تحتفل فرنسا هذا العام (2025) بالذكرى المئوية الأولى لولادة جيل دولوز الذي يُصادف أيضًا الذكرى الثلاثين لرحيله. من يقرأ الصحف والمجلات الفرنسية، كما بعض المجلات الفلسفية المختصة، قد "تهوله" كمية الاحتفاءات التي سوف تخصّص لهذا المفكر الفريد، والذي علينا أيضا الاحتفاء به فقد غير الفكر الإنساني وناصر قضية الشعب الفلسطيني.

مئوية جيل دولوز الأولى: الوجه السبينوزي

إسـكندر حبـش

 

تحتفل فرنسا هذا العام (2025) بالذكرى المئوية الأولى لولادة جيل دولوز الذي يُصادف أيضًا الذكرى الثلاثين لرحيله. من يقرأ الصحف والمجلات الفرنسية، كما بعض المجلات الفلسفية المختصة، قد "تهوله" كمية الاحتفاءات التي سوف تخصّص لصاحب كتاب "الاختلاف والتكرار" (ترجم أيضًا تحت عنوان "الاختلاف والمعاودة" كما "الفرق والتكرار"): إعادة طبع كتبه، ندوات ومؤتمرات، تكملة إصدارات محاضراته التي كان يلقيها على طلابه، نقلًا عن التسجيلات التي بقيت سليمة في أرشيفه، كذلك العديد من النشاطات الأخرى. في أي حال، الملاحظة الأولى التي لا بدّ أن تجعلنا نفكر بحضور دولوز المتجدد هو أن عمله الفلسفي والنقدي، قد رسّخ نفسه كسلطة فكرية لا يمكن اجتيازها بسهولة والقفز فوقها، مع كل ما يمكن، بالطبع، أن يستتبع هذا الرسوخ من تمجيد أو رفض.

صحيح أن كلمة "سلطة" التي أستعملها هنا، تبدو كلمة مشكوكًا فيها، إلا أنني أضعها للإشارة إلى أول كتب دولوز التي تصدر بهذه المناسبة (صدر في الأشهر الأخيرة من نهاية العام المنصرم 2024، وكأنه بذلك يشكل حلقة تمهيدية لما سوف يأتي لاحقًا)، وهو كتاب (حول سبينوزا. دروس: نوفمبر 1980 - مارس 1981) الذي أعدّه وأشرف عليه الفيلسوف دافيد لابوجاد، عن منشورات "مينوي" [1]. قلت مشكوكًا فيها، وبخاصة حين تُطبّق على من جعل من الوجودية وجهة نظر وأسلوب حياة. إذ أن تطور هذه الفلسفة، برأي كثيرين، مدين لذاك الفيلسوف الذي قال عنه دولوز يوما أنه يقيم "في قلبه": سبينوزا. من هنا، يأتي هذا المقرر الدراسي عن الفيلسوف الهولندي ليشكل بالتالي جزءًا خاصًا من العمل الدولوزي؛ بمعنى آخر، يشكل هذه الكلمات الحيّة لفيلسوف عاشق.

إزاء هذا الطوفان الدولوزي الجديد (فيما لو جاز القول)، لنبدأ اليوم، بهذه الدروس حول سبينوزا. وقد يبدو من المناسب، بداية، أن نشير إلى هذا العمل التحريري المهم الذي قام به لابوجاد، والذي يشكل استمرارية لـ "دروس في الرسم" [2] (سنعود إليه في لاحقًا)، بمعنى أن الكتابين هذين يقعان في دائرة زمنية واحدة، وهي الدائرة التي ألقى فيها دولوز هذه المحاضرات في جامعة فينسين – سان دوني في 1980-1981. لذلك ليس من المستغرب أن نجد في هذه الدورة تأملات حول الرسم والعلاقات العميقة التي تربط الرسم بالفلسفة في عصر مثل القرن السابع عشر الأوروبي. تتضمن محاضرات دولوز المسجلة صوتيًا (والمتاحة عبر الإنترنت) في هذه الطبعة نسخة منقحة تجعل قراءتها أسهل. إذ حُذفت بعض المقاطع غير "المفهومة" (سماعيًا) أو غير ذات أهمية أو لُخصت، ما يسمح لنا بالحفاظ على حيوية العرض الدولوزي الشهيرة أو حتى إبرازها.

ونتيجة ذلك؟ نص واضح يستعيد إيقاعه اللاهث ذاك "التكوين الدرامي" للمقرر الدراسي. من هنا نفهم فعلًا، ما كان طلبه دولوز في مقدمة كتابه "الاختلاف والتكرار" (1968): «يجب على كتاب الفلسفة أن يكون، من ناحية، نوعًا خاصًا جدًا من الرواية البوليسية، ومن ناحية أخرى، نوعًا من الخيال العلمي». في الواقع، تتحقق هذه النبرة اليوم، مع كل ما تحمله من مفاجآت وتقلبات، والهدف منها هو معنى فكر سبينوزا: «يبقى المرء في حالة تأمل. مع أننا جميعًا على استعداد لأن نكون سبينوزيين، إلا أننا نسأل أنفسنا: ما الذي يتحدث عنه؟ هل هذا ردّ على بلينبيرغ؟ نقول: لا بدّ أن نستخرج شيئًا من هذا النص، لأنه أمر ملح، ولكن ماذا نستطيع أن نستخرج من نص غريب وغامض؟»

لذا تبدو القراءة أشبه بقراءة رواية: إذ من الصعب التوقف عن القراءة في بعض الأحيان. ومع ذلك، أشير سريعًا إلى التالي: إن القارئ الذي يرغب في جعل هذا النص أداة عمل لن يبقى خارجه وبعيدًا عنه. على الأقل، ثمة دهشة حقيقية في "الفهرسة" التي تبدو مفيدة جدًا، لا في الأسماء المذكورة في نهاية الكتاب فقط، بل أيضًا في أعمال دولوز التي يتوافق النص معها، أي في الحواشي أيضًا، وهذا ما يتيح للباحث أن يجد طريقه في خضم الدراسات الدولوزية. مع العلم أن متن النص ليس جامدًا بسبب هذه الملاحظات الدقيقة والموجزة في دقتها. يتميز درس دولوز هذا بكونه تعبيرًا من "أستاذ فلسفة" وصل إلى مرحلة النضج الكبير، ليقدّم درسًا عن "فيلسوفه" المفضل - ناهيك عن الهوس به. من ثم، نشهد قمة الفن التربوي: فــدولوز، "العبقري" في تفسيراته لعمل معروف بصعوبته، يتمتع بهدوء لا يتزعزع في مواجهة كلّ اعتراضات الطلاب، ليحملنا بعيدًا في قلقه الذي يديره بلطف فيما يخص الأحداث الدرامية المتوترة، إلى درجة أن درسه المثالي هذا، في بعض نواحيه، يبدو أشبه بمدخل حقيقي لقراءة سبينوزا وفهمه.

يتحرك "الأستاذ" خطوة بخطوة بحذر شديد: "حسنًا، استريحوا. إذا لم تفهموا ذلك، دعوني أبدأ من جديد. هذا أمر ضروري. يجب أن تدركوا أنه عالم غريب حقًا". من خلال شرحه المستمر لما يفعله، من خلال "قيادتنا كما لو كان باليد" (على حدّ تعبير سبينوزا نفسه)، فإنه يعطي مثالًا هائلًا على التعليم الجيد، والذي يمكن التعرف عليه من خلال هذه العلامة التي لا يمكن أن نخطئ فيها: إذ يعطي الثقة في القراءة. تبدو ثقة قوية فعلًا، لأنها تأتي من الحماس للحصول على نصائح حكيمة للحياة. وهذه هي الحال، على سبيل المثال، مع المقاطع العظيمة عن الشرّ والمرض، والتي تتقاطع مع تحليل سبينوزا مع عمل روسو للعثور على صدى عميق فيها: "نحن نستمر في وضع أنفسنا، حرفيًا، في مواقف مستحيلة. تسميم حياتنا هو الفن الذي نتقنه لوضع أنفسنا في مواقف مستحيلة، مواقف من شأنها أن تجعلنا نمرض.

ونحن نذهب للركض. عندما تكون مريضًا، فلن تتوقف أبدًا عن المرض. نحن نجعل أنفسنا مرضى. […] ماذا ينبغي أن نفعل؟ ماذا تنصحنا الأخلاق؟ قبل أن تتكلم أخلاقيًا، عليك أن تتصرف بناء على المواقف. حسنًا، الآن أصبحت الأخلاق فنًا للتصرف بشكل وقائي في المواقف المختلفة. الأهم من كلّ ذلك، لا تنتظر حتى تجد نفسك في موقف مستحيل، ابدأ بعدم وضع نفسك فيه. يبدو الأمر وكأنه إجراء احترازي، ولكن كلّما كان أكثر تسطحًا، كلّما كان من الممكن أن يكون مضمخا بشيء فلسفي. دعونا نرى إلى أين سيقودنا هذا. لتتأكد أن هذا سيقودنا إلى مكان ما". ثمة هدف رئيسي من هذه الدروس: جعل فلسفة سبينوزا ملموسة، وإظهار أن فلسفته هي الأكثر فائدة للحياة. للقيام بذلك، يوظف دولوز كلّ ما لديه من إتقان؛ كما هي الحال في "نظريته السبينوزية في الترحيب"، حيث يظهر في الوقت نفسه كل الشعر الموجود في فكر الفيلسوف الهولندي. لذا لا أتورع عن القول إن دولوز يبدو مثيرًا للاهتمام ورائعًا في تعليقاته التي يضيفها إلى تحليلاته الخاصة. كما أن ملاحظاته وتحليلاته واستطراداته، خاصة فيما يتعلق بما يعنيه ممارسة الفلسفة، أو قراءة نص فلسفي، هي أيضًا ذات قيمة؛ لأن النشاط الفلسفي باعتباره خلقًا للمفاهيم – وهو أحد أشهر الطروحات الدولوزية – يجد نفسه هنا ممثلًا ببراعة.

على سبيل المثال مع مفهوم الحدّ: "الحدّ هو مفهوم فلسفي أساسي. لا أزال في جهدي أن يخدم عملنا القليل منكم لرؤية ما يتدخل كخلق في الفلسفة، فأنا أعتبره مرة أخرى مكانًا لخلق المفهوم. على سبيل المثال، هناك تغيير حقيقي في الطريقة التي نفكر بها حول مفهوم ما من وجهة نظر فكرية. الحدّ، ما هو هذا؟"، فيبدأ الأستاذ بشرح التمييز بين مفهومي الحدّ، الأفلاطوني والرواقي. أو أيضًا، عندما نعلم أنه ليس من السهل التعامل مع فكر سبينوزا؛ لذا ماذا علينا أن نفعل عندما نواجه صعوبات في القراءة؟ "يبدو أن النص بأكمله يقول: نعم، أكمله بنفسك. ربما يعطينا كلّ الإجابات. لذلك ليس لدينا خيار. إما أن نتخلى عن كوننا سبينوزيين – وهذا ليس سيئًا أيضًا – أو يتعين علينا إكماله بأنفسنا. كيف يمكننا إكماله بأنفسنا؟ كما قلت في بداية العام، نحن نكمل أنفسنا، من جهة بقلبنا، ومن جهة أخرى بما نعرفه. […] بعد كل شيء، الأمثلة في الفلسفة هي أيضا مثل التلميحات. قد تسأل: ماذا يجب أن نفعل إذا لم نفهم الغمزة؟ ليست مشكلة كبيرة على الإطلاق. نحن نفتقد ألف شيء. نحن نفعل بما لدينا، وبما نعرفه. لكن في النهاية أحاول أن أكمل بقلبي قبل أن أكمل بالمعرفة. فلنتوجه إلى قلوبنا".

باختصار، تعتبر هذه المقررات مادة دراسية ممتازة لفهم العمل الفلسفي الذي يقوم به. يمكن ملاحظة هذه الفلسفة على مستويين: أولًا، على مستوى الفلاسفة الذين تمّت دراستهم، ودراسة مشاكلهم وحلولهم وإبداعاتهم؛ على سبيل المثال فيما يتعلق بمفاهيم المحدود واللانهائي وغير المحدد، حيث يوضح دولوز أن فكرة المحدود هي فكرة تاريخية. إن اللانهاية الفعلية هي أحد أسرار الفكر في القرن السابع عشر؛ أما على المستوى الثاني وهو المستوى الذي يستثمر فيه دولوز نفسه هذه الفلسفات لإظهار طريقته الخاصة في الفلسفة، فتكمن عندما يعيد قراءة نظرية سبينوزا في العلاقات من منظور حساب التفاضل والتكامل، أو عندما يعيد قراءة نظريته في العلامات من منظور علم العلامات الحديث. فهو يتيح لنا أن نرى، أو يمكننا أن نقول ما نختبره أو نشعر به، بما يعنيه في الواقع أن نتفلسف.

يشير بيدرو كوردوبا في مقاله "دولوز، سبينوزا، أينشتاين: سلسلة من الأساطير"، الذي نُشر في العدد الأخير من مجلة "كريتيك" (نقد، العدد 930)، إلى أن سبينوزا هو موضوع تحليل دائم في أعمال دولوز، منذ أطروحته التكميلية، "سبينوزا ومشكلة التعبير"، وحتى مقالته الأخيرة في كتابه "النقد والسريرية" المُعنونة "سبينوزا والأخلاقيات الثلاث"، مرورًا بكتاب "سبينوزا. فلسفة عملية" – الذي صدر في العام عينه الذي كان يعطي فيه هذه الدروس، والتي ربما شكلت المادة التحضيرية له – كما في التحليلات المتعددة المخصصة له (لسبينوزا) في أعمال أخرى مثل "الاختلاف والتكرار" أو "ألف هضبة". لذا يمكننا أن نسأل أنفسنا: ماذا نجد في سبينوزا؟ ولماذا نحتاج إلى العودة إليه بشكل منتظم[3]، هل باعتباره مصدر الفلسفة ذاته؟

قد لا يكون مبالغًا بهذه الصيغة في أيّ حال من الأحوال، لأنه، باعتراف دولوز نفسه، فإن سبينوزا هو في بعض الأحيان "مسيح الفلاسفة، والفلاسفة العظماء ليسوا أكثر من رُسل، يبتعدون عن هذا اللغز أو يقتربون منه"، إن "سبينوزا، الفيلسوف اللامتناهي" (في كتاب "ما هي الفلسفة؟")، وفي أحيان أخرى إن "السبينوزية هي وليدة الفيلسوف" (في كتاب "ألف هضبة"). فلماذا هذا التبجيل إذن؟ ما الذي يثير اهتمامه في علم الأخلاق إلى الحدّ الذي يجعله يخصص له درسا آخر؟ في قلب هذه الدورة، يتكون الإطار الإشكالي الأساسي من محاولة فهم ضرورة الارتباط بين الأخلاق والوجود. وهكذا، فإن "الموضوع الضمني لكل هذه الجلسات، هو: ما هي العلاقة في نهاية المطاف بين الأنتولوجيا والأخلاق بمجرد أن يقال إن هذه العلاقة تهم الفلسفة في حدّ ذاتها، ولكن الحقيقة هي أن هذه العلاقة لم تتأسس وتتطور فقط بقلم سبينوزا".

عند التقاء هذين المجالين، اللذين يشكلان محور ترابطهما، تبرز وجهة نظر أكدّ عليها دولوز باعتبارها صرخته الفلسفية الخاصة: الوجود الداخلي. يتمسك دولوز بوجهة النظر هذه باعتبارها على ما يبدو أنها الأكثر أهمية بالنسبة إليه. وهذا يعني، أولًا، رفض إقامة أي تجاوز مهيمن في العلاقة بين الفكر والوجود، كما فعل تقليد كامل من الأصول اللاهوتية الأفلاطونية واليهودية المسيحية. إن تأكيد الوجود المحض يسير جنبًا إلى جنب مع أطروحة وحدة الوجود: يقال الوجود بنفس المعنى لكلّ ما هو موجود، لكل "الكائنات". وهذا يعادل القول بأن الوجود لا يقال بعدة معانٍ، خلافًا لتأكيد أرسطو "القانوني". نحن لا نستطيع أن نضع مبدأ أعلى من كلّ الكائنات، أو كائنًا أعلى متميزًا وجوديًا عن الكائنات الأخرى، سواء أسميناه الله، أو الخير، أو الواحد. بالنسبة لسبينوزا، الله هو الطبيعة نفسها، بقدر ما يشكل كلّ كائن جزءًا منها. إن الخير والشر في الحقيقة مجرد أوهام. الواحد لا يقال إلا للمتعدد.

ولكن لماذا هو مهم جدًا؟ لماذا لا يكون هذا مجرد نزاع غامض بين الميتافيزيقيين واللاهوتيين؟ أولًا، لأن إنشاء التسامي هو دائمًا الأساس للتسلسل الهرمي، والتسلسل الهرمي الوجودي يمتدّ بشكل طبيعي إلى تسلسل هرمي سياسي، وبالتالي، على سبيل المثال، السلطة الزمنية كوزارة للسلطة الروحية. إن رفض التسامي هو بالنسبة إلى دولوز رفض للتسلسل الهرمي وتأكيد مترابط للفوضى الأساسية. لكن، وبعيدًا عن أن يؤدي ذلك إلى شكل من أشكال العدمية التبسيطية أو تعزيز الفوضى، فإن الأنتولوجيا هنا تصبح أخلاقية (إتيقية) بشكل مباشر.

إن الإتيقا تقف في مواجهة القيم الأخلاقية من أجل أن تشكل نفسها فنًا للعيش. إن الإتيقا تعارض الأخلاق التي تقوم على نظام الحكم، وتطور ممارسة التقييم. الفرق حاسم. إنهما طريقتان مختلفتان جذريًا في الحياة: فبدلًا من إدانة الشرّ باسم فكرة الخير، يفضّل الناس اختيار المواقف وفقًا لمعايير الخير والشر. من الناحية الأخلاقية، يمكن فهم الخير والشرّ على أنهما تعبيران عن الصحة والمرض. ومن هنا يأتي تصنيف سبينوزا للأمراض الذي يتناوله "الأستاذ" من خلال التقاء سبينوزا مع علم الأحياء الجزيئي المعاصر. وهو تحليل كامل للأجسام من حيث علاقات الحركات والراحة بين "الأجزاء الممتدة" والذي تم تطويره باعتباره مرتبطًا بالبُعد العاطفي. ينضم الجسدي إلى العاطفي عندما يتجلى تكوين وتحلل العلاقات التأسيسية لشخصيتنا على شكل فرح وحزن.

إن تركيب جسدي مع الآخرين يجعلني أكبر ويزيد من قدرتي على التصرف، بينما التحلل يدمرني ويقلل من قوتي تبعًا لذلك. إن ما يُعرض علينا من خلال هذه العملية الأخلاقية للاختيار هو أسلوب حياة يرتكز على تأكيد الفرح وتجنب الحزن قدر الإمكان، بمجرد قبول حقيقة مفادها أن العديد من الأحزان لا تزال حتمية. إن الوجود الداخلي لا ينفصل عن تأكيد وجهة نظر القوة لأنها تعارض وجهة نظر القوة. إن الحياة بلا حكم بحثًا عن التراكيب المبهجة هي حياة تقاوم بذلك الهيمنة، وخاصة عندما يشكل هذا ثقافة الحزن – هناك مقطع جميل جدًا مخصص لتحليل النقطة المشتركة بين شخصيات الكاهن والطاغية والرجل العبد، وفقًا لأطروحات تُظهر قرب سبينوزا من نيتشه. فماذا يرى فيها؟ وعلى الرغم من خطر أن نبدو مطمئنين، فإننا نقول في النهاية إن كل الأسباب في العالم لا تستطيع أن تنتصر في مواجهة هذه الحقيقة، وهي أن حساسية دولوز هي التي تهتز بطريقة عميقة لا يمكن تفسيرها في اتصال مع سبينوزا.

وهذه ليست رغبة متناقضة في الانتهاء على نغمة عالية فقط للرجوع إلى الكلام المبتذل. يُظهِر دولوز كيف أن طريقتنا في رؤية العالم، والتي تحفز السلوكيات التي سنتمتع بها هناك أو القوة التي سنكون عليها، تعتمد في نهاية المطاف على حساسيتنا. لذا، ما هو الفرق بين تجربة الذات كجسم أو موضوع، وتجربة الذات كطريقة للوجود ومجموعة متعددة من العلاقات. تعتبر نظريته في الحساسية الفلسفية من أبرز ما يميز هذه المحاضرات: "ما هي العلاقة بين الحساسية بشكل عام والحساسية الفلسفية؟ إن كونك سبينوزيا لا يعني أنك تعرف مذهب سبينوزا على الإطلاق. وهذا يعني أن يكون لدينا هذا الشعور، وأن ننتشي على نصوص معينة لسبينوزا، ونقول: آه نعم، لا نستطيع أن نقول أي شيء آخر. الفلسفة هي جزء من الأدب والفن بشكل عام، وهي تعطي نفس المشاعر تمامًا. إنسَ الكلمات المعقدة. إذا كنت تعتبر نفسك مادة، كائنًا، فهذه طريقة معينة للعيش."

"إن ممارسة الفلسفة تعني ممارسة الفلسفة حسب ذوقك. إذا كنت تعيش تجربة نفسك ككائن، فإن الأمر يتلخص في القول: ما هو الوجود؟ بمعنى: أنا كائن. يجب عليك معرفة هذا. يتوجب عليك قراءة الأشخاص الذين تحدثوا عن هذا. إذا كان لديك أدنى انفعال أمام سبينوزا، فإن لدي انطباعًا بأن ذلك يرجع إلى هذا: في حساسيتك، هناك شيء بداخلك يجعلك تقول لنفسك، حتى لو لم تفكر في ذلك: لا، لا أعرف. لا أرى نفسي ككائن".

يمكن لهذه النقطة، أن تثير الرفض المشروع من جانب الفلاسفة الآخرين الذين يدعون إلى مناهج أكثر ارتباطًا بمتطلبات الحقيقة؛ يبدو ذلك مبررا تمامًا، إذا كان ذلك ضروريًا. فعلى وجه الخصوص، تظهر الاعتبارات التي تمّ تطويرها منذ فترة طويلة حول مفهوم اللانهاية لمَ لا يمكن أن يكون هناك أي سؤال حول الحقيقة على المستوى الأكثر جوهرية: إن تحديد ما إذا كانت اللانهاية فعلية أو ما إذا كانت افتراضية وغير محددة فقط هي مسألة اختيارات ميتافيزيقية لا يمكن أن تكون منطقية. إن هدف إجراء التحقق هو التحليل، لأن أي تحليل على وجه التحديد يفترض اتخاذ هذا القرار بشأن المفاهيم التي سيتم تنفيذه على أساسها. علاوة على ذلك، فإن هذا القرار يفلت من التداول الحرّ، ويشير إلى التفضيلات التي تجعل الذوق هو المعيار النهائي. المعايير هي طرق للرؤية تميز عصرًا معينًا: القرن السابع عشر ومفهوم اللانهاية الحالي، وفقًا لتوازن غير مسبوق في التاريخ بين العلم والمنطق والميتافيزيقيا؛ ثم جاء القرن الثامن عشر وانهيار التوازن، مع كانط وقيمة الوقت في مفهوم اللانهاية التي لا يمكن الوصول إليها إلا افتراضيا وبالبناء.

إن هذه الإشارة إلى الحساسية هي طريقة أخرى لإثبات وجهة نظر الوجود الداخلي، بقدر ما لا يمكن اختزالها إما إلى ذاتية – والتي من شأنها أن تسمح للموضوعية بالهروب – أو إلى نسبية خالصة – والتي من شأنها أن تعارض الوصول إلى مطلقة. إن الوجودية تستلزم تقييمًا للتجربة بمعايير صارمة تمامًا، وبصرامة تعمل على خلق أضيق شبكة ممكنة بين الحساسية والفكر.

يبدو دولوز في دروسه هذه سبينوزيا بالكامل، حتى في طريقته الفلسفية. فنظريته في الحساسية الفلسفية تُفهم من وجهة نظر سبينوزية. "هناك حساسية فلسفية. إنها مسألة جزيئات أيضًا". "لذا سيكون من الصعب فك تشابك ما ستكون عليه الحال في دولوز في سبينوزا، وذلك لأن الأخير يشكل فرصة للأول لنشوء حقيقي. أن تصبح، انطلاقا من الأشكال التي لدينا، من الذات التي نحن عليها، من الأعضاء التي نمتلكها أو من الوظائف التي نؤديها، هو استخراج الجسيمات، التي نقيم بينها علاقات الحركة والسكون، والسرعة والثبات. البطء، وهو الأقرب إلى ما نصبح عليه، الذي من خلاله نصبح. بهذا المعنى فإن التحول هو عملية الرغبة" (ألف هضبة). هناك صيرورة مشتركة بين دولوز وسبينوزا تحمل كلا الأمرين، وهي المثال الحقيقي للصيرورة الفلسفية.

فلسفة الرسم:

في دروسه (حول الرسم) التي كان ألقاها أمام طلابه في الفصل الدراسي الذي امتدّ بين آذار/ مارس وحزيران/ يونيو من عام 1981؛[4] وبعد عشرين عامًا من نشره لكتاب "نظاما مجانين" (Deux régimes de fous)، عن منشورات "مينوي"، والذي تضمن مجموعة من الحوارات والنصوص التي كان أجراها الفيلسوف الراحل، والتي تشير بوضوح إلى وقوفه الفكري والإنساني والسياسي إلى جانب القضية الفلسطينية (راجع مقالة الزميل جورج كعدي في "ضفة ثالثة" بتاريخ 27 نيسان/ أبريل 2023، والتي حملت عنوان "جيل دولوز: في التزامه الإنسانيّ والسياسيّ بقضية فلسطين")، يعود دافيد لا بوجاد، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لميلاد دولوز، للعمل ونشر دروس دولوز "حول الرسم". يبني لا بوجاد هذه الطبعة المتكاملة، على النسخ المتنوعة المتاحة، كما التسجيلات الصوتية، ليعززها بمجموعة من الملاحظات التي توضح، ضمنيًا، إلى أي مدى "اجتاز السؤال التصويري" (فن الرسم) كلّ فكر هذا الفيلسوف الراحل.

بالنسبة إلى "الدولوزيين"، لا بدّ أن يشيروا إلى فكره الذي تطور، في هذه الدروس، وأصبح بمثابة جذور راسخة في المشهد الفلسفي. لكن بالنسبة إلى أولئك الذين يكتشفونها، للمرة الأولى ربما، لا بدّ أن يجدوا أن الطريقة التي يستخدمها دولوز، لينشر من خلالها هذه العلاقات والصلات، قد تكون مزعجة بمعنى من المعاني، أو ربما مثيرة، في الوقت عينه. فعلى الرغم من أن دولوز يتقدم في شروحاته الدراسية خطوة خطوة - وهي الطريقة التي اتبعها في شرحه للطلاب- إلا أننا فعلًا، ونحن نقرأ دروسه هذه، لا نعرف مسبقًا إلى أين ستستقر به الحال، وإلى أين سوف يصل. كذلك تسمح لنا قراءته عن فن التصور (الرسم) بأن نشهد فعلًا على هذه الفترة من التفتح التي يبحث فيها الفكر "عن نفسه خارج الشيء"، ويتشكل حوله، وأحيانًا يحتضنه ويضيف إليه شيئًا يختلف عنه أثناء العودة إليه.

غالبًا ما كان دولوز "يضحك" (وفق توصيف المشرف على الكتاب)، وهو يتجول بين "اللوحات والمفاهيم"؛ وغالبًا أيضًا، ما كان يطلق "عبارات التعجب"، كأن يقول: "هذا مدهش"، "رائع"، "إنه جميل جدًا"، في حين يكون حذرًا من إبداء إعجابه: "نحن نحب أن نجد النصوص جميلة"، ويحذر من المفارقات السهلة والإجابات السريعة للغاية: "لا أعرف شيئًا عن هذا". كانت جملته الأخيرة هذه تشير إلى أمر أساسي: طريقته المفضلة لتأجيل الامتحان. ومن باب التربية لا الراحة، لم يسمح لنفسه بالذهاب إلا مرة واحدة، خلال الدرس الأخير، "إلى تعويض غير عادل"، وهو "تعويض كتاب كزافييه دو لانغليه (تقنية الرسم الزيتي– 1959)". بيد أنه بالغ في ذلك إلى حدّ أن القارئ الذي لم يقرأ ذاك الكتاب، قد يشك في "وجود خيانة ما، ليشعر بالرغبة في قراءة هذه الرسالة الغريبة والمثيرة للإعجاب"، على حدّ تعبير دولوز نفسه.

ومثلما كانت عليه الحال في طريقته بالتفكير في السينما، يبدو أن دولوز قرأ وشاهد كلّ ما يتعلق بالرسم، في حين أن بعض نصوص موضوعه، الضرورية، لم تكن متاحة له إلا جزئيًا في ذلك الوقت. وبهذا يعلق دولوز على نقاد الفن الأميركيين (كليمان غرينبيرغ، هارولد روزنبيرغ، مايكل فريد) "الذين ما زالوا غير مفهومين بشكل جيد"، حتى وإن كان (دولوز)، في العمق، يدرك أساسياتهم فعلًا؛ لذا نراه يستعيد كلّ دقة فكر ألويس ريغل، على الرغم من أن عملًا واحدًا فقط للمؤرخ الفني "الفييني" (من فيينا) قد تُرجم إلى الفرنسية في ذلك الوقت وهو (Grammaire historique des arts plastiques,1966) بعد وفاته، ليستكشف بمرح (هل هو مبالغ فيه؟ "سنحكم عليه لاحقًا"، مثلما يقول) كتاب فيلهلم وورينغر الذي كان تُرجم لتوه إلى الفرنسية ("التجريد والتعاطف"، 1908). لكن ما نراه مع الرسم، أن فهم دولوز صار أكثر حدة، فيما لو جاز القول، وبخاصة عندما يركز على نصوص الرسامين – نصوص فينسنت فان غوخ، وبول سيزان، وبول كلي، وفرانسيس بيكون– الذين يحيل خلفيتهم المفاهيمية إلى الحدّ الذي يمنحه خلفيته الخاصة.

انطلق دولوز في قراءته للرسم من نصوص هؤلاء الفنانين، ليرافقوه في رحلته، مثلما انطلق بالطبع من لوحاتهم ليصل إلى "هذا المستوى من العموميات المتينة" التي ينسبها إلى هاينريش وولفلين، في اللحظة عينها التي يتجاوز فيها مخططات المبادئ الأساسية لتاريخ الفن التي جعلت أستاذ بازل مشهورًا في بداية القرن الماضي. لا يعني هذا أن دولوز يعارض التصنيفات: بل على العكس من ذلك، فهو يعتزم أيضًا إرساء "الشرعية" و"الأنظمة" و"الصيغ"؛ والتي يمكن أن تستخدم بشكل جيد لوصف الأساليب، وهي الكلمة التي نادرًا ما يستخدمها والتي لا يضع لها مفاهيم (وهو المشهور عنه هذا الميل الدائم إلى إنجاز مفاهيمه الخاصة)، على الرغم من أنه -(أو على وجه التحديد)– يعتزم "تشكيل مفاهيم مرتبطة مباشرة بالرسم، وبالرسم فقط".

ثمة نقطة حاسمة، في الكتاب، تذكّرنا بأن دولوز، إذا كان مفتونًا بالصور وأنه تفلسف بها ومن خلالها، فإن هذا الافتتان لم يدفعه إلى صياغة نظرية لمفهوم الفن بحدّ ذاته ولا إلى تفسير الصور بشكل عام. من أجل التمييز، لا يبدأ دولوز بأي نظرية: بل عليه أولًا أن "تتصفح عينه سطح" اللوحات التي تهمه، وفق مقولة بول كلي الشهيرة. بهذا المعنى، كان دولوز يكتشف (لم يخترع ولم يفترض، بل اكتشف من خلال التصفح) أن الرسم مرتبط بالكارثة، وأن "هذه الكارثة في فعل الرسم لا تنفصل عن الولادة". ولادة ماذا؟ نجده يسأل "من اللون". هذا هو القوس المستمد من الدرس الأول: "من الكارثة إلى اللون"، والذي كُرِّست له جلساته الأخيرة. لهذا السبب يرفض دولوز فكرة أن اللوحة هي نتيجة لسلسلة من الأشكال، بل إنها في المقام الأول مكان لتوطين الكارثة لعدد كبير من القوى. وهذا يفسر لماذا، في نظره، "لا يقوم الرسامون بالتحول، بل بالتشويه". التشوّه كمفهوم تصويري هو الشكل الذي يتمّ تطبيق القوة عليه. قوة قادرة على تخليص اللوحة من كلّ الكليشيهات التي تستنزف نيّة الرسام وعقله وعينه، والتي تستعد يده لتخليصها منها.

ربما هناك سؤال يطرح نفسه: كيف يمكن أن يحدث ما يمكن وصفه، في ظلّ هذه الظروف، بأنه عمل يتطلب القوة؟ يؤكد دولوز أنه من خلال التعديل يتمكن بهذا المصطلح من إكمال "سلسلة مفاهيمية" يمكن إعادة تركيبها على النحو التالي: فالطبيعة، وفقًا لــ بوفون، لا تعيد إنتاج نفسها أولًا عن طريق القياس، ولكن وفقًا لنمط يخاطر الطبيعي بتسميته "قالب داخلي". يعتقد دولوز أن هذا "مفهوم متناقض رائع تمامًا"، لأن الطبيعة إذا شكلت نفسها، فإنها تزوّد الرسام ببيانات يقوم بتعديلها إلى حقيقة – حقيقة تصويرية (يستعير الفيلسوف هذه المرة من كانط التمييز بين البيانات والوقائع)، "الرسم هو التعديل على المستوى، أي على السطح"، وهو تحويل المُعطى إلى حقيقة. لذلك فإن "الرسم هو تعديل الضوء، تعديل اللون"، حيث أن الضوء واللون هما البيانات التي يحولها فعل الرسم إلى حقائق تصويرية.

في هذه العملية، وبما أنها كارثية، يتمّ فقدان شيء ما واكتساب شيء آخر، وهذا يختلف باختلاف العصور، على الرغم من أن الجميع يعانون من فقدان التشابه: "نحن نتراجع عن التشابه لإظهار الصورة". على سبيل المثال، حاول الفن المصري (هنا يتبع دولوز ريغل إلى حدّ الابتعاد عن المجال التصويري البحت) تصحيح - ودرء- الحالة العابرة للأشياء؛ لذلك فإن شخصياته (شخصيات الفن المصري) هي جوهر. وعلى العكس من ذلك، طوّر الفن اليوناني "خطًا جماعيًا" يربط الشخصيات معًا، ويجمعها، بحيث لم تعد ضرورية بشكل فردي، بل أصبحت تابعة لكائن حيّ مشترك. ولهذا السبب يستطيع دولوز أن يؤكد أنه، على النقيض من العالَم المصري، فإن "العالَم اليوناني ليس عالم الجوهر، بل هو عالم الأورغانون".

يؤدي هذا التمييز، في بداية الدرس ما قبل الأخير، إلى انحراف ما (رائع في الحقيقة)، وإلى نوع من الدوار المعرفي الصغير، والذي ينبع أيضًا من الرسم على الرغم من أنه مشتق منه. يعلّق الفيلسوف على المقطع الشهير من محاورة تيماوس حيث يؤكد الكاهن العجوز من سايس لــ سولون أنه مقارنة بالمصريين، "أنتم اليونانيون لن تكونوا أبدًا سوى أطفال". يمكننا أن نقول أيضًا، كما يقترح دولوز: أنتم اليونانيون لن تكونوا أبدًا سوى "فيلوي" (philoï)، أي لا شيء سوى فلاسفة لأنكم أيتام الجوهر، كما يمكن رؤيته في تحرك الخطوط اليونانية، كل خطوطها حتى طياتها، على النقيض من تلك الخطوط الجامدة، التي لا ظلّ لها أو عمق، والتي تشكل جوهر الفن المصري باختصار.

أما البرابرة، من جهة أخرى، فقد انفصلوا بدورهم عن "العنصر العضوي" اليوناني المتمثل في الخط الجماعي تحت تأثير "عنصر حيوي" يتجلّى في "خط بلا محيط" أو "الخط المجرد". ومن خلال متابعة وورينغر في هذه التضاريس، يخوض دولوز هذه المرة في مناطق أكثر إزعاجًا من تلك المناطق التي تسبب الدوار. لكن يبدو أنه لا يهتم بذلك، وكأن جهوده في التصور استوعبته بالكامل. وعلى الرغم من أنهم كانوا لا يترددون في التدخل (كما رأينا في جميع محاضرات دولوز) في مواضيع أكثر "تقنية"، فإن أحدًا من الذين كانوا يحضرون محاضرته هذه لم يحاول تحويله عنها من أجل الإشارة إليه إلى كيف أن حيوية وورينغر تشوه ما وضعه ريغل في "الإرادة الفنية" (الكونستولن Kunstwollen) من خلال تحريكها إلى الأسفل: على أسس عرقية (raciales)، حتى لا نقول عنصرية (racistes)؛ من هنا يمكننا أن نتصور أن دولوز ربما كان يتجنب عن عمد جعل الأسلوب مفهومًا، حتى لا يقع في فخ "الأسلوب العنصري" الذي يتبناه وولفلين.

ومهما كان السبب الحقيقي وراء تحفظه، يبدو أنه من المستحيل القول إلى أي مدى كان من الممكن أن يحرف تدخل الجمهور في هذه النقطة تفكير دولوز حول الأسس المفاهيمية للرسم. ومن ناحية أخرى، يمكننا أن نلمس تنافرًا داخليًا طفيفًا في أحد المبادئ الأساسية التي يسعى إلى تسليط الضوء عليها عندما يعلنها في بداية الدرس الثالث. في الواقع يعلن دولوز أن "اللوحة التي لا تتضمن هاوية، هاويتها الخاصة، والتي لا تمرّ عبر هذه الهاوية، والتي لا تثبتها على القماش، ليست لوحة". إنها ليست لوحة، لأنها تتناقض مع الفكرة الأساسية التي استهل بها تفكيره، والتي تقول إن "ما يتمّ رسمه وفعل الرسم يميلان إلى التماهي مع بعضهما البعض"، أي التماهي مع الكارثة.

ببساطة، هذه الكلمات ليست محايدة، فهي تذكّرنا حتمًا بـ "هاوية" أخرى و"كارثة" أخرى، وهما خارجان عن اللوحة. فهل يود أحد أن يسأل الفيلسوف ماذا يحدث، أو ماذا يمكن أن يحدث، برغم أن هذا ليس تكهنًا محضًا، عندما لا يرسم الرسم "هاوية خاصة به"، بل يرسم أخرى، عندما يسعى إلى تعديل ليس الطبيعة ولكن التاريخ أو الذاكرة؟ فهل ستكون قادرة إذًا، على الرغم من كلّ شيء، في مواجهة الهاوية، على إثبات أي شيء، بما في ذلك نفسها؟ ألا يكون هناك في النهاية انفصال للصورة التصويرية عن مثل هذا العالم – عن العالم (بشكل عام)؟ ربما كان دولوز قد أجاب: "لا أعرف"، لأن مثل هذه الأسئلة واسعة النطاق إلى درجة أنها تستحق الفحص من أجل تجنب إطلاق عموميات لا أساس لها من الصحة.

ولكن لنعد إلى الأساسيات، يمكننا أن نبدي ملاحظة حول الرسامين الذين يجمعهم في مساقه. إنهم "عظماء"، كما يقول، وهذا صحيح. ولكن فان غوخ، وسيزان، وبول كلي، وستاييل، وبيكون يشتركون في هذه العظمة المأساوية - التي دفع البعض ثمنًا باهظًا من أجلها، (يتوقف دولوز عند هذا الحدّ)- وهي أن كلّ هؤلاء الرسامين آمنوا بالرسم. فماذا يعني "الإيمان بالرسم"؟ وهل يمكن لرسام ألا "يؤمن" بفنه؟ نحن لا نعرف أي شيء عن هذا الأمر أيضًا، في الحقيقة، ولكن من الحقائق الثابتة أنه في اللحظة التي يقدّم فيها دولوز هذه الدروس، يبدو أن المزيد والمزيد من الرسامين لم يعودوا "يؤمنون" بالرسم، لقد تخلّوا عن "لعبة الماضي"، تمامًا كما ندم ميشيل فوكو في عام 1975 في نص قصير له، نصفه مسلّ ونصفه محبط، على "الرسم الفوتوغرافي".

لا شك أن أحد "الرجعيين" يشترك في هذه الفكرة، ولكن من الواجب أن نسارع إلى القول إنه في هذه الحالة سوف يكون "رجعيًا جيدًا للغاية"، كما كتب دولوز عن لانغليه. لأن هذه الفكرة تتفق مع الملاحظة التي أبداها بنفسه لاحقًا، في عام 1985، في كتابه "الصورة– الزمن": "الحقيقة الحديثة هي أننا لم نعد نؤمن بهذا العالم". إن "الحقيقة التصويرية" قد "تصحح" أو "تضفي طابعًا روحانيًا" أو "تعيد خلق" هذه "الحقيقة الحديثة"، إذا أردنا أن نضعها وفقًا لتقسيم ريغل الثلاثي، ولكن دولوز يخلص من جانبه إلى أننا "توقفنا عن الإيمان بها، وأن الصورة أصبحت منفصلة عن العالم الخارجي". وبرغم أن هذا الاستنتاج قد يكون مدمرًا، فإنه لا يضع حدًا للفن أو البحث. ومن ناحية أخرى، فإنه يحرك المصطلحات، وربما أيضًا الأوضاع، وكذلك العناصر، واللون، والضوء، حيث يتعلق الأمر الآن بفحص "اللعبة" التي لا يزال بإمكان الرسامين لعبها من خلال تعديلها في المكان المحدد الذي ظهر فيه هذا الانقطاع.

 

إحالات:

[1]Gilles Deleuze - Sur Spinoza. Cours (novembre 1980-mars 1981). Édition préparée par David Lapoujade. Minuit

[2] Gilles Deleuze -Sur la peinture. Cours (mars-juin 1981). Minuit

[3] راجع مقالتنا في "ضفة ثالثة" المعنونة "سبينوزا... وجوه وقرارات متعددة"، بتاريخ 23 أيار/ مايو 2024

[4] الكتاب صادر عن منشورات "مينوي" (Minuit) بعنوان .Gilles Deleuze. Sur la peinture. Cours (mars-juin 1981)

 

 

 

عن ضفة ثالثة)