خص المترجم والروائي مجلة (الكلمة) بهذه الدراسة المترجمة، وهي فصل من كتاب مهم يدرس موضع الأدب ضمن المجتمعات ما بعد الحداثية، وما علاقته بفلسفة الأخلاق؟ وتكمن قيمة هذا الفصل بتقديمه لعرص تاريخي لآراء متعدد حول الموضع، ولا شك في إن هذه الدراسة تمثل جزءا من النظرية الأدبية.

الأدب وفلسفة الأخلاق

ليسبث كورتالس ألتيس وحنا ميريتوجا

ترجمة: فلاح رحيم

 

يناقش هذا الفصل عدداً من المقاربات إلى نقاط التداخل بين الأدب والأخلاق. وسينصب اهتمامنا على الدراسات الأدبية، ذلك أننا لن نتمكن من أن نغطي أيضاً على النحو المنهجي المطلوب كامل هذا الموضوع كما تجلى في الأدب نفسه، وفي الفلسفة ضمن حدودها. يقدم هذا الفصل أولاً منظوراً تاريخياً موجزاً عن نوع الجدالات التي قامت عن علاقة الأدب بالأخلاق. ننتقل منه إلى التركيز على المداخل التأويلية التي تميز ما يُسمى المنعطف الأخلاقي، وهي كما يلي: النقد الذي استلهم التقليد الإنساني ما بعد الأرسطي في فلسفة الأخلاق؛ النقد البلاغي الذي يطور هذا التقليد الإنساني ويدمج به تحليل الشكل السردي؛ النقد ما بعد البنيوي والتفكيك؛ النقد الاجتماعي والثقافي؛ وأخيراً أشكال النقد المتجذرة في التأويلية الفلسفية. هنالك حالياً اهتمام ملحوظ بموضوع الأخلاق والأدب يمكن رصده في العلوم الاجتماعية أيضاً. نناقش هنا بإيجاز عدداً من المداخل الاجتماعية والإدراكية والسيكولوجية التي تسعى إلى دعم أو تأهيل الدعاوى بصدد إمكانات الأدب الأخلاقية او تؤشر موقعها داخل تجاذبات أوسع عن القيم في الثقافة. تتصل ملاحظاتنا الختامية بين أمور أخرى بالسؤال: لماذا تكون المداخل التي نناقشها نفسها ـ وربما يجب ان تكون ـ محملة بالقيمة؟ ونحن ندعو إلى بحث أكثر ميلاً إلى التداخل بين المناهج في هذا الحقل، قبل أن نختم ببعض المقترحات التي تفتح أفقاً أمام المزيد من البحث (والاستخدام).

الأدب والأخلاق على مرّ الزمن

تجري عبر الأزمان "معركة قديمة بين الفلسفة والشعر" (1992، 607b5-6)، يجعل أفلاطون في "الجمهورية"، كما هو معروف، سقراط يستنكر الشعر على أسس أبستمولوجية وأخلاقية معاً (الكتابان الثالث والعاشر): يجب أن يُمنع الشعر من دخول المجتمع المثالي لا لأنه يقودنا بعيداً عن الحقيقة حسب بمحاكاته عالماً تجريبياً من المظاهر يحاكي هو نفسه عالم الأفكار، ولكن لأن الشعر والشعراء يفسدون أخلاق الشباب أيضاً.  الشعر "يغذي العواطف؛ ويسقيها بدلاً من أن يجففها؛ فهو يطلق لها العنان بالرغم من أنها يجب أن تخضع للسيطرة إذا ما أريد للجنس البشري أن يزداد سعادة وفضيلة." لكن موقف أفلاطون هذا بصدد الموضوع، وهو الموقف الذي عزاه لسقراط وقدّمه على شكل حوار يبقى خاضعاً للجدال حتى يومنا هذا يوضع عادة على الضد من أرسطو (1987، 1447a)، الذي وافق على أن الشعر يتسم بالمحاكاة (السرد يحاكي "أناساً في أثناء الفعل") لكنه جادل أن المحاكاة ليست مجرد مسألة استنساخ: هي بالأحرى عملية إبداعية وخيالية لها قيمتها المعرفية والأخلاقية الخاصة. يسهم الشعر في توازننا الروحي عبر تطهيره عواطفنا؛ وهو يوسّع نطاق التجارب التي يمكن لنا ان نتعلم منها عبر المخيلة، وإن كان بالوكالة، وأن فهم الفعل الإنساني الذي يقدمه يكون أكثر غنى وأعمق تفلسفاً من التاريخ: الأخير يتعامل مع الفعلي، الأول يتعامل مع ما هو ممكن ومحتمل أيضاً (1451b4-5).  وبالرغم من أن نظرية أرسطو في المحاكاة تركز على صنف التراجيديا، فأنها ظلت كبيرة الأثر على علم الجمال الغربي على نطاق أعم، وكذلك على الدراسات السردية (انظر كمثال نظرية ريكور في المحاكاة [1984]).

بالرغم من هذا، ظلت العلاقة بين الأخلاق والأدب في الحقبة ما قبل الحداثية تُفهم على نطاق واسع أنها تعليمية في المقام الأول، تعلمنا كيف نعيش حياة طيبة (خُلقياً) عبر الأمثلة الأدبية والأصناف الشعرية التي تصقل قدرتنا على المناظرة والتدبر. ثم جعلت الحداثة فكرة القواعد الأخلاقية المشتركة دون لبس فكرة إشكالية. مع حلول القرن الثامن عشر، وكاستجابة للتغيرات السياسية والاجتماعية الدرامية مثل تأثير أفكار الثورة الفرنسية وصعود الطبقة الوسطى وانتشار القراءة والكتابة وازدهار النزعة الفردية، تغيّرت الأحوال الاجتماعية والمؤسسية التي كان الأدب يُنتج ويُقرأ في ظلها إلى حد بعيد في المجتمع الغربي. وهو ما نجم عنه بين أمور أخرى استقلالية متزايدة للأدب. هذه الاستقلالية لا تشير إلى حقل أدبي كان يطور مؤسساته الخاصة لإنتاج الأدب وتكريسه وتوزيعه حسب، بل تشير أيضاً (بورديو Bourdieu، 1996)؛ بمعنى أوسع، إلى فكرة أن الفنانين والكتاب والمفكرين قد حرروا أنفسهم من العقيدة الجامدة التي فرضتها الكنيسة والدولة والسوق والرأي، أو على نحو أكثر جذرية، إلى أن يقطع الأدب صلاته مع العالم الواقع وراء حدوده (دورليجين Dorleigin et. al. ، 2007، xi - xxvi ).  بدلاً من تعليم الحقائق الأخلاقية التي كرسها التقليد، صار يُتوقع من الأدب أن يسمح للأفراد باستكشاف تجارب ومعاني ظلت مجهولة من قبل، وهو أمر فاقم فيه أن الدين قد فقد الكثير من سلطته، وكان يُنظر إلى العلم على أنه عاجز عن الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية والوجودية. ولكن اعتماداً على تشخيص عمانوئيل كانط للمحيط الأخلاقي بوصفه المختص بـ "النزاهة" التي لا تحفل بأي اعتبار عداها، فإن الجماليات المستقلة صارت تُفهم في الغالب على أنها متميزة جذرياً ـ إن لم تكن مضادة ـ لمحيطي المعرفة العقلية والاخلاق معاً. 

وهكذا، صارت جاذبية الأدب في القرن التاسع عشر وما شهد من عقيده "الفن للفن" وحركات الانحلال، تكمن في توجيه الصدمة “للبرجوازية." في عام 1835، أطلق ثيوفيل غوتيه Theophile Gautier، وهو أحد أول دعاة "الفن للفن"، هتافه الذي شاع بعدها "أيها الحمقى، أيها المعتوهون، أيها الأبله مريض الغدّة، الكِتاب لا يطبخ شوربة الهلام؛ الرواية ليست زوجاً من الجِزم السلسة، ولا السونيتة حقنة نسائية؛ الدراما ليست سكة حديد؛ كل هذه الأشياء الجوهرية بالنسبة للحضارة ولتقدم البشرية في مسيرها نحو الامام." (جوتيه، 2005/1835، 20). بعد مرور نصف قرن قال أوسكار وايلد ساخراً: "ليس المقصود من الفن... أن يلقن الدروس، أو يؤثر في الفعل بأية طريقة... العمل الأدبي عديم الفائدة كما هي الوردة." (وايلد، 2000/1890، 478 ـ 479).  وقد وفر نيتشه وفرويد المزيد من الدعم الفلسفي والعلمي للشعار الجمالي الذي أصبحت فيه الأخلاق ماده للسخرية.

بالرغم من هذا، فأن فكرة أن الكتّاب يعبرون في أعمالهم عن رؤية محملة أخلاقياً أو أن لهم مهمة مدنية ومسؤولية تجاه التعليم الأخلاقي للـ "جماهير" لم تفقد زخمها قط في واقع الأمر. ابتداءً من فردريك شيلر إلى فكتور هيجو، وصولاً إلى جان بول سارتر في القرن العشرين أو دَيف إيجارز Dave Eggers وميشال هولبيك Michel Houellebecq في وقتنا الراهن، ظل يترتب على استقلال الأدب أن الكتّاب، بوصفهم قوة معادلة في مواجهة السلطات القائمة، يمكن (ويجب) أن يوفروا لقرائهم فهمهم المميز للعدالة والحقيقة أو رفاهية الإنسانية. إن أصنافاً أدبية مثل القصص الخيالي الوثائقي docufiction والتاريخ الصغير microhistory أو القصص اليوتوبي أو اليوتوبي المضاد تزداد الآن انتعاشاً، وهو ما يكشف دوافع أخلاقية قوية ويلقى قبولاً، مثل الرغبة في منح المجبرين على الصمت صوتاً، وفتح منظورات بديلة إلى الماضي والحاضر والمستقبل. وبالرغم من الهبوط في مكانة الأدب، فإن الصور التي تقدم الكاتب على أنه من يشخّص علل المجتمع الأخلاقية بوصفه مثقفاً عاماً أو منارة أخلاقية للمجتمع ما تزال معنا إلى حد كبير، وهو ما تثبته الصدمة في ردة الفعل عندما يتم كشف أن من هذه المنارات ـ لنفكر في غونتر غراس أو كريستا وولف ـ من كان متورطاً في نشاطات سياسية إشكالية أخلاقياً.

هذه المعارك الجمالية والداعية إلى الاستقلالية ضد الأخلاق و"النزعة الإنسانية" بمعناها القديم امتدت إلى النتاج الأكاديمي ومجال دراسات الفن، خصوصاً في بداية القرن العشرين في ما سُمي باستهانة أولاً الشكلانية، وهو توصيف سرعان ما اعتُمد بفخر. ولكن لا يمكن لأي تمثيل لشؤون الإنسانية، سواء أكان جمالياً أو غير ذلك أن يتجنب حقاً البعد الأخلاقي؛ الأحرى أن يكون السؤال كيف يتم تعريف الأخلاق والخلق[1]؟ وكم يكون دورها مركزياً أو هامشياً في تأويل الأدب وتقويمه؟ إن فكرة فكتور شكلوفسكي (1991، 14ـ1) عن الفن بوصفه التغريب الحاصل في الإدراك الحسي، على سبيل المثال، قُصد منها تكريس فكرة أن من الواجب تحرير الناس من العبء الثقيل للروتين والأيديولوجيا، وأن على الأدب أن يلعب دوراً حاسماً في إنعاش حواسنا ومخيلتنا مع التوقع ضمناً إمكانية أن تفيض تأثيرات المخيلة الشعرية في أثرها إلى الميادين الاجتماعية والسياسية بما فيه نفع الجميع.

اعتمدت الأكاديمية البنيوية في ستينات القرن العشرين جزئياً على اهتمام الشكلانية بالشكل الأدبي وهي تلتزم الاصطفاف مع المُثل العلمية في طموحها لتطوير نظرية عامة للأدب. كانت النظرية الأدبية بالنسبة لهم في تلك المرحلة لا تفسح أي مكان للمشاغل الأخلاقية والخلقية أو للتأويل: ذلك أن الذاتية والمعيارية في التأويل خطيئتان مهلكتان للصرامة العلمية. لكن التأويل عاد مسرعاً ليدخل من الباب الخلفي للتحليل الأدبي والثقافي وللنقد الأيديولوجي (كما في تحليل رولان بارت [1957] للمعاني المصاحبة المحملة أيديولوجياً للصور والممارسات و "الأساطير" الأيقونية الثقافية)، وسرعان ما انضمت إلى التأويل أشكال متنوعة من النقد الأخلاقي.

بحلول الثمانينات من القرن العشرين، تعرض الفصل بين الجماليات والاخلاق، بعدما حاز موطئ قدم في المشهد الأكاديمي المتخصص المولع بـ "النظرية"، إلى تحد قادم من عدة اتجاهات، وهو ما أدى إلى ما سُمي بالمنعطف الأخلاقي في الدراسات الأدبية (ألتس كورثاليس  Korthalis، 2005). دعا أساتذة من مختلف القناعات لا إلى أن للأدب علاقة خاصة بالأخلاق حسب، بل أن على الأكاديميين شأنهم شأن الكتّاب والنقاد التعبير عن انهماك أخلاقي أو خلقي في قراءتهم أو دراستهم للأدب.  بدلاً من الانشغال بالتنظير المجرد أو التحليل الشكلي، يجب عليهم أن يسمحوا للأدب أن يستعيد ويحقق مهمته التقليدية في مساعدتنا على فهم كيف نعيش حياة طيبة (من الطريف أن أحد الأصوات الرائدة في بواكير البنيوية في نظرية الأدب، وهو تزفيتان تودوروف [2007]، قد هاجم بمرارة ميراث الشكلانية الذي ساعدت أعماله المبكرة نفسها في تكريسه).

ولكن، وراء هذا الاتفاق الأساسي في الحاجة إلى منعطف أخلاقي في الدراسات الأدبية يسود الانقسام بصدد نوع المدخل الواجب اعتماده (مثلاً إن كان على المرء الميل نحو العلوم "الصلبة" أو نحو النقد)؛ وبصدد فهم الأخلاق؛ وكيف يمكن تحديداً ربط الأدب بالأخلاق؟ أو إن كان هذا يصح على كل الأدب أو على بعض الأصناف أو الأعمال الأدبية حصراً؛ والأوجه التي تستحق النظر (المؤلف أو القارئ ومسؤوليتهما؛ النص؛ الوسطاء كالمعلمين والنقاد والناشرين)؛ وبصدد العلاقة بين المشاغل الأخلاقية والجمالية. بينما هنالك إجماع كبير على الموضوعات المحورية المهمة (المواقف تجاه الذات، الآخرية والآخرين، العنف، القوة، المعاناة، العدالة، الخير العام) فإن المواقف الدقيقة تجاه هذه القضايا تختلف. وسنقدم في الأقسام التالية أهم هذه البرامج التأويلية على وفق ترتيب يعتمد الموضوع لا التعاقب الزمني.

منظورات النزعة الإنسانية: الأدب و"الحياة الطيبة"
في الأعوام ذاتها التي طردت بها البنيوية الانشغال "الإنسانوي" بالأدب، زاد التأكيد على الأهمية الاخلاقية للأدب في الفلسفة التحليلية والأخلاقية (خصوصا الأنجلو أمريكية). تجادل نورا همالاينين Nora Hamalainen بينما الفلاسفة الأخلاقيون واصلوا دأبهم التقليدي في الحفر في مناجم الأدب بحثاً عن أمثلة تؤيد نظرياتهم فإن "انعطافة أدبية" معاكسة قد وقعت. عندما تحدّت أخلاق الفضيلة وأخلاق المدخل النسوي والعديد من "المداخل الخاصة" النظريات النفعية والإلزامية، كان الفلاسفة الأخلاقيون يظهرون اهتماماً متزايداً بالأهمية الفلسفية للأدب. بحث العديد من الفلاسفة الأخلاقيين في الطرق التي يعزز بها السرد القصصي الخيالي فهمنا للأخلاق. واهتمت هذه المداخل بالطريقة التي تشكل بها القصص فضاءنا الأخلاقي، فهي تتحدى النظريات الأخلاقية التجريدية، التعميمية المتسمة بالجمود المبدئي مثل النزعات الإلزامية والنفعية التي تميل إلى رؤية الفاعل الأخلاقي بوصفه صانع قرار عقلاني غير مجسم وغير خاضع لسياق وإلى أنه يعمل على أساس حساب المنفعة أو الواجب (جوتلب Gotlib 2015). يرى الفلاسفة الأخلاقيون مثل هيلدا لندمان Hilda Lindeman (2014) ومارغريت أوربان ووكر Margaret Urban Walker (2007) الخُلق ممارسة بين ذاتية حوارية من حيث الأساس، وقد بحثوا كيف تمارس السرديات "عملها أخلاقياً" (لندمان نيلسون Lindman Nelson، 2001، 36)، بصيغة الأخلاق السياقية التي تؤكد تموضع الفاعل الأخلاقي (انظر ميريتوجا 2018، 26 ـ 27).

كما أن الأهمية الأخلاقية للأدب لقيت التأكيد من فلاسفة أخلاقيين مثل ألاسدير ماكنتاير (1984) وتشارلس تيلر (1989) وريتشارد رورتي (1989) ومارثا نوسباوم (1986، 1990، 1997) وبول ريكور (1992). على المستوى العام، يحلل هؤلاء الأساتذة السرد ـ خصوصاً القصص الأدبي ـ بوصفه يوفر إطاراً يتم من خلاله تنظيم التجربة الإنسانية وجعلها ذات معنى. وهذه الفكرة تعتمد على الرأي الأرسطي الذي يرى أنه "ميل طبيعي لدى الإنسان منذ الطفولة أن ينهمك في الأخلاق المحاكاتية والفعالية الأدبية،" وأن يجد متعة في "اللعب" المحاكاتي بينما هو يدرب فهمه (أرسطو، 144b3-19). بل أن فلاسفة مثل ماكنتاير (1984، 204 ـ 255) وتيلر (1989، 47 ـ 52)، وريكور (1992، 158) يرون أن سردنا لحياتنا وثيق الصلة بقدرتنا على تحمل المسؤولية عن أفعالنا، وهو يشكلنا بوصفنا ذواتٍ أخلاقية.

وقد جاءت دعوة مؤثرة إلى الاستخدامات الخلقية والأخلاقية للأدب من مارثا نوسباوم التي لقيت كتبها بعناوين بليغة مثل "هشاشة الخير" Fragility of Goodness (1986)، "معرفة الحب: مقالات في الفلسفة والأدب"Love’s Knowledge: Essays on (1990) Philosophy and Literature و"العدالة الشعرية" Poetic Justice (1995) جمهوراً واسعاً. تتناول نوسباوم أفكاراً مثل الحياة الطيبة، السمو الأخلاقي، وأن العقل بوصفه تفكيكاً (وهو ما سنناقشه لاحقاً) ليس إلا تموجات على بحيرة. وهي تحيي في معرض تصديها للمداخل التفكيكية جزئياً فكرة أرسطو بصدد أخلاق الفضيلة مجادلة أن الفكرة الأرسطية المتعلقة بالحكمة العملية phronesis تلائم تجربتنا اليومية للقضايا الأخلاقية أكثر من النظريات الأخلاقية التجريدية العامة. إذا ما رغبنا في أن نشعر أو نعمل أو نتأمل أخلاقياً، فإننا نحتاج إلى مخيلة ناضجة متطورة، فضلاً عن حاجتنا إلى الموجهات الخُلقية التي يمكن تطبيقها في الحالات الملموسة. إن الأدب وهو يضعنا في حالات تتصارع فيها القيم، يرعى نوعاً من "التعلم بالتجربة" يقود إلى مثل هذه الحكمة العملية (نوسباوم، 1990، 55)؛ وهو فضلاً عن ذلك يحفز المخيلة، "وهو مكون جوهري في الموقف الأخلاقي الذي يطلب منا الانشغال بخير الآخرين الذين تكون حياتهم بعيدة عن حياتنا." (نوسباوم، 1995، xvi). الأدب "الطيب" يعلمنا "كيف نعيش الحياة الطيبة" التي تعتمد الحب والاحترام والتعاطف والتقمص، وهي كلها قيم مركزية في أخلاق المواطنين وفي التربية المدنية في ديمقراطية مزدهرة (نوسباوم، 1995، 2010). من غير المستغرب بعد هذا أن تفضل نوسباوم السرديات الأدبية التي تستدعي التدبّر والتماهي الفعال مع شخصيات تعاني حالات عسيرة، أساساً الدراما الكلاسيكية والروايات الواقعية والحداثية مثل روايات هنري جيمس التي تجمع الاحتفاء بالتفاصيل وغنى المشاعر (1990، 103).

تلتزم نوسباوم بوضوح بفهم معين للأخلاق (انظر مثلاً كورثالس ألتس، 2006، ميريتوجا، 2015، 2018). واعتمادها الصالح العام بوصفه المقياس الأخلاقي يبرر انتخابها المحدود للكتاب المناسبين أخلاقياً، جاعلة المشاكل الجمالية تابعة للأخلاقية. لا تجد نوسباوم نفعاً في الأعمال الغامضة أخلاقياً أو الأعمال المنحرفة التي يمكن أن تكون أهميتها الأخلاقية خاصة بها (كما سيتم الجدال في القسم التالي): كتابة بيكيت، بالنسبة لها، تبالغ في عدميتها، وبروست يبالغ في أناواحديته. بدلا منهما ترينا آن بياتي Ann Beayttie كيف نتغلب على الشك والوحدة عبر الحب والمشاركة. كما أن نوسباوم لا تلقي اهتماماً للشكل الأدبي والتوسط القصصي الخيالي نفسه. تركز قراءتها على التطور الأخلاقي للشخصيات التي تناقشها كما لو كانت هذه الشخصيات أناساً حقيقيين.

لكن عمل نوسباوم فعل الكثير لتعزيز الاهتمام بالفنون والآدب أيضاً على مستوى التعليم الوطني والعالمي والسياسات الثقافية. فضلاً عن ذلك، فإن بصيرتها في أهمية تطوير قدرتنا على امتلاك العواطف والمخيلة يتفق مع البحث الحديث الذي يتفحص كيف أن "المخيلة الأدبية" (جونسون Johnson 1993) تسمح لنا أن نجرب بالوكالة عواطف ومساعي العقول والأبدان الأخرى بطرق لا تكون مفتوحة أمامنا في الحياة اليومية: يمكن للقصص الخيالي أن يجعلنا "نجرب عقلياً التجارب العامة والمواقف والاستجابات العاطفية." (جوهانسن Johansen 2002، 29؛ انظر مريتوجا 2018 من أجل المزيد من الاستكشافات للتداخل بين السرد والمخيلة الأخلاقية).

العديد من أشكال النقد الإنساني الأخلاقي المعاصر يواصل اهتمام نوسباوم بالآثار الاجتماعية والأخلاقية البناءة للأدب مع حرص على تجنب النزعات الأخلاقية والوعظية والنفسية التي يظهرها عملها كما يجادل بعضهم (انظر القسم المخصص للتأويلية في هذه المقالة).

 

المداخل البلاغية والثقافية إلى السرد
ظل التقليد الأرسطي الجديد مؤثراً في الدراسات الأدبية أيضاً، وفي نظرية السرد على وجه الخصوص. وقد جادل وين بوث، كما هو معروف، متفقا مع نوسباوم في أننا نقرأ من أجل الحصول على الحكمة والتهذيب الأخلاقي: "القصص هي مُعلمنا الأساس." (1988، 20) وقد طورت السردية البلاغية هذا التقليد بهدف تقديم أدوات سردية ملموسة يمكن بها تحليل الاستراتيجيات السردية التي يعتمد عليها المؤلف الضمني في إيصال القيم الأخلاقية أو روح الجماعة ethos إلى القارئ الضمني (فيلان ورابينوفتش، 2013؛ كورثالس، 2014). ينصب اهتمام معظم المداخل البلاغية، كما لدى نوسباوم، على تهذيب إحساس عام بالخيّر يعتمد قيماً مشتركة. ويظهر هذا الإيمان بالإحساس الأخلاقي المشترك بوضوح، على سبيل المثال، في تعريف جيمس فيلان (2014) للأخلاق السردية بوصفها الاهتمام بسؤال: "كيف على المرء التفكير، الحكم، الفعل ـ بصفته مؤلفاً أو سارداً أو شخصية أو جمهوراً ـ من أجل الصالح الأعم؟"

تشارك المداخل البلاغيةُ علم السرد (السرديةَ) narratology اهتمامها بالأدوات النصية (بالرغم من أن السردية في نسختها البنيوية الأصلية لم تكن مهتمة باستجابات القراء الحقيقيين أو المتخيلين). درجة الثقة بالشخصيات وتهكمها المفترض، والرواة، والمؤلفين الضمنيين هي من الاهتمامات المركزية والأسس التي يستند إليها حكم الناقد الاخلاقي كما رسم خطوطها عنوان كتاب فيلان )2007) "تجريب القصص: الأحكام والتعاقبات والنظرية البلاغية في السرد" Experiencing Fiction: Judgments, Progressions, and the Rhetorical Theory of Narrative . يتحمل المؤلف والقارئ والناقد جميعاً المسؤولية عن أفعالهم في الكتابة والتأويل، كما يجادل فيلان في مناقشته لجيمس فراي James Frey وكتابه "مليون قطعة صغيرة" A Million Little Pieces: باختلاق فراي تجارب كبيرة قدّمها عموماً على أنها وقعت فعلاً (حيث سوّق الكتاب بوصفه "مذكرات") خرق فراي أخلاق الصدق المرجعي الذي يمكن على وفقه أن يفقد العمل "سمعته بوصفه مواجهة صادقة مع مصاعب الإدمان والشفاء ويفقد مكانته بوصفه إنجازاً جمالياً ذا قيمة... هذا الاختلاق جعل الكتاب مثيراً للحرج أكثر منه للإعجاب."(فيلان، 2007، 219).

هنالك ما وراء أسئلة السرد (غير) الموثوق بنيات وأدوات سردية أخرى لها علاقة وثيقة الصلة على نحو خاص بالأخلاق، كما توضح أعمال بوث، فيلان، رابينوفيتش وغيرهم كثير: أولاً، تمثيل الفعل والمصاعب والخيارات بوصفها الباعث والمقوّم للأفعال يتضمن قيماً وقواعد، ويمكن أن توصف المصاعب بأنها قيم متصارعة تجد الذات المضطرة إلى اتخاذ القرار والفعل نفسها متورطة فيها؛ ثانياً، تمثيل الكلام والإدراك الحسي بوصفهما طرقاً للوجود في العالم والتفاوض بصدد العلاقة بين الذات والآخر؛ وأخيراً، البلاغة النصية التي تؤثر على تمسك القارئ بالقيم والمواقف المُمثّلة: سؤال أيّ نموذج للرغبة، أيّ صلة وعقد مع القارئ يؤسس النص؟ 

ظلت المداخل الأنثروبولوجية الثقافية إلى السرد مهتمة أيضاً بالبعد الأخلاقي والبلاغي للبنيات السردية. عمل ميخائيل باختين (1984) عن الرواية بوصفها بنية بوليفونية تجمع منظورات متعددة وأصواتاً متصارعة، على سبيل المثال، يظهر كيف أن الشكل الأدبي نفسه يؤدي عملاً أخلاقياً عبر طريقته في التعامل مع ذوات التجربة والفعل المنغرسة في العوالم الاجتماعية. يميز باختين بين السرد الحواري الذي لا يهيمن فيه صوت واحد على بقية الأصوات والسرد المونولوجي، وفيه يتخذ السارد موقع السلطة. إن أفكار باختين عن البوليفونية والحوارية كما تمثلها الرواية متصلةٌ على نحو وثيق مع مفهومه عن عدم حسمية وجودنا وفهمنا ومع الفكر الديمقراطي ـ ومثاله ـ. لا يمكن اختزال الحقيقة إلى فم واحد؛ وهي تتحقق بوصفها عملية زمنية في التبادل بين أصوات متعددة.

النقد الأخلاقي التفكيكي
يتبنى فرع مؤثر من النقد الأخلاقي في التقليد الأوروبي منظوراً مضاداً جذرياً. الأخلاق التفكيكية التي تستلهم منطلقاتها من التفكير ما بعد الظاهراتي وما بعد البنيوي لعمانوئيل لافيناس وموريس بلانشو وجاك ديريدا تثير الأسئلة حول كل الأنظمة القيمية المقبولة بوصفها مسلماً بها، وهي تتخذ الآخرية الراديكالية نقطة انطلاق لها. يؤكد هذا التقليد على أن القرارات الأخلاقية لا يمكن أن تستند إلى معرفة تجريدية بالقيم: لا يمكن أن يُستنتج الفعل الصحيح من أي شيء سابق عليه بالنسبة لديريدا (1994، 58). يطرد عالما الأخلاق والعقل أحدهما الآخر: فهو يؤكد مستعيناً بمصطلحات كيركيجارد أن لحظة اتخاذ القرار جنون وتستلزم المرور خلال "اللامتقرر". فضلا عن هذا، فإن التفكيكية تشك في أي ادعاء بفهم الآخر وتعلي من قيمة قدرة المخيلة على تجاوز التخوم والقواعد المقررة سلفاً.

كتاب أندرو جيبسون Andrew Gibson  "ما بعد الحداثة والأخلاق والرواية: من ليفيز إلى لا فيناس" 1999Postmodernity, Ethics and the Novel: From Leavis to Levinas ، وهو متأثر بقوة بلافيناس وما بعد البنيوية الفرنسية، يمكن أن ينفع بوصفه مثالاً هنا. شأن العديد من النقاد الأخلاقيين، يركز جبسون تأملاته في الغالب على الرواية. تطرح أخلاق القراءة لديه "تجربة التعددية، الدهشة الجذرية، المقاطعة الجذرية للآفاق المعطاة بوصفها الملمح المميز لتجربتنا النص القصصي."(1999،91) لا يتبنى جبسون ارتياب لافيناس بالقدرة على المعرفة حسب، ولكن ايضاً فكرته المرتبطة بها في الأولوية الأخلاقية لفعل الكلام بالقياس إلى نتيجته، المقول. بالنسبة للافيناس (1999) المقول تجميد للزمن، تنازل للعمومية؛ يمكن للحظة القول وفعل القول وحدهما أن يكونا أخلاقيين لأنهما ينطويان على علاقة الوجه لوجه بين الأنا والآخر. يقر جيبسون (1999) أن لا وجود لوجه لوجه في القراءة، لكنه يقف ضد هذا الاعتراض بإظهاره أن أدب الحداثة، كما في أعمال بيكيت، يعرض فعل القول ويثير حوله الإشكالات، وهو الفعل الذي يمثل أصل الكلام ومآله، داعياً القارئ إلى المشاركة في "حدث" القول الذي يمكن بهذا أن يصبح تجربة أخلاقية. ومما لا يثير الدهشة أن معتمد نوسباوم يتكون من الكتّاب الواقعيين والحداثويين، بينما يحتفي جيبسون بأعمال تقدم لنا انحلال الذات والرواية، مقدّراً لدى بروست وبيكيت ما تأسف له نوسباوم: تجربة غرابة الآخر الأساسية وغرابة الذات، والذاكرة بوصفها انتشاراً بدلاً من أن تؤطرها كليّة ما. بحسب "أخلاقه ما بعد الإنسانوية" يكون انحلال "ميدان العام" الإنساني، المنفى، الهامشية أكثر أخلاقية من أي انتماء إلى مكان أو مركز لا يمكن للخُلق فيه إلا أن تصبح جامدة ومقيدة (جيبسون 1999، 103). لكن "أخلاق السلبي" هذه تندرج ضمن الإلزام اللافيناسي بالالتزام العميق بالآخر و"الحدث المتواصل في الخضوع لكل شيء" (لافيناس، مقتبس لدى جبنسون 1999، 165). إن شحذ الوعي والتقمص والعاطفة التي تحتفي بها نوسباوم بوصفها النتائج الأخلاقية الناجمة عن قراءة الأدب تعدّ بالنسبة لجيبسون مشاعر مشبوهة تكرس الأنا؛ وهو يرى أن الأكثر أخلاقية حقاً هو استعداد المرء أن يفقد نفسه في مواجهة الانكشاف الجذري على المخاطر (الصور لدى نوسباوم مختلفة على نحو دال: يسهم الأدب والنقد بالنسبة لها في جعل العالم "بيتاً" يحتاج الأفراد فيه إلى أجوبة "يمكن التشارك فيها").

تعلق ريتا فيلسكي على النبرة الخفية (شبه) الدينية للنقد الأخلاقي التفكيكي فتسميه "النقد اللاهوتي" (2008، 4، 12) حيث أنه يميل إلى الإعلاء من شأن النص الأدبي فيصل به منزلة الآخر المطلق، العصي على الفهم، المتملص من حيث الأساس. من المؤكد أن الأخلاق التفكيكية تثير أسئلة: هل يكون عدم الثقة بالخُلق والوعي بتعددية الذات والخضوع اللامشروط لـ "النص بوصفه الآخر" أخلاقياً أمراً قائماً على الدوام وبجلاء؟ وهل دعوى جيبسون (1999، 1) أن النصوص الأدبية تؤدي "عملاً أخلاقياً"، وهو ما يحول النص إلى فاعل، لا تخرب عمل المؤول ـ التفكيكي ـ عندما تخفي الدائرية التي تعود لتحقيق نفسها في عملية التأويل؟

فيلسكي، وقد تخرجت من مدرسة "هرمنطيقا الشك" التفكيكية، تدافع عن نظرية أدبية تستكشف العلاقة بين النص والمؤول، ليس بوصفها مجرد خضوع للنص أو نقد للأيديولوجيا الكامنة في النص، ولكن بوصفها لقاءً حوارياً، "إنتاجاً يتشارك فيه الفاعلون يأتي إلى النور بأشياء جديدة،" وهو ما يقربها من المداخل التأويلية التي سنناقشها لاحقاً.

النقد الاجتماعي والدراسات الثقافية:
المداخل التي سادت ستينات وسبعينات القرن العشرين، ميراث الحربين العالميتين، عمليات التخلص من الاستعمار، تأثير التحرر الاجتماعي، حركات حقوق الإنسان كلها خلقت جواً شعر فيه الكتاب والنقاد الأكاديميون بأنهم مجبرون على استكشاف قضايا السياسة والأخلاق في الثقافة انطلاقاً من موقف "نقدي" وأحيانا أخلاقي كلياً. أصبحت "الدراسات الثقافية" اسماً جامعاً لميدان رئيس داخل النقد الأخلاقي يجمع المداخل ذات التوجهات الثقافية والأخلاقية من الماركسية إلى النسوية والدراسات المثلية، مقدما الوقود لحركة مضادة قوية تتصدى للبنيوية.

لقد ظل نقد الأيديولوجيا بنبراته الأخلاقية والسياسية القوية ماثلاً بنظر ثاقب في المدارس الماركسية للأدب التي عملت من أجل تحرير الجماعات المضطهدة وكشف الروابط النظامية بين الأعمال الأدبية والظروف المجتمعية لإنتاجها وعمليات تشكيل الذات والاضطهاد الطبقي (انظر لويس التوسير 2001/1970، بيير ماشيري 1966/2006؛ ومن أجل نظرة شاملة، انظر زيما 1985). تشترك العديد من الدراسات الثقافية مع ما بعد البنيوية في الشك بصحة النزعة الإنسانية الأوروبية وخطاباتها الكونية التي تلوثت باستخدامها في إضفاء الشرعية على أنظمة القوة الكولونيالية والبطريركية. لكن الدراسات الثقافية تؤكد، بينما هي تبتعد عن التركيز النصي لما بعد البنيوية، أن الأبعاد الأخلاقية والأيديولوجية تمثل أساس أداء النصوص الأدبية لوظيفتها في العوالم الاجتماعية والثقافية، التي تكون مندرجة فيها على نحو لا فكاك منه، كونها تديم الشبكات الاجتماعية للمعنى التي نخلص بها إلى معنى لحياتنا وتشكّلها وتتحداها. تميل الدراسات الثقافية إلى الاهتمام بالتجربة المتجسدة للذوات المتموضعة التي تحمل تصنيفات هوياتها مثل الجندر والتوجه الجنسي والعرق والطبقة والعمر. وهم يقاربون أخلاق الأدب من منظورات متباعدة تتضمن حركية القراءة، ظروف إنتاج الأدب واستقباله، تمثيل الجندر والنزعة الجنسية والعرق والطبقة أو العمر في الأدب، عمليات الاحتواء والاستبعاد، التفاوض المؤثر بين هذه المصطلحات. يمكن لهذه الاهتمامات الاجتماعية والأخلاقية، التي تحتل مكاناً مركزياً في الدراسات الثقافية أن تفسر جزئياً البعد الخلقي للهالة التي تحيط بأساتذة مثل إدوارد سعيد أو غياتري سبيفاك، وهما منظران رائدان فيما بعد الكولونيالية.

النقد والنظريات الملتزمة  engageفي الأدب، التي تمتاز بنبرات أخلاقية قوية، ما زالت مزدهرة في القرن الحادي والعشرين بأشكال متعددة. بالإضافة إلى المداخل الماركسية الجديدة وما بعد الكولونيالية والنسوية، هنالك مداخل تطورت في الآونة الأخيرة مثل دراسات التنوع الجنسي المثلية، التداخلية، نقد البيئة، وما بعد الإنسانية، والصدمة، والذاكرة، والهولوكوست، تهدف إلى دفع النقد الأكاديمي إلى تدخّل ناشط في المجتمع. تنبه المداخل البيئوية وما بعد الإنسانية إلى الحاجة إلى توسيع مشاغلنا الأخلاقية من قضايا حقوق الأقليات إلى تأمل علاقتنا مع الآخر من غير البشر. ودراسات الصدمة تتخذ نقطة انطلاق لها الواجب الأخلاقي في إحقاق الحق لضحايا الهولوكوست وغيره من الأعمال الوحشية. دراسات الذاكرة الثقافية تهتم من ناحيتها بالديناميات الثقافية للتذكر، بتفاعلها مع الأبعاد الفردية للذاكرة (انظر مثلاً روثبرغ Rothberg 2009، رجني Rigney 2010) بالتوافق مع ريكور (1999) الذي دافع عن أخلاق الذاكرة التي تمنح صوتاً لضحايا التاريخ. يهتم العديد من أساتذة الذاكرة الثقافية المعاصرون بالأدب بوصفه شكلاً من الكتابة التاريخية البديلة التي تروي قصص أولئك المنسيين في سجلات الكتابة التاريخية الرسمية. يثير بعض الأساتذة أسئلة إشكالية بصدد الثنائية بين الضحايا والجناة بوصفها غير كافية في الإقرار بالطريقة التي نتورط بها في تواريخ العنف (انظر روثبرغ Rothberg 2014، ميريتوجا 2018). فكرة جوديث بتلر عن الذات المتزعزعة المنكشفة للخطر أصبحت طريقة شائعة في الإقرار بالتوزيع غير العادل للثروة والإمكانات والفاعلية في عالم عولمي؛ كما أن مفهوم التداخل intersectionality يستخدم أيضاً على نطاق واسع في محاولة للإقرار بتعقيد التجربة المعيشة والنتاج و"النتائج المتنوعة الناجمة عن تداخل محاور متعددة في التمايز ـ الاقتصادي، السياسي، الثقافي، النفسي، الذاتي الخاص بالتجربة في سياقات تاريخية محددة." (براث وفينكس Brah and Phoenix 2004، 76).

مداخل تأويلية:
يشتبك وجودنا في العالم، من منظور هرمنطيقي (فلسفي)، بالأخلاق على نحو لا فكاك منه. نقدم في هذا القسم نظرة عامة موجزة على ثلاث طرق تسهم بها الهرمنطيقا في فهم العلاقة بين الأدب والأخلاق.

أولاً، لا تقارب السردية التأويلية السرديات بوصفها موضوعات للتأويل حسب، ولكن بوصفها ممارسات تأويلية بحد ذاتها أيضاً (انظر الفصل عن "التأويلية" في هذا الكتاب) كما أنه يدرس العلاقة بين السرديات الأدبية وغيرها من الممارسات التأويلية المنقولة ثقافياً التي تشكل الطرق التي نفهم بها تجربتنا. لا يتصل التأويل بالعلاقة التي تربطنا بالنصوص حسب: تمتلك كل التجربة بنية تأويلية، ذلك أننا نجرب دائما "الشيء بوصفه شيئاً آخر" (غادامير 1990؛ انظر أيضاً بروكمير وميريتوجا 2014). لذلك فإن للسرد بنية تأويلية مزدوجة، كونه تأويلات لتجارب تأويلية. وتنشط تأويلية ثلاثية عندما نعيد تأويل تجاربنا في ضوء سرديات ثقافية (ميريتوجا 2014، 2018/ 62). في التأويلية الفلسفية، يتم النظر إلى العلاقة بين الأدب والعالم لا بصيغة التمثيل ولكن بصيغة جماليات اللاتحجّب: يكشف العمل الأدبي العالم من منظورات معينة وبهذا يفتح احتمالات جديدة أمامنا (غادامير 1990؛ بوي Bowie 1997؛ إيجلستون 2004). لذلك فإن قراءة السرديات، كما يعبر عنها ريكور، يمكن أن تصبح حافزاً للوجود أو الفعل بطريقة مختلفة.

ثانياً، التأويلية الفلسفية هي أيضاً نظرية في قراءة الأدب تعبر عن أخلاق في القراءة محددة وأدوات مفهومية محددة لاستكشاف القضايا الأخلاقية التي تنطوي عليها عملية القراءة. تقدم تأويلية غادامير وريكور، على سبيل المثال، القراءة بوصفها لقاءً بين عالم القارئ وعالم النص. من منظورهما، يتمثل التحدي الأخلاقي الرئيس في القراءة في لقائنا النص بوصفه آخرَ بأقصى قدر ممكن من الانفتاح والتقبل، راغبين في السماح للنص أن يتحدانا دون أن نصادره إلى إطارنا الإدراكي. تؤكد العديد من الإسهامات الراهنة في مجال التأمل التأويلي في أخلاق القراءة على الدينامية المعقدة التي نتأثر بها بالنصوص الأدبية. ومن الأمثلة على هذا تأويلية ريتا فيلسكي (2015) "ما بعد النقدية" التأثرية، وعمل كولن ديفيز Collin Davis عن "قدرة [الأدب] على إحداث تحول في طرق تفكيرنا." (2010، 180 ـ 181).

أخيراً، نود أن ننوه بأهمية الميتا تأويلية Metahermeneutics في سياق موضوعنا. يشير هذا المصطلح الى تحليل الطرق التي يعتمدها القراء في تأويلهم للأعمال الأدبية وتأملها (كورثالس، 2014). بينما يخرج القراء بتأويلاتهم الفردية للعمل الأدبي والتي يمكن أن تختلف إلى حد كبير بالمقارنة مع رؤى العالم والقيم التي ينسبونها إليه أو لأحكامهم التقويمية، فإن مثل هذا التنوع غالباً ما يتعرض للإهمال في النظريات التي تتناول العلاقة بين الأدب والأخلاق؛ وهي تحفز على مستوى النقد غالباً دفاعات عن شكل بديل من النقد الأخلاقي. لكن التنوع التأويلي نفسه موضوع يقدم لأي شخص مهتم بالأخلاق بوصفها مسألة تفاوض اجتماعي وتنافس مادة غنية للفحص. يسعى الميتا تأويل إلى استخراج نماذج من مثل هذه العمليات والجدالات التأويلية تقع وراء الاختلافات الفردية الخاصة: على مستوى الطرق المتبعة في القراءة، والتأويل، والأدب التقويمي، والمفاهيم المنقولة اجتماعياً للأدب والأخلاق والذوات وغيرها من عوامل الفهم المسبق التي تؤثر في وصولنا إلى النصوص وتمثلنا لها. إن هذا "الميتا منظور" واستخدامه إسهامات سوسيولوجيا الفن والأدب، يشكل جسراً إلى مداخل العلوم الاجتماعية التي نناقشها في القسمين التاليين.

الشروط المؤسسية لصناعة المعنى والتقويم: سوسيولوجيا القيم

أوضحت الأقسام السابقة أن كلاً من النقد الأخلاقي والنظريات بصدد دور الأخلاق في الأدب يميلان إلى الاعتماد على مفاهيم معيارية متصارعة عن الأدب والأخلاق وعلى قواعد متنوعة أخرى (بصدد الذات أو التواصل أو المداولات الفردية عن المسؤوليات في المجالين الخاص والعام)، تكون متجذرة في سياقات اجتماعية ـ تاريخية، مؤسسية وثقافية. إن مؤسسات مثل الرقابة والقانون والأنظمة التعليمية والنقد الأدبي ومجموعات القراءة والتعليق ـ الأقل رسمية ـ لا تقوم بخلق الشروط التي يتم داخلها إنتاج الأدب وتداوله وتأويله وتقويمه حسب؛ إنها تتوسط في نقل مفاهيم عن الأدب وما يقابله من تقاليد قراءة وتقويم أيضاً. هنالك بحث اجتماعي وتاريخي غزير في الطريقة التي ترعى بها المؤسسات الأدبية مفاهيم معينة عن الأدب، بضمنها العلاقة بين الأدب والأخلاق، والأدوار المحملة أخلاقياً التي يقوم بها الكتّاب بوصفهم مثقفين في المجال العام ورُسلاً أو قادة يرشدون الناس ويغيرون أسس سلطتهم الأخلاقية (انظر أيضاً بنيشو Benichu  1973؛ فيالا Viala  1985؛ سابيرو Sapiro 2011). يجمع البحث في وقتنا الراهن سوسيولوجيا الأدب وتحليل الخطاب والبلاغة في دراسة "مواقف" المؤلف ومفاتيح الروح الجماعية والصور البلاغية )الموحية مثلاً بصدق المؤلف، وسلطته، أو صحة ما يذهب إليه) التي يقدمها المؤلفون ووكلاؤهم الوسطاء مثل الناشرين أو النقاد، أو دراسة الشفرات الاجتماعية والطرق الحجاجية التقليدية التي تعزى على أساسها مثل هذه المواقف أو الروح الجماعية للمؤلفين أوالساردين أو الشخصيات (انظر أموسي Amossy 2001؛ باروني Baroni 2009؛ منغونيو Maingueneau 2004؛ ميزوز Meizoz 2007؛ كورثالس ألتس 2014).

يمكن الجدال أن وراء مثل هذا المبحث في الموقف والروح الجماعية فكرة أننا لا نستطيع أن نتجنب القيام بأدوار التأطير، مستخدمين "الأطر" بالمعنى الذي قصده ارفن جوفمان Ervin Goffman بوصفها أدوات تسمح للأفراد والجماعات "بتحديد موقع [الأحداث والتجارب] وإدراكها وتعريفها وتصنيفها" وبالتالي منحها المعنى ( جوفمان 1974، 21). إن أفعال تأطير مهمة تحدث، بين أمور أخرى، عند النظر إلى صنف النص الذي يثير توقعات بصدد تمسك المؤلف بالآراء التي يعبر عنها العمل وشعوره بالمسؤولية تجاهها (تثير السيرة الذاتية، القصص الوثائقي docufiction، الرواية الملتزمة أو التاريخية توقعات من هذا النوع أقوى مما تثيره الاصناف القصصية الأخرى). في هذا الاتجاه، تقدم سوسيولوجيا القيمة لدى بولتانسكي وثيفينو Boltanski and Thevenot طرقاً مثمرة لتحليل وفهم التأويلات والتقويمات المتصارعة للموقف الأخلاقي الذي تنقله الأعمال الأدبية أو مؤلفوها. يقع في المركز من مدخلهما فكرة أن الناس يميلون أثناء الخلافات، بل عموماً، إلى إدراج حالة من الأمور أو عمل فني ضمن "عالم" خاص، لنقل عالم الفنون أو العالم "البيتي" الخاص، أو بدلاً من ذلك العوالم "المدنية" العامة (بولتانسكي وثيفينو [1991، 201 ـ 260] يميزان ستة من مثل هذه العوالم). ونحن ندرج العمل الفني أو الفعل اعتماداً على نوع العالم الذي ينتمي إليه ضمن "نظام قيمة" خاص. إذا ما استخدمنا المثال الذي أتينا على ذكره في فقرة المداخل البلاغية، فإننا إذا ما عددنا كتاب جيمس فراي "مليون قطعة صغيرة" مذكراتٍ سيريةً ذاتية، وانه ينتمي في وقت واحد الى عالم "الفن" وعالم "البيت"، فإننا سنقرأه بتوقعات قوية تتعلق بصحة ما يقول المؤلف وصدقه، وبالتالي على وفق نظام تغلب عليه قيمة العالم الخاص/"البيتي"؛ عندما اتضح أن الكتاب في معظمه خيال أدبي صار يُنظر إليه لا بوصفه يتسم بغموض هجين يناسب نظام القيمة الخاص بعالم الفنون، ولكن بوصفه خارقاً لعقد من نوع ما داخل عالم الخاص/"البيتي"، وبالتالي يكاد يكون خيانة شخصية للقارئ (كورثالس ألتس 2014).

تكمن أهمية مثل هذه المنظورات السوسيولوجية البلاغية في أنها تضع الدعاوى العامة بصدد العلاقة بين الأدب والأخلاق في سياق محدد وتدقق فيها؛ وهي تلقي ضوءاً على التفاعل الاجتماعي ـ السيميائي والتفاوض بين المعاني والقيم الضمنية عندما نعزو فائدة أخلاقية محددة إلى الأعمال الأدبية أو مؤلفيها مثلاً.

السيكولوجيا الاجتماعية والإدراكية: الأدب بوصفه مختبراً أخلاقياً

ظل عدد متزايد من أساتذة الأدب منذ سبعينات القرن العشرين يبحثون عن دعم تجريبي من العلوم الإدراكية النفسية للدعاوى المتعلقة بمنافع توفرها قراءة الأدب. يكرس علماء الإدراك اهتماماً متزايداً للأثر الأخلاقي للاستغراق في قراءة الأدب وإلى الطرق التي تحفز بها النصوص الأدبية القدرات الإدراكية للقرّاء مثل نظرية العقل، والتقمص، والتعاطف، وتخيل لعب الدور أو اتخاذ المنظور. والأمر عظيم الأهمية إذا ما أمكن تقديم دليل تجريبي على أن للأدب منافع إدراكية واجتماعية وأخلاقية للأفراد والمجتمع، وأكثر تحديداً الدليل على أن التفاعل مع الأدب يصقل المهارات النقدية والخيالية التي لا غنى عنها للمجتمعات الديمقراطية المعافاة. كما تجادل نوسباوم أيضاً (2010، 95 ـ 96) أن هذا كفيل بتقديم دعم كبير لإعادة تأسيس دور الأدب في التعليم، على سبيل المثال، وفي تلك البرامج التي تقدم القراءة الأدبية لفئة متنوعة من الجماعات المستهدفة تتراوح بين السجناء والذين يعانون من الكآبة والأطباء وغيرهم من العاملين في مجال الرعاية.

لذلك سعى العديد من العلماء إلى إقامة الحجة على صحة الدعاوى، أغلبها من النوع "الإنساني" الذي ناقشناه في الأقسام السابقة، القائلة تحديداً إن للأدب تأثيراً تهذيبياً على القراء، وأنه يحفز قدرتهم على التقمص (هاكمولدر Hakemulder 2000، 158 ـ 161؛ كوبمان Koopman 2016؛ فان ليسا 2016 Van Lissa et. Al.) أو التعاطف (ساكلر Sakler 2013 الذي يركز اهتمامه على التأثيرات المفيدة للقراءة على نمو المراهقين) وأن الأدب يحسن القدرات الاجتماعية للقراء و"مخيلتهم الأخلاقية" على وجه الخصوص (جونسن، 1993)، وعيهم بالآخرين وقدرتهم على فهم الحالات العقلية للآخرين (نظرية العقل؛ انظر أوتلي 2011؛ مار وآخرين 2006؛ جولدشتين وونر 2012؛ كيد وكاستانو Kid and Castano 2013، 2016). وبينما توجد بعض الأدلة على مثل هذه التأثيرات المتنوعة فإن الكثير من مثل هذا البحث التجريبي يسهل نقده ( انظر أيضاً كاراسيولو وفان دورين Caracciolo and Van Duuren 2015؛ ميريتوجا ولوتيكاينين Meretoja and Lyytikainen 2015؛ ميريتوجا 2018): تتعلق التجارب غالباً بالقصص القصيرة، وشذرات من السرد، أو حتى أمثلة قصصية خيالية، وشريحة محدودة جداً من الأعمال الأدبية معظمها قصص سردية من القرنين التاسع عشر والعشرين لها مواضيع أخلاقية بوضوح (معضلات، أفعال تجاوز، علاقات بين ذاتية) مع استبعاد الأعمال التجريبية والمعقدة شكلياً أو العدوانية. لا يمكن التوسع في النتائج لتشمل الأدب برمته. قلة بين الباحثين المذكورين هنا يميز بين الأدب وغير الأدب، القصصي وغير القصصي، أدب النخبة والأدب الأكثر شعبية، وهي فئات يمكن لأخذها بنظر الاعتبار أن يؤثر إلى حد كبير في نتائج البحث. كما أن تعقيد الأثر بعيد المدى للأدب يجعله صعب القياس. أخيراً، يستند البحث التجريبي غالباً إلى الافتراضات "الإنسانية" عن منافع قراءة الأدب بدلاً من القيام ببحوث أكثر انفتاحاً أو على الأقل تضمين البحث تأثيرات يمكن أن تعدّ إشكالية أخلاقياً (جاذبية العنف، زيادة الميل إلى الذاتية ... إلخ).

مثل هذه الانتقادات لا تقلل من أهمية البحث التجريبي في مجال التأثيرات الأخلاقية أو المجتمعية لقراءة الأدب، لكنها تشير إلى حاجة الأساتذة إلى جمع صفوفهم على طول المناهج التأويلية والظاهراتية والتجريبية النفسية لتطوير قدر أكبر من الدقة والإحساس بتعقيد القضايا المطروحة (انظر كاراسيليو وفان دورين 2015؛ ومن أجل مثال ملهم في الطب السردي، انظر شارون Sharon وآخرين 2016).

يبدو مناسباً في ضوء المنظورات السوسيولوجية والميتاتأويلية التي نوقشت آنفاً، أن نولي انتباهاً أكثر نظامية في نطاق مثل هذا البحث التجريبي لتأثير الطرق التي يتم بها استقبال الأدب وتمثله على الأثر الأخلاقي للأدب: على انفراد، بالتفاعل مع آخرين، بوجود مرشد أو عدمه، أو مع وسطاء؟ بأية وسيلة أو في أية حالة يقع التمثل (بضمنها المدونات الرقمية ومجموعات القراءة)؟ يمكن لمناقشة معنى نص ما مع آخرين، في ظروف محددة، أن يؤدي إلى تأمل المرء لطرقه التأويلية والتقويمية وإلى زيادة وعيه بوجود البدائل. يلاحظ أوتلي نفسه: "يكاد يكون للكلام عن القصص الأهمية ذاتها التي يمتلكها التواصل المباشر مع الأدب نفسه في المقام الأول." (2011، 178)، بينما يقرّ هاكمولدر: "يبقى من الأمور التي تنتظر الحسم إن كان بإمكان القراءة أن تحقق الآثار التأكيدية والتطور الأخلاقي وتعزيز التفكير النقدي، أو إن كانت هذه الآثار ناجمة عن تضافر بين القراءة والمهمات التي تعقب القراءة." (2000، 49؛ انظر أيضاً كين 2007، 92؛ كوثالس ألتس 2014).

خاتمة

أسهم المنعطف الأخلاقي بقوة في وضع الأبعاد الوجودية والاجتماعية للأدب مرة أخرى على بساط البحث. في ضوء النقاشات الجارية الآن بصدد شرعنة العلوم الإنسانية والدراسات الأدبية والأدب نفسه في المجتمعات ما بعد الحداثية متعددة الثقافات، أصبح لهذا التأكيد ضرورته الملحة وأهميته. والتعاون المثمر بين المداخل التأويلية والسوسيولوجية والظاهراتية والتجريبية النفسية مطلوب لإلقاء المزيد من الضوء على الظروف التي ترعى أنواعاً معينة من التأثيرات الأخلاقية أو الخاصة بالمجتمع للقراءة الأدبية. إذا ما تمكن البحث التناهجي من إقامة الدليل على بعض الدعاوى التي تستند الآن إلى الاستبطان والرصد غير الرسمي أو التعقل أو إلى بحث تجريبي شديد الضيق، فإن هذا كفيل بدعم تفاعل نظامي ومكثف مع الأدب في التعليم، وهو أمر يؤمن عددٌ كبيرٌ من الدول الآن أن بإمكانهم التخلي عنه. ولكن ربما كان علينا قبول أن تأثيرات الأدب طويلة الأمد يصعب قياسها، كما هو الحال مع الظاهرة الأخلاقية على نحو أوسع، بالرغم من إمكان جمع الكثير من الأدلة في الواقع عبر نطاق متكامل من المناهج. مثل هذا البحث وتطبيقاته المتنوعة في النقد وفي التعليم وفي العلوم الطبية الإنسانية وما إلى ذلك، يجب أن يجري بإدراك واضح لقيمة الافتراضات التي توجه هذه الممارسات.

 إذا ما أخذنا وظائف الأدب التوجيهية والتأملية والنقدية واليوتيوبية بجدية، إذا ما تجنبنا اختزال منظورنا بصدد هذه القضايا إلى القناعات المتبناة بالفعل من قبل، نضيف أهمية قدرتين لا يمكن التقليل من شأنهما إلى القدرة على التعاطف التي طالما تصدى للدفاع عنها الكثيرون هما: أولاً، ممارسة الحوار المبني على الاحترام والخبرة (داخل المرء ذاته وبين المؤولين) ليس بصدد الأعمال الأدبية ذاتها حسب، ولكن بصدد أطرنا التأويلية الخاصة، بما فيها قناعاتنا وتحيزاتنا الأخلاقية أيضاً. وثانياً، المقدرة الجمالية المطلوبة لهذا الحوار، والتي تتضمن استجابة نابهة للأشكال المنطقية بوصفها تعبيراً عن رؤى إلى العالم وأخلاقاً، وكذلك قدراتٍ على التعامل مع التعقيد والبوليفونية والتنافر الإدراكي. نحن بحاجة إلى تجربة "الاستنفار المتأني للقوى المتحاربة"، كما وصفته باربارا جونسون (1980، 5) بدقة إذا ما أردنا للأدب أن يؤدي وظيفته بوصفه "مختبراً أخلاقياً"[2]. وهنا تكون للمدارس والجامعات ونقاد الأدب والقراء مسؤوليتهم.

المصادر:

Althusser, Louis. 2001 (1970). Ideology and Ideological State   Apparatuses (Notes towards an Investigation). In Lenin and Philosophy and Other Essays, ed. Louis Althusser, et  al., 85–126. New York, NY: NYU Press. http://www.jstor.org/table/j.ctt9qgh9v/.

Amossy, Ruth. 2001. Ethos at the Crossroads of Disciplines: Rhetoric, Pragmatics, Sociology. Poetics Today 22 (1): 1–23.

Aristotle. 1987. The Poetics of Aristotle. Translated and Commentary by Stephen Halliwell. London: Bloomsbury.

Bakhtin, Mikhail. 1984. Problems of Dostoevsky’s Poetics. Translated by Caryl Emerson. Manchester: Manchester University Press.

Baroni, Raphaël. 2009. L’Oeuvre du temps: Poétique de la discordance narrative. Paris: Seuil.

Barthes, Roland. 1957. Mythologies. Paris: Seuil.

Bénichou, Paul. 1973. Le Sacre de l’écrivain, 1750–1830: essai sur l’avènement d’un pouvoir spirituel laïque dans la France moderne. Paris: José Corti.

Boltanski, Luc, and Laurent Thévenot. 1991. De la justification: Les économies de la grandeur. Paris: Gallimard.

Booth, Wayne C. 1988. The Company We Keep: An Ethics of Fiction. Berkeley and Los Angeles: University of California Press.

Bourdieu, Pierre. 1996 [1992]. The Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field. Translated by Susan Emanuel. Cambridge: Polity Press.

Bowie, Andrew. 1997. From Romanticism to Critical Theory: The Philosophy of German Literary Theory. London: Routledge.

Brah, Avtar, and Ann Phoenix. 2004. Ain’t I a Woman? Revisiting Intersectionality.  Journal of International Women’s Studies 5 (3): 75–86.

Brockmeier, Jens, and Hanna Meretoja. 2014. Understanding Narrative Hermeneutics. Storyworlds 6 (2): 1–27.

Butler, Judith. 2004. Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence. London and New York, NY: Verso.

. 2009. -------Frames of War: When is Life Grievable? London and New York, NY: Verso.

Caracciolo, Marco, and Thom van Duuren. 2015. Changed by Literature? A Critical Review of Psychological Research on the Effects of Reading Fiction. Interdisciplinary Literary Studies 17 (4): 517–539.

Charon, Rita, Sayantani DasGupta, Nellie Hermann, Craig Irvine, Eric R. Marcus,

Edgar Rivera Colsn, Danielle Spencer, and Maura Spiegel. 2016. The Principles and Practice of Narrative Medicine. Oxford: Oxford University Press.

Davis, Colin. 2010. Critical Excess: Overreading in Derrida, Deleuze, Levinas, Žižek and Cavell. Stanford, CA: Stanford University Press.

Derrida, Jacques. 1994. Force de loi: Le ‘fondement mystique de l’autorité’. Paris:  Éditions Galilée.

Dorleijn, G.J., R.  Grüttemeier, and E.J.  Korthals Altes. 2007. The Autonomy of Literature at the Fins de Siècles (1900 and 2000). A Critical Assessment. XXXII ed.  Leuven, Paris, and Dudley, MA: Peeters.

Eaglestone, Robert. 2004. One and the Same? Ethics, Aesthetics, and Truth. Poetics Today 25 (4): 595–608.

Felski, Rita. 2008. The Uses of Literature. Malden: Blackwell–Wiley.

-----2015. . The Limits of Critique. Chicago: University of Chicago Press.

Gadamer, Hans-Georg. 1990. Gesammelte Werke. Band 1: Wahrheit und Methode.  Tübingen: Mohr.

Gautier, Théophile. 2005. Mademoiselle de Maupin (1835). Translated by Helen Constantine. London: Penguin Books.

Gibson, Andrew. 1999. Postmodernity, Ethics and the Novel: From Leavis to Levinas.  London: Routledge.

Goffman, Erving. 1974. Frame Analysis: An Essay on the Organization of Experience.  New York, NY: Harper and Row.

Goldstein, Thalia R., and Ellen Winner. 2012. Enhancing Empathy and Theory of Mind. Journal of Cognition and Development 13 (1): 19–37.

Gotlib, Anna. 2015. Feminist Ethics and Narrative Ethics. Internet Encyclopedia of Philosophy. http://www.iep.utm.edu/fem-e-n/.

Hakemulder, Frank. 2000. The Moral Laboratory. Amsterdam: John Benjamins Publishing.

Hämäläinen, Nora. 2016. Literature and Moral Theory. London: Bloomsbury.

Johansen, J.  Dines. 2002. Literary Discourse: A Semiotic-Pragmatic Approach to Literature. Toronto: University of Toronto Press.

Johnson, Barbara. 1980. The Critical Difference: Essays in the Contemporary Rhetoric of Reading. Baltimore, MD and London: Johns Hopkins University Press.

Johnson, Mark. 1993. Moral Imagination: Implications of Cognitive Science for Ethics.  Chicago: The University of Chicago Press.

Keen, Suzanne. 2007. Empathy and the Novel. New York, NY and Oxford: Oxford University Press.

Kidd, David Comer, and Emanuele Castano. 2013. Reading Literary Fiction Improves Theory of Mind. Science 342 (6156): 377–380.

----- 2017 . Different Stories: How Levels of Familiarity With Literary and Genre Fiction Related to Mentalizing. Psychology of Aesthetics, Creativity, and the Arts 11 (4): 474–486.

Koopman, Eva Maria. 2016. Effects of ‘Literariness’ on Emotions and on Empathy and Reflection after Reading. Psychology of Aesthetics, Creativity and the Arts 10 (1): 8298.

Korthals Altes, Liesbeth. 2005. Ethical Turn. In Routledge Encyclopedia of Narrative Theory, ed. D. Herman et al., 142–146. London: Routledge.

. 2006..Some Dilemmas of an Ethics of Literature. In Theology and Literature:  Rethinking Reader Responsibility, ed. G. Ortiz and C. Joseph, 15–31. New York,  NY and Houndmills: Palgrave Macmillan.

. 2014. Ethos and Narrative Interpretation: The Negotiation of Values in Fiction.  Lincoln: University of Nebraska Press.

Levinas, Emmanuel. 1991. Otherwise than Being or Beyond Essence. Translated by Alphonso Lingis. Dordrecht: Kluwer Academic Publishers.

Lindemann Nelson, Hilde. 2001. Damaged Identities: Narrative Repair. Ithaca, NY:  Cornell University Press.

Lindemann, Hilde. 2014. Holding and Letting Go: The Social Practice of Personal Identities. Oxford: Oxford University Press.

van Lissa, Caspar J., Marco Caracciolo, et al. 2016. Difficult Empathy. The Effect of Narrative Perspective on Readers’ Engagement with a First-Person Narrator.  DIEGESIS 5 (1): 517–539.

Macherey, Pierre. 2006 (1966). A Theory of Literary Production. Translated by Geoffrey Wall; Rev. ed. with a new intro. Terry Eagleton and new afterword by the author.  London [etc.]: Routledge.

MacIntyre, Alasdair. 1984. After Virtue: A Study in Moral Theory. Notre Dame, IN:  University of Notre Dame Press.

Maingueneau, Dominique. 2004. Le Discours littéraire: Paratopie et scène d’énonciation.  Paris: Armand Colin.

Mar, Raymond A., Keith Oatley, Jacob Hirsh, Jennifer dela Paz, and Jordan B. Peterson. 2006. Bookworms Versus Nerds: Exposure to Fiction Versus Non-fiction, Divergent Associations with Social Ability, and the Simulation of Fictional

Social Worlds. Journal of Research in Personality 40 (5): 694–712.

Meizoz, Jérôme. 2007. Postures littéraires: Mises en scène modernes de l’auteur: essai.  Geneva: Slatkine.

Meretoja, Hanna. 2014. Narrative and Human Existence: Ontology, Epistemology,  and Ethics. New Literary History 45 (1): 89–109.

. 2015. A Sense of History—A Sense of the Possible: Nussbaum and Hermeneutics on the Ethical Potential of Literature. In Values of Literature, ed.

Hanna Meretoja, Saija Isomaa, Pirjo Lyytikäinen, and Kristina Malmio, 25–46.  Leiden: Rodopi Brill.

. 2018.----- The Ethics of Storytelling: Narrative Hermeneutics, History, and the Possible. Oxford and New York: Oxford University Press.

Meretoja, Hanna, and Pirjo Lyytikäinen. 2015. The Plural Values of Literature. In Values of Literature, ed. Hanna Meretoja, Saija Isomaa, Pirjo Lyytikäinen, and Kristina Malmio, 1–24. Leiden: Rodopi Brill.

Musil, Robert. 1978. Der Mann ohne Eigenschaften. Reinbek: Rowohlt, 1978 [1930/32]. Gesammelte Werke VIII: 1351.

Nussbaum, Martha. 1986. The Fragility of Goodness. Cambridge: Cambridge University Press.

 . 1990. ------Love’s Knowledge: Essays on Philosophy and Literature. Oxford: Oxford University Press.

 . 1995.------ Poetic Justice: The Literary Imagination and Public Life. Boston: Beacon Press.

 . 1997.----- Cultivating Humanity: A Classical Defense of Reform in Liberal Education. Cambridge, MA: Harvard University Press.

 . 2010.---- Not for Profit: Why Democracy Needs the Humanities. Princeton, NJ:  Princeton University Press.

Oatley, Keith. 2011. Such Stuff as Dreams: The Psychology of Fiction. Oxford:  Wiley–Blackwell.

Phelan, James. 2007. Experiencing Fiction: Judgments, Progressions, and the Rhetorical Theory of Narrative. Columbus, OH: Ohio University Press.

 . 2014. Narrative Ethics. Living Handbook of Narratology. http://www.lhn.uni-hamburg.de/article/narrative-ethics

Phelan, James, and Peter J. Rabinowitz. 2013. Twain, Huck, Jim, and Us: The Ethics of Progression in Huckleberry Finn. In Narrative Ethics, ed. Jakob Lothe and Jeremy Hawthorn, 153–166. Amsterdam: Rodopi.

Plato. 1992/n.d. Republic. Translated by G.M.A.  Grube, rev. C.D.C.  Reeve.  Indianapolis: Hackett.

Ricoeur, Paul. 1984. Time and Narrative. Vol. 1 (1983). Translated by Kathleen McLaughlin & David Pellauer. Chicago: The University of Chicago Press.

------.1988. Time and Narrative. Vol. 3 (1985). Translated by Kathleen Blamey & David Pellauer. Chicago: The University of Chicago Press.

----- .1992. Oneself as Another (1990). Translated by Kathleen Blamey. Chicago: The University of Chicago Press.

------- 1999. Memory and Forgetting. In Questioning Ethics: Contemporary Debates in Philosophy, ed. Richard Kearney and Mark Dooley, 5–11. London and New York, NY: Routledge.

Rigney, Ann. 2012. The Afterlives of Walter Scott: Memory on the Move. Oxford:  Oxford University Press.

Rorty, Richard. 1989. Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge: Cambridge University Press.

Rothberg, Michael. 2009. Multidirectional Memory: Remembering the Holocaust in the Age of Decolonization. Stanford, CA: Stanford University Press.

. -----  2014. Trauma Theory, Implicated Subjects, and the Question of Israel/Palestine. Profession. https://profession.commons.mla.org/2014/05/02/traumatheory-implicated-subjects-and-the-question-of-israelpalestine/.

Sapiro, Gisèle. 2011. La Responsabilité de l’écrivain. Littérature, droit et morale en France, XIX-XXIème siècle. Paris: Seuil.

Shklovsky, Viktor. 1991. Theory of Prose. Translated by Benjamin Sher. Normal, IL:  Dalkey Archive Press.

Sklar, Howard. 2013. The Art of Sympathy in Fiction. Forms of Ethical and Emotional Persuasion. Amsterdam: John Benjamins.

Taylor, Charles. 1989. Sources of the Self. The Making of the Modern Identity.  Cambridge, MA: Harvard University Press.

Todorov, Tzvetan. 2007. La littérature en péril. Paris: Flammarion.

Viala, Alain. 1985. Naissance de l’écrivain: Sociologie de la littérature à l’âge classique.  Paris: Minuit.

Walker, Margaret Urban. 2007. Moral Understandings: A Feminist Study in Ethics.  2nd ed. Oxford: Oxford University Press.

Wilde, Oscar. 2000. The Complete Letters of Oscar Wilde. Edited by Merlin Holland and Rupert Hart-Davis. London: Fourth Estate.

Zima, Peter V. 1985. Manuel de sociocritique. Paris: Picard.

 

النص الأصلي:

Barry Stocker, Michael Mack - The Palgrave Handbook of Philosophy and Literature-Palgrave Macmillan UK (2018).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المترجم والروائي فلاح رحيم

ولد في العراق، محافظة بابل، عام 1956. حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية الآداب، جامعة بغداد، عام 1978، وعلى الماجستير في الأدب الإنكليزي من كلية الآداب، جامعة بغداد، عام 1989 عن رسالته " اللغة موضوعاً وتقنية في قصائد ديلان توماس". درّس الأدب الإنكليزي واللغة الإنكليزية في كلية التراث الجامعة في بغداد- العراق، وجامعة الفاتح في طرابلس- ليبيا، وترجم إلى العربية عددا من الكتب والروايات منها: - ماريو والساحر، رواية، توماس مان. كتاب الأقلام، عدد 5، 1987. تحت غابة الحليب، مسرحية شعرية، ديلان توماس. كتاب الثقافة الأجنبية، 1989.  فضيحة، رواية، شوساكو أندو، دار المأمون، بغداد- العراق، 1991. - الزمان والسرد، بول ريكور (بالاشتراك مع سعيد الغانمي)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2006.  محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، بول ريكور، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2010. وغيرها من الكتب والمقالات.

 

 

[1] من أجل التوضيح، سنميز بين الخُلقية/الخُلُقي morality/moral والأخلاق/الأخلاقي ethics/ethical .، وهو تمييز شائع في الاستخدام اللغوي اليومي والأكاديمي بالرغم من أنه غير نظامي. نحن نفهم الخُلقي /الخُلقية على أنه يشير إلى الأفكار الإرشادية عن الصواب والخطأ التي تعتمد في العادة على مبادئ في السلوك وقواعد وقيم مشتركة جماعياً يُفترض أنها تحرّك الخيار الفردي والاستعداد لتحمل المسؤولية في الحالات الملموسة. الأخلاقي/ الأخلاق يُفهم على أنه يشير إلى التأمل النقدي في القضايا الخُلقية.

[2] 1.هذه الفكرة ابتكرها الكاتب النمساوي روبرت موزيل Robert Musil (1978، 1351)، وهو أستاذ في الالتباس والتأمل الأخلاقي.