يدور حديث الشاعر والروائي ابراهيم نصر الله حول الأديب البريطاني دنيس جونسون ديفيز: "رائد الترجمة من العربية إلى الإنكليزية". يقتفي أثر حضوره وتعايشه مع أهم الشخصيات المرحلة وآدابها في الثقافة العربية منذ أريعينات القرن الماضي، ويتناول كتابه "ذكريات في الترجمة" كخبرة حرفية تشدد على قول الإبداع في فعل الترجمة والتحويل الثقافي من لغة إلى أخرى.

ذكريات في الترجمة لدنيس جونسون ديفز:

صديق اللغة العربية وحامل صخرتها منذ ستين عام

ابراهيم نصرالله

تبدو رحلة دنيس جونسون ديفز مع ترجمة الأدب العربي أشبه بحكاية سيزيف مع صخرته، ولعل ما يسجل لهذا الصديق الكبير للغة العربية، أنه لم يزل يحمل العبء بحماس قل نظيره، دون أن يتبادر له بعد أكثر من ستين عاما ـ في معادلة حبه للأدب العربي ـ أن يطرح سؤال الربح والخسارة، كما لو أنه أصيب بقصيدة كفافي تلك التي تتمنى أن يكون الطريق إلى إيثاكا أطول وهو يحمل صخرته الفريدة هذه.

إن تأمل حياة دنيس جونسون ديفز هو تأمل لحياة الأدب العربي الحديث برمته، فهذا الصديق الذي (لم ير في بلاده شيئا يُحب) حين عاد إليها طفلا في الثانية عشرة من عمره، هرب منها إلى عالمنا، فعايش كل تحولات الأدب العربي منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، عايش هشاشة الرواية العربية في بداياتها، والتقط بذرة التحوّل، كما حدث حين قرأ لأول مرة رواية (زقاق المدق) وصاح صيحة أرخميدس: لقد وجدتها. وجدتُ تلك الرواية العربية التي يمكن أن تترجم للإنكليزية وتثير الاهتمام. كما عايش فيما بعد، بذور التطوّر التي أحدثت تغييراً حقيقياً في الأدب العربي كما في (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم وقصص يحيي الطاهر عبد الله. كما نعيش معه، في كتابه هذا، لحظات ميلاد أعمال الطيب صالح واحدا بعد آخر. ولعل الطيب صالح من القلة القليلة التي يبدو الكاتب حزيناً بشأنه لأنه لم يعط أكثر، على العكس من كاتب مثل نجيب محفوظ الذي يعلن دنيس فرحه بمنجزه النوعي الكبير.

كانت شهادته التي قدمها في دارة الفنون بعمان، في نهاية القرن الماضي، تبعث الأسى في النفس، وهو يتحدث عن وضع الأدب العربي المترجم إلى الإنكليزية، من خلال تجربته التي أثمرت ثمانية وعشرين كتابا. ولكن، كان لا بد من هذا الكتاب لكي نلمس بأيدينا ونرى بأعيننا كل تلك الحقب التي لم نعشها.

ولا أخفي، أنني أشعر بالدهشة كلما التقيته، وتحدثت معه، فهو الذي كان صديق الكاتب الشاب! نجيب محفوظ في الأربعينات، وأستاذ الطالب إحسان عباس! وصديق يحيى حقي، لويس عوض، توفيق الحكيم، محمود تيمور، ادوار الخراط، الطيب صالح، ويوسف أبو رية، توفيق صايغ، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا منذ أيام الدراسة الجامعية، كما هو صديق سعيد الكفراوي، ومحمد البساطي... اليوم.

ولم يسلم وجوده في القاهرة، من احتكاك قوي بالملك فاروق، الذي أغضبه أحد تعليقات دنيس في الإذاعة على رواية (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم، لمجرد أنه وصفها بأنها صوّرت الفقر الذي عاش في ظله الكثير من الفلاحين المصريين، حيث استبدّ الحنق بالملك فاروق إلى حد أن خطوات كانت بسبيلها إلى أن تتخذ لإعلان جونسون ديفز شخصاً غير مرغوب في وجوده في مصر!.

كتاب (ذكريات في الترجمة) هو شهادة عن قرب في تجربة عدد من أهم الكتاب الذين أثروا في الأدب العربي، وحين يفرد المؤلف فصلاً مستقلاً، في العادة، لواحد من هؤلاء الكتاب، فإنه يقدم شهادة نادرة لا يمكن أن يقدمها أحد سواه، لأن زاوية النظر إلى تجربة هذا الكاتب أو ذاك، هي زاوية مختلفة، لا يمكن أن يقدمها لنا ناقد أو صديق مقرب فقط، كما أن رحلته مع نماذج الأدباء في مصر، هي في الحقيقة رحلة مع كل نماذج الأدب العربي، من حيث نظرة الكتّاب لأنفسهم، أو تواضع بعضهم، أو ذلك المستعد لأن يدفع له مقابل الترجمة، فيرفض المترجم، أو ذاك الذي يقول له: كان عليك أن تكرّس حياتك لترجمة كتبي فقط!!

يسرد دنيس جونسون ديفز في كتابه الأنيق الصادر عن (دار اليربوع) للنشر والتوزيع في دبي 2007، ذكريات الزمن الأول، والزمن التالي، ولعله يسرد ذكريات الزمن القادم لواقع أدبي عربي محاصر بعدم الاهتمام، الداخلي والخارجي؛ والكتاب أيضا شهادة مهمة في معنى الترجمة، ودفاعه عنها باعتبارها فناً، وليست كما يتصوّر البعض بأنها (وضع كلمة محل كلمة)، وشهادة أيضاً في أساليب الكتابة التي يتبعها الكاتب العربي، بعيداً عن وجود محررين يقرأون الكتب قبل نشرها، كما يحدث في العالم الغربي، ما يملأ الكتب بالزوائد والأخطاء، ولا يسلم من ذلك حتى كبار الكتاب. ولعل ما حصل معه ومع نجيب محفوظ النموذج الساطع لهذه المعضلة، فحين راح يترجم له روايته (رحلة ابن فطومة) وجد أن اسم البطل قد تغير فجأة في وسط الكتاب!! فاتصل بمحفوظ هاتفياً بشأن هذا الأمر، فبدا هذا الاكتشاف لصاحب الرواية طريفاً للغاية. فسأله: أي اسم أطلقه عليه إذن؟ فرد محفوظ ضاحكاً: اختر الاسم الذي يعجبك!!

يقدم جونسون ديفز إلى ذلك لمحات طريفة جداً حول عدد من الكتاب العرب، مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس، ولويس عوض الذي لا يحلق ذقنه إلا إذا كان ذاهباً إلى جلسة طه حسين الضرير الأكثر شهرة في العالم العربي!! أو ذاك الكاتب الذي ما إن يصل إلى بيت دنيس حتى يغير على الثلاجة، باحثاً عما يأكله، بسبب فقره الشديد. عايش جونسون ديفز الكُتَّاب العرب حتى أصيب بما أصيبوا به: كتب بلا عوائد، ومصير غامض على الكاتب العربي أن يقطعه وحيداً، دون أن يعثر على من يدعم ترجمات كتابه. يوافق صلاح عبد الصبور، الذي كان يشغل منصب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، على شراء مئة نسخة من مجموعة مترجمة ستنشر ليحيى الطاهر عبد الله، ولكنه يموت، فيذهب جونسون ديفز للقاء من حلَّ مكانه ويناوله الورقة الممهورة بتوقيع عبد الصبور، فيرد هذا: لكن صلاح عبد الصبور مات!! فيقول له جونسون ديفز: وأنا وأنت سنموت كلانا! ويغادر دون أن يشرب قهوته.

وفي مكان آخر ينوه إلى أن دار هاينمان إديوكيشنال طلبت في الثمانينات مبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني فقط، كانت كافية لإنقاذ سلسلة (مؤلفون عرب)، لكنه لم يتمكن من العثور على هذا الدعم العربي البسيط لهذه السلسلة من أي مصدر في العالم العربي.

وهذا يذكرني بما قالته يوماً الدكتورة إيزابيلا كاميرا دافيليتو التي قاتلت طويلاً من أجل الأدب العربي في إيطاليا، حين حدّثتني عن أسباب وقف سلسلة (ذاكرة المتوسط) المختصة بالأدب العربي ـ والتي كان الكتاب يترجم فيها إلى ست أو سبع لغات ـ بأن المشروع الذي دعمه الاتحاد الأوروبي توقّف لأن وزارات الثقافة والسفارات والمؤسسات الثقافية العربية لم تتقدَّم لشراء نسخة واحدة لدعم هذا المشروع، أو لتبدي اهتمامها به على الأقل.

ولهذا فإن صدور كتاب عن دار نشر معقولة، كان يقتضي مرور عشرين عاماً، بعد الانتهاء من ترجمته، كما أن كتباً أخرى كانت تضيع بين أوراق المترجم، لأن زمناً غير عادي قد مر دون العثور على ناشر لها.

يقول جونسون ديفز في كتابه: يعد وضع الكاتب في مصر، على سبيل المثال، أليما اليوم، فالمال الذي يحصل عليه من كتاب، لن يكون كافياً لطبعه على الآلة الكاتبة، وليس الوضع على مستوى العالم أفضل بالنسبة للكاتب العربي: لقد اقتضى الأمر حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل لكي يقوم ناشر من مستوى دار دوبلداي بنشر أعماله. إن الناشرين اليوم هم، في المقام الأول، رجال أعمال، ويمقتون خوض غمار المخاطرات.

حين تصل عوائد نشر مجموعة قصصية ليحيى حقي عن ستة أشهر، يقرر يحيى حقي تأطير الشيك، لأنه يرى أن من العيب صرفه، فالمبلغ المرسل هو ثلاثة جنيهات إسترلينية ونصف الجنيه!! ويُدهش سعيد الكفراوي الذي ترجم له دنيس مجموعة قصصية، حين تقاسما حقوق طبعها بسبب المبلغ المتواضع. يسأل الكفراوي: لكن ألم تكسب عيشك من الترجمة كل هذه السنين؟! وكان الرد الموجز: كلا، ولله الحمد!!

يلخص المؤلف نظرته إلى النص الأدبي العربي فيقول: لم أكترث قط إذا كان كاتب ما مشهوراً من عدمه، حيث كنت على الدوام في حالة بحث عن موهبة جديدة. وهكذا نجده يترجم لكاتبة غير معروفة هي أليفة رفعت، ويفرح حين يعثر على إبداعات يحيي الطاهر ويقاتل من أجل أن ينشرها. إنه ينظر إلى الترجمة كعمل مضن، لا يحصل المرء لقاءه على أجر جيد. وهكذا نجد جونسون ديفز يسعى للعثور على متعة ما فيما يترجمه، لأن هذا هو أضعف الإيمان.

كتاب (ذكريات في الترجمة) الذي ترجمه عن الإنكليزية كامل يوسف حسين، إبحار مذهل في الزمن والذكريات والأمكنة، وحافل بالحيوية والجمال والصدق والتواضع، وبقدر ما هو رحلة تمتد من نهاية الثلاثينات حتي اليوم، مع الأدب العربي، إلا أنها رحلة في روح شفافة، عايشت نمو الأدب العربي الحديث خطوة خطوة، وعايشت أيضا نمو مدن ودول عربية كثيرة عاش فيها المؤلف: السودان، مصر، بيروت، الإمارات، المغرب، العراق وغيرها الكثير.

ولذا، كان تكريمه بمنحه جائزة الشيخ زايد بن سلطان خطوة كبيرة ومهمة، تقديرا لمسيرة حافلة لم تزل تعطي بالحماس نفسه؛ ولذا كان من الطبيعي أن نراه يعلق على هذا التكريم باسماً، في موقع الجائزة، على طريقة أهل مصر الذين عايشهم طويلا (لقد أسعدني كثيراً أن تأتي هذه المبادرة الكريمة في هذا الوقت بصفة خاصة، فمن يدري.. ربما لو أنهم تأخروا أكثر من هذا لما وجدوني!).

ربما ما يتطلع إليه قارئ هذا الكتاب هو أن يقرأ كتاباً آخر، يمثل الوجه الثاني من حياة المؤلف، خارج الترجمة، لأن ما لديه في هذا المجال كبير وغني ومتنوع وسيشكل بالتأكيد إضافة مهمة تضيء الكثير من الأحداث الثقافية والسياسية والإنسانية للعقود السبعة الماضية.