تتصل هذه الرواية بالمؤشرات السياقية الثقافية والفكرية المعاصرة مثل التوسع في تعددية العوالم، والعوالم المكانية الممكنة أو المحتملة، والعودة إلى التأملات الذاتية الباطنية أو العمق الروحي الملائم لصورة المياه في نماذج اللاوعي الجمعي، والتوسع الإدراكي في دراسات الوعي وإنشاء الخبرات والحكايات الظاهراتية الممكنة، وتفكيك الزمن الخطي.

التداخل الإبداعي بين النماذج، والصور الجمالية، وأخيلة الوعي

في رواية «أنهار في السماء» لإليف شافاك، مقاربة إدراكية بيئية

محمد سمير عبدالسلام

 

"أنهار في السماء"(1) رواية تجريبية حديثة للروائية المبدعة إليف شافاك؛ تقوم على العمق الروحي البيئي المتولد من دلالة الماء، وصيرورته الخيالية في عوالم الوعي واللاوعي داخل منظور الساردة، وفي عالمها الداخلي، وداخل عوالم الشخصيات الفنية، وتقوم الرواية أيضا على تأويل التاريخ عبر قوى التحول الصاخب، والبحث المستمر عن مناطق الاتحاد والتداخل بين النماذج والصور الخيالية للعناصر البيئية في عوالم الوعي واللاوعي، ومدى تطور هذه الصور في السياق الثقافي المعاصر؛ ومن ثم يعزز خطاب الساردة من حالة التواصل الحضاري البيئي والداخلي اللامركزي بين الشخصيات التي قد تبدو متفرقة في التجربة الزمكانية ولكنها تتواصل عبر آليات الوعي الظاهراتي، والعمق الروحي الملائم لصورة المياه، والاتصال القديم المتجدد مع نماذج الحكايات القديمة، وأطيافها؛ مثل جلجامش، وأنكيدو، ومردوخ، وتعامة، وصورة لاماسو أو الثور المجنح في بابل وآشور القديمة؛ تقوم الرواية إذا على التجاوز الإدراكي للعلاقات الزمكانية التقليدية، كما تنشء خبرات ظاهراتية داخل الوعي تتلاقى فيها العناصر البيئية بصورة تجريبية في البعد التأملي للوعي؛ فالساردة قد تنشئ أو تستبطن خبرة ظاهراتية داخل وعي آرثر يتمازج فيها ماء دجلة النشط مع ماء نهر التايمز في سياق الهارموني الكوني المتجاوز للتعارضات والتناقضات القديمة الأسبق من حالة الهارموني البيئي الروحي التي تطمح إليها الساردة، ويطمح إليها آرثر في رحلته المعرفية إلى نهر دجلة في الوقت نفسه؛ ومن ثم يصير هذا التمازج الروحي البيئي المفتوح آلية سردية تفسيرية تتجاوز أيضا التعارضات الثقافية الزائفة بين الذات والآخر في التجارب الثقافية أو النسوية المعاصرة     للقرن الواحد والعشرين من خلال شخصيتي نارين الأيزيدية، وزليخة العراقية المقيمة في لندن ضمن المسكن العائم فوق مياه نهر التايمز أيضا.

وتتصل رواية أنهار في السماء إليف شافاك بالمؤشرات السياقية الثقافية والفكرية المعاصرة مثل التوسع في تعددية العوالم، والعوالم المكانية الممكنة أو المحتملة، والعودة إلى التأملات الذاتية الباطنية أو العمق الروحي الملائم لصورة المياه في نماذج اللاوعي الجمعي، والتوسع الإدراكي في دراسات الوعي وإنشاء الخبرات والحكايات الظاهراتية الممكنة، وتفكيك الزمن الخطي عبر بنية الحضور الدائرية، أو السرديات التفسيرية المتجاورة، والحجاج الاحتمالية التي تصاحب المتواليات السردية التي لا تخضع لمنطق واحد، وإنما تعبر عن تعددية حكائية تعددية متداخلة ومفتوحة بين الرؤى، وزوايا النظر المتقاطعة، دون مركز، والتوسع في الأحلام التأملية التي تعزز من الخيال الذاتي الممزوج برؤى اللاوعي عبر شخصية المراقب، أو الملاحظ الواعي لتيار الصور الداخلية اللاواعية؛ ومن ثم فأخيلة آرثر الكونية، وحكايات جدة نارين، والبعد التأملي الروحي لدى نارين، وميل زليخة إلى التأملات الأنثوية المتجاوزة لإشكاليات الحاضر توحي بتجاور المؤشر السياقي ما بعد الحداثي الذي يقوم على تعددية لامركزية مفتوحة من الرؤى والأخيلة والعلامات، والمؤشر السياقي التأملي البيئي الذي يجمع الشخصيات والصور الكونية الشعرية في كيان متناغم وعميق يلائم التوسع في التجارب التأملية الباطنية المتجاوزة لما بعد الحداثية في آن.

وتعود الإحالات إلى الفاعلية البيئية الضمنية في الخطاب السردي إلى روايات من كلاسيكيات الحداثة؛ مثل العجوز والبحر لهيمنجواي؛ حيث يضعنا السارد داخل رحلة وجودية شعورية عميقة واتصال شعوري معقد وغير مركزي بين كل من الصياد سانتياغو، وسمكة المارلين الضخمة، وأسماك القرش، ورواية موبي ديك لميلفل التي تستكشف غموض الصراع مع الحوت الأبيض في بيئة المحيط عبر نماذج التعارض، والحكمة، والمسار الوجودي، ورواية الأمواج لفرجينيا وولف؛ فقد أنشأت الساردة نوعا من الهارموني بين شكل الأمواج وحركتها وطبيعة الشخصية؛ فشخصية برنار القريبة من أجواء الكتابة، والسرد الدينامي أو الصيرورة السردية المفتوحة / غير المكتملة كانت متوافقة مع دينامية الأمواج وحركتها التي تراوح بين التقدم، والتراجع، والاستمرارية الدائرية المتوافقة مع استمرارية الحكي داخل برنار، ورواية الدب لويليم فوكنر التي تتضمن تفوق الطبيعي ككيان وجودي روحي داخل الواقع الواسع الذي يضم شعرية الغابة والأشجار والسناجب، وأطياف الدب مع الذات الإنسانية في نسيج حواري معقد وغير مركزي؛ وتواصل – إذا – إليف شافاك مشروعها الإبداعي الروحي البيئي التجريبي عبر الاتصال العابر للزمكانية بين شخصيات الحكايات القديمة، والتاريخ، والشخصيات الفنية عبر رؤى الوعي والمصائر المتشابكة، وعبر الحياة الشعرية الباطنية لعلامات البيئة وأطياف الفن؛ مثل المياه التي تجلت في الفرات، ودجلة، والتايمز، ورحلة نقطة المياه بين السماء والأرض، وخبرة الحوار بين التايمز ودخلة في فضاءات الوعي، وصورة الأنهار المتعالية في الوعي واللاوعي والذاكرة اللاواعية للساردة، وشجرة البلوط التي تشير إلى الأصالة الطبيعية للحكاية والنموذج المتصل بعلامة الأرض، وحضور أطياف الحكايات والأعمال الفنية الحضارية مثل الثور المجنح داخل المجال البيئي العالمي المفتوح.

وأرى أنه لا يمكننا تأويل خطاب ساردة إليف شافاك التجريبي إلا من خلال النموذج التكراري الاستعاري لصورة جريان المياه داخل الزمكانية عبر دورات وفرة المياه الطبيعية واتصالها بالعمق الشعوري أو الروحي أو عبر وفرتها الطبيعية في الأنهار، والبخار، والمحيطات، جريان المياه داخل فضاءات الوعي والعوالم الاستعارية الاحتمالية الممكنة في وعي ولاوعي الساردة، أو عبر تأكيد المياه لعودة نماذج الحكايات القديمة؛ وبخاصة من منظور الساردة الافتراضية الأنثوية القديمة التي تقدم منظورا مختلفا يحفز الأسئلة والفجوات، والهوية الأنثوية الأقرب لصورة المياه الدينامية في وعي ساردة إليف شافاك؛ هذا النموذج التكراري التصويري لجريان المياه في الطبيعة وفي فضاءات الوعي الظاهراتية يؤسس لعودة الماضي ضمن بنية الحضور، ويفكك حالات التعارض الجذري بين الذات، والآخر، أو التحولات الصاخبة الفيزيقية العنيفة داخل التاريخ، والطبيعة.

ويمكننا تحليل الخطاب أيضا من خلال التأشير العائدي ضمن وحدة الخطاب، أو الأنافورا؛ أي تفسير اللواحق، وإزالة الإبهام عنها من خلال إشارات الخطاب الضمنية الأولى؛ وتضعنا ساردة إليف شافاك في بدايات خطاب أنهار في السماء ضمن حالة التعارض بين الملك آشور بانيبال المتناقض الذي يفضل القراءة والعزلة بينما يحفز التحولات الصاخبة الآلية بالخارج، ويعدم أستاذه بصورة توحي بتعزيز التعارض الجذري بين الذات والآخر؛ وأرى أن الخطاب يحيلنا هنا إلى حالة أسبق من قصة التعارض بين آشور بانيبال، والأستاذ، ومن ثم تراكب الطبقات الآشورية تحت التراب والمياه؛ وهي حالة الازدواجية الدائرية بين قوة العمق الروحي الكامن في ذكريات المياه، والأرض، والآثار الجمالية مثل الثور المجنح، وخبرات الوعي مثل وفرة المياه في فضاء دائري كوني داخل العوالم الممكنة، وقوة التحولات الآلية التاريخية، والطبيعية، والفيزيقية؛ ولا يمكننا فهم تناقضات آشور بانيبال، ومصير أستاذه إلا من خلال العودة إلى قوتي العمق الروحي عبر أخيلة الوعي والوعي البيئي الموسع، وقوة التحولات التاريخية التي قضت على إنكيدو مثلا ولم تقض على الحبكة ضمن الحكاية المتكررة والممتدة عبر طبقات الأرض، والمياه؛ وهي طبقات توحي بالأصالة والدائرية إذا امتزجت بالوعي والفضاءات الافتراضية في شخصيات الرواية الأخرى؛ وهي آرثر، والجدة، ونارين الأيزيدية، وزليخة.

وأرى أنه يمكننا تحليل خطاب ساردة إليف شافاك أيضا من خلال المقاربة الإدراكية – البيئية؛ فالساردة تستخدم التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جينيت لتكشف عن الصلات الإدراكية والشعورية الممكنة بين شخصيات منفصلة زمكانيا بصورة نسبية؛ أي تنتقل من وعي شخصية إلى وعي شخصية أخرى وفق منطق المراوحة والتناوب، بينما تصل بين الشخصيات عبر تكرار علامات المياه، والأرض، وحكاية جلجامش، والقوة الأنثوية التي تتجسد في إنتاجية الحكاية والسرد التأويلي للماضي الثقافي والتاريخي والحكائي في سياق معاصر.

ونستطيع قراءة العلاقة اللاواعية داخل كل من الساردة وشخصياتها بصورة المياه عبر الدراسات الإدراكية الحديثة حول الذاكرة اللاواعية، أو الذاكرة الضمنية والتي قد تتمركز على خبرات لها أهمية مختزنة في اللاوعي ولكنها قيد التفسير، أي تتسم بقدر من الغموض، والظهور المتكرر المفاجئ من خلال مواقف الحاضر؛ مثل خبرات سببت صدمات، أو شعور مفرط بالسعادة، أو الحزن.

ويرى كل من بيتر غراف، ودانييل ل. شاكتر – في دراستهما الذاكرة الضمنية، والذاكرة الصريحة وتكوين الارتباطات الآنية – أن الارتباطات الآنية قد تقوم على تمثيلات موجودة مسبقا في الذاكرة الضمنية اللاواعية؛ وتتطلب عملية إعادة دمج هذه التمثيلات وجود جزء من كل وحدة وجدت مسبقا في الذاكرة الضمنية؛ أما الذاكرة الصريحة فتتصل بالتذكر عند تقديم جزء واحد فقط من وحدة جديدة؛ وترتكز الذاكرة الضمنية – إذا – على تنشيط تمثيلات موجودة مسبقا مثل كلمات، أو مراجع لأشياء ممثلة في الذاكرة الدلالية، أو الذاكرة طويلة المدى؛ ويحدث التنشيط بصورة تلقائية غير واعية.(2)

ونستطيع أن نستدل على وجود تأثير غير واع لصورتي المياه، وعمق طبقات الأرض داخل الذاكرة الضمنية اللاواعية للساردة في رواية أنهار في السماء لإليف شافاك؛ ويبدو أن صورتي المياه العميقة، وطبقات الأرض التي تنطوي على ألواح الحكايات والآثار الجمالية العالمية بما فيها المتوالية السردية المتعلقة بتجدد ذاكرة جلجامش، وطيف إنكيدو، وبحث جلجامش عن الخلود؛ وسوف تكون صورتا المياه، والأرض متصلتين بخبرة تعلم توحي بتناغم عالمي قد يتشكل من مشهد جريان المياه، أو عالمية الأثر الجمالي المختزن في طبقات الأرض، أو اتساع العالم الداخلي للذات الفردية التي ترسخ لديها نوع من أنواع التوسع الكوني – البيئي الذي لم يخضع لتحليل منطقي كامل داخل عمليات التعلم، أو لم يحفظ ضمن مخطط استدلالي مستقل أو مغلق؛ ومن ثم بدأت صور المياه، وثراء طبقات الأرض في اتخاذ ارتباطات آنية عبر انتخاب الساردة للعلامتين في سياقات تعلم جديدة تتصل بالعالمية الجمالية اللامركزية في صورة الثور المجنح الذي نشعر بوجود أطيافه في متحف طبيعي في لندن وفي وعي ولاوعي شخصية آرثر، وارتباط المياه الآني بالحوارية البيئية الظاهراتية الواسعة التي توحي بالانعكاس الإيجابي للمياه داخل صوت الساردة الكوني وداخل صوت آرثر ضمن عالم افتراضي ممكن، وسوف تتصل المياه أيضا بانحياز صوت زليخة للساردة الأنثى وتأويلها للأسئلة والفجوات في الحكايات القديمة عبر عملية تعلم غير واعية تقوم على اتصال صوت الساردة القديمة بالمياه وقد تم تنشيط هذا الارتباط عبر المؤشر السياقي الآني؛ وهو وجود زليخة ضمن حالة تأمل روحي وشرود أنثوي يذكرنا بطاقة الأنيما عند باشلار في كتابه شاعرية أحلام اليقظة، وكان زليخة تعايش هذه الحالة عقب تجاوزها للمنطق الذي يضعها في تعارض جذري مع زوجها السابق؛ ومن ثم تؤسس حالة التأمل فوق مياه التايمز لاستعادة صورة الساردة القديمة واقترانها اللاواعي بصورة المياه التي تنشئ خبرة تعلم جديدة آنية تقوم على أصالة الحكي الأنثوي المتجدد العابر للزمكانية، و اتصال عنصر المياه بالتاملات الإدراكية البيئية والكونية ضمن العودة إلى التوسع في خبرات الوعي التأملية أو الحلم التأملي في السياق الثقافي المعاصر.

ويمكننا تحليل خطاب ساردة إليف شافاك – في أنهار في السماء – وفق دراسات البيئة العميقة المعاصرة عند آرني نيس، وفريا ماثيوز؛ إذ ترى فريا ماثيوز في كتابها – الذات البيئية – أن الشعور بحب الذات قد يستثمر وينتقل إلى كل ما يقع داخل الوجود البيئي الواسع وعبر الاتصال بالعناصر الطبيعية أو الأنظمة البيئية الأوسع؛ ومن ثم تختبر الذات في حالة توسعها الكوني البيئي نوعا من بهجة الوجود، أو التأكيد على أن الحضور المملوء بالتمدد والفيضان هو تعبير واع  أو غير واع عن الحياة الداخلية الواسعة للكائنات المتنوعة.(3)

تتشكل الذات البيئية – إذا – في خطاب فريا ماثيوز من خلال التدرج من حالة التوافقية بين الوعي والعناصر البيئية إلى حالة انعكاس شعرية باطنية تعبر عن تمازج بين الحياة الداخلية للذات، والمدلول الكوني الموسع لعنصر طبيعي أو كوني أو ظاهراتي مثل المياه، والأشجار، والنباتات، والزهور، والأحجار ضمن خبرة واعية أو غير واعية فائقة.

ونلاحظ أن مدلول الذات البيئية قد تجسد داخل وعي الساردة؛ وبخاصة حين استبطنت وعي آرثر حين تذكر تعارضات العالم الفيزيقي والتاريخي بين الشرق والغرب، والتحضر، والسكون؛ وتشير الساردة أن آرثر قد تخيل ذوبان الحدود بين كل من دجلة، والتايمز؛ وقد صارا متحدين، أو متمازجين داخل وعيه، وضمن حالة داخلية استعارية صوفية للمياه.(4)

وقد جاءت هذه الخبرة الإدراكية – البيئية داخل وعي آرثر في سياق بحثه عن اللوح المفقود من ملحمة جلجامش؛ وكأنه يتجاوز حالات التعارض، والصخب العنيف، والتحول الآلي الفيزيقي أو التاريخي من خلال تأكيد الذات الكونية البيئية وعبر الحوارية الصوفية بين الوعي الذاتي الكوني وطبيعة نهر دجلة الدينامية المتدفقة، وطبيعة التايمز التي تميل إلى السكون، والتأملات الشاردة، أو الأحلام التأملية.

ينطوي خطاب الساردة – إذا – على تضمين يؤكد بناء شبكة من التوافقات الإدراكية – التصويرية – البيئية بين الماضي والحاضر منذ ما يسبق جلجامش حتى تأملات زليخة المعاصرة، وتضم هذه الشبكة التوافقية التكرارية نماذج الاستكشاف، والرحلة الروحية، والخلود، والانعكاسات البيئية الظاهراتية في الوعي، وإنشاء أحلام تأملية تجمع بين لحظات زمنية تنتمي إلى الحداثة، وما بعد الحداثة، والتأملات الذاتية الباطنية المعاصرة؛ مثل هذه الشبكة العالمية التوافقية البيئية تتجاوز – في وعي ولاوعي الساردة – آلام التحولات الآلية القديمة والمعاصرة في السياقات الثقافية والتاريخية المتنوعة التي لا تنفصل عن التوافقات الكونية الواسعة التي تبدو هي الأصل في المشهد السردي العالمي داخل وعي الساردة، وحضورها الكوني الذي يعكس حالة العمق الروحي الذاتي أو البيئي فيما يشبه المرآة التي تقوم بتجريد الصورة الزرقاء الاستعارية للمياه فيما يشبه اللوحة التجريدية التي تتسم بدائرية الحضور داخل الوعي.

وإذ قرأنا شكل التواصل الإدراكي التداولي بين الساردة، والمروي عليه وفق نظرية الصلة لدى سبيربر وويلسون، سنلاحظ أن التوسع الاستدلالي بين الساردة، والمروي عليه سيتمركز حول وجود نماذج استعارية تكرارية بين الماضي والحاضر تؤكد حالة التمازج بين الأصوات، والأطياف، والآثار الجمالية، وحيوات العناصر البيئية مثل المياه، والأرض، وشجرة البلوط ضمن نسيج عالمي متوسع إدراكيا وغير مركزي، ويتكرر عبر شخصيات مثل معلم آشور بانيبال، ونارين، وجدتها، وآرثر، وزليخة، ونموذج جلجامش أو طيفه الآخر؛ هذا النموذج المتعدد والتكراري العابر للزمكانية يصير مؤشرا سياقيا متجددا، ويفتح بابا للتوسع الحجاجي الاستدلالي بين الساردة والمروي عليه لتفسير الخطاب السردي والعلاقة الاتصالية بين الشخصيات المنفصلة ظاهريا داخل الرواية.

ويتضمن الخطاب حجة استدلالية متدرجة منطقية، ونستطيع قراءتها من خلال سلم ديكرو الحجاجي؛ وتقوم الحجة على صحة فرضية فاعلية النموذج؛ مثل جلجامش، والمعلم، أو الخلود، والرحلة الروحية، والأثر مثل الثور المجنح، والصورة الاستعارية البيئية مثل صورة المياه، والحكاية؛ مثل حكايات الساردة المرأة القديمة عن الملاحم؛ ومن ثم تصبح الفرضية  الأقوى المبنية على صحة الفرضية السابقة هي إنشاء خبرة ظاهراتية خيالية في الوعي؛ مثل الصورة المجردة للأنهار المتعالية في وعي الساردة، أو حوارية واتحاد دجلة مع التايمز في وعي الساردة، وآرثر عبر آلية سرد التبئير الداخلي المتنوع؛ ومن ثم تصير النتيجة هي تحقق الذات في المستويات المكانية البيئية والافترضية والكونية الواسعة.

ونستدل على وجود استعارة إدراكية ضمنية في خطاب ساردة إليف شافاك؛ وتقوم على التشابه بين فضاء الإدخال الأول؛ وهو فضاء ذاتي – كوني ينطوي على حالات التحول، والتجدد، والانعكاس الشعري للعلامات الطبيعية البيئية، وفضاء الإدخال الثاني؛ وهو فضاء ممكن محتمل، ومضاعف، تتفاعل فيه العلامات الطبيعية، وآثار الفن، والأصوات، والشخصيات، والنماذج، والحكايات وفق منطق الهارموني، ولا يتحدد بالحدود الزمكانية أو الفيزيقية، أو التاريخية، ومن ثم يصير فضاء المزج الإدراكي فضاءا هجينا بينيا يقع ضمن حدود الذاكرة، وإنشاء الفضاءات الاحتمالية اللانهائية في المشهد، وضمن حالات التأمل الواعية، أو الأحلام لتأملية الملائمة لشعرية المياه، وصورها الاستعارية التجريدية في وعي ولاوعي الساردة، وشخصياتها الفنية.

وأخيرا، أرى أن رواية أنهار في السماء لإليف شافاك قد أضاءت أبعادا اتصالية توافقية، وعالمية للروايات المعاصرة ذات التوجه الإدراكي – البيئي التجريبي.

 

*هوامش الدراسة:

(1) Read, Elif Shafak, There are Rivers in the Sky, Penguin, 2024.

(2) Read, Peter Graf and Daniel L Schacter, Implicit and Explicit Memory for New Associations in Normal and Amnesic Subjects, on Researchgate at:

https://www.researchgate.net/publication/374663561_Implicit_and_Explicit_Memory_for_New_Associations_in_Normal_and_Amnesic_Subjects

(3) Read, Freya Mathews, The Ecological Self, Routledge, 2006, p. 111, 112.

(4) Read, Elif Shafak, Ibid, p. 385.

 

msameerster@gmail.com