يتناول الباحث اللبناني هنا بالتحليل التفصيلي موقف سارتر من قضية فلسطين، وكيف أن هذا المفكر الحر الذي دافع عن حق الشعب الجزائري في الحرية، والتخلص من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، يُصاب بالعمى الفكري حينما يتعلق الأمر بدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وربما كان لزيارته الشهيرة لمصر دور في هذا العمي لم تُكتب تفاصيله بعد.

عن سارتر وفلسطين واختلال المعيار الأخلاقي

جـورج كعـدي

 

ماذا كان جان بول سارتر ليقول عن محرقة غزة الإبادية لو بقي حيًّا؟ زار غزة في آذار/ مارس 1967 برفقة سيمون دو بوفوار ودخلا معًا مخيمًا للاجئين، وبعد الزيارة التي سبقتها محطة سابقة في مصر، ولاحقة في كيان الاحتلال، عدّل قليلًا في مواقفه من قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، مع احتفاظه بجانب من الغموض الذي لا يسمح بالخلوص إلى موقف واضح وحاسم يُركن إليه. علمًا بأنه بدأ مدافعًا شرسًا عن حقّ اليهود الصهاينة في إقامة "وطنهم" على أرض فلسطين! ولأنّ سارتر ذو شهرة عالمية، وعربية ضمنًا، حظي مثل مفكرين وأدباء وشعراء غربيين كثر، ولا يزال يحظى، بتمجيد وتبجيل من كتّاب عرب غير مدقّقين في مواقفه التي تخصّ قضاياهم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي.

فهو مثل ميشال فوكو، أو ربما أقلّ من هذا الآخر المبجّل في ثقافتنا العربية، يبالغ في تأييد الكيان الصهيوني، خارج أي معيار أخلاقي أو إنساني أو فلسفي، والفلسفة أخلاق أولًا! لذا فإنّ استعادة مواقف سارتر من قضيتنا الأم، دائمة الاشتعال والتطوّر المأساوي، مسألة ضرورية تستدعي مناقشتها مجدّدًا في ظلّ الإبادة الحاصلة اليوم في غزة، وسط انحياز مفكرين وفلاسفة غربيين إلى الكيان الصهيوني (لم ننسَ بعد مواقف يورغن هابرماس) في مقابل وقوف آخرين من أقرانهم إلى جانب القضية الفلسطينية واحتجاجهم العلني والقوي على وحشية الإبادة المستمرّة.

ما سبق قوله هنا لا يعني أن الفكر العربي كان غائبًا تمامًا عن مواقف جان بول سارتر والردّ عليها قياسًا بمواقفه من حرب الجزائر ودفاعه عن حركة التحرّر فيها (هنا منبع الاختلال). مواقفه كانت منذ البداية حتى النهاية مخزية حيال شعب مظلوم قُتل بالمجازر وهُجّر من أرضه على أيدي طارئين وافدين من أوروبا وغيرها لاغتصاب أرض فلسطين واحتلالها وإقامة وطن لليهود فيها، بدعم وتأييد من المستعمر البريطاني، وتواطؤ أوروبي (حتى نازي) وروسي سوفياتي (إحدى أفظع حماقات ستالين وأوهامه حول "دولة اشتراكية إضافية"!) وأميركي غير بعيد بالتأكيد. مفكرون عرب عديدون تنبهوا إلى مواقف سارتر الشاذة من قضية فلسطين فناقشوها، ومنهم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والمغربي عبد الكبير الخطيبي، والتونسي نور الدين اللموشي، واللبناني خليل أحمد خليل، والمصري حاتم الجوهري. ناقش هؤلاء الفيلسوف الفرنسي وأخذوا عليه انحيازه المعيب أخلاقيًا وإنسانيًا وفكريًا إلى المسمّاة "إسرائيل"، وأسعى هنا إلى التذكير بأبرز النقاط التي أثارها هؤلاء المفكرون وإبرازها، خدمةً للفكر والحقيقة معًا.

في كتابه "السارترية – تهافت الأخلاق والسياسة" (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1982) يفرد الدكتور خليل أحمد خليل مقطعًا خاصًا حول نظرة سارتر إلى المسألة اليهودية بكونها مسألة إنسانية في كتابه "تأملات في المسألة اليهودية"، خلافًا لنظرة ماركس في كتابه "المسألة اليهودية"، إذ ترد لدى سارتر عبارة "اليهود بعد التحرير" وهو يقصد "بعد قيام إسرائيل"، والمسألة ليست لفظية، فكون سارتر متعاطفًا مع "إسرائيل" لم ينظر إلى الصهيونية بوصفها حركة عنصرية، فكيف يوفّق بين رفضه الإمبريالية وعدم رفضه الصهيونية؟ يسأل الدكتور خليل. علمًا أن سارتر وضع كتابه "تأملات في المسألة اليهودية"، باعترافه هو "من دون أي توثيق، ومن دون قراءة كتاب يهودي واحد"! قائلًا إنه وضعه "انطلاقًا من لا شيء، انطلاقًا من اللاسامية التي كنتُ أرغب في محاربتها". واتسمت نظرة سارتر إلى قضية فلسطين بأحادية الرؤية، كأنّ اليهودية الحديثة هي ضحية أوروبا، وأنّ على أوروبا هذه أن تتجنّد وراء "كل مشروع يهودي".
"يقول سارتر بلؤم ووقاحة: "أمّا في ما يتعلق بالفلسطينيين فلست أعلم منذ متى كانوا هنا" متجاهلًا المؤلفات الغزيرة التي تشكل عبئًا على إسرائيل"

تحت عنوان "سارتر والصراع العربي الإسرائيلي" يُرجع الباحث الأكاديمي نور الدين اللموشي مواقف جان بول سارتر من الصراع إلى حقبتين متباينتين، الأولى تبدأ سنة 1947 وتستمرّ إلى سنة 1965 تقريبًا، ففي مطلع هذه الفترة وضع كتابه "تأملات في المسألة اليهودية" معبّرًا عن تعاطفه مع اليهود لما تعرّضوا له من اضطهاد عنصري وإبادة عرقية خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها، ويتسم موقفه في هذه الحقبة الأولى بالانحياز الكامل إلى اليهود وإلى فكرة إنشاء دولة "إسرائيل"، متناسيًا تمامًا حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية على فلسطين. أما الحقبة الثانية فتمتد بين سنة 1965 إلى سنة وفاة سارتر في 1980، وتتميز هذه الفترة بتطور إيجابي نحو تفهّم أكبر حيال القضية العربية، منتقلًا من موقف الانحياز التام إلى "دولة إسرائيل" في اتجاه موقف أكثر اعتدالًا (زعم هو نفسه أنه "حيادي"!) يحاول به التوفيق بين ضرورة التسليم بوجود "إسرائيل" والاستجابة لمطالب الفلسطينيين بالعودة إلى فلسطين وإنشاء كيانهم الوطني.

"سخاءٌ" يُشكر عليه الفيلسوف الفرنسي في الحقيقة! أضحى سارتر في الفترة الثانية أكثر اقتناعًا بمشروعية الحق العربي، منتقدًا الاضطهاد الإسرائيلي للشعب الفلسطيني (ليته عاش ليرى شكل هذا "الاضطهاد" في غزة اليوم) من دون التنكر لوفائه الثابت لليهود و"دولتهم". أمضى الفترة الأخيرة من حياته مناديًا بضرورة المصالحة والاعتراف المتبادل بين العرب و"إسرائيل"، متأرجحًا بين صداقاته المتضاربة والصعبة التوفيق، ما جعله عاجزًا عن مناصرة هذا الطرف على حساب الطرف الآخر. وأضفى على خطابه المعلن الكثير من التناقض والازدواجية. والأدهى أن سارتر كان في الفترة الأولى، بعد إنشاء المسمّاة "دولة إسرائيل"، من المؤيدين للهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين، شأنه شأن رفيقته سيمون دو بوفوار وسواهما من اليسار الغربي! بل مضى إلى حد اتهام الحكومة البريطانية، في 25 شباط/ فبراير 1948، بتسليح عرب فلسطين (على أساس ما شأن هؤلاء بالأرض!) وتشجيعهم على قتل اليهود "لتبرير بقاء بريطانيا في فلسطين" بحسب الفيلسوف الجهبذ.

حتى أنه يستخدم عبارات لا تليق البتة برجل فكر وفلسفة ومسرح وأدب، إذ يصف المقاومين العرب للمستوطنين الصهاينة بأنهم عصابات، على ما ورد في رسالته نفسها من أن "العصابات العربية تستعد حول حيفا – إن القناصين يعفنون البادية، كل شيء قد هيّئ للمذبحة". أي في نهاية الأمر، وبحسب نظره غير السديد، أن العرب (أي أصحاب الأرض وما عليها) هم الذين يرتكبون المجازر في حق اليهود وليس العكس، مستغلًا عقدة الذنب في أوروبا حيال اليهود وكسبًا لتعاطف الشعوب الأوروبية وتأييدها آنذاك، قائلًا: "إننا لا نستطيع أن نتخلى عن قضية اليهود، إلّا إذا قبلنا طوعًا أن نُنعت نحن أيضًا بالمجرمين (!) ينبغي أن نمدّ اليهود بالسلاح، هذه هي المهمة العاجلة للأمم المتحدة"(!). لكن سارتر الذي يبني موقفه على رفض الظلم والتعسّف، وعلى مبادئ العدالة وحقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بوحشية الجرائم النازية، يتناسى الظلم والعنف اللذين سُلّطا على الفلسطينيين بموجب قرار التقسيم. وعندما كان يؤيد في ذلك الحين نشوء كيان وطني إسرائيلي في فلسطين، لم يكن يعير أدنى اهتمام للشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في السيادة على أراضيه.

يخلص الباحث اللموشي إلى أنّ مواقف سارتر حول الصراع العربي – الإسرائيلي تبدو في غالب الأحيان كخطاب مزدوج ومتناقض قابل لعدة تأويلات، وهذا ما أدى إلى إغضاب كلا الطرفين العربي والإسرائيلي، فهو لا يتهم "إسرائيل" أبدًا إلّا بطريقة ملتوية وغير مباشرة، خوفًا من أن يتهم بالعداء للسامية. يقول مثلًا: "لا أعتقد أن إسرائيل من صنع الإمبريالية، لكنّ العرب يقولون ذلك وتبدو الحوادث في كثير من الأحيان كعدوان 1967 مثلًا كأنّها تعطيهم الحق في قول ذلك"(!) بقي سارتر الذي أراد أن يبدو محايدًا وصديقًا للصفين المتحاربين في الوقت نفسه ممزّقًا بين ولاءات وصداقات متضاربة وقد عبّر بلسانه عن ذلك: "إننا اليوم وإسرائيل والعرب يتجابهان نجد أنفسنا منقسمين من الداخل ونعيش هذا التناقض كما لو كان مأساتنا الخاصة".

كان سارتر يعي تناقضاته ويصفها بالمأساة، وهو فعلًا كذلك. يعترف بكثير من المرارة والأسى بعجزه عن تقديم أيّ حلّ عملي لهذه المعضلة، ففي نصّه الافتتاحي للعدد الخاص من مجلة "الأزمنة الحديثة" Les temps modernes يبرّر هذا العجز بأنه "لم يفكر كفاية في هذه المسألة الشائكة"، ويصل به الأمر إلى حدود الريبة والعدمية إذ يقول: "إنّ الحقيقة في هذا الصراع غير موجودة لا في هذا الجانب ولا في ذاك: لذلك وجب علينا أن نتفهّم كلا الطرفين"(!). يا للعجب، فيلسوف ومفكر بحجم سارتر لا يستطيع تحديد موقع الحقيقة وفي أيّ جانب! في حين أن لا حقيقة أكثر سطوعًا منها في جانب أصحاب الأرض وساكنيها الأصليين منذ آلاف السنين، فمدنهم وقراهم وحواضرهم وحقولهم تشهد على تجذرهم في أرض فلسطين!

هل استطاع سارتر أن يعدل فعليًا بين الطرفين، على ما يقول؟ فرغم التفهّم الذي أبداه في الفترة الأخيرة حيال القضية الفلسطينية، تبقى مواقفه أقرب بكثير إلى وجهة النظر الصهيونية، مثل كلّ اليسار الأوروبي بصفة عامة. الكاتب والباحث المغربي عبد الكبير الخطيبي يخصّ الفيلسوف بفصل من كتابه "النقد المزدوج" (منشورات عكاظ، الرباط، 2000) تحت عنوان "دموع سارتر"، مبديًا أسفه في البداية على "الوَجْد الثوري العظيم" الذي كان يمثّله الفيلسوف الفرنسي بموقفه من القضية الجزائرية، قبل أن "يتيه في اللا معنى" بحسب تعبير الخطيبي، ساكبًا "دموع الوعي الشقي" لفكر ممزّق تشكل الإبادة النازية خلفيته، وناظرًا إلى وجود إسرائيل "كمعطى تاريخي لا يمكن الطعن فيه (!)، فالمشكلة في نظر سارتر هي وجود اللاجئين الفلسطينيين لا الشعب الفلسطيني (!) إنها بالنسبة إليه معضلة لجوء لا قضية شعب(!)".

وبعد الإبادة النازية صرّح سارتر: "ليس بيننا مَنْ ليس مذنبًا بل ومجرمًا في هذه الظروف، فنحن المسؤولون عن هذا الدم اليهودي الذي أراقه النازيون (...) لن يتمتع أي فرنسي بالحرية ما دام اليهود لا يتمتعون بكامل حقوقهم. ولن يخلد أيّ فرنسي إلى الأمن والطمأنينة ما دام يهودي واحد في فرنسا أو خارجها أو في العالم أجمع لا يطمئن على حياته". إنّه شعور بالذنب والإثم يتحوّل إلى مطلق بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة والمجتمعات التي لم تكن مسؤولة عن الإبادة النازية. فالصهيونية تأبى النظر إلى الأمر على هذا النحو، بل تحوّل الذنب الدائم إلى ثورة دائمة. و"اليقظة" التي عوّدنا عليها سارتر تذهب ضحية هذا الوهم. أفسد هذا العماء الفكري والأخلاقي الأداة الجدلية لدى سارتر الذي عُرف كفيلسوف مجادل. بينما يبدو مضحكًا حين يقول: "إذا لم يكن لليهودي وجود فعلي فإنّ مناهضة اليهود ستبتدعه"، وكلامه هذا لا يرضي الصهاينة أنفسهم لأن الصهيونية ترى في تعبير كهذا خيانةً وتنكرًا للذاتية اليهودية الخالدة، فاليهودي موجود في ذاته وبذاته وله تاريخه وديانته ويرتبط مع آخرين بمجموعة من المصالح.

إلى معتنقي ذاك الشعور بالذنب يتوجّه جورج باتاي بالقول: "إذا تحوّل الشعور بالإجرام على هذا النحو فإنّه يعبّر عن نفسه بواسطة حذلقات مثالية كريهة تفسح المجال للعماء الطوباوي المبتذل"، ذلك أن شعبًا يستولي على شعب آخر ويستعمره. يقول نيتشه إن الحقد والوعي الزائف يتمفصلان مع شعور فريد بالدين. عندما يتخلّى إنسان الحقد عن قوته الفاعلة يلقي على الآخر مسؤولية الخطأ، وتلك هي حال الوعي اليهودي، في حين أن إنسان الوعي الزائف يكبت هذه القوة الفاعلة ويقهرها ويضمرها في نفسه فيحوّلها إلى شعور بالذنب، وتلك هي حال الوعي المسيحي. يتفاقم الوعي الشقي الغربي إلى درجة الإحساس بالفظاعة النازية ويشعر بأنه مدين لآلام اليهود وعذابهم. الغرب مدين فعلًا لـ"إسرائيل" وهو دين لا محدود لكونه رعبًا مستبطنًا وخطيئة لا تُغتفر، وإلّا فلن نفهم لماذا تسمح "دولة إسرائيل" لنفسها بالقيام بأعمال لا مبرّر لها إزاء العرب. بماذا وباسم أي شيء يتعيّن على الفلسطينيين بالذات أن يسدّدوا هذا الدين؟ فرض الغرب على العرب نفسه فنقل إليهم شعوره بالإثم.

ازدواجية وتمزّق وشعور عميق بالذنب، كل ذلك غذّى لدى سارتر جدلًا ضالًّا عاجزًا، فضاع كلامه في المتاهات وظلّ يدور حول الشعور بالإثم في تكرار لا نهائي. وحين يضيع الإنسان في المتاهات يصطنع مثل "إيكار" أجنحة من شمع وتحرقه الشمس وتفقده بصره. من العسير لنا أن نفهم كيف يوفق سارتر بين التاريخ المؤلم للفلسطينيين و"مأساته الشخصية"، اللهمّ إلّا في الصمت أو يأس الوعي الشقي. غير أن الصمت يعني في الأخلاق السارترية المشاركة في الجريمة. يغلّف سارتر صمته وكلامه بقناع التمزّق. يربك نفسه في تصريحاته كي لا يتوجه إلى "إسرائيل": "أنا لا أجزم بأن إسرائيل إمبريالية أو أنها من إبداع الإمبريالية". يمتنع عن توجيه التهمة إلى "إسرائيل" إلّا عن طريق اللف والدوران. ويريد أن يوهمنا بأن العرب يريدون إبادة الشعب الإسرائيلي.

من المذنب الآثم؟ سارتر عاجز عن الجواب وهو كما يقول الشاعر هنري ميشو "يراهن بكرة، كي يربح ثورًا، فيفقد جملًا". إحساس سارتر بالتناقض الممزّق ليس سوى ذريعة. ترمي بنا أفكاره في المعمعة. يغلّف أسئلته ويدّعي البراءة. معياره الأخلاقي بات مشبوهًا، ولا تجديه "براءته الضالّة" نفعًا. واضح جدًا في صفّ مَنْ كان سارتر حتى الساعة الأخيرة من حياته. يقول بلؤم ووقاحة: "أمّا في ما يتعلق بالفلسطينيين فلست أعلم منذ متى كانوا هنا"، وكان في إمكان سارتر أن يرجع، مثل الجميع، إلى المؤلفات الغزيرة التي كتبت حول هذا الموضوع، والتي تشكل عبئًا على "إسرائيل" ويضيف سارتر في السياق عينه: "ذهبت للقاء الفلسطينيين في غزة وهم في معظمهم صغار السن قد أُبعدوا بالفعل عن بلدهم، وهم يعيشون الآن في أحياء مدن القصدير. كل هذه الأمور شديدة التعقيد" (ولا تزال كذلك حتى الساعة أيها الفيلسوف). الوعي الشقي ضلال وجودي. ينظر الفيلسوف إلى نفسه على أنه ممزّق ومتناقض. يقول عن وعيه الشقي: إنّ الموت قد أُعطي لي كخطيئة وأحيانًا كرحمة، وهذا يعني الشيء نفسه.

بل مضى سارتر أبعد إلى التشكيك في وجود الشعب الفلسطيني، متماهيًا مع الخطاب والادعاء الصهيونيين. فالفيلسوف الذي عُرف بمواقفه المؤيدة لثورة الشعب الجزائري في وجه المستعمر الفرنسي، ناقض نفسه بوضوح تام، مُنكرًا على الشعب الفلسطيني حقه في مقاومة المحتل الصهيوني لبلاده. وبين الذين استفزتهم مواقف جان بول سارتر المتناقضة، المفكر الفلسطيني ذو السمعة العالمية إدوارد سعيد، الذي يروي بنفسه وقائع لقاء تم بدعوة له من سارتر نفسه. يروي إدوارد سعيد عام 2000 متذكرًا: "(...) كان ذلك في أوائل كانون الثاني/ يناير 1979، وكنت في منزلي في نيويورك أتهيأ للخروج إلى الجامعة لإلقاء محاضرتي. وإذ يقرع جرس الباب وأتسلم مغلفًا أُسرع إلى فضه باهتمام لأكتشف أنه من باريس وفيه هذه الدعوة: {تمت دعوتك من قبل Les temps modernes المقصود مجلة "الأزمنة الحديثة" التي كان يُصدرها سارتر؛ لحضور ندوة تتعلق بالسلام في الشرق الأوسط في باريس في 13 و14 آذار/ مارس من هذا العام. الرجاء الرد. سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر.

ظننت في البداية أنه مزاح من نوع معين. ربما كانت دعوة من كوزيما ريتشارد فاغنر للقدوم إلى بايروت، أو من تي إس إليوت وفرجينيا وولف لتمضية فترة ما بعد الظهر في مكاتب Dial.  استغرق مني الأمر نحو يومين للتأكد من أصدقاء عديدين بين نيويورك وباريس أنها كانت دعوة حقيقية، فأرسلت على الفور قبولي غير المشروط (وقد علمت أن تكلفة السفر تتولاها "الأزمنة الحديثة" المجلة الشهرية التي أصدرها سارتر بعد الحرب). وبعد بضعة أسابيع كنت في طريقي إلى باريس (...) لدى وصولي، وجدت رسالة قصيرة غامضة قليلًا من سارتر ودوبوفوار في الفندق الذي أنزل فيه في الحي اللاتيني. جاء في الرسالة: {لأسباب أمنية ستُعقد الاجتماعات في منزل ميشال فوكو}. في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي وصلت إلى شقة فوكو حيث وجدت عددًا من الأشخاص، وليس سارتر بينهم (...)  كانت دوبوفوار موجودة بالفعل معتمرة عمامة الرأس المشهورة، متحدثة لأي شخص مستعد للاستماع عن رحلتها المقبلة إلى طهران مع كيت ميليت، للتظاهر هناك ضد الشادور.

صدمتني الفكرة برمتها لما تحمل من تعالٍ وسخف، مع أنني كنت حريصًا على سماع ما ستقوله دوبوفوار، لكنني أدركت أنه سيكون حديثًا بلا جدوى وبلا حوار مرجو في تلك اللحظة. فضلًا عن أن دوبوفوار غادرت المكان بعد نحو ساعة (قبل وصول سارتر بقليل) ولم تظهر بعد ذلك مرة أخرى. وعلى استعجال أوضح لي فوكو، أن ليس لديه ما يساهم به في الندوة، وأنه مُغادر للتو من أجل جلسته البحثية اليومية في المكتبة الوطنية. كان من دواعي سروري أن أرى كتابي {بدايات} على رف في مكتبته المرتبة باعتناء (...) ورغم أننا تبادلنا حديثًا وديًا، لم يُتح لي في الحقيقة معرفة السبب الذي منع فوكو من قول أي شيء عن سياسات الشرق الأوسط، إلا بعد ذلك بوقت طويل (في الواقع بعد نحو عقد من وفاته عام 1984).

من خلال السيرة الذاتية لكليهما، كشف كل من ديدييه إريبون وجيمس ميلر أن ميشال فوكو كان عام 1967 يُدرّس في تونس التي غادرها على عجل بعد حرب حزيران/ يونيو بوقت قصير. صرح آنذاك بأن سبب مغادرته كان رعبه من أعمال الشغب المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل في ذلك الحين، وقد شاع في كل مدينة عربية بعد الهزيمة الكبيرة. لكن زميلة تونسية لفوكو في قسم الفلسفة في جامعة تونس أخبرتني قصة مختلفة مطلع التسعينيات، إذ قالت لي إن فوكو تم ترحيله من تونس بسبب أنشطته الجنسية (المثلية) مع الطلاب اليافعين. لا أملك الآن أي فكرة عن مدى صحة أي من هاتين القصتين (...) في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كشف لي جيل دولوز أنه وفوكو، وكانا صديقين مقربين، قد اختلفا بشأن قضية فلسطين، إذ أعرب فوكو عن دعمه لإسرائيل، فيما أعرب دولوز عن دعمه للفلسطينيين.

كان هناك في اللقاء في بيت فوكو عدد قليل من الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. لم أعرف منهم سوى إبراهيم الدقاق وهو مُدرس من بير زيت وكانت معرفتي به سطحية في الولايات المتحدة، ويهوشفاط هركابي الخبير الإسرائيلي الرائد في دراسات {العقل العربي} وكان رئيسًا للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وقد طردته غولدا مئير بسبب وضعه الجيش في تأهب عن طريق الخطأ. كنا قبل سنوات ثلاث زميلين في مركز ستانفورد للدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية. لكن بعيدًا عن كونه وديًا، هنا في باريس، كان في مرحلة تغيير موقفه ليصبح {حمامة المؤسسة الإسرائيلية الرائدة} فسرعان ما تكلم بصراحة عن الحاجة إلى دولة فلسطينية، الأمر الذي اعتبره ميزة استراتيجية من وجهة نظر إسرائيل. كان المشاركون الآخرون في الغالب من اليهود الإسرائيليين أو الفرنسيين، من شديدي التدين إلى العلمانيين، رغم أنهم كانوا جميعًا مؤيدين للصهيونية بطريقة أو بأخرى. وتبين لي أن أحدهم، إيلي بن غال، كان على معرفة منذ وقت طويل بسارتر. قيل لنا لاحقًا إنه كان مُرشد سارتر في رحلته الأخيرة إلى إسرائيل (...)".

وإذ يصل إدوارد سعيد في روايته للقاء باريس (السوريالي) هذا إلى حضور سارتر، تبدأ الصدمة. يقول سعيد: "عندما ظهر الرجل العظيم أخيرًا، بعد مرور الوقت المحدد، صُدمت من مدى تقدمه في السن والضعف الذي بدا عليه جسديًا. أتذكر تقديم فوكو له بلا داعٍ وبغباء. وأذكر أيضًا أن سارتر كان محاطًا ومدعومًا ومدفوعًا من قبل حاشية صغيرة من الأشخاص الذين كان يعتمد عليهم اعتمادًا تامًا (بينهم فيكتور الذي تبين أنه يهودي من أصل مصري واسمه الحقيقي بيني ليفي!). في اليوم الأول استمرت مناقشاتنا حول {السلام} لفترة قصيرة نسبيًا. مواضيع المناقشات وضعها فيكتور (بيني ليفي) من دون استشارة أحد، على ما لاحظت. شعرت باكرًا بأن له سطوة على كل شيء بفضل علاقته المميزة بسارتر (الذي كان يُبادله الهمس بين حين وآخر) ما أعطاه ثقة مطلقة بالنفس.

كنا سنناقش: 1- قيمة معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (كان زمن معاهدة كامب ديفيد)، 2- السلام بين إسرائيل والعالم العربي بشكل عام، 3- السؤال الأكثر جوهرية حول التعايش المستقبلي بين إسرائيل والعالم العربي. لم يبد أي من العرب سعيدًا بهذا الطرح. شعرت بأن موضوع الفلسطينيين تم تجاوزه. إبراهيم الدقاق لم يكن مرتاحًا لكل شيء فغادر منذ اليوم الأول. مع مرور اليوم، اكتشفت شيئًا فشيئًا أن قدرًا كبيرًا من المناقشات أُعد مسبقًا لإقامة هذه الندوة، وأن المشاركة المخصصة للعالم العربي اختُصرت. كنت منزعجًا إلى حد ما إذ لم يتم إشراكي في ذلك. ربما كنت ساذجًا جدًا ومتلهفًا للمجيء إلى باريس للقاء سارتر (...) مثل حضور دوبوفوار خيبة أمل كبيرة، إذ خرجت من المكان وسط سحابة من الثرثرة المتعنتة حول الإسلام وحجاب النساء (...) وكان وجود سارتر، أو ما كان موجودًا منه، مُغيبًا على نحو عجيب، إذ كان يرزح بتواضع، غير مكترث بشيء. لم يتفوه بكلمة على الإطلاق لساعات متتالية.

جلس في الغداء قبالتي وبدا يائسًا ومنعزلًا تمامًا عما يدور حوله، وكان البيض والمايونيز يتدفقان من فمه على نحو مؤسف. حاولت محادثته لكنني لم أُفلح. ربما كان أصم، لست متأكدًا (...) ظننت أنه سيكون إنجازًا كبيرًا إقناع سارتر بالإدلاء بموقف مؤيد للفلسطينيين في مثل تلك اللحظة الحاسمة والمحتدمة مع إسرائيل (...) سرعان ما أصبح واضحًا أن موضوع تعزيز إسرائيل (ما يُسمى اليوم بـ"التطبيع") كان الموضوع الحقيقي للاجتماع وليس العرب أو الفلسطينيين (...) لقد وقعت فريسة لسارتر ولكونه يستحق هذا الجهد لمجرد أنني لم أنس موقفه من الجزائر، وهو موقف من الصعب اتخاذه بصفته فرنسيًا، مقارنة بالموقف النقدي لإسرائيل. لكن يبدو أنني كنت مخطئًا بطبيعة الحال (...) من المؤكد أن سارتر كان يملك شيئًا ما ليُقدمه لنا: نص معد من نحو صفحتين مكتوبتين بخط اليد، فيهما إشادة مبتذلة بشجاعة أنور السادات، ولا أذكر كلامًا لسارتر عن الفلسطينيين أو عن الأرض أو عن أي شيء من الماضي المأساوي.

أكتب هذا بالاعتماد على ما بقي في ذاكرتي بعد عشرين عامًا على هذا اللقاء. بالتأكيد لم تتم الإشارة إلى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، على غرار الممارسة الفرنسية في الجزائر من نواح كثيرة. كانت للأمر دلالات كبيرة، كأن كلمة سارتر خبر من رويترز، وكان واضحًا أن من كتبها هو فيكتور الرهيب لإخراج سارتر، الذي بدا ممتثلًا تمامًا له، من المأزق. شعرت بالصدمة حين اكتشفت أن هذا البطل الفكري قد استسلم في سنواته الأخيرة لمثل هذا المُرشد الرجعي، وأنه في ما يتعلق بموضوع فلسطين، لم يكن لدى سارتر، وهو المحارب السابق ونصير المضطهدين، ما يُقدمه سوى الثناء التقليدي على السادات. استأنف سارتر صمته لبقية ذاك اليوم (...) لأسباب مجهولة لا نستطيع فهمها على وجه اليقين، بقي سارتر ثابتًا بالفعل على موقفه المؤيد للصهيونية (...)".

إدوارد سعيد نفسه يصف ندوة اليومين الباريسية هذه بأنها هزلية ومثيرة للشفقة، ويمكننا النظر إليها بحسب ما يروي المفكر الفلسطيني العائد خائبًا من ذاك اللقاء على أنها تُشبه العبث لدى يونسكو أو العدم لدى بيكيت، خاصة لناحية وصف حالة سارتر الجسدية (قبل سنة من وفاته) ووهنه الجسدي كأنه "ملك" يونسكو في ساعات احتضاره أو عجوز "نهاية اللعبة" لبيكيت، تدعو حالته الجسدية والذهنية للرثاء، وهو مُسير فكرًا وحضورًا من مُرشده اليهودي الصهيوني. فضلًا عن لا جدوى انتظار موقف مغاير من مفكر خرف عنيد، متناقض، مُصر حتى اللحظات الأخيرة من حياته على تأييد المشروع الصهيوني الذي قام على أنقاض شعب ووطن وحق تاريخي بالأرض يعود إلى آلاف السنين.

دراسة حاتم الجوهري
ترجم الأكاديمي والباحث المصري حاتم الجوهري كتاب جان بول سارتر "تأملات في المسألة اليهودية" (منشورات روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016) وأرفق الترجمة بدراسة نقدية قيمة له تحت عنوان "سارتر: بين الصهيونية وسلب الحق الوجودي للفلسطينيين"، معززًا دراسته بمراجع باللغة العبرية التي يُتقنها، وطارحًا السؤال الرئيسي: لماذا دعم سارتر الصهيونية على حساب العرب الفلسطينيين؟، كاشفًا الأخطاء التي وقع فيها سارتر غاضًا النظر عن المذابح التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين وهجرتهم من أرضهم.

يرى الدكتور الجوهري في دراسته أن خطورة سارتر تكمن في أن دعمه لـ"إسرائيل" لم يكن سياسيًا أو ماديًا، بل كان دعمًا فلسفيًا على أسس نظرية استقبلها العديد من مثقفي العالم على أنها أمر مُسلم به. خلق بذلك ظهيرًا فلسفيًا للصهيونية تبناه كثر بكونه من مستلزمات عصر ما بعد الحداثة في أوروبا. وقد استشعر بعض المفكرين والمثقفين العرب خطورة فلسفة سارتر حول "الصهيونية الوجودية" إذ قدم سارتر تحليلًا وجوديًا للمسألة اليهودية يختلف تمامًا عن التصورات الأيديولوجية التي تنطلق منها الأطروحات القومية والدينية، وإن اقترب تحليله قليلًا من أفكار "الصهيونية الماركسية" حول "الطبقة القومية" لدى بيرخوف.

أهمل سارتر تمامًا الدوافع ومحركات النفس البشرية التي تعتمد على عوامل الهوية المشتركة عند الجماعات البشرية، فلم يبحث في الأسباب التاريخية التي جعلت الجماعات اليهودية المتفرقة في بقاع شتى من العالم تُحافظ على فكرة أنها جماعة، رغم ضياع روابط اللغة والأرض والحياة المشتركة! حافظ اليهود على فكرتهم المتخيلة والموروثة عن الجماعة التي كانوها ذات يوم. توقف سارتر عند ظاهر المشكلة وأطرافها فحسب، واضعًا اليهودي في خانة رد الفعل من دون أن يدرس السلوك التاريخي ودوافعه المختلفة لدى الشخصية اليهودية التي تمسكت بقوة بفكرة "الجماعة". أسقط سارتر أثر الدوافع والاختيارات القائمة على فكرة الهوية التاريخية الموروثة التي يتبناها أفراد الجماعة إراديًا، جاعلًا معظم محددات الشخصية اليهودية مجرد رد فعل!

حتى إن بعض يهود فرنسا، مثل الأديب اليهودي الفرنسي ألبير ميمي، عابوا على سارتر قوله إن اليهودي هو الشخص الذي يعتبره الآخرون يهوديًا، فالواقع أن اليهودي بالنسبة إلى منتقدي سارتر هو تاريخ وتقاليد ومؤسسات وعادات إلى جانب العديد من الخصائص الإيجابية الأخرى. ويثير هذا السؤال المنطقي: هل أظهرت كل مجتمعات العالم الحديث السلوك نفسه حيال اليهود؟ وهل كان وجود اليهود في كل البلدان مُقيدًا؟ وهل كانوا ممنوعين من الاندماج في تلك المجتمعات؟ وما الأسباب الأصلية لنشأة هذا التقييد المفترض حول اليهود؟ إذا كانت نظرية سارتر صحيحة عن كون المسألة اليهودية رد فعل على الاضطهاد الأوروبي المعاصر، فلماذا لم نسمع في التاريخ القديم عن دولة ما اختار يهودها الاندماج والذوبان في نسيجها القومي الخاص؟

كما أن سارتر في سياق حديثه وتأكيده موضوع "الطبقة اليهودية المضطهدة" لم يتناول تأكيد فكرة "العدل الوجودي" والحفاظ على "الحرية المتبادلة" بحيث لا تتحول تلك الجماعة التي يقول بأنها مضطهَدة بفتح الهاء إلى أن تكون مضطهِدة بكسر الهاء، وعدوانية في بحثها عن حريتها الوجودية الخاصة، إذ ليس من حقها أن تُمارس حقها الوجودي بسلب جماعة أخرى حقها الوجودي! لم يتطرق سارتر إلى منطق العدل وحرية الفلسطينيين في الوجود، فقد سلبهم الصهاينة حقهم في الاختيار والوجود الحر، وبالتالي لم يجد الفلسطيني أمامه فرصة للبقاء سوى مواجهة العدو الذي يضطهده ويُمارس ضده التطهير العرقي ليتمكن من الاستمرار في الحياة والوجود.

تعامى سارتر في بحثه حول "حرية اليهود الوجودية" عن فكرة "العدل الوجودي" و"الحرية المتبادلة"، وعن احتلال اليهود أرض فلسطين وقهر الفلسطينيين. ولم يلتفت إلى نقطة مهمة جدًا في طبيعة الشخصية اليهودية، وهي أن فكرة الطبيعة السابقة للوجود حاضرة بشدة في المكوّن الأساسي لتلك الشخصية، بمعنى أنها تملك تصورًا مسبقًا لطبيعة وجودها. ولعل الشخصية اليهودية هي الشخصية الإنسانية الوحيدة التي تملك تصورًا وطبيعة مسبقين لوجودها غير مرتبطين بالوجود التاريخي لها كجماعة، فالشخصية اليهودية تملك تصورًا مرتبطًا بالأسس الدينية الغيبية وبفكرة "الشعب المختار" أو "الشعب الأعلى" أو "الشعب المتفوق" أو "الشعب السيد"، والباقون – من وجهة نظره الدينية – عبيد.

ويمكن أن نضع في هذا السياق ظهور مصطلح "معاداة السامية" نفسه الذي ظهر في القرن التاسع عشر مع اليهودي موريس شنايدر عام 1860 ثم استخدمه الباحث الألماني فيلهم مار عام 1887 لوصف موجة العداء لليهود في أوروبا الوسطى منتصف القرن التاسع عشر، والملاحظ أن فكرة "السامية" نابعة مباشرة من التوراة وفق التصنيف العرقي للبشر الذي يُقسمهم إلى أقوام رئيسية أعلاها نسبًا سام ابن نوح، وبالتالي فإن المصطلح في حد ذاته ينطوي على تعالٍ ديني وعرقي من جانب اليهود، يستدعي تعاليًا مضادًا من غير اليهود، ويمكن تفسير "معاداة السامية" بأنها رد فعل من يهود أوروبا على مقولة التفوق العرقي الآري الذي رفع اليهود في وجهه عرقهم التاريخي "السامي" لمواجهته بسلاحه. لكن جذور التعالي اليهودي أقوى وأقدم بكثير ويعود إلى فكرة "الشعب المختار"، كما أن التداخل بين الديني والعرقي والقومي أمر فريد في الحالة اليهودية. قد تكون الشخصية اليهودية هي مصدر العداء الذي واجهته أينما وُجدت، وقد استثمر الصهاينة في معاداة السامية لأنها تُعزز منطق التطرف عندهم.

كانت لسارتر ملاحظات في هذا الشأن لكنه لم يضعها في سياق تفسيري مكتفيًا بالكلام عن اليهودي الذي تتم تغذيته بالشعور بالعظمة والتفوق في الأسرة: "في البيت يُخبرونه أنه يجب أن يكون فخورًا بكونه يهوديًا. وما عاد يعرف ما الذي يُصدقه، فهو مُمزق بين الإذلال والمعاناة والفخر"! لم يتنبه سارتر لارتباط فكرة التفوق بفكرة الاضطهاد وما يُرتب ذلك من سلوكيات غير سوية. إن وجود اليهودي في فلسطين يُعيده إلى حظيرة التاريخي والديني ولا يدفعه في اتجاه "الوجود الحر" المتجدد بحسب تعبير سارتر، بل هو وجود مأزوم لارتباطه بقهر الإنسان الفلسطيني واضطهاده، ويضع اليهود في وجود عبثي عدمي، لأنه وجود على حساب وجود آخر، ولا يمكن أن يستقر. لا يُجذر احتلال فلسطين وجود اليهودي بل يُضاعف لديه فكرة الاضطهاد والوجود المرتبط بالعدوانية وبتبرير الاضطهاد واختراع أسبابه، ويزيد من عزلة الشخصية اليهودية واغترابها (كما هو حاصل اليوم من إحساس العزلة الذي تعيشه "إسرائيل" عالميًا بسبب الإبادة في غزة)، بحيث لا يبقى لهذا الوجود العبثي والعدمي سوى حلين إما الموت وإما الرحيل.

طور سارتر نظريته، ويا للأسف، من "الوجودية اليهودية" إلى "الوجودية الصهيونية"، وكانت الصهيونية في تصوره تُمثل الشكل المثالي للأصالة وحرية الموقف اليهودي، وبات جوهر فكرته أن "إسرائيل" هي التمثل الوجودي لممارسة حرية الاختيار اليهودي! وأنها ثمرة المشروع الصهيوني بكونه حركة تحرر قومي لليهود. كان سارتر بدءًا من عام 1948 وحتى أيامه الأخيرة مدافعًا ثابتًا عن الصهيونية بكونها حركة تحرر يهودية! وقد أعرب بكلام مُستهجن ومقيت عن إعجابه بـ"إسرائيل" تلك قائلًا: "(...) في إسرائيل يبرز فخر معين، لا علاقة له بالشوفينية، فخر بالأفراد الذين عادوا إلى الأرض، وعمروها، وهم موجودون في البيت. إنه فخر يُثير التعاطف ويختلف عن الوضع المضطرب الدائم الذي يمكن أن يعيشه يهود خارج إسرائيل ومصدره كما هو معلوم معاداة السامية"!

تجلى موقف سارتر الداعم لـ"إسرائيل" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1976 حين توجه إلى السفارة الإسرائيلية في باريس لتلقي تكريم الجامعة العبرية له، معترفًا بأنه لم يكن يقبل التكريمات عادة (معروف أنه رفض جائزة نوبل عام 1964) وموضحًا أن قبول تكريم الجامعة العبرية يمكن تفسيره كاختيار سياسي. بلغ دعم سارتر لـ"إسرائيل" حد اعتبار العربي/ الفلسطيني امتدادًا للأوروبي المضطهد لليهود! اتخذ موقفًا عنصريًا حيال جماعة إنسانية، نافيًا حق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم المغتصبة، متحدثًا على الدوام عن "العربي المعتدي الذي يُهدد سلامة الدولة الصهيونية"! خاصة بعد حرب 1967 التي بادر فيها الكيان الصهيوني إلى العدوان! وحتى حرب 1973 حمّل مسؤوليتها لمصر وسورية!

والأكثر عبثية في آراء جان بول سارتر اعتباره العنف الصهيوني إعادة إنتاج لنموذج المقاومة الفرنسية للنازية، مُفتقدًا أبسط قواعد القياس. مشكلة سارتر أنه اعتمد القياس الخاطئ للمقارنة، وبلغ به الضلال والعماء الفكريان حد رؤية معظم مواطني "إسرائيل" "محبين للسلام"! متابعًا: "ناهيك عن أن أعضاء الكيبوتسات، الذين يعيشون على الحدود، يشعرون يوميًا بخطر الحروب، وهم محبون للسلام"! وأُصاب أنا كلبناني كاتب لهذه السطور بتأثر شديد وتدمع عيناي لكلام سارتر عن "محبي السلام" في الجليل المحتل عند الحدود مع بلدي!

 

* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

 

عن (ضفة ثالثة)