يقدم الناقد والروائي العراقي شهادته على نص "كتاب الهامش". تتعمد تجربته اللاتساكن إزاء سؤال الماهية والزمانية السردية، وهذا ما يترك الباب مشرعاً أمام أقانيم السرد لتأجيل ذروة الوصول، فيتحول النص لسعي كينونة وجودية قلقة، ومنفلتة من المعيار والزمان باستمرار.

عندما تكتب الرواية نفسها

شهادة وتجربة

محمد علي النصراوي

إذا ما كان الإنسان يُعَدُّ شيئاً صغيراً لا حول له ولا قوة، إذن ماهي الحكمة. من مقولة ديكارت بأنَّ الإنسان أصبح سيد الطبيعة؟ كيف يصبح الإنسان سيد الطبيعة وهو كائن ضعيف إذا ما وقف أمام قوتها وجبروتها الصاخبة التي تحمل في داخلها كوارث العالم وزلازلها؟!، وإذا صح القول فإن الإنسان كائن منسي على مر العصور والأزمان. ولكن هذا الكائن هو الوحيد الذي يعرف الحكمة في سر هذا العالم، الحكمة التي تقول بأنه عالم غير يقيني، كيف إذن علينا أنْ نكتشف الإنسانية في ضوء عالم غير يقيني؟ إلاّ أن الإنحدار الذي تنحدر به هذه الإنسانية، ونهايتها يكون بذرة في طرح الأسئلة التي لم يجد هذا الكائن جواباً لها في تحقيق سر وجوده في الحياة.

وتساءلت مع نفسي عن سر المغامرة التي خاضها صومائيل بيكت وكلود سيمون أثناء الحروب المدمرة وهم يتنقلون من موقع إلى آخر هرباً من جحيمها، كلاهما كانا قريبين من الموت. ولكن كيف استطاعا أثبات وجودهما؟! هل الرواية عندهما تُعَدُّ المغامرة في ضوء استيعاب اللحظة الراهنة؟! اللحظة التي تستطيع أن توقف فيها أزمنة العالم، اللحظة التي يعرف فيها الروائي حكمته حينما يعيد صياغة هذا العالم غير اليقيني، اللحظة التي تتكشف شيئاً فشيئاً كما تتكشف الأشياء عن جوهرها، ستكون لحظة يقينية لأن الإنسان عندها سوف يعرف نفسه، ستكون بمثابة ضميره السري، منبع فكره وهو يتدفق من الداخل، عندئذ سيعرف الروائي ماذا سيدور من حوله، حينما تتجمع المشاعر الإنسانية في داخله، وسيكتشف أنه سيدخل أرضاً بكر لم يدخلها أحد، سيستخرج المجهول القابع في الظلام ويجعله تحت نور العالم الساطع، بهذا المعنى سوف أشارك عزلة كلود سيمون في جنوب فرنسا وهو يتأمل ذاته، ولكن كم مرة يتأمل الروائي ذاته كي يكتشفها؟ ولكن ما هو مبرر وجود الرواية؟ المبرر الذي يجعلها تصوغ نفسها وتولد في كل مرة، هو ذلك الشيء الذي لا يمكن اكتشافه إلاّ بوساطة الرواية وحدها، ذلك الجزء الذي يظل مجهولاً تحت طيات الحياة اليومية.

وها نحن نذهب مع ميلان كونديرا الذي يؤكد «إنَّ الرواية التي لا تكشف جزءاً من الوجود ما يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية، إنَّ المعرفة هي أخلاقية الرواية». وها نحن ندخل في الثنائيات الميتافيزيقية التي تفصل بين الخير والشر، بين الصادق والكاذب، بين اليقين واللايقين، بين الأخلاقي واللاأخلاقي. إذن لا يوجد هناك حل وسط أو قيمة نسبية تتوسط هذه المقولات، هكذا نقرأ التراث الروائي القديم الذي غالباً ما تنتهي الأعمال الروائية بهذه الصيغة «أما.. وأما» أو تنتهي بمفارقة إنسانية في واقع لا يرفع عينيه إلى الغد، وهكذا نذهب مع هيغل في مثاليته على أنَّ الإنسانية هي فوز أحد طرفي المعادلة، ونفي الطرف الآخر والقضاء عليه، كما عودتنا روايات نجيب محفوظ على سذاجة التلقي في تصفح الوقائع الحياتية، بشكل تاريخ يومي، يموت في لحظة قراءته. وإذا كان الإله قد مات عند نيتشه، فإنَّ هيدجر يؤكد بأنَّ كائنه لا يزال يبحث عن كينونته، ليقف على عتبة الوجود ليثبت نفسه، ومن أية نقطة يشاء أو من أية لحظة تولد أسئلته، من هذا المنطلق يكتشف نيتشه أنَّ سوبرمانه هو إنسان المستقبل. وحينما أنزل هذا السوبرمان من عليائه، أي من قمة جبله ليشارك أحزان العالم، لم يلتفت إليه أحد، لقد أدار الجميع ظهورهم إليه، فلم يقل لهم نعم، بل صعد جبله مرة ثانية، وهو ينظر إلى الجموع الغفيرة نظرة ازدراء، مفضلاً البقاء في عزلته مفكراً قي سر هذا الكون.

ولكن إذا ما مات الإله سيكون العالم فارغاً بغيابه، فمن إذن يفصل بين الخير والشر، ويمنح الأشياء وجودها ومعناها، ويفرض سيطرته على كل الموجودات ليمتلك مفتاح سر الهاوية؟ مّنْ يحكم هذا العالم غير اليقيني ليجعله عالماً يقينياً؟

مات المؤلف فجأة وبدا العالم فارغاً يلفه الغموض والتعمية، تتلبسه أسرار لتولد أسراراً أخرى أكثر عمقاً، وأختلط الحابل بالنابل، وأصبحت الأمور أكثر تعقيداً، وتفتتت الحقيقة وضاعت بين طيات الأزمنة، ولم تعد هناك حقيقة مطلقة، بل راحت الحقائق تولد حقائق أخرى يتقاسمها الناس فيما بينهم، من هنا ولدت الأديان والأيديولوجيات لتبرير الحقيقة وعقلنتها والبرهنة على وجودها، وهي ترفض غموض وتعقيد العالم الروائي، لأنها تريد هي أنْ تكون الحاكم المطلق عليه، كي تبسط سلطتها في إعطاء قيمتها بالحكم عليه، إنها لا تتصالح معه ما دام هذا العالم قد زحزح طرفي المعادلة الثنائية الميتافيزيقية وقام بتفكيكها في خطابه الروائي. وهي بالتالي ترفض كل تجاوز على حدودها الآمنة، فهي تريد عالماً سطحياً ومبسطاً، يعكس إيقاعات الحياة اليومية بكل توافهها وبحواراته الساذجة، يفهمه الجميع ويتفاعل معه في تصاعد نمو أحداثه، وأنْ يكون ثمة أحد على حق، وآخر على باطل، أحدهما يمثل الخير والآخر يمثل الشر، وفي كل الأحوال إنَّ على الحق أنْ ينتصر، وبانتصاره يقوم بنفي الآخر والقضاء عليه، وبهذا سيكون الطرف الرابح الذي يمتلك سلطة القوة والمعرفة في آن معاً.

إلاّ أنَّ الرواية فقدت عصا المايسترو، وراحت الجوقة الموسيقية تعزف ماشاء لها من أنغام متباعدة، وكل نغمة تحاول أنْ تمد رأسها لتكون هي مركز الانتباه، وأنْ تكون هي الأقوى لتثبت وجودها داخل قاعة العزف، هكذا تتقدم الهوامش المختفية وراء جدار الصمت، لتعلن للعالم إنها تمتلك إرادة القوة وبإمكانها السيطرة على ناصية الموقف، عندئذ نتأكد في داخلنا إننا نرى العصا وهي تتحرك في الهواء بغياب المايسترو نفسه الذي حُكم عليه بالموت والنفي خارج هذا العالم المليء بالتعقيد والغموض وأصوات النشاز، التي تحاول جاهدة أنْ تكون هي سيدة القرار، لكن الأديان أو الأيديولوجيات تعدُّ نفسها بمثابة بيت السكن أو بيت القضاة الذي تصدر منه الأوامر. بهذا المنطق تكون الرواية خارج نطاق عالمها الذي يحاول الاستحواذ على قانون السيطرة والإمتلاك.

لم تعد الرواية الآن بمثابة وصفة سحرية خصصت لتهدئة الأعصاب والإندماج برحلة طويلة تبعد القراء عن عالمهم اليومي، ليقرأوا فيها عما يقدمه هذا العالم من مغامرات عابرة، عالم مليء بالصدف والأحداث الشيقة تلك التي تشبه التنويم المغناطيسي في جلسة سحرية، والداخل إليه يتماهى معه بكل سهولة ويسر، حينما تجره الأحداث تباعاً نحو القدر النهائي، وكما يؤكد سارتر إن الداخل إلى هذا العالم عليه أنْ ينغمس فيه ويتماهى معه، ولكي يندمج فيه عليه أنْ ينسى نفسه. وإذا ما مات الإله في داخل الرواية هل ستصل الرواية إلى نهايتها، هل سيُحكم عليها بالموت هي الأخرى؟ ولكن كيف سيعيش العالم حينما يضعوا حداً لصناعة الأحلام؟ فإذا كانت الأشياء لا تتحقق، دعنا نصنع أحلامنا بأنفسنا، وسنتعرف على الكائن الذي بداخلنا، سنعرف حينها ثمة شيء اسمه الإنسانية تتقاسمه البشرية جمعاء، نعم سنرى أنَّ هذه الإنسانية سوف تتلاشى باختزال المسافة وتقليص حدودها، وسيقتلون حتى الأحلام التي لم تولد بعد وهي في مهد نشأتها، كالخميرة الأولى في نشر الحقائق، ولكن كيف تنسخ الرواية نفسها، حينما يموت الحلم في داخلنا، دع جسد النص ينمو كيفما يشاء وليُطهى على نار هادئة، سيأتي المايسترو ويلقي نظرة سريعة على جوقته المتوثبة للعزف، لكن الرواية هي تاريخ يبرر وجود البشر ويجعلهم على اتصال دائم بأحلامهم البكر، تلك التي لم يتعرفوا عليها حتى وهم في أوجِّ يقظتهم من ميدان الحلم المباغت.

ولكن هل المغامرة هي حرية الروائي، حينما يدخل في أفق مفتوح، المهم هو أنْ يكون ثمة استراتيجية، هي التي تضع أو تصوغ التصميم النهائي، ذلك التصميم الذي بإمكانه أنْ يحوي على كامل هذا الأفق. المقدرة، القوة، الإرادة إضافة إلى الجلد الروحي، هي الأشياء الأساسية التي يجب أنْ ترافق عصا المايسترو وهي تعطي أوامرها في اللحظة الراهنة من العمل باستراتيجية وتكتيك معينين، هو كيف يمكنك وعن جدارة تامة أنْ تؤجل الزمن وتبحر في الأمكنة التي تريد، كما لو أنك قد قبضت على الحلم المباغت، الذي ينخطف أمام بصرك، وأنت تعتقد إنك قد تعرفت عليه في القاع التحتي من عالمك الداخلي، الآن تستطيع أنْ تدخله في تصميمك، بجدارة روائي استطاع أنْ يصنع أحلامه كي يمتلك العالم.

ولكن هل مستقبل البشرية يتوقف على توحيد هذا الكوكب، وتحويله إلى قرية صغيرة؟ إن شبكة الإتصالات العالمية لم تدع مجالاً للشك في هذا الأمر، صارت المسافة أقل مما نظن، وأصبحت شاشة الإنترنت بالنسبة له هي قريته الصغيرة التي تختصر فيها كل المسافات. أنت في كل الأمكنة باستطاعتك أن تتنقل من مكان إلى آخر، بينما أنت ثابت في مكان واحد، من هنا راحت الإرضة تقضم جذورنا الممتدة عبر التاريخ، راحت تقضم الأسيجة الآمنة التي تحمي ثقافتنا، والأهم من كل ذلك هو تهجين الأعراق، وأصبحت المواطنة قيمة زائفة تتناولها الأيديولوجيات وعلى مختلف أطيافها أو كياناتها السياسية ومدعي حقوق الإنسان، ولكن ماذا أعطانا مشروع مستقبل البشرية هذا، لقد أقام بتحكيم السيطرة على بناء السجون والزنزانات وأقفاص الأسر، استعداداً لحروب آتية، وفي مقابل هذا كله أصبح مستودع الذاكرة هزيلاً سرعان ما يمحى ويتلاشى ليصبح في طي النسيان، وبدت أيقونة الوطن الذي رسمنا حدوده في قلوبنا، والأناشيد التي قرأناها في ساحة المدرسة وأخذ التحية للعلم، كل هذا بدا حلماً من أحلام الروائي، ولكن هل حقاً انمحت المواطنة والوطن معاً، وصارا جزءاً من ذاكرة مثقوبة، من هنا نتساءل كيف يستطيع جسد النص أن يمتد وينسخ نفسه، بينما العبارة تظل شاخصة كالوتد في رمال صحراء الروح؟

ويظل هذا الكائن الضعيف يحلم بأشيائه البسيطة التي يتوق إلى تحقيقها، لكن القوى المهيمنة التي استطاعت أن تجعل قانون السيطرة في صالحها لا تعرف الرحمة سوف تكتسح كل الأشياء التي تقف في طريقها ومن ضمنها هذا الكائن الإنساني الضعيف. نعم هكذا سوف يدير الروائي ظهره إلى الجموع الغفيرة التي لا تعرف مصيرها ويصعد إلى قمته منعزلاً وحيداً، يعيد صياغة نفسه، وهو يدون حكمته على مهل، هناك في الركن الذي يختاره بنفسه، يغلق عليه باب عزلته وهو يتفحص تاريخ الأشياء المجهولة، وعند اكتشافه لها يكون قد صنع تاريخه ومبرر وجوده في الحياة، إذن وجدت الرواية من أجل ألاّ يُنسى هذ الكائن الضعيف.

في رواية "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي رأينا المايسترو شاخصاً بكل سلطته المركزية حاملاً بيده عصا القيادة وهو يوجه جوقته حسب رغبته في توزيع الأدوار، وكما في رواية "الأبله" و"الشياطين" و"الأخوة كرومازوف" لا يدع الإله عالمه وشأنه بل كان يفصل بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، بين الذابح والمذبوح، بين النور والظلام، بين الليل والنهار، وهكذا يمكننا أنْ نضع ماشئنا من الثنائيات الميتافيزيقية، إلاّ أنَّ قانون مبدأ الثالث المرفوع لهيغل دائماً ما يجعل الطرف الأول هو الفائز في المعادلة.

وعندما صعد السوبرمان إلى عليائه في قمة جبله لن يستكين، ولنْ يقبل بالأمر الواقع، لم يبالِ بالحشود المتجمهرة تحت الجبل لأنها كانت منشغلة عنه، لم توليه اهتمامها، لم تلتفت إليه لتسمع ما يقول، وعندما عرف أن هذه الجموع تركض وراء غرائزها، أدار ظهره لها، ولم يلتفت إلى موضوع الإنسانية كمبرر للجوء إلى واقعيتها الفجة، تلك التي لا ترفع عينيها أكثر من خطوة واحدة من الطريق، لقد اختار أن يكون الطريق إلى جبله متعرجاً وغير سالك، تكثر فيه المطبات وحفر الذاكرة العميقة، تلك التي تحفر في جسد النص وتشذب عنه كل ما هو زائد، لذا راح هذا الطريق يفتح أمامه أفقاً واسعاً، فهو إذن لا يثبت على ركائز معينة أو عناصر يأطر من خلالها العمل الروائي، فهو يرفض ما هو مألوف ومأرضن، تاركاً وراءه الأسباب والنتائج للمتلقي الذي يبتكرها من خلال مشاركته في عملية التفعيل القرائي للنص، ولكن هل مات المؤلف حقاً، وغاب المايسترو عن جوقته؟!! فإذا ما كان هذا محض ادعاء، كيف يمكن للمتلقي مراقبة عصا المايسترو وهي تتحرك معطية إيعازات المايسترو نفسه؟!! هكذا وبصراحة استبدلت الخطة المحكمة التي رسمت مسبقاً قبل فعل الكتابة، نعم لقد استبدلت الحبكة التناغمية المتناسقة إلى شيء يمكن أن نسميه بالتصميم، والتصميم لا ينمو متصاعداً كالحبكة وإنما ذلك الشيء الذي يفرش أجنحته على كامل العمل، وهي خطة إستراتيجية آنية، أي باستطاعة الروائي أن يضع ما يحتاجه داخل كيس محكم، وكل ما يخطر على باله، وما على المتلقي إلاّ أن يفتح الكيس ويقوم باستخراج محتوياته وترتيبها حسب رغبته لها.

إذن في البدء كان نداء الحلم المباغت، حلم ينبجس من نقطة الصفر، تصبح فيه جميع الأشياء في حالة جمود دائم، ثم تتغير النغمة المتبعة في تفاصيل إيقاظ الحلم من العدم، عندها تدخل الكائنات عالمها، وهي مرتبكة لا تعرف مخاطبة الآخرين، وهي تهرول لا على التعيين في كل الاتجاهات، تريد الوصول، ولكن إلى أين؟ ثم يخيم صمت كئيب وتغزو الدماغ حالة من اليأس العقيم. يأس تمتد جذوره في النفس وفي الحياة مما يجعل العالم عبثياً وتشوبه حالة من الضبابية، تبدو فيه الأشياء كما لو إنها معلقة في الفراغ، عندئذ وشيئاً فشيئاً يتكشف الواقع الداخلي للحلم المباغت، هناك وفي أسفل القاع نرى العازفين منتشرين في كل الأمكنة وكل عازف يعزف مقطوعته منتشياً بوحدته الكئيبة التي رسمها لنفسه.

وحينما فكرت في هذا الأمر، وأنا أغلق على نفسي باب العزلة، قررت دخول الحلم، الذي غالباً ما كان يغزو دماغي بين فترة وأخرى، كان الحلم يكشف لي عن الواقع المدمى، واقع اهتزت فيه قيم الوجود، وتم فيه تبادل المواقع فأصبح الأعلى أسفلاً والأسفل أعلى. وقد استحالت فيه الحقيقة وهماً، والوهم حقيقةً والحيوان إنساناً والإنسان حيواناً... حتى أنَّ الكائن البشري أصبح فيه إلهاً، فتيقنت في ذاتي أنَّ هذا الحلم هو محطتي التي سوف أكتب من خلالها "كتاب الهامش".

كانت الهوامش تعلن عن نفسها، لقد خرجت من مخبئها، خرجت من قاعها التحتي، وأعلنت للعالم عن أسئلتها القلقة، ثم راحت تزحف ببطء، وقد اكتشفت فجأة باستطاعتها أنْ تسلك طرقاً عدة، للوصول إلى غايتها، بدا العالم أمامها مشتتاً، وضائعاً وقلقاً حينما أرادت أنْ تخترق الأسيجة المحرمة لبيت القضاة الذي يترأس العالم، في البدء أُسقطت جميع الجدران وبدت المنصة التي يقف عليها المايسترو وهو يعطي أوامره فارغة، وحينما تأكدت من ذلك راح كل هامش يريد الوصول إليه، قسم منها سقط في أول الطريق، وقسم منها واصل الزحف نحو القمة، ولمّا رأت نفسها قد عجزت عن ذلك، أعلنت، بعد أن تأكد لها إن العملية لابد وأنْ تكون مشتركة في إسقاط بيت السكن أو القضاة، بعد أنْ سرقت منه قوانين السلطة المحكمة وراحت تتقاسمها فيما بينها، كل هامش يريد إثبات وجوده وهو يدون نفسه في جسد النص.

وفي الوقت الذي قرر فيه قائد الأوركسترا أن يتنحى جانباً، انشطر على نفسه، ثم أخذت الشظايا تنتشر في هذا العالم المدمى، كل ذات أصبحت هامشاً تريد اختراق متن النص الغائب وهو يحاول أن يثبت وجوده في الحياة، لذا دونت الهوامش وجودها في "سجل المصائر" مخترقة بفعلها الأسيجة والتاوبوات، وهي لا تبالي بكل الأطر الثابتة، أو الأصول المستقرة، بهذا المعنى تحولت الهوامش إلى مجرد أطياف أو رموز أو حالات تستدعي جسد الذاكرة لتترك أثرها منقوشاً في صفحات النص الغائب، تخرج لك هكذا من الجدران ومن داخل أزقة مظلمة محكمة، تطاردك كأشباح في دهاليز وممرات وأنفاق تغور عميقاً في باطن الأرض، وهي تتواجد في أمكنة مختلفة وأزمان وعصور عديدة في آن معاً، بينما نرى زمن استدعاء ذاكرتها هو نفسه زمن تدوين مخطوطة "كتاب الهامش". وأنا أكتب تيقنت من نفسي أنَّ عصا القيادة قائمة بتأجيل أو إيقاف الزمن في لحظة الكتابة، وبدا العالم الروائي قلقاً، تكثر فيه المطبات وحفر الذاكرة العميقة، وصار معبأً بطرح الأسئلة التي تتصدر فصول متن المخطوط، فتحول "كتاب الهامش" أو ما يسمى بـ "سجل المصائر" إلى بؤرة انفجارية تخرج منه الذوات المنشطرة تباعاً وهي تدون وجودها فيه.

في هذا النص كثرت الهوامش وتعددت المراكز، حتى راح يسجل أكثر من موقف إزاء ما يحدث من صراع دائر، مما أدى بـ "الذات/ الهامش" أن تطرح تساؤلاتها المربكة، لاختراق السياج الميتافيزيقي الآمن، والحفر تحت أسسه لإظهار المسكوت عنه، أو اللامفكر فيه، من هذا المنطلق أصبح نص "كتاب الهامش" الحفيرة، أو الوثيقة وهو يكتب نفسه لتحقيق "الدزاين/ النسق/ الشكل/ البناء" الخاص به، بعدّه حقيقة تكشُّف وهو يقذف بنفسه في وجه العالم. 

كاتب وروائي عراقي