يكشف الكاتب الفلسطيني هنا قدرة الأفلام الوثائقية الفلسطينية على طرح الحياة المترعة بالتوقد والإنسانية في مواجهة سردية الإبادة المتذرعة بالخرافات والأوهام، وإن ساندتها قوي الاستعمار الغربية قاطبة، القديمة منها والجديدة على السواء. ويتوقف عند عدد من هذه الأفلام التي عرضت في مهرجان «كرامة: سينما الشعوب» الأخير.

الأفلام الوثائقيّة الفلسطينيّة: سرديّات الوجود ضد الإبادة

محمد جميل خضر

 

دلالاتٌ خصبةٌ وجوهريّة، حملتها الأفلام الوثائقيّة الفلسطينية التي عُرضت خلال أيام الدورة 15 "العدالة لشعوبِ جنوب العالم" من "كرامة ... سينما الإنسان" الذي ينظمه سنويًا "المعمل 612" بالتعاون مع وزارة الثقافة. في مقدمة هذه الدلالات أن الفيلم الوثائقيَّ بإمكانه، إنْ يطرح قضايا مفصلية في سياق مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وحظيَ بإخراجٍ مبدعٍ، وإنتاجٍ محكمٍ مدروس، وتصويرٍ متقن، وصوتٍ صافٍ، أن يشكّل مساحةً تنويريةً كشفيةً تواصليةً مهمةً لِتقديم سرديّتنا في مقابل أكاذيبِهم وأوهامِهم. التركيز على الوثائقيات لا يعني أن الأفلام الروائية الفلسطينية لم تسعَ، على وجه العموم، للتأسيس سردية ما، ولكن كثيرًا منها وقع بمطبّات هنا أو هناك، ما جعل الصّافي منها، في صبّه لصالحِ سرديّة فلسطينية لا لُبس فيها ولا إِقْواء، متناثرًا على امتداد سنوات السينما الفلسطينية التي انطلقت في ثلاثينيات القرن الماضي، فالحديث هنا عن السينما الفلسطينية، وليس عن السينمائيين الفلسطينيين، وإلا لكنّا عدنا إلى نهايات القرن التاسع عشر عندما سطع نجم الأخوين لاما في تشيلي بداية، ثم في مصر.

18 فيلمًا وثائقيًا وروائيًا طويلًا وقصيرًا إضافة إلى ثلاثة أفلام تحريكية قصيرة، دارت جميعها، من بين باقي أفلام الدورة 15 من "كرامة"، في فلَك فلسطين، فهي إما أفلام فلسطينية، أو عن فلسطين. أما الوثائقية منها، خصوصًا الطويلة، فاتّسمت بالاختلاف، وباقترابها أكثر من مستهلِنا حول تعزيز السردية الفلسطينية، وتكثيفِ إطلالاتِها وتعميق رسائِلها.

A couple of women talking to each other

Description automatically generated

مخرجتا "حالة عشق"

 

سأتوقف في هذه المساحة المتاحة لي عند فيلميْن وثائقييْن فلسطينييْن قدمتهما الدورة 15 من "كرامة" لِجمهورها: "الحياة حلوة: رسالة إلى غزة" الذي فاز مخرجه محمد الجبالي بِجائزة أفضل فيلم وثائقي عن دول الشمال الأوروبي (Best Nordic Documentary) في مهرجان نورديسك بانوراما Nordisk Panorama في دورته الـ 35 التي أقيمت بمدينة مالمو السويدية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وفيلم الافتتاح "حالة عشق ... غسان أبو ستّة" للمخرجتيْن الفلسطينتيْن/ اللبنانيّتيْن كارول منصور ومنى الخالدي. كلاهما من إنتاج 2024، وكلاهما يتراوحان حول الساعة ونصف الساعة عرض، وكلاهما شاركت في إنتاجهما جهات عديدة. قبل الخوْض فيهما والغوْص في بحارهما، لا بأس لو مررنا مرورًا سريعًا على تاريخ السينما الفلسطينية.

تاريخ له ضفاف
كما هي الحال، عادة، في مختلف القضايا الفلسطينية، وفي مختلف المواضيع المتعلّقة بِالريادة، وبقصةِ أول فيلم، أو أول لوحة، أو أول مسلسل، أو أول رواية ... إلخ، فقد اختلف المؤرخون حول الريادة الفلسطينية سينمائيًا، ففي الوقت الذي يرى المخرج والباحث السينمائي الفلسطيني جورج خليفي في كتابه "السينما الفلسطينية: الطبيعة، الصدمة والذاكرة"، أن أول فيلم تسجيلي أو توثيقي فلسطيني هو فيلم يوثّق فيه السينمائي الفلسطيني إبراهيم حسن سرحان (1915-1987)  في عام 1935، بدعمٍ وتشجيعٍ من الحاج أمين الحسيني، زيارة الملك سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين في ذلك العام، فإن ثمة آخرين قلائل (جدًا) يرون غير ذلك، على اعتبار أن الفيلم قصيرٌ (20 دقيقة) وأقرب إلى التقرير الإخباري الطويل. من المهم في هذا السياق أن ننوّه إلى أن سرحان العاشق للسينما علّم نفسه بنفسه، واشترى كاميرا من حرِّ ماله بخمسين ليرة فلسطينية. أما المؤلم في قصته، أن النكبة التي جعلته يغادر فلسطين إلى غير عودة، حوّلته، حتى مرتقى الأنفاس، إلى سبّاك في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين جنوب العاصمة اللبنانية بيروت.

على كل حال يبدو أن ريادة الوثائقيات الفلسطينية تحظى، إلى حد كبير، بإجماع حول فيلم سرحان عن زيارة الملك سعود، إلا أن ريادة الأفلام الروائية الفلسطينية، تحقق بعض الاختلاف بين من يرى أن أول فيلم روائي فلسطيني هو "أحلام تحققت" (1945) من إخراج جمال الأصفر ومعه عاشق التصوير إبراهيم حسن سرحان، وهو الرأي الذي يتبنّاه خليفي في كتابه، وبين من يرى أن فيلم "حلم ليلة" للمخرج المصري/ الفلسطيني صلاح الدين بدرخان في عام 1947، هو أول فيلم روائي فلسطيني. وباعتماد تاريخ إنتاج كل فيلم منهما، فمن الواضح أن فيلم سرحان والأصفر، هو الأسبق، إلا إنْ كان أصحاب الرأي الثاني لا يرون فيه فيلمًا روائيًا، بل "دعاية لدار رعاية أيتام"، كما يقولون.

وبعد أن شهدت المرحلة التي تلت النكبة في عام 1948، صمتًا متشحًا بالصدمة والسواد والانكفاء، فإن عام 1968، شهد أول إرهاصات العودة إلى الفن السابع فلسطينيًا من خلال الفيلم الوثائقي "لا للحل السلمي" من إخراج مصطفى أبو علي (1940-2009) وهاني جوهرية (1939-1976)  وقد يكون سبقه في عام 1967، بحسب بعض المراجع، ولمصطفى أبو علي وحده، فيلم وثائقي اسمه "الحق الفلسطيني". على وجه العموم يمكن إطلاق تسمية "السينما النضالية" على تلك الأفلام التي أخرجها أبو علي وآخرون وأنتجتها منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب عدم خروجها عن الخط العام لعناوين الثورة الفلسطينية التي كانت ترفع أيامها شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الكفاح المسلّح".

توالت الأفلام الفلسطينية، أو المتناولة لجوانب من القضية الفلسطينية، والمنتجة من جهات فلسطينية وغير فلسطينية، وصارت بالعشرات روائيًا ووثائقيًا، لا بأس بالمرور السريع على عناوين بعضها: "لن تسكت البنادق" (1974)، "تل الزعتر" (1978)، "عائد إلى حيفا" للمخرج العراقي من أصل فلسطيني قاسم حوّل في عام 1982، أفلام أنتجتها، على سبيل المثال، دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن تتولى مؤسسة "صامد" مهمة إنتاج الأفلام السينمائية إضافة إلى مهامِها الاجتماعية والثقافية الأخرى مثل الذاكرة الفلسطينية والتراث الفلسطيني.

A person standing on a stage with a microphone

Description automatically generated

محمد الجبالي و إيهاب الخطيب

 

أول أفلام (الدائرة) فيلم "معسكرات الشباب" لإسماعيل شمّوط، الفنان التشكيلي الرائد في مسيرة الفن التشكيلي الفلسطيني، الذي يبدو أنه جرّب حظّه أيضًا في الفن السينمائي، فقدم إضافة إلى فيلم المعسكرات أفلام "ذكريات ونار" (1973) و"النداء المُلحّ" (1973) و"على طريق فلسطين" (1974).
"
عرس الجليل" (1987) لميشيل خليفي، "السنديان الدائم الخضرة" لمجدي العمري ونصري حجاج عام 1990، "تحت الأنقاض" (1982) لمي المصري، على كل حال، وخلال أكثر من عقديْن تالييْن من الزمن عن فيلمها الأول، أنجزت مي المصري العديد من الأفلام التي تتداخل فيها مهماتُها ما بين كتابة السيناريو والتصوير والمونتاج والإخراج والتعاون مع جان شمعون، ومن هذه الأفلام "زهرة القندول"، 1987، "بيروت جيل الحرب" 1988، "أطفال جبل النار" 1990، "حنان عشراوي امرأة في زمن التحدي" 1995، "أطفال شاتيلا" 1998، "أحلام المنفى" 2001. إضافة إلى التعاون مع جان شمعون في أفلام "أحلام معلّقة" 1992، "رهينة الانتظار" 1994، والفيلم الروائي الطويل "طيف المدينة" 2001. ولِرشيد مشهراوي أزيد من 15 فيلمًا منها "أيام طويلة في غزّة" في عام 1991. ولهاني أبو أسعد أفلام كثيرة منها "عمر"، ولإيليا سليمان عديد الأفلام منها "يد إلهية" و"إن شئت كما في السماء" وغيرها. وَلآن ماري جاسر عديد الأفلام منها "واجب" و"ملح هذا البحر". فيلم "حُمّى البحر المتوسط" لمها الحاج، وأفلام أخرى كثيرة لا يمكن ذكرها جميعها، ولم يجر أي تقصّد بذكْر من ذُكِر منها، ولا بعدم ذكْر من لم يُذكر منها.

في هذا المدى الممتد من تاريخ السينما الفلسطينية، أسهمت الوثائقيات، على وجه الخصوص، بتحويل سرديتنا إلى رسالة فنية بصرية تتلقّفها تظاهرات السينما وتنال الجوائز، فها هو محمد الجبالي، على سبيل المثال، الذي سننتقل للحديث عن فيلمه "الحياة حلوة"، ينال فيلمه "سيارة إسعاف" (2016) عديد الجوائز حتى من دون أن يكون هو بشخصه موجودًا عند فوز فيلمه في كثير من هذه الجوائز في غير بلد أوروبي. أفلامٌ قرّبت المسافات بين سرديّتنا ونبض العالم الحر حول حقوق الإنسان والتحرر والكرامة والعدالة. زاوجتْ بين المعنى والمبنى، وأكدتْ أن السينما يمكن، جدًا، أن تكون فعلًا مقاومًا، وأن تتشارك قصص الناس الواقعين تحت الاحتلال، وأن توثّق جريمة الإبادة الجماعية، وتكشف ما لا يريد عدوّنا الصهيوني أن يُكشف، إلى درجة قتلهِ أكثر من 190 صحافيًا وإعلاميًا وصانع محتوى، ساعيًا بضراوةٍ مسعورةٍ إلى قتل الحقيقة.

حالة عشق:
"
حالة عشقٍ" لا تتكرّر يا عبد الله فلسطين ... إنْ قدّمتَ لهم ماءً سألوكَ بحبٍّ هل ذقتَ مياه فلسطين؟ أو أكلوا سمّوا بسمِ اللهِ وحبِّ فلسطين ... أو دُفِنوا تحتَ الأرضِ يعودون إلى حِضْنِ فلسطين ... أو جاؤوا بابَ الجنّة يلقى الله بأيديهم قبضةَ طينٍ منها ... يتمنّى أنْ يستبدلَ جنَّتَه، يا عبد الله، بهذا الطين"- بهذا المقطع من فيلم افتتاح "الدورة 15: العدالة لشعوبِ جنوبِ العالم" من "كرامة ... سينما الإنسان" توالت أحداث الشريط الوثائقيّ الطويل (95 دقيقة) الذي يحمل عنوان "حالة عشق ... غسّان أبو ستّة" المتناول من إخراج كارول منصور ومنى الخالدي ما قدّمه الطبيب الفلسطيني/ البريطاني غسّان أبو ستّة لمدينةِ وجدانِهِ غزّة ولناسِها وجرحاها وأطفالِها، سواء بعدد العمليات الجراحية التي أجراها في مستشفيات القطاع، أو بما قام به من تعريةٍ لحقيقةِ العدوّ الصهيونيّ الذي يرتكب جرائم الإبادة الجماعية بحق المدنيين في غزّة المدينة والقطاع، والمدعومة سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا من الغرب الامبريالي الذي انكشفت حقيقته الاستعمارية، بحسب ما يرى أبو ستّة بعد ما جرى ويجري منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وفي مشهد من مشاهد الفيلم في جزئه الأخير، يطلع صوت أبو ستّة بالمقطع الذي بدأنا به من قصيدة "عبد الله الإرهابي" للشاعر العراقي مظفر النواب (1934-2022)، ما يتقاطع مع عنوان الفيلم، وما يعكس مدى تعلّقه ببلد آبائه وأجداده، إذ وخلال شارة النهاية تقدم المخرجتان مشهدًا للطبيب الشجاع الذي قضى 43 يومًا محمّلات بكل شيء وكل ألم وكل تعب وكل معاناة داخل غزّة، يقول فيه في مستهلِّ محاضرة له اسمه كاملًا ويضيف أن والده وأجداده ولدوا، باستثنائه، جميعهم في فلسطين. يورد اسمه حتى، تقريبًا، جدّه التاسع، ليقول إن أصوله عميقة ضاربة في جذور أرضه وأرض آبائهِ وأجداده.

في الفيلم صور تدمي القلوب عن شهداء في ردهات المستشفيات ... عن بيوت تدمّر على الهواء مباشرة ... عن أطفال لم يعد لهم من أسرهِم أحد ... عن صبايا ودموع ... عن طبيب لا ينام ويمكن أن يجري في ليلة واحدة تسع عمليات جراحية ... عن وصول الإجراء الإسعافيّ الطارئ للمُفاضلة بين حالة خطيرة وحالة أخطر ... وبين من نبقي على قيد الحياة ومن نترك؛ هل نقدّم هذا الشاب الذي لم يتزوّج بعد؟ أم هذا الرجل الذي يعيل عشرة أفراد؟ أم هذه الصبية التي مات أهلها جميعهم وبقي لها في هذه الحياة والدها يتوسّل للطبيب غسان أبو ستّة أن يحرص على إنقاذها فهو لم يبق له في هذه الدنيا غيرها؟ عن دموع الطبيب أمام كاميرا الحقيقة ... عن تربية فاضلة لأسرته؛ زوجته ديما وأولاده: سليمان وزيد وحمزة، فإذا بهم جميعهم يتمثّلون فِداءه ... ويباركون تضحياتِه... ويتفهمون خوضَه غمار إنقاذ الضحايا حتى لو كلّفه هذا الفعل حياته... عن أمّه (السيدة جمال أبو ستّة) الراضية عن ابنها ... المؤمنة بما يقوم به ... عن الطبيبة الماليزية/ البريطانية الشجاعة آنغ سوي تشاي السائرة على منوال أبو ستّة في إنقاذ ضحايا الحروب، والعمل في مخيمات اللجوء (من القلائل الذين دخلوا صبرا وشاتيلا)، والمشاركة في أسطول الحرية، التي أسست في عام 1984 منظمة المساعدة الطبية للفلسطينيين، وبذلت كل ما تملكه من خبرة وعلم ووقت وعطاء لإيصال رسالة إنسانية تتدفّق معنى.

A poster on a wall

Description automatically generated

"الحياة حلوة

 

يقول أبو ستّة في الفيلم المنجز وفق لغة سينمائية مؤثرة، إن أسوأ شعور يمكن أن يقبل به هو الشعور بالعجز، وإن كل ما قام به، قام به ليبعد هذا الشعور عن نفسه، ويجتثّه من قاموسِه. ويصف بأسى ما آلت إليه غزّة من دمار، وتغيير مَعالم، وهدم بُنيان، واستهداف أركان حضارة. وحين تسأله إحدى المخرجتيْن ما هو المشهد الذي يفضّل أن يختم الفيلم بِه، يجيبها من دون تردد: مشهد معبر رفح وأنا أقف أمامه أهم بالدخول من جديد إلى غزّة مواصلًا ما كنت بدأته. ما يجري في غزّة ليست أخبارًا على شاشات الفضائيات، يؤكد أبو ستّة في مشهد من مشاهد الفيلم، إنهم ناسُنا وأهلُنا وأبناءُ جلدتِنا من هم هناك يواجهون وحدهم أبشعَ ماكينةَ خراب، وأوضعَ عقيدةَ قتلٍ متواريةٍ خلف أكاذيب الخرافة.

في الشريط تفاصيل أخرى كثيرة، وخيارات مصيرية، وجرائم لا بد من معاقبة مُقترفيها، كما يؤكد الطبيب باكيًا، مهما طال الزمان، ومعانٍ لا يمكن سردها، بل لا بد من مشاهدتها. "علينا نحن أن نقدّم سرديتنا ضد سرديتهم، وأن نوثّق ما يجري بأنفسنا، لندحضَ كل سرديةٍ أخرى، ونكشف الاحتلال على حقيقتهِ وداعميهِ على حقيقتهم"- يهتف أبو ستة وتهتف معه مخرجتا الفيلم.

"الحياة حلوة"
بما يرتقي إلى ترنيمة أمل تصعد مشاهد الفيلم الفلسطينيّ الوثائقيّ "الحياة حلوة: رسالة إلى غزّة" من إخراج محمد الجبالي ابن حي الشجاعية (السجاعية) الغزّيّ. واحدة من ميزات الفيلم أن الجبالي يتناول فيه قصته هو على وجه الخصوص، ومنها يلج إلى قصص الناس في غزّة، وقصص تضامن الناس مع غزّة. إنه تلقائيّ كما هي شخصية محمد تمامًا. أن كاميرا الجبالي تتسم بعبقرية السهل الممتنع. فيلم عن السلام والحب ... عن أسرة جديدة احتضنت محمد في مدينة ترومسو النرويجية بعدما تعذّرت عودته إلى غزّة ... عن القطط الهادئة ... والأصدقاء الحارّين...  عن القوانين المتحجرة حتى في أكثر الديمقراطيات رفاهًا.

الإضاءة في الشريط مدروسة إلى أبعد الحدود، خصوصًا أن تناوبات الليل والنهار في بلد يقبع عند أقاصي الشمال المتجمّد، لا تشبه تناوباتِهما عندَنا. الموسيقى شرقية في معظم الأحيان (استمع محمد مرّة لِمقطع من أغنية لشادية)، روحانية في واحدة من صعودها. حتى عندما حضر الغيتار فمن أجل مرافقة أغنية ألّفها الأصدقاء مازحين متضامنين معه ومع قصته، عندما مدّدت دائرة الهجرة والإقامة له عشرة أيام قبل أن ينفّذ أمرها بالمغادرة. يوثّق الفيلم نضال المخرج محمد الجبالي من أجل حقوقه كفلسطينيٍّ عالق في النرويج. من خلال مكالمات فيديو مليئة بالمشاعر وأرشيفه الشخصي، يكشف عن حبّه وحنينه لغزّة، وعائلته، وأصدقائه، بينما يبني حياة في القطب الشمالي. يعد الفيلم تحية مؤثرة للصمود، والانتماء، وقوة السّرد.

يتذكّر محمد في اتصال مع صديقه، أو ربما مع شقيقته، أول مرّة سمعوا فيها صوت طائرة حربية عدوّة، فأبدى صديقه، أو شقيقته ملاحظة كم كان صوتها عاليًا، فردّ محمد: (صحيح صوتها كان عالي بس مش أعلى من صوت المقاومة). أرأيتم كم يمكن أن تكون السينما فعل مقاومة، خصوصًا الأفلام الوثائقية الفلسطينية التي تصدّر سرديات وجودنا ضد أوهام إبادتنا.

 

عن (ضفة ثالثة)