تعيش عدد من الأحياء الشعبية بالعاصمة التونسية، على غرار سيدي حسين، حي الطيران، الحرارية، ابن سينا، والملاسين، تجربة ثقافية مبتكرة وفريدة من نوعها تتمثل في الدورة الأولى من مهرجان “حكاوي الأحياء”، الذي انطلقت فعالياته من 19 يوليو الجاري وتتواصل إلى غاية 3 أغسطس 2025 تحت شعار “لكل حي حكاية” من تنظيم وزارة الثقافة التونسية ممثلة في المندوبية الجهوية للثقافة بتونس.
ويؤمن القائمون على المهرجان بأن الحكاية الشعبية هي إحدى الوسائل للمحافظة على الإرث الثقافي وترسيخ الهوية الثقافية ومن أهم الأشكال التعبيرية، إذ هي خلاصة تجارب الأجيال صيغت في قالب قصصي مشوق، زاخر بالعبر والقيم النبيلة وهي من إبداع الخيال تتجلى فيها حكمة المجتمع، فهي مرآة عاكسة للمجتمع الذي نبتت فيه وتعتبر الحكاية الشعبية أحد أجناس الأدب الشعبي المحببة للكبار والصغار، وذلك لما تتضمنه من عناصر جذب وتشويق وإثراء للخيال بالإضافة إلى ما فيها من قيم إيجابية.
وتعد الحكايات الشعبية من أكثر فنون الأدب الشعبي انتشارا في تونس على غرار بقية البلدان العربية، ومن أهم أنواعها والتي تصنف إلى الحكاية الخرافية، حكاية المعتقدات، حكايات التجارب اليومية، الحكايات التاريخية، قصص الحيوان، الحكايات الهزلية والقصص الدينية والرمزية والاجتماعية. كما تمثل هذه الحكايات جزءا من موروث تونس الشعبي، وخلاصة إفرازات لتفاعلات الناس مع ظروف الحياة التي عاشوها منذ القدم. وتعتبر هذه الحكايات إحدى الدعائم المهمة في صقل شخصية الطفل، وهو ما انتبه إليه المنظمون عبر توفير ورشات وفعاليات للأجيال الجديدة. يهدف المهرجان الجديد الفريد إلى رد الاعتبار لفن الحكي الشعبي، باعتباره شكلاً من أشكال التعبير الفني والشفهي العريق، ويعيد توظيفه كوسيلة لإحياء الذاكرة الجماعية ومقاومة التهميش الثقافي والاجتماعي في أوساط الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية.
مهرجان “حكاوي الأحياء” ليس تظاهرة عابرة، بل هو مشروع ثقافي مواطني يراهن على القرب، التشاركية، والإنصات، ودعوة مفتوحة لأهالي الأحياء ليكونوا مشاركين لا مجرد متفرجين، ولفن الحكي ليستعيد مكانته في الشارع والمدرسة. يقدم المهرجان برنامجًا ثريًا ومتنوعًا يمزج بين الفني والتربوي، والتوثيقي والترفيهي، حيث يشمل: ورشات حية في الحكي والتعبير الشفوي والكتابة الإبداعية لفائدة الأطفال والشباب. كما يقدم الحدث ندوات فكرية يشارك فيها باحثون ومبدعون تناقش دور الذاكرة الشعبية وفن الحكي في مقاومة التهميش. إضافة إلى تنظيم مسابقات شبابية في السرد الشفوي، الرسم، والمونولوغ الشعبي. وعلاوة على ذلك يقدم المهرجان عروضا فنية متنوعة بين المسرح، الفرجة الشعبية، والموسيقى البديلة، تُقام في الساحات والمدارس والفضاءات المفتوحة. كما ينظم فقرة إحياء للذاكرة الشعبية عبر استحضار شخصيات وأحداث من تاريخ الأحياء، تُروى على لسان كبار السن والشباب، في مشهد تفاعلي حي يعيد الاعتبار للهوية المحلية والذاكرة المشتركة. بهذه الفقرات، يسعى مهرجان “حكاوي الأحياء” إلى تحويل كل حي إلى ورشة حية للإبداع والمشاركة والتعبير، في تجربة جماعية تعيد الربط بين الثقافة والمجتمع، وتثبت أن لكل حي حكاية تستحق أن تُروى، ولكل صوت ذاكرة لا تموت.
وتسلط التظاهرة الضوء على تنوع الحكايات الشعبية في تونس، وعلى دورها البارز كجزء هام من التراث الشفهي للبلاد، إذ تنتشر في مختلف المناطق التونسية. تتنوع هذه الحكايات بين قصص خيالية، وحكايات عن شخصيات تاريخية، وأساطير محلية، وأمثال شعبية، ولكنها تتشابه في قدرتها الكبيرة على استقطاب المتلقي، كما لا تزال مصدرا محوريا للأخلاق، إذ تساهم الحكايات الشعبية في نقل القيم والأخلاق والتقاليد من جيل إلى جيل، كما تعكس الحكايات هوية الشعب التونسي وتاريخه وثقافته، وتقدم دروسًا وعبرًا حول الحياة والمجتمع، إضافة إلى دورها في الحفاظ على اللغة العامية التونسية وتداولها.
الحكايات الشعبية في تونس ليست مجرد قصص، بل هي جزء من الهوية الثقافية للبلاد، وتلعب دورًا هامًا في نقل القيم والمعرفة والتراث للأجيال القادمة، وهذا ما يعول عليه المهرجان الجديد الذي يذهب بالفعاليات إلى مناطق لطالما بقيت مهمشة ثقافيا بعيدة عن الاهتمام رغم قربها من العاصمة.
وتعتبر الأحياء الشعبية التي تحيط بمدينة تونس مناطق مهملة نسبيا، خاصة في ما يقدم إلى أهلها من نشاط ثقافي، إذ لا تراعي أغلب الأنشطة اهتمامات السكان ولا تلبي انتظاراتهم، هذا ناهيك عن قلتها، ما جعل هذه الأحياء مناطق ظل تعاني من ارتفاع معدل الجريمة والإدمان والعنف، ومن شأن الفعل الثقافي المدروس والملائم أن يساعد في انتشال هذه الأحياء من حالات اليأس والتهميش إلى التلقي والانخراط في الإنتاج الثقافي الذي سيكون له انعكاس كبير. كما أن المهرجان يمثل منصة لاكتشاف المواهب وصقلها.