ثلاثون يوماً تفصل «ميثاق نيروبي»، الذي وقعته قوات الدعم السريع مع قوى عسكرية في إقليم دارفور وجنوب كردفان (جبال النوبة)، عن استرجاع الجيش السوداني لمبنى القصر الجمهوري بالعاصمة الخرطوم في يوم 21 آذار 2025 الذي ظلت قوات الدعم السريع تحتله منذ بدء صراعها مع الجيش في 15 نيسان 2023.
كان الهدف من ذلك الميثاق تشكيل حكومة موازية، على الأرجح كان سيكون مقرها في العاصمة الخرطوم حيث كانت تسيطر قوات الدعم السريع على غالبيتها طوال العامين الماضيين لوضعها في موازاة الحكومة في مدينة بورتسودان بعد أن انتقل رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد الجيش، إليها في عام 2024، وعملياً هذا السيناريو لو نجح كان سيضع السودان في وضع ليبيا حيث حكومة بنغازي في موازاة حكومة طرابلس الغرب، أو في منحى أبعد سيجبر السودانيين على سودان جديد يكون، حسب ما قاله ميثاق نيروبي، «بحكم لا مركزي فيه حقوق للأقاليم في إدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية»، وهو عملياً أبعد من فيدرالية ليصل إلى الكونفيدرالية.
تحكّم عرب الشمال بالسودان، منذ استقلال 1956، قد قاد لاحتكار جهوي للسلطة، وهو ما يشمل النخب السياسية والعسكرية والإدارية
في تمرّدي جنوب السودان، 1955-1972 و1983-2005، قبل اتفاق الانفصال للجنوب المطبق منذ عام 2011، وفي تمرد دارفور (منذ 2003)، كان هناك تمردات لأفارقة ضد هيمنة عرب الشمال (المنطقة ما بين العاصمة الخرطوم والحدود المصرية) على حكم السودان منذ استقلال 1956، ولكن في مواجهة 2023-2025 هناك تمرد لعرب دارفور ضد عرب شمال السودان، وفي ميثاق نيروبي هناك تحالف لنوبيين (الحركة الشعبية- شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو) ودارفوريين (حركة تحرير السودان- المجلس الانتقالي، بقيادة الهادي إدريس يحيى) مع «قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو- حميدتي، ولو أن الفصائل المسلحة الرئيسية في دارفور، مثل «حركة جيش تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، تقاتل مع قوات الحكومة، أو تنأى بنفسها عن صراع البرهان- حميدتي، مثل «حركة تحرير السودان»، بقيادة عبدالواحد محمد نور.
ويبدو أن أفارقة دارفور بمعظمهم لم ينسوا مشاركة حميدتي مع قوات الجنجويد (قوات تشكلت من عرب دارفور، وهم رعاة، فيما الأفارقة من المزارعين) في قمع تمرد دارفور أيام حكم عمر البشير، ومشاركته في مذابح هناك، قبل أن يحولها البشير عام 2013 إلى قوات الدعم السريع ثم يشرعن وجودها كجزء من القوات المسلحة عام 2017، قبل أن تشارك في الانقلاب عليه عام 2019.
هنا، يلفت النظر نأي العرب عن ميثاق نيروبي بما فيه «تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية- تقدم»، التي انقسمت مع توقيع أحد أعمدتها وهو الهادي إدريس يحيى على الميثاق، فيما رفض رئيس «تقدم»، وهو رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك (وهو من عرب جنوب كردفان)، التوقيع، وشاركته في ذلك قوى «تقدم» ومنها حزب الأمّة القومي، بزعامة آل المهدي زعماء طائفة الأنصار، و«حزب المؤتمر السوداني» الليبرالي التوجه، وأيضاً الناصريون والبعثيون في «تقدم»، مع أن حمدوك قد وقع مع حميدتي في أديس آبابا أوائل عام 2024 على اتفاق مشترك، وتقاربهما كان واضحاً منذ «الاتفاق الإطاري» في 5 ديسمبر 2022، حيث تحالف حمدوك وقوى سودانية شمالية معادية للعسكر والإسلاميين مع حميدتي في تفسير ذلك الاتفاق بأن لا تخضع قوات الدعم السريع لقيادة مشتركة يرأسها قائد الجيش في مدة الانتقال بل تخضع لقيادة مشتركة ثلاثية من قائدي الجيش والدعم السريع وثالث مدني يكون هو رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وقد كان هذا الخلاف حيال اتفاق 5 ديسمبر 2022 بين القوى العسكرية والمدنية حول المرحلة الانتقالية هو الصاعق التفجيري لحرب 2023-2025.
في هذا الصدد، يمكن القول إن السودان هو مثال كلاسيكي لدراسة الصراعات الإثنية (عرب-أفارقة) والصراعات الجهوية المختلطة مع الإثنية (جنوب أفريقي – شمال عربي، أفارقة دارفور مع عرب الشمال) والصراعات الإثنية – الاقتصادية – الاجتماعية (عرب دارفور، وهم رعاة بالغالب، مع مزارعي دارفور الأفارقة) والصراع الجهوي المحض (عرب دارفور مع عرب الشمال).
أيضاً، يمكن أن يضاف إلى ذلك، أن تحكّم عرب الشمال بالسودان، منذ استقلال 1956، قد قاد لاحتكار جهوي للسلطة، وهو ما يشمل النخب السياسية والعسكرية والإدارية، ويلفت النظر أن مناصب الرئاسة كانت للشماليين دائماً ورئاسة الوزارة أيضاً ولم يشذ عن ذلك سوى رئيسي الوزراء محمد أحمد محجوب بالستينيات (من منطقة النيل الأبيض) وحمدوك 2019-2021 (جنوب كردفان).
من جهة أخرى، كان للصراع بين طائفتي الأنصار والختمية أن أفرز اتجاهين سياسيين، حزب الأمّة وهو معادٍ لوحدة وادي النيل عند «الأنصار»، وعند «الختمية» في «الحزب الوطني الاتحادي» و«حزب الشعب الديمقراطي» قبل أن يندمجا في «الحزب الاتحادي الديمقراطي» عام 1967، حيث نادى الختمية بزعامة آل الميرغني بوحدة وادي النيل.
وقد كانت هذه الأحزاب الأربعة أمثلة على تشكيل الجماعة السياسية عبر قاعدة اجتماعية طائفية. ومن المصطلحات اللافتة في السودان أن القوى الحديثة تشمل الحزب الشيوعي والقوى الإسلامية (والأخيرة هي عابرةٌ للطائفتين ولللإثنيات والجهويات)، وكذلك تشمل القوى العروبية من الناصريين والبعثيين وحركة القوميين العرب، فيما تعتبر أحزاب مثل «الأمّة» و«الأحزاب الثلاثة للختمية» من القوى التقليدية من حيث بنيتها الاجتماعية الماقبل حديثة.
ولكن، وكما عادى البريطانيون القوى الاتحادية مع مصر قبيل استقلال 1956 وقرّبوا «الأنصار» بزعامة آل المهدي، فإن قوى الخارج قد لعبت على صراعات السودانيين الداخلية ما بعد الاستقلال.
فإسرائيل قد دعمت تمرد الجنوب 1955-1972، وكذلك إثيوبيا، وهو ما فعله الحكم الماركسي الإثيوبي بزعامة منغستو هيلا ميريام 1977-1991 مع التمرد الجنوبي الثاني، وكذلك فعلت تشاد مع التمرد الدارفوري منذ عام 2003، وهو ما نجده الآن مع الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع في حرب 2023-2025 حيث تلقى حميدتي الدعم من الإمارات وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وتشاد، ومن خليفة حفتر في ليبيا (ومن روسيا حتى عام 2024، وحميدتي كان شريكاً لقوات فاغنر في مناجم الذهب بدارفور)، فيما يتلقى الفريق البرهان الدعم من مصر والسعودية وروسيا، مع حياد الغرب الأميركي-الأوروبي.
على ما يبدو، أن معركة الخرطوم قد حسمت لمصلحة البرهان ضد حميدتي، أو تتجه إلى الحسم، والأرجح أن المعركة القادمة ستكون في دارفور حيث يسيطر حميدتي على كامل الإقليم ما عدا مدينة الفاشر التي تخضع لحصار قوات الدعم السريع.
السؤال الآن: كيف سيكون «السودان الجديد؟»
* كاتب سوري
عن (الأخبار) اللبنانية