يشكل التفكير البناء أهمية كبيرة في معالجة التحديات الفكرية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية المعاصرة. في هذا السياق، ترى حنا أرنت في مشروعها الفكري أن غياب التفكير وغياب استخدام العقل يؤدي حتما إلى انتشار تفاهة الشر بجميع أشكاله وظهور أنظمة شمولية كالفاشية والنازية. أدت إلى خوض حروب ومآسي إنسانية، لا زال العالم يعاني من تبعاتها إلى اليوم، في ظل نظام رأسمالي لم يستطع إنتاج الثروة بشكل عادل لتحقيق رفاهية الإنسان، بل خلق مجتمعا استهلاكيا غارقا في الاستغلال والاغتراب. كما تحولت حرية الفرد إلى حرية الرأسمال والرأسمالي الذي يبحث عن الربح السريع باستعمال مختلف الوسائل من أجل الهيمنة على الدول والشعوب والتحكم في ثرواتها الاقتصادية، في عالم تحول إلى قرية صغيرة بفعل الطفرة الرقمية.
1 - الحاجة إلى التفكير البناء:
يعيش الإنسان المعاصر على إيقاع السرعة والأزمات المركبة، جعلته يفقد بوصلته الفكرية والعلمية. وذلك بالاستعمال السيء للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي للسيطرة والهيمنة على الأفراد والمجتمعات سواء بأدوات ناعمة أو باعتماد هذه التكنولوجيا في الحروب وتدمير الإنسان. الشيء الذي يؤدي إلى انتشار الشر والظلم وما يصاحبه من استغلال والمس بكرامة الإنسان. ومن بين أسباب الشر المعاصر نجد توقف الإنسان عن التفكير واستخدام العقل لتحليل وتفكيك الخطابات الإيديولوجية والشعبوية التي تنشر الكراهية والعنصرية بين البشر وتأجج الصراعات بين الهويات والثقافات.
لقد أصبحنا في حاجة إلى التفكير في المشترك الإنساني بأخلاقيات إنسانية في السياسة والاقتصاد والثقافة والعلم والتكنولوجيا. وذلك من أجل تصحيح أعطاب الإنسان المعاصر وتحريره من سلطة الخطابات الايديولوجية والشعبوية التي تنتج الاستغلال في كل ما هو نبيل في حياتنا المعاصرة والمتاجرة به من أجل مصالح ضيقة. لا تصمد أمام التفكير العقلاني المنتج للاقتراحات والحلول التي تبني العيش المشترك من داخل الدولة والمجتمع وقيمه الإنسانية، مع تدبير الاختلاف على قاعدة الاعتراف والإنصاف.
إن التفكير بمسؤولية وجدية في الشأن العام من أجل تصحيح الاختلالات، يساهم في بناء وترسيخ الثقة في المؤسسات وتوازنها حتى تؤدي رسالتها بشكل أفضل. وتشجع المواطن على الانخراط في تدبير الشأن العام بالرأي والفعل لتحقيق التنمية في المدن والبوادي، في المركز والهامش. الشيء الذي يتطلب تفعيل العقل النظري والعملي وممارسة التفكير بشكل بناء، لتثمين الإيجابيات وتصحيح السلبيات مع العمل على تخليق الحياة العامة في الفضاء العمومي.
2 - الفكر المركب في مواجهة التبسيط والسطحية:
لا يمكن مواجهة تحديات العالم المركب بالتبسيط والسطحية والارتجالية. العالم المركب يتطلب تفكيرا مركبا منفتحا وتقدميا، يستثمر صيرورة تطور الفكر الإنساني في مختلف التخصصات العلمية وتكاملها المعرفي والمنهجي لمعالجة التعثر والمأزق التاريخي الذي يعيشه الإنسان المعاصر. إن إنقاذ الإنسان يكمن في جعله يفكر بشكل سليم وموضوعي ونسبي في المشترك الإنساني حتى يتغلب على الشر والظلم. وبذلك يستطيع الفكر المركب، حسب إدغار موران، من فهم إشكاليات عالمنا المعاصر في شموليتها بدون تجزيء أو اختزال. لقد حان الوقت لتتكامل التخصصات العلمية فيما بينها لطرح الأسئلة المركبة والعميقة لتطوير المعرفة الإنسانية وتصحيح الأخطاء والاختزال الذي تعاني منه.
ويسائل موران في كتابه "إلى أين يتجه العالم؟" العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومعنى الأزمة ودور الأيديولوجيات السياسية التقليدية في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. كما يعتمد تفكيرا عميقًا لمقاربة الأزمات المتعددة التي تواجهها البشرية. وينتقد الرؤى المستقبلية التي تعتمد على تسلسل زمني خطي، مؤكدا أن التاريخ يتشكل من تفاعلات معقدة، مما يجعل من الصعب التنبؤ بمساره بدقة في عالم اللايقين. يدعو موران إلى تطوير وعي كوني يشمل جميع الثقافات والحضارات، معتبرا أن الإنسانية تمر بمرحلة حرجة تتطلب تعاونا عالميا لتجاوز الأزمات المشتركة. ويرى أن الأيديولوجيات السياسية القديمة لم تعد قادرة على معالجة التحديات المعاصرة، ويحث على تبني تفكير جديد يتناسب مع تعقيدات العالم الحديث.
إن إنتاج المعرفة لا يمكن عزلها عن السلطة التي تنتجها لأهداف محددة، باستعمال الخطاب، سواء كان هذا الخطاب فلسفيا، علميا، أدبيا أو فنيا. يقول ميشيل فوكو في كتابه "حفريات المعرفة" : "أينما وُجد الخطاب، وُجدت السلطة." وبذلك يشكل الخطاب الفكري ركيزة أساسية ومرجعا للاقتصاد والسياسة والثقافة. إنه منبع الأفكار والتصورات والقيم التي لا يمكن الاستغناء عنها، في عالم في أمس الحاجة إلى الفكر والمفكرين لإنارة الطريق التي أظلمت بالسطحية والتفاهة والرداءة. وحده الفكر البناء وقوته المادية قادر على الحد من تعفن العالم وإعادة جماليته الإنسانية بالتحليل والنقد، لاستعادة المشترك الإنساني وتطويره بالتفكير والعمل المتواصل من أجل الاعتراف والإنصاف والتغلب على الشر والظلم الذي يفتك بإنسانية الإنسان. إن التفكير البناء وقوة العمل الإنساني النبيل يجعلان الإنسان أكثر قوة لتصحيح أعطابه المركبة لبناء عالم قابل للعيش بدون كراهية وعنصرية وحروب، في عالم تتواصل فيه المجتمعات والدول وتتعاون من أجل عالم آخر ممكن بالتضامن، لبناء الإنسان الذي يفكر بشكل جدلي في شرطه الإنساني وقادر على نشر ثقافة الأمل والسلام العادل.
3 - المشترك الإنساني أفقا للتفكير البناء:
يساعدنا التفكير المركب على إنتاج أفكار جديدة وتجاوز الأفكار المستهلكة والتقليدية التي لا تساير العصر. كما يساهم التفكير البناء المبني على الحوار والنقاش والتواصل على صقل وبلورة الحلول والبدائل في التعاطي مع المستجدات والمتغيرات التي يشهدها الواقع والعالم. إن التفكير البناء يساعد على إبداع وإنتاج المعنى في جميع الميادين العلمية في علاقتها بالحياة السوسيوثقافية والسياسية والاقتصادية. الشيء الذي يتيح تطوير المعرفة بواقعنا المركب لبناء الإنسان. وبذلك يساعد التفكير على الانفتاح على أسئلة العصر ومحاولة الإجابة عنها بشكل علمي وعقلاني لتجاوز التعثر التاريخي ومواكبة العصر بالتخطيط وحسن التدبير لقضايا الشأن العام.
في هذا السياق، لا يمكن بناء المشترك الإنساني وتطويره بدون ضمير إنساني يدافع عن القيم الإنسانية. يقول فكتور هيغو: "الضمير هو روح العالم، به يعرف البشر بعضهم البعض، العالم لا يعاني من غياب القوانين والعقوبات، العالم يعاني من غياب الضمير الإنساني، الضمير هو الرادع الحقيقي لا العقوبة." وبذلك تصبح التربية على التفكير واستخدام العقل من القضايا الأساسية التي تساعد في بناء مواطن المستقبل بقيم إنسانية ويساهم في بناء وتطور المجتمع. إن الإنسان حين يستخدم عقله وتفكيره يتحرر من الجهل والخرافة وينقذ نفسه ومحيطه من الشر والظلم.
وما ينطبق على المواطن العادي ينطبق أيضا على النخب المثقفة والفاعل السياسي والمدني في علاقته باتخاذ القرارات التدبيرية. كلما تم التفكير بضمير واستحضار المصلحة العامة والمشترك الإنساني، تنتصر المصلحة العامة وينتشر الأمل والخير وتتراجع تفاهة الشر والظلم والكراهية والعنصرية. ويتمكن الجميع من العيش بكرامة في مجتمع يتسع لجميع الأفكار البناءة التي تتعايش وتتواصل من أجل الوحدة وتدبير الاختلاف لبناء العيش المشترك بين الثقافات.
خاتمة
يساعد التفكير المركب والبناء على الانفتاح على أسئلة العصر ومحاولة الإجابة عنها بشكل علمي وعقلاني، لتجاوز التعثر التاريخي ومواكبة العصر بالتخطيط وحسن التدبير لقضايا الشأن العام، في عالم يعيش على إيقاع الأزمات المركبة واللايقين. إن التفكير البناء وقوة العمل الإنساني النبيل يجعلان الإنسان أكثر قوة لتصحيح أعطابه المركبة لبناء عالم قابل للعيش بدون كراهية وعنصرية وحروب، في عالم تتواصل فيه المجتمعات والدول بلغاتها وثقافاتها المختلفة، وتتعاون من أجل عالم آخر ممكن بالتضامن، لبناء الإنسان الذي يفكر بشكل إيجابي في الواقع الإنساني وقادر على إيجاد الحلول للأزمات المركبة والحروب ونشر ثقافة الأمل والسلام العادل.
* أستاذ باحث في الترجمة بالمعهد الجامعي للدراسات الإفريقية والأورومتوسطية والإيبروأمريكية، جامعة محمد الخامس، الرباط