تُعرّف المصادفة في الفلسفة بانها: وقوع حدث او ظاهرة دون تخطيط او قصد مسبق، ومن منظور أرسطو تعد جزء من الاحداث الطبيعية التي تحدث، دون ان يكون هناك سبب مباشر يؤثر فيها،فأية مصادفة طيبة حدثت لي عندما تعرفت إلى الدكتور سعيد عدنان!!
ففي العام 2018م طلب مني صديقي الدكتور علي إبراهيم ضرورة التعرف إلى شخصية اكاديمية وأدبية مرموقة عمل معه في كلية الآداب بقسم اللغة العربية في جامعة بابل، وأثارت احترامه وتقديره،ثم انتقل مؤخرا للتدريس في جامعة كربلاء، وذكر لي كثيرا من خصاله الحميدة، لكنه حذرني من واحدة هي (انه مختصر!!) ودون أي تأخير اتصلت بالدكتور سعيد عدنان، فوجدته يعرفني، فلم اتوانى عن توجيه دعوة حضور لحفل تقيمه المختصة الثقافية في اللجنة المحلية للحزبالشيوعي في كربلاء، للاحتفاء بالشاعر الشاب عمر السراي، وكان في مقدمة الحاضرين الراحل إبراهيم الخياط الأمين العام لاتحاد الادباء والكتاب، وكوكبة من اعلام الادب، من الأكاديميين: د.احمد الزبيدي، د. جاسم محمد جسام، ود. عمار المسعودي، ود.وسيم درويش وشخصيات حزبية وجمهور غفير من النخب الثقافية في المحافظة.
وفي هذا الوقت صدر كتاب للأستاذ الباحث رضا الظاهر عنوانه (هل كان ماركس على حق) وقد أرسل نسخة منه للدكتور سعيد وعليها اهداء، وطلب مني ايصالها،فكانت هذه فرصة ذهبية لي للتعرف عليه أكثر، وفتح نافذة حوار نسفت فكرة انه (مقل في الكلام!) لقد تجاذبنا أطراف الحديث لأكثر من ساعتين بمختلف القضايا، ولم اخرج من لقائه خال الوفاض، بل توجت زيارتي موافقته على تقديم محاضرة عن (المقالة الأدبية) في نادي الكتاب، أحد المنابر التنويرية الرصينة،لتكون الأولى له في فضاء مفتوح على حدائق نقابة المعلمين مقر نادي الكتاب.
وقد انمازتالأمسية بجمال حضور طلبته الذين أشرف على رسائلهم وإطريحهم في الماجستير والدكتوراه، وقد حجوا لسماع استاذهمالجليل، قادمين من بغداد، ومحافظات الفرات الأوسط.. وقد تحدث في الأمسية عن المقالة الأدبية ... النشأة والتكوين وفرسانها قائلا:
في منتصف القرن التاسع عشر ظهر اول من كتب هذا الجنسالأدبي في العالم هو الكاتب الفرنسي مونتين في كتاب صدر له نهاية القرن السادس عشر، ولكن هناك من يقول إن الاديب البغدادي ابن الجوزي 1116 للميلاد سبق مونتين بقرون، وقد عرف بكتابه (صيد الخاطر) ولاحت بشائر نشأتها عند جمال الدين الافغاني، أحد اعلام حركة النهضة، والشيخ محمد عبده،ثمّ احمد لطفي السيد، وقد ازدهرت في ثلاثينيات القرن العشرين. ولا شك في ان (المقالة الأدبية)تشكل أحد الاجناس النثرية التي من شروط كتابتها الابداع الأصيل، والتفرد باللغة والموقف الإنساني، ان مجرد التفكير بكتابتها يتطلب جهدا فكريا وفلسفيا، والماما شاملا ببواطن الأمور وخفاياها، ثمّ استطرد مسترسلا بلغة عربية فصيحة، أسماء كل من كتب هذا اللون الفني النفيس، أمثال طه حسين، وزكي نجيب محمود، واحمد حسن الزيات، والمازني ومن العراق ذكر أشهر المقاليين: علي جواد الطاهر، ويوسف الصائغ واخرين، زمن المؤسف ان المقالة اخذت بالانحسار برحيل تلك الأسماء اللامعة!
سألته مرة عن الكاتب المقالي الذي قرأه محققا من أن للمقال دور في التصويب فأجاب:
- المقالة الأدبية لا تقوم على الأفكار وحدها، انما الفكر فيها ممزوج بعاطفة هادئة، وبخيال مقتصد، ومؤدى بلغة طرية شائقة تتفن في طرائق الصياغة، وقد حرصت فيما اكتب، على نمط يحقق قدرا من حسن الأداء. نستخلص مما تقدم ان كاتب المقالة، لابد ان يكون ذي موهبة بثرائها وسخائها، وأيضا يمتلك ثقافة واسعة عريضة وعقل نقدي، وافق مفتوح، وتلك الصفات وجدها الدكتور سعيد عند عميد الادب العربي الدكتور طه حسين واصفا اياه بسيد النثر العربي الحديث (ادب المقالة وأدباءها).
وقد لاقت كتابات الدكتور سعيد الذي انفرد في عصرنا الحالي بإعادة الروح للمقالة الأدبية ولفت اليهاالأنظار، الامر الذي دفع الباحثين الى دراسة مقالاته وتحليلها.وفي مقدمتهم الدكتور عزيز الموسوي في كتابه (سيمياءالثقافة) * الصادر عن وزارة الثقافة العراقية وفيه بين اهتمام د. سعيد بالنقد المقالي الى جانب قراءته الدقيقة الواضحة لأعلامالادب والفكر، ودراسته العميقة لصورة المثقف والهوية والسلطة.
وكتب عنه ايضا الشاعر سامي مهدي مقالة نشرها في جريدة الدستوربمناسبة صدور كتابه (ادب المقالة وأدباؤها) في العام 2013 قال فيه:
ان الدكتور سعيد عدنان كاتب مبدع من كتاب المقالة الأدبية الحديثة، ويشاطرني الراي الأستاذ محمد عبد الزهرة محسن **إذ يقول: الدكتور سعيد مقالي من طراز فريد يكتب المقالة الرصينة المكثفة التي تصل الى هدفها بأقصر السبل من غير جور على الهدف ومهمة التوصيل. بينما يؤكد السيد محمد حاذور اهم خصال المقالة الأدبية عند د. سعيد عدنان: بانه نحت وصاغ لنفسه أسلوبا فريدا في كتابة المقالة، فلغته يسيرة بين يديه، وللقارئ لكنها مشبعة بالمضامين وهي عنده أيضا دراسة نقدية بالغة الدقة والوصف مزجا من القديم والمعاصر. تجد تلك العناية الشديدة بالمفردة التي لا يغادرها دون ان يضفي عليها جمال الحركات كصائغ ماهر يحرك ويعيد الفاظا مثلما يقال لا يترك شاردة ولا واردة.
ومن المفيد ان اذكر، أنني قد احصيت أكثر من خمسين مقالا كتبت من تموز 2010لغاية تموز 2023 م تبدأ بـ (رشدي العامل ودربه الحجري) وانتهاء بـ (ما بين الفلسفة والادب). وبعد هذا التاريخ اخذت مقالاته تنشر تباعا في جريدة طريق الشعب، منها مقالات عن الراحل الدكتور هاشم الطعان، والدكتور حسين قاسم العزيز، وابن مسكويه، ... والقائمة تطول.
ويحق لي اليوم الحديث عن الصديق الدكتور سعيد عدنان الذيتربطني معه صداقة وثيقة اعتز بها كثيرا، والتي باتت تقترب من العقد، ولاابالغ إذا قلت انه يمتلك ذات الصفات التي وصف بها استاذه الراحل الطاهر طاب ثراه، وقد قلت في أكثر من مناسبة، انه يسيرعلى خطاه، وانه الامتداد الطبيعي له، محتفظا بهويته ورؤيته الخاصة التي تميزه وهنا يذكر بكل اعتزاز استاذه الطاهر قائلا:
- ((صحبت استاذي علي جواد الطاهر مدة عشرين سنة متصلة من العام 1976 حتى تشرين اول 1996 م هي خير سني العمر، لم انقطع عنه فيها يحب الخير حبا صادقا، يحب الناس كل الناس ولا يقربك منه الا العمل الصالح ولا يجزي السيئة الا بالحسنة)).
ان منجز الدكتور سعيد عدنان في إعادة الروح للمقالة الأدبية في عصر العولمة المتوحشة لم تأت من فراغ، بل جاءت عبر سعي طويلفي البحث والدراسة والموهبة التي اهلته لاستيعاب كتابات الاولين ضافيا عليها روح العصر ببراعة صائغ ماهر ان ما يكتبه تجاوز معنى الفائدة بل يشعر القارئ انه قابض على جوهرة ثمينة في زمن الرماد والصدأ (الياسري)**.
لقد بدا الدكتور سعيد عدنان مسيرته البحثية مع الفلسفة والنقد التي نال عنها شهادة الماجستير (الاتجاهات الفلسفية في النقد عن العرب) 1980-1981م وأعقب ذلك الجهد دراسة الشعر والفكر لنيل شهادة الدكتوراه وبأشراف الراحل الدكتور علي جواد الطاهر عن اطروحته (الشعر والفكر عند العرب من أواسط القرن الثاني حتى أوائل القرن السادس عشر).
صدرت له الاعمال التالية:
1. ادب المقالة وأدباؤها 2. في افق الادب 3. مقالات في الادب والثقافة 4. علي جواد الطاهر الناقد المقالي.
وله العديد من المحاضرات الموثقة (فيديو) عن فن السيرة الذاتية النشأة والتطور والتحقيق، فن وعلم، وعبد الاله احمد مؤرخ الفن القصصي في العراق، ومقاربة بين الرواية والسيرة الذاتية، وأخرى لا تحصى كان اخرها في ملتقى الحوار بين ثقافتين الذي انعقد مؤخرا في الرياض، المملكة العربية السعودية والقى محاضرة عن الدكتور علي جواد الطاهر.
لقد صان علامتنا سعيد عدنان الأمانة وأعاد الروح للمقالة الأدبية بأبهى صورة.
* (الموسوعة الثقافية العدد 177)
** مقال محمد عبد الزهرة محسن (الحوار المتمدن23 أكتوبر2020).