مقارنة بإريك هوبسباوم وغاياتري سبيفاك وغيرهما، لا يزال نقد إعجاز أحمد لـ«الاستشراق» عند إدوارد سعيد واحداً من أكثر المشاريع النقدية جدية. تمحور نقد إعجاز لسعيد في مسألتين رئيسيتين: الاستشراق الذاتي (من خلال رصده للتمثّلات الذاتية التي أطلقها المفكرون المسلمون على أنفسهم والتي عززت تصورات المستشرقين)، والاستشراق المعكوس (من خلال ما لعبَه هؤلاء المثقفون من دور في تشكيل صورة الغرب عندنا). فيما غاب عن أحمد وسعيد دور المثقفين المسلمين/ المشرقيين في بناء صورة الغرب لنفسه كقوة وهوية استعمارية ناجزة. رفاعة الطهطاوي في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لم يمارس الاستشراق المعكوس فحسب، بل أسهم أيضاً في إعادة بناء صورة فرنسا لنفسها كقوة استعمارية في واحدة من أشد لحظات باريس وهناً أواخر الفترة البوربونية (كان والتر مينيولو نابهاً في التفاتته لهذه الظاهرة). جمال الدين الأفغاني ومعه محمد عبده قاما بالأمر نفسه خلال فترة عملهما على إصدار «العروة الوثقى» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإن كان للرجلان الفضل بالدفاع عن «المدنية الإسلامية».
نحن لن نفهم المسألة ها هنا إلا بالعودة إلى حقبة القرن التاسع عشر، ومحاولة تقمص شخصية الطهطاوي وأمثاله. تصوّرنا عن فرنسا ما بعد الحقبة الاستعمارية لم يكن هو نفسه تصوّر الطهطاوي. كانت الانتلجنسيا الإسلامية حتى أواخر القرن التاسع عشر تتطلع إلى فرنسا باعتبارها القطب المنافس لبريطانيا، وترى في باريس معبراً لـ«مشاريع الاستقلال» التي تنشدها منطقتنا. هذه النظرة بالتحديد لم تكن حكراً على النخبة الإسلاموية، إذ الكثير من «الاستقلاليين» العلمانيين تطلّعوا خلال الفترة الحميدية والكمالية إلى باريس، باعتبارها موئلهم الأخير لقيادة قاطرة الاستقلال عن السلطنة. والملاحظة التي تبدو سهلة اليوم في تشخيص حجم خضوع هؤلاء للثقافة الأوروبية وانبهارهم بها، لم تكن مسألة سهلة في عصرهم أبداً.
على أي حال، لست هنا بصدد تقييم الاستشراق أو نقده، ولا نقد المستشرقين ولا «المستغربين» البتة. القصة وما فيها، أن تجربة الطهطاوي سرعان ما تتبادر إلى ذهني كلما وقعت عيني على خطاب مدائحي جديد تجاه قوة عالمية صاعدة، وكأننا أمام حالة من الاستلحاق المؤبّدة، «يدحّ» فيها مثقفنا في البحث عن أمجاد ليست لنا، ويُسهم كما أسهم أسلافه في بناء خيال استعماري جديد لأمة من الأمم الكبرى. وحتى لا يُفهم كلامي خطأ، لا مشكلة لديّ صراحة في مدح أي قوة تُحدث صدعاً في الهيمنة الأميركية على العالم (أي صدع في النظام الدولي هو فرصة لشعوبنا لنيل كرامتها وإنجاز مشروعها التحرري). المشكلة هي في حالة الاستلحاق التي دأب مثقفونا عليها، وفي الاستعارات الهواجسية والأمنيات الرغبوية التي يستسهل هؤلاء اعتمادها في حالات كثيرة.
هل تذكر عزيزي القارئ مدائح مثقفينا لـ«البريكس»؟ تجمّع الدول الخائبة من قسمة النظام الدولي التي اكتشفت شعوبنا، قبل مثقفينا، أنها لا تعدو أن تكون أمنية بنظام لم يحن وقته بعد (وصل الأمر بـ«دوشة البريكس» أن أسمى مسناً في إحدى قرى حمص النائية مقهاه – وهو مقهى القرية الوحيد - باسم البريكس قبل بضع سنين، فزيّن جدران المقهى بأعلام وصور الزعامات الصينية واليسارية اللاتينية ... على أمل ألا تكون صور الكثير من هؤلاء قد باتت تُستخدم فوق «صواني الشاي» في المقهى نفسه اليوم). ثمة حاجة مستحقّة لإنتاج نظرية اجتماعية في واقعنا العربي اليوم، ننتصر فيها للإنسان ونستنبت فيها مدنيتنا الخاصة.
«البريكس» لم تكن الحالة الوحيدة التي شيّد المثقفون حولها خطاباً رغبوياً. صعود الصين كذلك صار خطاباً لا يُتفحص جدواه ولا مؤداه عندنا. والمشكلة في مسألة الصين أن الخطاب حولها أقرب ما يكون إلى استعارة هواجسية غربية منه إلى خطاب عربي يعبّر عن تطلعات شعوبنا و«آمالها الواقعية». بمعنى آخر، لا ينطلق أغلب مدّاحي الصين من مركزية عربية أو إسلامية، بقدر انطلاقهم من مركزية أميركية معكوسة. نحن نحمل هواجس الخطاب الغربي الأميركي، نتماهى معه، نرجع إلى نقّاده من داخل «الحامية» العسكرية الأميركية، ثم ننطلق بإسقاطاتنا الرغبوية على العالم مبشّرين بنموذج الصين المختلف.
لن نفهم هذه الحالة ما لم نعِ أثر سقوط الاتحاد السوفياتي على نخب اليسار العالمي والغربي تحديداً. المكارثية العدوانية تجاه الاتحاد السوفياتي في الأكاديميا الأميركية (والأنغلوسكسونية عموماً)، لم تكن تسمح ليساري واحد بالترحم على الاتحاد السوفياتي أو إعلان مناصرته له حتى بعد سقوط السوفيات – باستثناء بعض كتابات بول سويزي وهاري ماجدوف في الـmonthly review - والتي يغلب عليها الطابع النقدي- لكنها لم تكن كذلك أبداً تجاه الصين. فمنذ أواخر السبعينيات كانت أدبيات دراسات التنمية في الولايات المتحدة تعد بالتحول الديمقراطي الصيني، وتمجّد الصين باعتبارها نموذجاً للتحديث.
يمكننا اعتبار كتاب هاري هاردينغ حول «الثورة الصينية الثانية والإصلاح ما بعد ماو»، مثلاً، النص الرئيسي الذي تمحورت الأدبيات الأكاديمية الأميركية حوله أواخر الثمانينيات. حتى بعد أحداث تيانانمن عام 1989، لم تكن الريبة من الصين قد وصلت إلى مرحلة من العدوانية. وكان أقصى نقاش الأكاديميا الأميركية سؤالٌ مؤجّلٌ طرحه روبرت زوليك (نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق ورئيس البنك الدولي بين عامي 2007 و2012) أمام اللجنة الوطنية للعلاقات الأميركية الصينية عام 2005، عمّا إذا كانت الصين «قوة مسؤولة» وبالتالي هي جزء من النظام الدولي، أم «قوة تعديلية» في المدى البعيد؛ أي قوة تسعى لتعديل النظام الدولي بما يلائمها.
في هذا الوقت تحديداً، كانت الصين والولايات المتحدة تعتصران معاً فائض قيمة العمل في دولنا، وتوغلان في استنزاف شرايين مجتمعاتنا المفتوحة. حصة الصين من الصناعات التحويلية البسيطة، والتي شكّلت عماد العملية التصنيعية الصينية في الثمانينيات والتسعينيات (32% في الثمانينيات و35% في التسعينيات من مجمل الناتج القومي الصيني) لم تكن على حساب الغرب بقدر ما كانت على حساب الصناعات التحويلية الإقليمية في العالم كافة، ومنها المنطقة العربية. المكسيك، بنغلاديش، سريلانكا وفيتنام، وحتى سوريا، كلها تضررت من صعود قطاع الصناعات التحويلية الصينية، وخسرت بنحو كبير أسواقها مع انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.
كمثال، حصة المكسيك من صادرات الأقمشة إلى الولايات المتحدة انخفضت بنحو 90% بين عامي 2001 و2004 (عام 2001 كانت المكسيك تحوز نحو 13.8% من واردات الملابس الأميركية، مقابل 11.9% للصين. أمّا عام 2004 فقد حازت الصين على 29% من سوق الملابس الأميركية مقابل 7.5% للمكسيك). في منطقتنا العربية تضرر الاقتصاد السوري بفعل تراجع الصناعات النسيجية السورية من الأقمشة والإلكترونيات المنخفضة التكلفة مع غرق السوق السوري بمنتجات صينية أقل تكلفة. تقارير غرفة صناعة حلب ما بعد عام 2005 تحديداً كانت واضحة في شكواها من عجز التجار عن منافسة الأسعار الصينية. أكثر من 80 مصنعاً نسيجياً أُغلقت في سوريا بحلول عام 2009، نتيجة المنافسة غير العادلة في قطاع يعمل فيه أكثر من 30% من قوة اليد العاملة السورية.
حتى الصناعات الإلكترونية السورية التي كانت قطاعاً يعد بالنمو على المستوى الوطني مطلع التسعينيات، تلقّت هي الأخرى ضربة قاضية بداية الألفية مع توغل الصين في السوق السورية، وزيادة قيمة الواردات السورية من الصين من 9.4 مليارات ليرة سورية عام 2000 إلى أكثر من 91 مليار ليرة سورية عام 2008. وهكذا، كان الصعود الصيني العالمي يوسّع من «أحزمة الصدأ» في بلداننا، ويحاصر قواعد الطبقة الوسطى من الأسفل، بالتوازي مع سياسات الموت الأميركية التي كانت تضغط على هذه الطبقات وتثقل كاهلها من أعلى.
نحو إعادة فهم منطق رأس المال
تكمن أهمية أفكار جماعة الماركسية الذاتوية، من أمثال ماريو ترونتي وباولو فيلينو في تمهيدهما الأرضية النظرية لحركات شبكية مناهضة للعولمة ولمركزية الدولة، من مثل حركة زاباتيستا في المكسيك، وأقفلوا وول ستريت، وحركات التضامن عامة. وبالرغم من عدم قدرة هذه الجماعات على إنتاج مشروع سياسي ناجز (ما يجعلها عرضة لتلاعب الدول الكبرى ومخابراتها عامة)، إلا أنها عبّرت عن عدوانية مستحقة لفكرة الدولة التي سرعان ما تستحيل إلى طبقة نهمة تسهب في نهب فائض قيمة العمل في عالمنا اليوم. بإمكان التماس أثر هذه الأفكار عند كل من أنطونيو نغري ومايكل هارت في كتابيهما الشهير «الإمبراطورية» وفي لحاظهما حالة الاستقطاب التي ينتجها رأس المال بطبيعته.
النظام الرأسمالي بطبيعته لا يقبل القطبية الواحدة، وهو نفسه ينتج تقاطباً (تعددية قطبية) متصارعاً على الدوام. الاتحاد السوفياتي بهذا المعنى لم يكن خروجاً على نسق الرأسمالية الغربية، بل قطب احتاج إليه رأس المال الغربي نفسه ليراكم أرباحه من خلال الاستثمار في الحروب وفي المخاوف لدى الكثير من الأنظمة في دول الجنوب. والصين بهذا المعنى ليست خروجاً عن النسق الغربي، بل فاعلة ومشاركة بانتظامه. لا أنفي أن للتقاطب هذا دوره في انقسام النظام العالمي. لكن هذا الانقسام في عمقه لا يعدو كونه «ديالكتيك» يحتاج إليه النظام نفسه لكي يستمر.
ما العمل؟
ثمة حاجة مستحقة لإنتاج نظرية اجتماعية في واقعنا العربي اليوم، ننتصر فيها للإنسان ونستنبت فيها مدنيتنا الخاصة. نظرية تنقذ إنساننا من دوامة «نظم مأزومة» بات من الضروري الخروج منها. اختزالات الواقع بشكل أحادي لم تعد قادرة على تفسير الواقع بأي حال. والحل يبدأ أولاً بإنتاج نظرية بالاجتماع العربي المحقون بمتناقضات متفجرة. أعرف أنها مهمة كأداء، لكن مواجهة الواقع بفهمه وتشريحه وإنتاج مقولة قريبة منه وشبيهة به خير من استتباع خطابات عالمية لن تجلب سوى خيبات مستمرة، ولم تُنزل بنا ولن تنزل غير النكبات المؤبّدة، تلك التي صرنا أكثر الخلق احترافاً لها.
عن (الأخبار اللبنانية)