بشرف العرض في ساحة الشرف بالقصر البابوي، وهو لكريستوف فارليكوفسكي Krzysztof Warlikowski بعنوان «إليزابيث كوستيللو Elizabeth Costello» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للروائي الجنوب أفريقي ج. م. كوتسيا J. M. Coetzee الحائز على نوبل للآداب. وآخر للمسرحية البولندية مارتا جورنيكا Marta Gornicka» بعنوان «أمهات: أغنية لزمن الحرب Mothers: A Song for Wartime» تعتمد فيه كما تقول لنا على شهادات لأمهات من أوكرانيا وروسيا البيضاء وبولندا عما عشنه في زمن عودة الحرب إلى أوروبا. وهناك عرض فرنسي ألماني من الرقص الحديث لبوريس شارماتز سيدور على فضاء المهرجان الرئيسي في ساحة الشرف في القصر البابوي بعنوان «كاتدرائية الحرية Liberte Cathedrale » يسعى فيه الفنان وقد جمع في العنوان بين كلمتين متناقضتين إلى حد ما استخدام أورجن الكنيسة وأجراسها مع أجساد الراقصين وهي تعبر عن الرغبة في الحرية والانفلات من قيد كل الطقوس.
وعرض فرنسي سويسري لسيفرين شافريه Severine Chavrier بعنوان «أبشالون .. أبشالون Absalon, Absalon » مأخوذ عن رواية وليام فوكنر الشهيرة بالعنوان نفسه، وهو عرض يمتد لما يقرب من خمس ساعات، ويحاول مسرحة هذه الرواية الكبيرة والمعقدة في سعيها للتعبير عن عالم الحرب الأهلية الأمريكية – في زمن توشك فيه أمريكا أن تكون في حرب أهلية من نوع جديد – حيث تتخلل فيه اشباح الماضي التي تعمر وادي نهر المسيسيبي حياة الحاضرين وتؤرقها.
وثمة عرض فرنسي آخر لكارولين نجوين Caroline Nguyen بعنوان «الأفضل La Crima » يدور بين باريس ومومباي، حيث يُكلف واحد من أشهر بيوت الأزياء بتصميم ثوب زفاف أميرة بريطانية، يعتمد كثيرا على التطريز اليدوي الذي يقوم به نساء بومباي الفقيرات. وثمة عرض فرنسي آخر للمسرحي العربي الفرنسي محمد الخطيب بعنوان الحياة السرية للعواجيز La Vie Secrete des Vieux» حجزت تذكرتي لمشاهدته، ليس فقط لأنه للمسرحي العربي الوحيد المشارك في مهرجان هذا العام، ولكن أيضا لأنه يتناول الحياة في تلك الشريحة العمرية التي أنتمي إليها بحكم التقدم في العمر، وما نعيشه في تلك الفترة الصعبة من عمرنا من مشاغل وأحاسيس.
وهناك عرض واحد لمدير المهرجان – تياجو رودريجز أعده كما يقول لنا في البرنامج لمسرح الكوميدي فرانسيز الشهير – بعنوان «هيكوبا ليست هيكوبا Hecube, pas Hecube ». وهو عمل مأخوذ عن مسرحية يوربيديز المعروفة التي تتناول أحزان هيكوبا زوجة بريام ملك طروادة المهزومة، على عبوديتها بعد وقوعها في الأسر، ورغبتها في الثأر لابنها المغدور بوليدوراس، ثم موت ابنتها بوليكسينا كضحية على مذبح أخيل. لكن معرفتي بأعمال رودريجز التي شاهدت بعضها في العامين الأخيرين، وبمنهجه في إعادة كتابة كلاسيكيات المسرح الكبرى كي تصبح معاصرة لنا، هي التي دفعتني لحجز مقعدي فيها مقدما، لمعرفة ما سيفعله بهذه المسرحية الشهيرة، والتي ستدور بعد المهرجان في أكثر من عاصمة أوروبية. هذا بعض ما سيقدمه لنا مهرجان هذا العام، الذي سأكتب عما سأعيشه فيه من تجارب وأحداث من منظور يحرص على أن يكتب عما يمكن أن يستفيد منه مسرحنا العربي من تلك التجارب والاستقصاءات المسرحية الشيقة.
والواقع أنني عندما تلقيت برنامج المهرجان قبل افتتاحه بشهرين، أزعجني أنه بدأ مبكرا عن موعده المعتاد بأسبوع تقريبا. ذلك لأنني عبر السنين نظمت رحلتي للجنوب الفرنسي كي تكون في الأسبوع الأول من يوليو، وتستغرق بقية الشهر فيه، وليس في آخر يونيو حيث بدأ مهرجان هذا العام يوم 29 يونيو 2024. وقد عرفت عندما حضرت مؤتمر المهرجان الصحفي الافتتاحي، والذي شارك فيه عمدة المدينة سيسيل هيلا Cécile Helle، ومدير المهرجان تياجو رودريجز، ومدير المهرجان الموازي Avignion Off لورين دومنجوس Laurent Domingos أن السبب في تقديم موعد المهرجان هو دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي تستضيفها فرنسا في الأسبوع الأخير من يوليو. ليس فقط كي لا يتشابك مع دورة الألعاب الأولمبية التي ستنعقد في فرنسا في أواخر يوليو، ولكن أيضا لوعي المهرجان بأن هذه الدورة هي عرض مشهدي، إن لم يكن مسرحي، كبير من نوع خاص، سيستقطب هو الآخر اهتمام المشاهدين. فقد قرر المهرجان وإدارة مدينة أفينيون التي تستعد له طوال العام أن ينتهي قبل بدايتها، دون أن يفقد من أيام دورته الاعتيادية شيء، فكان تقديمه لأسبوع عن موعده السنوي الثابت عبر السنين.
المسرح والسياسة واستنهاض الوعي:
لكن العامل الجديد الآخر الذي أثر على مهرجان هذا العام، ولم يكن في حسبان من يخططون له وينظمون فعالياته، كان إعلان رئيس الجمهورية، ماكرون، المفاجئ يوم 9 يونيو عن حل الجمعية التشريعية (البرلمان الفرنسي) وإجراء انتخابات مبكرة – تدور يوم 30 يونيو وتجري دورتها الثانية، وهي الإعادة بين أعلى مرشحين كي يحصل الفائز على أكثر من نصف عدد المصوتين، يوم 7 يوليو – وقع كالصاعقة على رأس المهرجان. حيث تدور تلك الانتخابات إثناءه وتتشابك معه. وقد أعلنوا في مؤتمرهم الصحفي لافتتاح المهرجان أن الحالة الانتخابية تخيم على المناخ العام في أفينيون كما فيها غيرها من أنحاء البلاد. وأخبرنا مديره، تياجو رودريجز، أن الحجز في مسرحيات المهرجان كان مع الأسبوع الأول من شهر يونيو قد تجاوز أرقام العام الماضي، ولكن ما أن أعلن ماكرون في التاسع من يونيو حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، حتى انخفض الحجز وخاصة في أسبوع الانتخابات. ولم يقتصر تأثير السياسة على المهرجان على هذا الأمر. ولكني شاهدت مفاجأة أخرى فيه، ليلة مشاهدتي لمسرحيتي الأولى به.
فقد وعي المهرجان منذ مؤتمره الصحفي الافتتاحي أن الواقع المتشابك في فرنسا يفرض عليه القيام بدور مغاير هذا العام، وأنهم يدركون أن المهرجان منذ نشأته الأولى قد انطلق كفعل سياسي، يرد بالفن على إشكاليات السياسة. وأن على المهرجان القيام بالتعبئة كي تعي أي سلطه ستنتج عن تلك الانتخابات الجديدة التي كان الكثيرون يدركون أن حظوظ اليمين الفاشي فيها كبيرة. بل إن تلك المفاجأة التي شاهدت وقائعها يوم الرابع من يوليو، وعقب خروجي من مسرح أكبر فضاءات المهرجان – قاعة الشرف في القصر البابوي التي تتسع لنحو ألفي مشاهد – تكشف بحق عن أهمية الثقافة ودورها في بناء الإنسان الحر. والوعي بالترابط بين مصير المهرجان ومسيرة البلاد. فما أن انتهت المسرحية بعد منتصف الليل، وخرجنا من الباب الرئيسي للقصر البابوي، حتى وجدنا طوابير ضخمة تملأ الساحة المواجهة للقصر، وقد حجزت مقاعدها المجانية للسهرتين اللتين دعا لهما المهرجان – ليلتي 4 و5 يوليو – للتحذير من الكارثة التي كانت تفغر فاها كي تبتلع ديموقراطية فرنسا، وتأخذها إلى طريق مظلم، أعلن الكثيرون أنه يذكرهم بأيام بيتان اثناء احتلال النازي لفرنسا. وهي سهرة ساهم فيها الكثير من أعلام مهرجان هذا العام من المسرحيين والكتاب الفرنسيين منهم خاصة، وإن لم تقتصر عليهم بل ضمت أعلام آخرين وفدوا إلى المهرجان للعرض فيه.
وفي هذه السهرة التي امتدت حتى ساعات الفجر الأولى أعلن المشاركون فيها قلقهم من الاتجاهات التي أسفرت عنها نتائج ا لدورة الأولى من الانتخابات، سواء على المستوى الأوروبي، أو المستوى الفرنسي. وأن الأسابيع القليلة الماضية قد بينت للكثيرين أن خطر هذا التوجه إلى أقصى اليمين على الفن والحياة معا، ليس مجرد احتمال نظري، ولكنه أمر يوشك على الحدوث. وأن على المشاركين في المهرجان من كتاب وفنانين وجمهور أن يرفعوا أصواتهم ضد هذا الخطر، وأن يجابهوه بالفعل لا بالقول وحده. وأن هذه الليلة هي ليلة للفن، وللتفكير معا في مستقبل البلاد، ليلة للاتحاد في وجه الفاشية الزاحفة نحو أوروبا عامة وفرنسا خاصة، ولحشد كل القوى للتصدي لها، ليلة لإيقاف زحف الظلام، وللأمل في مستقبل أفضل. ليلة لبلورة برنامج مغاير يتصدى لليمين الفاشي، برنامج شعبي تقدمي وديموقراطي، يهتم بحرية النساء، وبالبيئة وبمعاداة العنصرية والتطرف. وإنه إذ يدعو جمهوره لحضور ما سماها بليلة أفينيون La Nuit D’Avignon يرجو أن تسهم هذه الليلة في توجيه النقاش للوجهة الصحيحة، والتأثير على المجتمع وعلى السياسة معا. وأعلن الجميع أنهم هنا لأنهم يؤمنون بأن الفن فعل مقاومة، وأنه فعل جمالي من أجل حرية الإنسان ومستقبله. والواقع أن جهدهم طوال ليلتين حافلتين، والذي ترددت أصداؤه في كل أنحاء فرنسا، لم يذهب سدى. فما أن ظهرت نتائج انتخابات الإعادة بعد بضعة أيام حتى كانت الدفة قد تغيرت، بل انقلبت تماما. وأصبح حزب التقدم واليسار والعدل الاجتماعي في المركز الأول، وحزب ماكرون الذي يتشبث بالوسط في المركز الثاني، أما حزب اليمين الرجعي الذي كانت الاستطلاعات تتنبأ بفوزه فقد حل في المركز الثالث.
الشيطان: جنازة برجمان المدهشة:
بعد هذه الوقائع الاستهلالية، دعنا ننتقل إلى أولى المسرحيات التي شاهدتها في مهرجان هذا العام. فقد حرصت قبل قدومي إلى أفينيون بأكثر من شهر على أن أحجز مقعدي لمشاهدة العرض الجديد للمسرحية الإسبانية/ الكاتالونية أنجيليكا ليدل Angélica Liddell (ولدت عام 1966)، فقد شاهدت لها أكثر من عمل في المهرجان في سنوات سابقة. وأعجبتني طريقتها الجريئة في تناول المحرمات، ومواجهة الكثير من الروادع الاجتماعية والأخلاقية الزائفة، واستخدام العمل المسرحي كنوع من الصدمة، قبل أن تغيب عنه لأكثر من ست سنوات. تعزّز فيها موقعها الإشكالي على خريطة المسرح الإسباني، وقد بلغت الآن ذروة نضجها، وهو الأمر الذي دفع المهرجان إلى اختيار عرضها (الشيطان: جنازة بيرجمان Dämon, El Funeral Bergman) لافتتاح المهرجان في أهم فضاءاته، ألا وهو فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي. وهو اختيار دال ومحسوب على عدة مستويات. ذلك لأن الشاعرة والممثلة والمخرجة المسرحية والكاتبة لنصوصها، قد عُرفت بتجاربها الصادمة، وبرغبتها في ممارسة اقصى درجات المكاشفة والحرية على خشبة المسرح. وليس هذا العمل استثناء بأي حال من الأحوال.
لأننا ما أن ندخل إلى هذا الفضاء الجميل المهيب، سنجد أن خشبته الضخمة قد غطيت كلية بلون أحمر، لون سجاجيد الشرف في الأعراف الدولية. وبقيت خالية من أي شيء اللهم إلا ثلاث قطع لا تجدها إلا في المراحيض: مبولةـ وقاعدة مرحاض، وبيديه وكلها بالطبع من اللون الأبيض. لأننا سندرك مع استمرار العرض أن اختيار الألوان في العمل محسوب، ويدير حواره الضمني مع أعمال المخرج والسينمائي السويدي الأشهر إنجمار بيرجمان، وألوانه المفضلة. وبعد اختيار الألوان يبدأ تركيز العرض على الإيقاع، فيدخل البابا في ردائه الكهنوتي الأبيض ويتمشى على سجادة الشرف تلك في أرجاء المكان، وتنعكس ظلاله على جدران القصر البابوي، ثم يظلم المسرح ويختفي. عندها تستخدم المخرجة شبابيك المبنى حيث تضاء جميعها وتظهر وراءها العديد من الأشباح – وكأنما تقول لنا أننا ندلف إلى عالم الأشباح والشياطين كما يقول العنوان. بينما تكتب تواريخ أشباح هذا المكان على جدرانه أمامنا، وما خرج منه من قوافل نشرت الموت والدمار في طريقها أثناء الحروب الصليبية المختلفة. وبعد أن يتأسس الإيقاع المناوئ لتواريخ هذا المكان، باستخدام الحركة والضوء والموسيقى وحدها، حتى يدلف قزم يرتدي بذلة رسمية سوداء، وقناع مسرحي أبيض، ويتدلى عندها علم بابوي أحمر، ثم يظهر اسم المسرحية على جدران القصر البابوي، واسم مؤلفتها ومخرجتها.
عندئذ تدخل الممثلة/ المؤلفة، أنجيلكا ليدل، في رداء شفيف أبيض، وهي تحمل ميكروفونا تقدم عبره منولوج طويل، يبدأ بالتعبير عن أسفها لأن والديها قد رحلا عن عالمنا، وبأنها تتمنى لو كانا على قيد الحياة كي يشاهدا كيف حظيت ابنتهما الوحيدة بهذا الشرف الكبير، شرف افتتاح مهرجان أفينيون، وكتابة اسمها بحروف من نور على جدران القصر البابوي الشامخة، بالرغم من كل بذاءات النقاد ضدها، وتعبر عن امتنانها للمهرجان لأنه أضفى عليها هذا الشرف. ثم تعود للنقاد الذين لم تتورع عن تسمية بعضهم – وخصوصا هؤلاء الذين تابعوا باستمرار عروضها في فرنسا على مد السنين وانتقدوها بشراسة – وهي تصفهم بأقذع السباب. وهو الأمر الذي جعل أحدهم يهدد برفع قضية على المهرجان لتعرضه للسب أمام هذا الجمهور المسرحي الواسع الذي يقارب الألفي مشاهد.
وإن كان ثمة ناقد آخر قد رد عليها بنقده اللاذع لها، معتبرا أن مهاجمته لمسرحياتها قد وسعت قاعدة مشاهديها بشكل كبير من ناحية، وأن اعتراضها على اعتراضاته على مسرحياتها، التي أولاها اهتمامه على مر السنين، هي دعوة إلى عالم لا معارضة فيه، وهو عالم يتسم بالدكتاتورية وضيق الأفق من ناحية أخرى. وأن عليها كمسرحية أن تدرك أهمية النقد والحوار الدرامي والأدبي الخلاق. وقد دفع هذا اللغط النقدي مدير المهرجان إلى الدفاع عن المهرجان في مواجهة بعض النقد الذي وجهته من فوق خشبة المسرح. بأن ما يعرض على الخشبة لابد من التعامل معه على أنه جزء من عمل فني، يعبر عن مبدعه، وله كل الحق والحرية في التعبير الحر. وليس من حق المهرجان التدخل فيه. وقد أراد اتحاد النقاد المشاركة في هذا الجدل بكلمة أخيرة: «إننا بقدر ما نحترم حرية الإبداع، فإننا نحترم بنفس الدرجة حرية الصحافة وحرية التعبير النقدي، وأن هناك حدودا قد تجاوزتها ليدل بسخريتها العلنية من بعض زملائنا الذين نعبر عن تضامننا معهم.»
برنوجرافيا الروح وتعرية الجسد والروح معا:
وإذا كانت هذه البداية الصادمة للعمل – وهو أمر فعلته أنجيليكا ليدل بوعي شديد، وأثار الكثير من اللغط حولها – تطرح أيضا عددا من الأسئلة الجوهرية في عالمها تعبر فيها عما سماه بيرجمان ببورنوجرافيا الروح، وأهمية تعرية الجسد كسبيل لتعرية الواقع، وتعرية الروح الإنسانية. لأنها تتساءل معه لماذا تنطوي تلك التعرية على الصدمة؟ رغم أن الجميع يولدون عرايا. وهي كلها قضايا صادمة لا تحتل من العمل غير بضعة دقائق في بدايته. أعقبتها بتوجيه الكثير من الأسئلة المحيّرة للجمهور عن الذات والنفس والقيم والموت والحرب والحب والفن ومئات الأسئلة التي تشغلها، والتي كانت بلا شك عماد عالم هذا الشيطان الفني الكبير إنجمار بيرجمان. لأنها قد عملت في الواقع بقدر كبير من الجدية والاحترافية على هذا العرض الصعب. إلى الحد الذي نعرف فيه أنها قامت بعدد كبير من بروفاته في المسرح الملكي باستوكهولم، وهو بين أهم ساحات ميراث إنجمار الفني، بل واستقدمت عددا من الممثلين منه للمشاركة في عرضها هذا.
وأذكر – وقد أخذتي مسيرة حياتي للعمل في جامعتي أوبسالا واستكهولم بين عامي 1982- 1984 – أنه كان يخرج لهذا المسرح مسرحية واحدة كل عام. وأنه كان غالبا ما يختار هذه المسرحية إما من أعمال شكسبير أو ستريندبرج. ولا زال إخراجه لمسرحية (الملك لير) التي شاهدتها له في هذا المسرح عالقا بذهني حتى اليوم، برغم مرور أكثر من أربعين عاما على مشاهدتي له. بل إنني أشعر وأنا أشاهد عرض ليدل هنا أنها استقت ألوان العرض الثلاثة – الأحمر والأسود والأبيض – وما أسميه بأجرومية الحركة المسرحية، من هذا الإخراج المدهش لمسرحية لير. تقول ليدل في تفسير ذلك في برنامج المسرحية المطبوع «كان عليّ أن أترك نفسي لهذا الشيطان العظيم الذي كانه بيرجمان، وأن أتيح لها أن تتشرب روحه بالذهاب إلى ستوكهولم، وبأن أكون بين نفس الجدران التي تعمرها روحه، وأن أمشي بين نفس الممرات، وأدخل غرف الممثلين فيه.
لأن بيرجمان – مثله في ذلك مثل أندرية تاركوفيسكي – كون مستقل شاسع، كل ما يطمح فيه أمثالي أن ينمو في ظله. لأن وجودي في بيته وفي مسرحه أثر عليّ وعلى مزاجي الفني. والواقع أنني جئت إلى فضاء ساحة الشرف في أفينيون للاحتفاء بجنازته. خاصة وأنه كتب بنفسه – في وصيته – سيناريو تفاصيل جنازته، وطلب من النجار الذي شيد تابوت بابا الفاتيكان جون بول الثاني أن يبني له تابوتا مماثلا. «وأوصي بأن تتسم مراسيم دفنه بالتقشف والبساطة والبعد عن البهرجة والغرور. لأنه كان يكره العواطفية الزاعقة، وأوصى بألا تلقى في جنازته الكلمات.» لأننا نعرف أنه كان ممن جعل الصمت أحد لغات العرض الدرامي الأساسية في أفلامه وحتى في عروضه المسرحية.
والواقع أن العرض، بعد تلك البداية الاستفزازية بالكلمات، يوشك في قسمه الأكبر أن يكون عرضا بلا كلمات. يستخدم تعرية الجسد سبيلا لتعرية الروح، وتلعب فيه لغات أخرى: الألوان والحركة والإيقاع الدور الرئيسي. وقد تحول المسرح – وقد امتلأ بالممثلين الذين جاءوا معهم باثني عشر كرسيا متحركا وسرير مستشفى متحرك أيضا – إلى ساحة لدراما الحركة الصامتة، تدعمها الموسيقى والإضاءة بلا شك، وتروي لنا الكثير من القضايا التي شغلت بيرجمان في حياته الفنية الثرية، وتشغل الآن تلميذته الكاتلونية هنا. ويستمر إيقاع الحركة في استقطاب اهتمام المشاهدين، وفك شفرات تلك المشاهد المتتابعة، وقد تحولت إلى نوع من الكوريوجرافيا المسرحية التي تهتم بهتك أقنعة الزيف الاجتماعي منه والأخلاقي. حتى تبلغ ذروتها في مشاهد التابوت والدفن، وقد رقدت هي بنفسها في التابوت الذي أوصى بيرجمان بصنعه كي يدفن فيه. لأن العرض أيضا ومؤلفته/ مخرجته ممسوس بالخوف من الموت الزاحف، رغم أنها لاتزال في أوج العمر والإبداع.
إبشالوم إبشالوم، وعوالم فوكنر السحرية:
أما العرض الثاني الذي شاهدته بعد هذا العرض الحافل بالقضايا والإشكاليات، فإنه لا يقل عنه ثراء. لأنه مأخوذ عن رواية مهمة لوليام فوكنر. كما أن معدته ومخرجته امرأة هي الأخرى وهي سيفرين شافرييه Severine Chavrier الفرنسية التي تعمل بين المسرحين الفرنسي والسويسري، مشغولة هي الأخرى بالعالم الذي تعمره التواريخ والأشباح. وقد استغرق عرض إعدادها لرواية فوكنر خصيصا لمهرجان هذا العام على مسرح الفابريكا La Fabrica أربع ساعات ونصف. ولكن دعنا نعود إلى النص الأصلي قبل الحديث عن إعدادها الدرامي له. لأننا نعرف أن وليام فولكنر (1897-1962) وهو أهم كاتب أمريكي ينحدر من جنوب الولايات المتحدة، ومن ولاية ميسيسبي خاصة، قد اخترع مقاطعة أمريكية خاصة Yoknapatawpha County تدور فيها أغلب رواياته الشهيرة، وأكثر من خمسين من قصصه القصيرة. وقد اختارت المخرجة روايته التي تنطوي على خريطة تفصيلية لتلك المقاطعة المتخيلة يوكناباتاوفا وهي رواية «أبشالوم أبشالوم Absalom, Absalom!» التي نشرت لأول مرة عام 1936. وهي من الروايات التي ساهمت مع «الغضب والعنف» في حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1949. كما أنها الرواية التي يعتبرها كثيرون من نقاد الأدب الأميركي أفضل رواية عن الجنوب الأميركي، وعن ثقافة هذا الجنوب التحتية، وما يسري فيها أغوارها من قيم ورؤى وتصورات.
وتتناول الرواية التي تدور أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) حياة توماس سوتبن Thomas Sutpen الذي وصل إلى يوكناباتاوفا عام 1830 وأستولى على 64 ألف فدان من أراضيها (مئة ميل مربع) التي أخذها من سكانها الأصليين من الهنود الحمر، ليؤسس فيها مزرعته، ويبني فيها عالمه. ومع أن توماس ينحدر من عائلة بيضاء فقيرة من غرب ولاية فيرجينيا، فإنه قرر حينما كان في مشوار لوالده وهو في الرابعة عشرة من عمره، وأمره خادم البيت الأسود بأن يستعمل الباب الخلفي – باب الخدم – لبيت المزرعة الكبير، أن يتمرد على هذا الوضع، الذي تتأسس فيه قيمة الإنسان وفقا لما يملك من أرض أو أشياء مادية. وتبدأ رحلته من جزر الهند الغربية، حينما يدير مزرعة لفرنسي فيها، وينجح في القضاء على تمرد العبيد بها، مما يدفع صاحب المزرعة إلى تزويجه ابنته، وتقديم جزء من المزرعة له. ولكنه ما أن اكتشف أن زوجته – ابنة صاحب المزرعة الفرنسي – خلاسية تمتزج في عروقها دماء البيض مع السود بعد أن أنجبت له ولدا، مما سيتيح للدماء السوداء أن تجري في عروق ابنه، حتى تخلى عنهما معا، وترك لهما في نوع من التعويض أو إراحة الضمير نصيبه في المزرعة.
وعاد إلى الجنوب الأمريكي بدلا من ولاية فيرجينيا التي انحدر منها، وقد تعرف على سبل تأسيس المزارع الشاسعة وإدارتها، كي يؤسس مملكته الخاصة. وقد أسس لنفسه تاريخا جديدا كصاحب مزرعة في جزر الهند الغربية، تركها وراءه وعاد مع بعض العبيد الذين كانوا في مزرعته، ومعه مهندس معماري فرنسي عليه أن يبني له بيت مزرعة كبير، أكبر من ذلك الذي منعه الخادم في صباه من استخدام بابه الرئيسي. وانتقل إلى مقاطعة يوكناباتاوفا، حيث يبني فيها مزرعة جديدة وتاريخا جديدا. يصبح بمقتضاه أحد أصحاب النفوذ الكبار في الجنوب الأمريكي. وكل ما يريد كي تكتمل له قصته، هو امرأة بيضاء تنجب له صبيا يصبح هو وريث هذه المملكة الشاسعة. وينجح في بناء تلك المزرعة الشاسعة والبيت الكبير، والزواج من امرأة بيضاء تنجب له وريثا. وتستمر الرواية بعد الحرب الأهلية وبعد تفكك مملكة توماس ستوبن وانهيارها. لأن الرواية مروية عبر تقنية تعدد الأصوات وتجاور السرديات من خلال استرجاعات تواريخ سوتبن التي تراكمت عبر الشخصيات والزمن معا، حيث يضيف كل راو من رواة أحداثها المتشابكة المزيد من التفاصيل. ولأن الشخصية التي تقوم بالدور الرئيسي في تلك الاسترجاعات هي شخصية كوينتين كومبسون Quentin Compson، فإن الرواية تردنا إلى رواية فوكنر السابقة عليها، وهي (الصخب والعنف) التي تروي عبر شخصياتها، وأصواتها المتعددة حكاية أسرة كومبسون تلك. في نوع من التناص الخلاق بين الروايتين من ناحية، كما أن عنوانها يردنا إلى تناص آخر بينها وبين القصة التوراتية عن أوبشالم ابن داود.
وهي ككثير من روايات فوكنر عن الجنوب الأمريكي استعارة روائية لتاريخ العلاقة المعقدة بين البيض والسود في حياة الجنوب، وكيفية تفكك ثقافة المزارع الضخمة المنهوبة من السكان الأصليين، تحت وقع أشكال جديدة من النهب الاستعماري الأبيض بين البيض وبعضهم البعض. وكيف أن فشل سوتبن في احترام زواجه الأول – بسبب خلاسية زوجته فيه، آذن ببدء الصدوع التي قادت في النهاية إلى تهاوي مملكته برغم كل مزاعمها المثالية، ورغبتها في تأسيس جنة مسيحية موعودة في العالم الجديد. والواقع أن اللعنة التي تقع أحداث الرواية تحتها هي لعنة العبودية، عبودية الجسد وعبودية الروح معا بالمعنى الهيجلي الواسع لذلك التعبير ، والذي يطرحه فوكنر في أعماله مقابل روح المجتمع ورؤية العالم. ولأن سوتبن شديد الإيمان بقدراته الفردية إلى الحد الذي لا يهتم فيه بأن يكون جزءا من عائلة إنسانية أوسع، فإنه لا يستطيع أن يرى الصدوع التي تتسرب منها تلك اللعنات المتلاحقة التي تودي به في نهاية المطاف. وفي مستوى آخر من مستويات التأويل فإن الرواية تطرح علينا أيضا أهمية الماضي، وحضوره الدائم في الحاضر في هذا الجنوب الأميركي المثقل بتواريخ النهب والعبودية وإبادة السكان الأصليين. وهو الأمر الذي تبرزه تقنية تعدد الأصوات، والتي يحمل كل منها رؤية مختلفة لهذا الماضي الإشكالي. ذلك لأن تقنية الرؤى المتجاورة والمتضارية معا تكشف لنا عن استحالة استرداد الماضي، ومدى الخلط المستمر فيه بين ما جرى وما هو متخيل أو مرتجى. لكن خطايا الماضي وتواريخه المؤلمة لا تتركه وحده، وإنما تتابع ضرباتها المؤلمة التي تصنع من هذه الرواية استعارة درامية لتعقيدات الحياة في الجنوب الامريكي، بل ولدراما الحياة الإنسانية الخصبة في كل مكان.
فكيف قدمت سيفرين شافرييه هذه الملحمة الروائية الفوكنرية الخصبة؟ لقد استطاعت أن تجد المعادل المسرحي لتلك التقنية الروائية التي تنهض على تعدد الأصوات وتداخل الأحداث وتضاربها، من خلال تلك التقنية الدرامية الجديدة التي شاعت في المسرح الأوروبي في السنوات الأخيرة، ألا وهي تقنية الفيديو اللحظي. حيث يتم تصوير ما يدور على خشبة المسرح وعرضه أعلاه بصورة مكبرة تتيح للمخرج أن يركز على شخصيات بعينها، أو وقائع محددة، وأن يعيد عرضها وقد ساهم التصوير في إعلاء قيمتها أو تشويهها. وقد جلبت لخشبة المسرح سيارة، أو بالأحرى النصف الأمامي من هيكل سيارة كانت تحبس فيها الشخصيات، وتركز على تكبيرهم أو تصوير بعضهم دون البعض الآخر للعرض أعلى الشاشة. وأخذ العرض في المراوحة المستمرة بين رواية مسيرة سوتبن، كما عاشها وتصورها هو إبان الحرب الأهلية الأمريكية، وما جرى له بعدها، ولا يعرفه أو يرويه لنا إلا الشخصيات الأخرى التي انحدر بعضها من أصلابه، أو أصلاب الذين استولوا على أقسام كبيرة من مملكته التي آلت للسقوط. أو تستخدم أشرطة فيدو مصورة مسبقا لتقيم عبرها نوعا من التعارض بين ما يدور على الخشبة وما ينطوي عليه من تأويلات مناقضة. لكن استخدامها لتلك التقنية لم يكن بنفس الجدة والمهارة التي شاهدتها في عروض أخرى، وأدى إلى تطويل العرض، وتبديد إيقاع الدراما الأساسي فيه.
المسرح السجالي من الكلاسيكية حتى الوثائقية
اتسمت مجموعة من العروض المختلفة التي شاهدتها في مهرجان هذا العام بالاهتمام بقضايا الواقع المعاصر على امتداد الساحة الجغرافية الواسعة من أمريكا اللاتينية – بسبب استضافة مسرح اللغة الإسبانية – وحتى أوروبا. ويبدو أن هذا أحد المؤشرات التي تومئ إلى اهتمامات مدير المهرجان الجديد. فبالإضافة إلى التركيز على مسرح لغة معينة كل دورة – وسوف يحين دور اللغة العربية في مهرجان العام القادم – هناك تلك الرغبة المستمرة في ربط المسرح بالواقع وبالعالم، وحثّ المشاهد على التفكير في قضاياه. لأنه يعتقد أن المسرح قادر على تغيير الوعي الجمعي بطريقته الخاصة. فقد كان في مهرجان هذا العام أكثر من مسرحية يمكن أن ندعوها بالمسرح السجالي، وهو المسرح الذي يأخذ تجديدات بريخت الشهيرة والتي انبثق عنها المسرح الملحمي، في العقود الأولى من القرن الماضي، إلى آفاق جديدة. فها هي تقنيات المسرح التجريبية، واستخدامات الفيديو اللحظي منه والمصور سلفا، تتيح للعرض أن يتحول إلى ساحة سجال فكري خصب دون أن يفقد دراميته، ولا ما ينطوي عليه من أشكال الفرجة الممتعة.
بهذا التصور الجديد للمسرح يمكن إدراج عدد من العروض التي جاءت من أميركا اللاتينية وأوروبا في مهرجان هذا العام تحت لافتة المسرح السجالي الذي استفاد مما حققه بريخت، وانطلق منه إلى آفاق جديدة وكشوف جديرة بالاهتمام. بالصورة التي تتيح لكل عرض من هذه العروض فرادته، وفقا لما يستخدمه من تقنيات وأساليب. لأن المسرحية التي قدمها مدير المهرجان تياجو رودريجيز عن أحد كلاسيكيات يوربيديز الشهيرة، تحولت على يديه إلى مسرحية سجالية، مثلها في ذلك مثل المسرحية التي جاءت من الأرجنتين، وتتناول أثر السجن على النساء السجينات، أو تلك التي جاءت من فرنسا وتتناول مشكلة الجهاز القضائي فيها، أو التي جاءت من بولندا ونساء أوكرانيا وتتناول ما جرى لهن وما يطمحن في تحقيقه واستخدمت تقنيات المسرح الغنائي.
«هيكُبا، ليست هيكُبا» في حضن الجبل:
وإذا ما بدأنا بكيف تحوّلت إحدى روائع المسرح الإغريقي القديم إلى مسرحية سجالية، علينا أن نأخذ المكان الذي اختاره رودريجز لعرضه، ألا وهو محجر بولبون الشهير Carriere de Boulbon الذي يبعد عن قلب مدينة أفينيون بحوالي عشرة كليلومترات، في عين الاعتبار. وهو محجر قديم قُدّت منه الصخور التي بنيت منها بيوت المنطقة وكنائسها على مر القرون. مما أحدث قطعا ظل يتعاظم في ذلك الجبل الرابض قرب نهر الرون. الأمر الذي جعل المساحة التي امتدت أمام ذلك القطع مكانا مثاليا للعرض على خلفية جبل حجري يعلو كلما استمر التحجير منه.
وكان بيتر بروك أول من استخدم هذا المكان بخلفيته الجبلية المهيبة التي ترتفع لما يقرب من أربعين مترا في عرضه الشهير عن ملحمة «المهابهاراتا» الهندية. ثم توالت بعد ذلك استخداماته من قبل مخرجين مرموقين استفادوا من طبيعته المشهدية الموحية كل بطريقته. وقد شاهدت به على مر السنين عددا من المسرحيات، كانت آخرها مسرحة روسية مدهشة لرائعة ديستويفسكي «الإخوة كرامازوف» التي تحركت مشاهدها المختلفة والمتوازية على القضبان التي تجري عليها عربات نقل الحجارة. أما رودريجيز فقد اختار أن يدير أحداث مسرحته ليوربيديز في حضن الجرف الصخري العالي. وأن يحصرها في مساحة محددة بين هذا الجرف الصخري، ومدرج المشاهدين الذي ينصب عادة لهذا العرض، ويتغير مكان المساحة التي ينصب فيها وفق تصورات المخرج. لأنه يريد من البداية أن يقترب بالجمهور من الأحداث إلى أقصى حد، فهم عنده شهود مشاركون فيما يدور أمامهم مهما كانت سلبيتهم الظاهرة.
والواقع أن طريقة تعامل رودريجز مع الكلاسيكيات تنطوي – فيما شاهدته له من مسرحيات حتى الآن – على جلبها إلى الواقع المعاش. ولا تختلف مسرحيته هذا العام عن ذلك. فقد قدم هذا العام مسرحية بعنوان «هيكُبا، ليست هيكُبا»، عن يوربيديز. ومن البداية فنحن نعرف، ومن العنوان ذاته وإشارته إلى الأصل، أن (هيكُبا Hecuba) هي واحدة من تراجيديات يوربيديز Euripides (480-406 ق.م.) الشهيرة. وأنها – مثلها في ذلك مثل مسرحيته الأشهر «الطرواديات» – تحدث بعد نهاية الحرب الطروادية، والعودة بنساء طروادة الشهيرات سبابا، وعلى رأسهم بالطبع «هيكيبا» الملكة وزوجة بريام ملك طروادة وأم باريس الشهير الذي وقعت هيلين في غرامه، فاندلعت بسبب هروبها معه من زوجها مينيلاوس ملك اسبرطة الحرب كما تخبرنا «الإلياذة» الهوميرية الشهيرة. لكن هذه المسرحية الثانية المعنونة باسمها، تمنحها دور البطولة المأساوية بالطبع. فنحن بإزاء عمل تراجيدي ليوربيديز، وهو أبرع كتاب المسرح الإغريقي الكبار في ذلك الجنس الأدبي بلا نزاع. وتعرض علينا مع كورس من الطرواديات الأسيرات مأساتها المزدوجة في التعامل مع التضحية بابنتها، واغتيال أبنها الأصغر. حيث تبدأ المسرحية بطيف الابن بوليدورُس Polydorus الذي يملأ أحلام أمه، أو بالأحرى كوابيسها، وقد أخبرنا أن أبواه أرسلاه إلى بوليمستور Polymestor ملك «تراسا» محملا بهدايا من الذهب والمجوهرات لحمايته مما قد يلحق بطروادة وأهلها. وقد راقب بوليمستور الموقف عن كثب، وما أن عرف بما حدث لآل طروادة، حتى قتل بوليدورُس وأخذ الذهب والمجوهرات لنفسه.
ولأن أحداث المسرحية تدور على شواطئ «تراسا» أثناء عودة الأسطول اليوناني إلى بلاده، وبينما تصارع هيكُبا كوابيسها بشأن ابنها، يأتي الكورس المكون من الطرواديات السبايا لينبئنها بأن الجيش اليوناني، أو بالأحرى أوديسيوس، قرر التضحية بابنتها الصغرى بوليكسينا Polyxena على قبر أخيل، في التصادي مع التضحية بإيفجينيا قبل الحرب، كي تملأ الرياح أشرعة السفن لتعود إلى الوطن بسلام. وتحاول هيكُبا أن تتوسل إليه كي ينقذ ابنتها، دون جدوى. لكن بوليكسينا نفسها تفضل الموت على أن تعيش في العبودية. وهي الرغبة التي يعكسها الكورس الذي يلعن الرياح التي ستأخذهم إلى أرض غريبة يُستعبدن فيها. ويخبرنا الكورس كيف أن بوليكسينا واجهت مصيرها بشجاعة، مما يدفع أجاممنون للأمر بدفنها بصورة لائقة، فتغسل أمها جسدها تحضيرا لدفنها. لكن البحر سرعان ما يلقى إلى الشاطئ بجثة بوليدورُس التي تُجلب إلى المسرح كي تتفجر في حضورها ينابيع غضب أمه هيكُبا، وتتعهد بالانتقام له. وما أن يدخل أجاممنون إلى المسرح، وبصحبته ابنتها كاساندرا، التي اتخذها حليلة له، حتى تطلب منه معاونتها على الانتقام من غدر بوليمستور الشنيع، فيطمئنها بقدر من التحفظ، لأنه لا يريد في الوقت نفسه أن يخسر بوليمستور وهو حليف مهم، أو أن يتواطأ مع هيكُبا ضده.
بعدها يدخل بوليمستور مع ابناه إلى المسرح – وهو يتصور أن هيكُبا لا تعرف ما فعل – فيمالئها، ويسأل عن أحوالها، فتماشيه دون أن تظهر معرفتها بغدره، بل تغريه بأنها تعرف مكان بقية الكنز الذي أرسلوا جزءا منه مع بوليدورُس، وتغريه بأن يأتي هو وابناه إلى خيمتها – خارج المسرح حيث تدور عادة الأحداث الدامية في المسرح الإغريقي – لتقدم لهم بقية الكنز كي يوصلوه إلى بوليدورُس. وهناك تكون قد أعدّت لهم مصيرهم الملائم، واستخدمت السبايا من الطرواديات لمعاونتها في قتل الابنين، ثم تفقأ بسكينها عينيّ بوليمستور الذي يدخل علينا المسرح أعمى، صارخا والدم يسيل من محجريه يبحث عن غريمته. هنا يدخل أجاممنون وقد جلبته الضجة الكبيرة التي أثارتها تلك الأحداث، ويسأل عما جرى، في نوع من المحاكمة الأخيرة في المسرحية. ليسمع دفاع بوليمستور عن نفسه بعدما أغراه طمعه في المزيد من كنوز طروادة بالذهاب بقدمية إلى الفخ الذي أعدته له هيكُبا، ولا يرى خيانته للأمانة أو غدره، بل إنه يتصور في حالته المزرية الجديدة أن باستطاعته استمالة أجاممنون في صفّه، بتبريره قتل بوليدورُس لأنه سيصبح عدوا محتملا للإغريق. وهو الدفاع الذي تصفه هيكُبا بالسفسطة والتخلي عن القيم الخالدة وتبرير الغدر. ويحكم أجاممنون في النهاية بأن العدالة قد تحققت بانتقام هيكُبا، مما يحبط بوليمستور ويسيئه، ويدفعه للإعلان عن نبوءاته القاسية بموت هيكُبا غرقا، وبأن أجاممنون سوف يُقتل هو الآخر على يدي زوجته كليتمنسترا، والتي ستقتل أيضا خليلته كاساندرا.
هذه هي الخطوط العريضة لمسرحية يوربيديز، فكيف قدمها رودريجيز؟ ما أن ندخل إلى ساحة المحجر العريضة، حتى نجد أن كراسي المشاهدين قد وضعت أمام الجرف الصخري للمحجر الذي يرتفع إلى ما يربو على أربعين مترا. وبالمساحة المحصورة بين الجرف ومدرّج كراسي المشاهدين، وقد حددت هذه المساحة كخشبة مسرحية بسور أسود صغير يرتفع عن الأرض بما يقرب من شبر أو 20 سنتيمترا. وقد رُصّت أربع مناضد وراءها عن بعد صف من الكراسي، وهناك في الجانب الآخر مما يمكن دعوته بمساحة الخشبة شيء مرتفع ومغطى بملاءة سوداء ضخمة. كما أن هناك في الجانب الآخر من المساحة شماعة ملابس كبيرة معلق فيها بعض الملابس والأرواب السوداء. وبينما تمتلئ مقاعد المدرج بالمشاهدين، تبدأ أربع شخصيات في التحرك على مكان اللعب، أمرأتان ورجلان، ثم تجيء امرأة خامسة، وبعدها ممثلان آخران، وسيشكل السبعة الكورس والممثلين معا. وما أن يبدأ العرض حتى ندرك أننا بإزاء جلسة «بروفات» مسرحية لمسرح «الكوميدي فرانسيز» الشهير، كتلك التي تدور حول الطاولة لقراءة النص مع الممثلين وتدريبهم عليه، وسنعرف بسرعة أن الممثلة الرئيسية، نادية، تعيش حياتها موزعة بين خشبة المسرح الذي ستلعب عليها دور هيكُبا، وقاعة المحكمة التي تدافع في ساحتها عن قضية ابنها المصاب بعُصاب «التوحد Autism»، والذي يعاني من سوء معاملة المؤسسة التي تتولى رعايته.
فرودريجيز ينطلق من أن يوربيديز قدم في «هيكُبا» قبل خمسة وعشرين قرنا، دراسة سيكلوجية عميقة لنفسية الأم المحبطة، وهو الأمر الذي تعيشه نادية بطلة مسرحيته. كما أنه يخبرنا في برنامج المسرحية المطبوع، أن دفاع هيكُبا البليغ أمام أجاممنون، وتفنيدها لسفسطة عدوها الغبية، كان له تأثير كبير على إعادة كتابته للمأساة الإغريقية. لأنها تعترف أمامه بأنها تعي أن تبدلات مصيرها من الأمور التي تترتب على الحروب، وأنها تستطيع أن تقبل موت ابنها نتيجة لهزيمتهم في الحرب، ولكنها لا تقبل أبدا بالخيانة، وبأن يموت على يدي صديق وحليف وثقت فيه، واستأمنته على حياة ابنها. لقد كان عليه واجب الاستضافة والمساعدة، لا الغدر. لقد استطاعت هيكُبا أن تحول ألمها إلى قدرة على الفعل، إلى طاقة لمواجهة ما ندعوه اليوم بجرائم ضد الإنسانية. لذلك فإنه ينطلق من هذا الحزن الجليل الناجم عن خلل في العالم، ويسعي إلى تجسيده بصريا أمام هذا الجرف الصخري المهيب، وقد وشح الجميع بملابس سوداء. كما استخدم الإضاءة بمهارة عالية مكنته من تقديم بطلته نادية، التي تنفق قسما من يومها في العمل في المسرح على بروفات مسرحية «هيكُبا»، لكنها ما أن تعود إلى بيتها حتى تواجه مأساتها الخاصة كأم تصارع من أجل حصول ابنها على العدل والرعاية. تماما كالشخصية التي تلعب دورها في المسرح. وبالتدريج لا تستطيع الشخصية أن تفصل بين الدورين، أو حتى الزمنين: زمن المسرح والذي يرتد بها إلى الماضي السحيق، وزمن الحاضر الذي تصارع فيه نظام العدالة وسطوة المؤسسة الحكومية التي لا تقل قوة عن بوليمستور.
وبالتدريج ومن خلال استخدام المسرحية لتقنية التكرار، تكرار المشاهد مع التغيير في كل مرة، بصورة تتصادى فيها أحداث مسرحية يوربيديز مع وقائع حياة نادية، وما يدور لها في قاعة المحكمة، تجد الشخصية الرئيسية، نادية، أنها تستخدم نفس الكلمات، وحتى نفس الحركات التي يتطلبها دورها المسرحي، في حياتها اليومية. وقد دلف التكرار إلى بنية المسرحية، بدوره المهم في توسيع افق دلالاتها، من واحدة من أعراض مرض أو عُصاب «التوحد» التي تحكي نادية عن أن ابنها دائما ما يردد الكلمة مرتين، وقد فصل بينهما بأداة النفي، فالمائدة ليست المائدة، والباب ليس الباب، إلا في حالة واحدة وهي الشوكولاته التي يحبها كثيرا. ومن تلك التكرارت جاء عنوان المسرحية نفسه. وبالتدريج نجد أن بقية الممثلين السبعة قد أخذ كل منهم ينهض بدورين أو أكثر في العمل الذي يركز على مأساة نادية وحيرتها. ويبدأ التوازي والتداخل بين العالمين في التشكل. وبالتدريج أيضا تصبح المسرحية وقد اندمجت فيها احزان هيكبا بإحباطات نادية من عدم حصول ابنها على الرعاية المطلوبة، واحدة من الأعمال التي تبلور أمامنا أوجاع أمهات المستضعفين اللواتي يعانون مما وقع على أبنائهن من ظلم، خاصة بعد تعرية الكيان الضخم الذي كان مستورا بملاءة سوداء ضخمة متكشفا عن وحش ما! ليفتح العمل على تأويلات وسجالات متعددة. سواء أكان هذا الظلم قد ارتكبه فرد وثقن به، أو مؤسسة ضخمة تزعم رعايته، وصولا إلى الأمهات اللواتي يعاني أبناؤهن من ظلم الدكتاتوريات المختلفة. وبالتدريج أيضا يجد الجمهور نفسه وقد أصبح جزءا مما يدور، يريد أن يكرر مع الكورس، وبشكل تتصاعد درجة احتجاجيته بالتدريج: أي نوع من الأمهات تلك التي تترك ابنها في أيدي غريبة، حينما يكون في أمس الحاجة إليها؟ وكأننا نستحث المظلومين على المقاومة.
مسرحية Léviathan وقدرات التوثيق المسرحي:
فإذا انتقلنا إلى مسرحية أخرى ذهبت بهذا البعد السجالي إلى أقصى حدوده، وهي مسرحية (ليفياثان Léviathan) التي كتبها جيوم بوا Guillaume Poix ولورين دي ساجازان Lorraine de Sagazan والتي قامت أيضا بإخراجها، سنجد أننا بإزاء عمل مختلف تماما من حيث البنية المسرحية والإخراج معا. ينهض على تعامل المسرح مع الواقع الذي يصدر عنه ويتوجه باستقصاءاته له مباشرة. عمل يقوم – كما يقول مؤلفاه – على 300 مقابلة أجرياها مع أناس من مختلف الخلفيات في المجتمع الفرنسي، إبان مرحلة الإغلاق أثناء وباء الفيروس التاجي – كوفيد 19 – للبحث عما يعتقدون أنهم يفتقرون إليه في حياتهم. أو عما يتصورون أن المجتمع في حاجة إليه، ومحاولة وضع قصص بعضهم على الخشبة بأقل قدر من التدخل التأليفي فيها. ومنذ ذلك التاريخ قدمت المخرجة الفرنسية أكثر من عمل استقته من تلك المقابلات الموسعة. وكان آخرها هو هذه المسرحية (ليفياثان) التي انبثقت من بعض تلك المقابلات، ومن تجربة طويلة في متابعة نظام العدالة الفرنسي، وما انتابه من تغيرات، وما ينطوي عليه من مفارقات تحتاج إلى تأملها والنظر في تأثيراتها على العدالة كمفهوم، وعلى المجتمع ككل. وبعد اختيار بعض الحالات من مقابلات عام 2020 أجرى المؤلفان مقابلات إضافية مع محاميين ووكلاء نيابة وقضاة، فضلا عن عدد من المتهمين والمحبوسين نتيجة أحكام أصدرها عليهم هذا النظام القضائي الجديد، والذي يدعى بالإجراءات الفورية. كما حضر كل منهما أكثر من ثلاثين جلسة من جلسات هذا النوع العاجل من القضاء الذي صمم من أجل الإسراع في تحقيق العدالة، والتغلب على بطئها الذي يستغرق عادة شهورا وأعواما. وكيف تخلقت آلياته وكرست بطريقتها الخاصة ظلمها الفادح، بل الأهم من هذا كشفت عن خلل جوهري في البنية الاجتماعية في فرنسا.
ومن البداية يواجهنا عنوان هذه المسرحية الملغز. لأن العنوان يشير إلى معنيين، يقصد العمل المسرحي إدارة حواره الجدلي معهما: الأول هو المعني التوراتي والذي يرد ذكره في أكثر من سفر – سفر أيوب وسفر إشعيا والمزامير وغيرها – ويشير إلى الشر/ الشيطان عامة أو إلى تجسده في صورة وحش بحري ضخم، تنين أو ثعبان جبار، يخلق فوضى مدمرة. أما الثاني فهو كتاب توماس هوبز (1588-1679) الذي يحمل هذا العنوان، ونشر عام 1651 مع عنوان فرعي يكشف عن محتواه وهو: مادة وشكل وقوة الثروة العامة المدنية منها والروحية. وهو كتاب ينتمي إلى كتب فلسفة السياسة، ويحلل بنية المجتمع ومشروعية السلطة الحكومية فيه. ويُعدّ من أوائل الكتب التي أسست لنظرية العقد الاجتماعي وفلسفة الحكم. ومع بقاء هذين المعنيين في خلفية التحليل، علينا أن نواصل الحديث عن هذا العمل الذي يجسد لنا على المسرح كيفية عمل نظام القضاء العاجل، وكيف أنه يعيد انتاج علاقات القوى الاقتصادية منها والسياسية في الواقع الفرنسي، ويعري ما تنطوي عليه من خلل وإجحاف.
وما أن ندخل إلى المسرح، حتى نجد أننا أمام مسرح مفتوح على مساحة تشبه ساحة محكمة. وفي الوسط – أي في عمق خلفية المسرح – صورة بيضاوية ضخمة لملك ما متوج، وكأنه أحد ملوك العصور الغابرة، وإن كان رداؤه الأساسي مصنوع من قماش رسمت عليه مئات الصور الصغيرة لأبناء الشعب الذي يحكمه، أو يحكم باسمه. وما أن يبدأ العرض حتى يحل مكان تلك الصورة ساعة رقمية ضخمة تبدأ من الصفر من كل قضية من قضايا الأمور المستعجلة، ثم تتوقف مع صدور الحكم، وتبدأ من الصفر من جديد مع القضية التالية. وتستخدم المسرحية الأقنعة مع كل الشخصيات التي تمثل القانون، ويدخل القاضي بروبه التقليدي، ليجلس على منصة القضاء؛ وتبدأ المحاكمة، بسؤاله للمتهم إذا ما كان لديه أي اعتراض على محاكمته، وغير ذلك من الأسئلة التقليدية، ثم يقرأ عليه لائحة الاتهام وفق محضر الشرطة التي قبضت عليه، ثم أحالته للمحكمة. فنكتشف أن كل جريمته، هو أنه ركب «متوسيكل ياماها» بدون أن يضع الخوذة الحديدية لحماية رأسه، ودون أن يحمل ترخيصا يتيح له قيادة هذا النوع من الدراجات النارية. كما أن الشرطة تدعي أنه فعل هذا كله تحت تأثير المشروبات الكحولية. ويدفع المتهم عن نفسه التهمة بأن كل ما فعله هو أمر عادي، كما أنه لم يقاوم إغراء هذه الآلة الجميلة وحاول فقط تجربتها لأنه لا يستطيع شراءها، وأنه لم يقع أي ضرر على أحد. كما أن صاحب محل بيعها صديق قديم، وأنه جربها في طريق خاص، وليس في شارع عام.
ولكن المدعي العام يقول إنه يتصور أنه لم يرتكب أي خطأ، وأن وظيفتنا هنا أن نوضح له كيف أنه خالف القانون، وأن نوقع عليه أشد العقوبة. كما أن محاميه يحاول الدفاع عنه بأن الجنحة التي ارتكبها لا تستلزم عقوبة السجن التي ينص عليها القانون، كما أن السجون في فرنسا تعاني من اكتظاظها بالمجرمين، وتكلفتها عالية. ونكتشف من خلال النقاش بينه وبين المدعي العام أن السجون قد تمت خصخصتها، ضمن كل ما تجري خصخصته في جري فرنسا وراء نمط النظام الرأسمالي الأمريكي. وأن هناك من يستفيد من امتلائها بالمساجين. ويحاول المحامي أن يطرح أفكاره عن الجدل بين العقاب والإصلاح، وعن ضرورة أخذ دور الضحية في الاعتبار، حيث لا توجد ضحية تذكر في هذه الحالة. وما أن ينتهي الجدل بين الأثنين حتى يصدر القاضي حكمه بالسجن لتسعة شهور. عندها تتوقف الساعة الرقمية فنكتشف أن الأمر كله لم يستغرق أكثر من 18 دقيقة. وينادي القاضي بعدها على القضية التالية، فتبدأ الساعة الرقمية من الصفر مرة أخرى.
ولا تقل القضية الثانية عبثية عن سابقتها، لأن المتهم فيها عاطل عن العمل، عليه أن يعيش طوال الشهر على إعانة البطالة وقيمتها 970 يورو في الشهر. وهو مبلغ لا يكفي لسد رمق شخص واحد بالكاد ناهيك عن استئجار غرفة يسكن فيها. لذلك فإنه ينام في الشوارع، وقد أيقظته الشرطة من نومه ذاك، فصحا ليجد أن تيلفونه قد سرق، فأرغى وأزبد، واتهمته الشرطة بالاعتداء على موظف أثناء تأديته وظيفته بألفاظ نابية، وعدم وجود سكن دائم له. وبعد أن أمضى 48 ساعة في الحجز بمركز الشرطة ها هو قد تحول للمحاكمة التي تقوم بمحاكمته بنفس الطريقة. فهو ينكر قيامه بأي جريمة، وبأن من الطبيعي أن يغضب حينما يكتشف ضياع تليفونه، وبه كل المعلومات الأساسية عنه. وما أن تنتهي القضية بالحكم عليه هو الآخر بالسجن ستة أشهر حتى تتوقف الساعة الرقمية عند 16 دقيقة. وأثناء مداولات تلك القضية نعرف أن مؤسسة العدالة هي الأخرى قد وُصعت تحت ضغوط معينة، فعلي كل مجموعة منها الفراغ من عدد معين من الحالات كل يوم، وأن ذلك يتطلب منها ألا تنفق أكثر من عشرين دقيقة على الأكثر على كل حالة. وهو الأمر الذي تؤكده لنا المخرجة فيما تابعته من حالات.
وما أن نصل إلى القضية الثالثة حتى يعري العرض فيها النظام حتى النخاع. لأننا هنا بإزاء امرأة اتهمت بسرقة بعض من ملابس الأطفال من محل تجاري، كانت تريد أن تدخل بها الفرح على ابنتها الطفلة، لأنها لا تستطيع – بسبب فقرها المدقع – أن تشتري لها تلك الملابس التي تحتاجها. وما أن قبض عليها موظف الأمن حتى أعادت الملابس الى المحل، ولم يقع ضرر على أحد. لكن المحل كان قد استدعى الشرطة التي احتجزتها، ولما فتشتها وجدت بحوزتها بطاقتي ائتمان تقول أنها عثرت عليهما، وقدمتها للمحاكمة. لأنها لم تقدم بطاقتي الائتمان للشرطة قبل القبض عليها، وحاولت سرقة تلك الملابس. وتنكر المتهمة بالطبع قيامها بأي جريمة، وتزعم أنها عثرت على البطاقتين، وكانت تنوي أن تدفع ثمن الملابس وقد أعادتها لهم على كل حال. لكن الادعاء يصرّ على أن أركان الجريمة قد وقعت، فقد سرقت الملابس وضبطها موظف الأمن، كما أنها احتفظت ببطاقتي ائتمان دون وجه حق، ويطلب سجنها لعام. وتتوسل إلى المحكمة ألا تفعل ذلك، فليس هناك من يهتم بطفلتها سواها، فترفض المحكمة توسلاتها، وتحكم عليها بالسجن لأربعة أشهر. ولا تستطيع المتهمة أن تفهم، فقد انقطع بالفعل أي اتصال حقيقي بينها وبين طاقم المحكمة. هنا تتوقف الساعة الرقمية الضخمة فنعرف أن النظر في تلك القضية لم يستغرق سوى 19 دقيقة. هنا يدخل إلى المشهد حصان حقيقي – وليس ممثلين في شكل حصان – فتحتضنه المتهمة ويستجيب لها، ويبدو أنه الكائن الوحيد الذي يتعاطف معها. وتبدأ الساعة الرقمية بعد توقفها عند نقطة الصفر في العمل من جديد. بينما تعتصم المتهمة بالحصان وتتشبث به. ثم يتوجه الحصان صوب منصة القضاء، ويهمّ بأكل مدونة القانون الضخمة التي كانت أمام القاضي، ثم يسحبها من على المنصة حتى تسقط في الأرض. ويأتي من يأخذ المتهمة خارج المسرح، وقد أخذ الحصان في حركته الحرة يثير مخاوف طاقم القضاء، ثم يأتي من يقود الحصان إلى خارج المسرح. وتستمر موسيقى العرض ومعها الساعة الرقمية، وقد تجمد كلّ من بالمشهد: من الطاقم القضائي وبقيت المدونة القانونية الضخمة مرمية على الأرض. ويتواصل هذا الصمت لما يقرب من عشر دقائق حتى تصل الساعة الرقمية إلى ما بعد 16 دقيقة. وهو الزمن الذي كان من الممكن أن تتم فيه محاكمة أخرى، تُركت فارغة كي يملأها المشاهدون، كل من خبرته.
فقد شاهدوا وفي الزمن الحقيقي – لأننا نعرف أن متوسط زمن أي قضية أمام هذا القضاء السريع أقل من 20 دقيقة – ثلاث قضايا، وجاء الحصان ليحقق هذه الصدمة الجميلة، لذلك ما أن توقفت الساعة الرقمية وانتهى العرض بعد تجميد المشهد لما يقرب من الدقائق العشر، حتى هب المشاهدون وقوفا للتصفيق لهذا العرض المؤثر الذي يثير الكثير من التساؤلات حول هذا النظام القضائي الجائر، وكيف أن ضحاياه هم في الوقت نفسه ضحايا المجتمع الجشع الذي يزداد فيه الفقراء فقرا، وتتنامى فيه ثروات كبار الأغنياء بطريقة بذيئة. فنحن هنا بإزاء مسرح سجالي بحق يعي أن فرنسا – ككثير من البلدان الأوروبية المجاورة – تعاني من فقدان الثقة في نظام العدالة المأزوم فيها من ناحية، ومن بطء هذا النظام وتعثراته المختلفة من ناحية أخرى. وما أن حاولت معالجة هذا الأمر من خلال هذا القضاء العاجل حتى تفاقم الأمر وعصف بكثير من الفقراء والمستضعفين. لأن المؤلفة/ المخرجة تكشف لنا أن المتهم لا يواجه أبدا الضحية، وإنما المدعي العام الذي يفترض أنه يمثل المجتمع الذي يعتبره القانون ضحية ما اقترفه المتهم، دون النظر في أن هذا المتهم نفسه هو ضحية المجتمع الذي يمثله الادعاء.
إننا هنا بإزاء مسرح سجالي يعتمد على التوثيق وعلى الكشف عن الجرح العميق الذي يعاني منه المجتمع في طرح الكثير من الأسئلة الجوهرية: من الذي نحكم عليه؟ وكيف؟ وهل القانون الجنائي هو ما يحدد الجريمة؟ أم أن الجريمة تتحدد إذا ما كان لها ضحية وقعت عليه؟ هل القانون الجنائي هو من يتطلب العدالة؟ أم أن من تضرر من أي جنحة أو جريمة هو من يطالب بالتعويض؟ ولماذا نجد أنفسنا إزاء هذا القانون ضمن طقس عقابي بدلا من طقس تعويضي يتطلب إصلاح ما وقع من ضرر؟ وتطرح المسرحية هذه التساؤلات – كما تقول لنا المخرجة في برنامجها المطبوع – ضمن ما تدعوه بالعدالة التحويلية Transformative Justice التي تركز على الجانب الإصلاحي للعدالة بدلا من الجانب العقابي. بل وتدعو إلى إلغاء العقاب كلية، وهي حركة تطرح أسئلتها الجوهرية حول الشرطة والمحاكم والسجون، وتدعو بدلا منها إلى جدل سياسي مفتوح حول نظام العدالة برمته، وحول الطريقة التي ننظم بها المجتمع، ونحكم على أفراده، ونعيد تعريف كل من الخير والشر فيه من جديد. وأهم من هذا كله كيف نواجه العنف الذي يتخلق في المجتمع، بما في ذلك العنف الذي تمارسه مؤسسة العدالة دون وعي بما يترتب عليه من قهر وعنف جديد، بمعرفة أسبابه أو بمعنى آخر من هو الوحش الليفياثان الرابض بيننا؟
وسوف نتابع مع القراء بقية عروض هذا المهرجان في العدد القادم