كتبت هذه القصيدة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، لكنها ما زالت تسري في الشعرية العراقية المعاصرة، فقد ارتبطت القصيدة بالشاعر العراقي الكبير موفق محمد (1948 ـ 2025) وصورت مشاعره بين الدعوة للرحيل خارج العراق أو البقاء تحت وطأة الحصار والجوع!!! وقد كتبها شاعر ماهر، استطاع أن ينوع في التشكيلات الموسيقية للقصيدة، وكأنها تعرض لنا تموجات المشاعر المحتدمة في الحياة!!

دعوة للرحيل

منـذر عبد الحر

 

إلى موفق محمّد

 

مدخل

أجرى تعديلا على صباحه الجديد

وبدل أن يفتح النافذة

جرى على السلّم المتروك

دخل غارا

حنّط فيه فاختاته

وصبايا أرقه

لم ينتظر أحدا

ولم يلوّح لجار

لم يبكِ...

لكن جراحه أطلقت أغنية

وخلدت إلى النوم

هو مترف بعزلته

وغيوم أصدقائه

وحرائق لياليه

هو الذي جمع آلامه وأخفاها

ليضلل الندم

ويسير إلى الأسى سعيدا

.......................

النص:

المدن كلّها

ضعها في قنينة

وارمها في ساقية

إنها ليست لك

خذ حذرك منها

فيها قوارض

وبنات آوى

وخفايا ...

اشدّ الريح من شعرها

اطوها ...

وتمتّع بالرحيل إلى قريتك

سترى فيها احتراقاتك

وصبايا خجلات

أدمن الصبح عثراتهن

ومن سمرتهن تعلّمت الشمس الغروب

دع الصيد في البرك

وتأمّل غناء الصياد في زورق

تتسابق على جانبيه العرائس

وتحلّق فوقه النوارس

عزاؤك ...أنك لست وحدك

فتسلّق بوحك

وأنت تضع الحنين شراعا

وتشير إلى نجم لم ينطفئ بعد

قل لجوعك ...مجدا أيها القربان

عانق الوحشة وهي تفتح ضمادها

قل لسمائك ...أججي مطر القلب

واحفظيه في حقل الروح

قل لنثارك ..احترق ... وتوزّع رمادا

فل لأصابعك التي جففت الفراشات والزهور

وزّعي دمك على سواقي الطفولة

دع الرسائل للسبات

دع بريقهم ...وصياحهم ...وهياج أسنانهم

دعهم بعيدا

ينامون على أسرّة الندم

واطلق الألم أغنيات:

غنّ...

النهر يشير إليك

والقمر المنسيّ ببابك

يسأل عن ضيفيك

دع وحشة جرحك تتجوّل في البيت

دع صمتك يحيي ويميت

دع نار حياتك تحرق ما يأتيك

دع أضاحيك تنمو على شفاه النهر

دع أكفهم تشتعل في أدغال وحشتك

دع الجدران تحلم بأنين ...وهدهدة

وحفيف

أزح الصور والستائر

فقد غادر الأصدقاء

عفوا ..

لم يأت الأصدقاء هذه الليلة

بعضهم مشغول بالبحث عنك

والآخر أخذ منك مضغة من العزلة

وتباهى بها

دعهم ...

ينزلون في الصباح

بثيابهم للنهر

ويخرجون ضاحكين ملء حيرتهم

بينما

تختبئ خلف شجيرة

ها هو أبوك

يعبر الجسر بخطى ثقيلة

وها أنت تفرّ إلى أمّك

اهرب ...منهما ..تسلّق السلّم بهدوء

اخلع نعيلك

اخلع

اخلع ذاكرتك

دع (السطح) للعناكب

و(التنّور) للفضلات

والجارة لعنسها

ها هو الهارب الأول يطرق بابك

فاعطه حصاه من الشجن

غنّ

الليل طويل

والعمر سؤال

بين الأقداح يسيل

الخمر – اليوم – قليل

فافتح شباكك واصرخ

يا دنيا غرّي غيري

فأنا مأسور في سرّي

وأنا

آهٍ يا دنيا

إنهدّ الحيل

جاءك الصباح

بندمه وعرباته

ولهاث باعته

فارم بظنونك مع سيجارتك الأخيرة

دع الشمس تسيل على النوافذ

دع العناكب تتسرّب إلى ذبولها

دع حرقة الدمع الآن

دع عينيك ترحلان مع الفرح الموقوت

تذكّر فاختة هدلت في قلبك يوما

هي الآن ترعى نخلة الجنون

تسمّي الخوف شراعا

والليل قاربا

سيثقب الآن

عد ...يا موفق ...

سترى بيتك ضاجّا بالملائكة

بينهم صبرك

يتلو عليهم مقاطع منسيّة

من قصائدك

هي أغنياتك بينهم

اعطهم من ضوء أقمارك المخبأة

افرش لهم سجّادة همّك

لوعة ...لوعة

وغنّ ...غنّ لهم وحدك

يا وحشة هذي الدار

يا جوقة أشعار

يا ولدا فوق الحائط

يا امرأة تتدلى من غصن ساقط

يا أصحاب الوحشة

حنّوا أيديكم بدم حار

لا يعرف حزن موفق

إلا السمّار

جرحك الذي لم يفطم بعد

تجوّل في المدينة

حائرا بأيّ ضماد يبدأ

لم تعد الرسائل لذّاتٍ

ولم يعد أصحابها مأوى لروحك

هم ...

يتسكعون تحت ناطحات السحاب

بينما ..

تتسكع ناطحات السحاب تحت سريرك

أخبرتهم ..

أن لك بحارا وموانئ

تمتد من عينيك حتى ذبولهم

لقد كرهت الزهور الصناعية التي يرسلونها

كرهت أقنعتهم

وهم يتباهون بها في الصور

التي تضج بكاء

لو يعلمون ...

كم من مدنهم تلقيها يوميا من الجسر

دعهم يرتّقون أحزانهم في الحانات

هم الذين تاجروا بألمك

كي يحصلوا على ذلّ ملوّن

.....................

بلادي التي

ما انحنت ...مثلما نخلتي

تنام جميع البيوت

تنام الحقول

تنام السماء على ليلها

وتبقى تطلّ على صحوتي

تضمّد جرحا

وترعى أخاه

وتحنو على ممسك الجمرة

وتمتدّ حتى عيون سؤال

ينام سعيدا على حسرتي

بلادي العراق الذي ما انحنى

وظلّ أمينا على جنتي

بلادي ...

الصبايا المطلاّت من وردتي

بلادي ...

دموع حنين

بعينيّ أمّ جنوبيّة

أطلقت لهفتي

بلادي النبيّ السجين

وإن همّ فيها ..وإن همّت

ولكنّ شاهدهم حاضر

وهذا القميص الذي قدّت

بلادي ...التي مثلما نخلتي

أظلّ عزيزا بها ما حييت

ولا أرتدي ذلّة الغربة

بلادي ...العراق ...التراب النديّ

الهواء العليل

وشعري المراق مع الدمعة

فكيف أسافر

كيف الجذور

تضمّ خطاها إلى رحلتي

وكيف الحقيبة تحوي ترابا

وجذعا ..وسعفا

وحشدا من الأولياء

وبعضا من الأمنيات التي ولّت

وكيف سأحمل كلّ الفرات

وماء الفرات غدا خمرتي

وكيف أطيق بلاد الغريب

أأرضى بلادا بلا نخلتي ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • منذر عبد الحر: شاعر عراقيّ، مواليد البصرة 1961، ومقيم الآن في بغداد، حاصل علة شهادة البكلوريوس في الصحافة والاعلام. شاعر وصحفي وكاتب روائي، مسؤول القسم الثقافي وملحق المتفرج في جريدة الدستور، عمل بصفة مدير للتحرير، ورئيس للتحرير في عدد من مجلات وزارة الثقافة.