انها مهمة صعبة أن تتابع فيها 39 قصة قصيرة عراقيةلأسماء اغلبها رسخت وجودها الادبي والثقافي في زمن تقلبت فيها الافكار والاشكال الفنية، ومرت عليها عواصف السياسة والتبدلات الاجتماعية والثقافية.
وقدمت مجلة الاقلام في عددها الثالث لعام 2024 الخاص بالقصة القصيرة في العراق نقدا ومذكرات ونماذج قصصية لأسماء عرفت بهذا الفن، واجتهدت في تقديم اشكال مختلفة لفن القصة القصيرة، وهو العدد المختص الثاني بعد مضي 36 عاما حين قدمت الاقلام عام 1988 عددها الخاص بالقصة القصيرة.حيث كبرت المجلة، مع عمر رئيس التحرير (علي سعدون)الذي يكتب في اخر سطر (لقد اجتهدنا كثيرا قدر المستطاع في اعادة الاعتبار للقصة القصيرة في العراق بعد هجران ذوي القربى ,نعم نزعم اننا فعلنا ذلك .ولا ادري ان كنا نجحنا فيه ام لا؟!!)ص 392 .
وهنا يحاول مدير التحرير الدفاع عن شكل العدد ومحتواه وهو يترأس الاقلام في مهمة جديدة بالتعاون مع رئيس مجلس ادارتها الدكتور عارف الساعدي والعاملين معه، فان له كل الحق في ابداء القلق المثمر ازاء تاريخ طويل وراسخ لفن القصة القصيرة العراقية.
إلا انه يكتب ما يعطيه الحق في ابداء راي نقدي مميز بقوله(يذهب القاص في السرد القصير بمحض ارادته وبكل ما يحمله وبكل ما يحمل من تحديات باللغة والتعبير والخيال ويغامر بالكتابة التي لا تنجح الا عند عدد قليل بسبب ندرة هذا الفن ونشدانه للتكثيف وقوة الاداء وفرادة الأسلوب، القصة القصيرة اذا هي الفن الأصعب، الفن الذي يجعلك على المحك في تحقيق لحظة فهم عميق للحياة من خلال قصة لا مساحة واسعة امامها) على سعدون ص 292 الاقلام
ونحن هنا نتعامل مع نصوص العدد بوصفها نماذج نشرت في زمن توثيقي لا فكاك منه، مدركين عدم قدرة المجلة على الالمام بكل النماذج والاسماء لانها مهمة مستحيلة وتحتاج الى أكثر من عدد، والمفهرسون أقرب لهذه المهمة من مجلة فصلية تسعى للاحتفاء بظاهرة القصة القصيرة في العراق، ولعل اعدادا اخرى تلم بنماذج تستحق النشر والاهتمام.
مع جميع الاحالات الى التاريخ الشخصي لكتاب القصة المشاركين قدر المستطاع، والى النظر للقصة المنشورة وكاننا نمشي وراء مفهوم موت المؤلف، فإننا مطالبون بتبيان الراي بشكل القصة القصيرة العراقية الحالية وفق ما نشر في عدد الأقلام، وهذه من أصعب المهام في بلد مثل العراق، تتوافر فيه كثرة وافرة من المبدعين، وكأنهم جبلوا على الكتابة دون غيرهم.
سعيا منا لفرز المبتغى الفني لقصص العدد فإننا، سنذهب الى تفصيل عدد من المثابات التي نفترضها فاصلة في معرفة المنطقة التي يشتغل عليها المؤلف، والتطور المفترض حصوله بعد ان قطعت القصة القصيرة شوطا كبيراعبر مسيرتها من الواقعية الى التجريب والاسطورة والتلاقح مع الادب العالمي خاصة في مجال القصة القصيرة، لحد عام 2003 حيث حصل الانفتاح على كتابة ونشر الرواية العراقية بالترافق مع القصة القصيرة.ولاجل معاينة خاصة ذهبنا الى نهايات القصص، مفترضين ان هذا الاهتمام النقدي يوصلنا الى اسرار الكتابة عند المؤلفين، ومعرفة مقاصدهم الفنية في القصة القصيرة.
"نهايات القصص "
تشكل نهايات القصص القصيرة، تنويرا ضروريا لتوصيل القارئ الى خلاصة مثمرة لسعي السرد الى تكوين المحتوى السردي الفكري للعمل القصصي وتفصح عن الثمرة الاخيرة المبتغاةلدى المؤلف، ويمكننا تقسيم القصص الى مجاميع وفقا للمتشابهات في طريقة كتابة النهاية، وفي افتراض صحة وجهة نظرنا لهذا الامر المهم في شروط القصة القصيرة التي يحدد فضائها بعدد جدا قليل من الصفحات، وهذه النسبة تستدعيها الضرورة الفنية التي تحكم السرد المختزل عكس السرد الممتد في الرواية.وسنجملها تحت عنوانات فرعية مرقمة.
1ـ "نهايات متوافقة"
تنتهي قصة القاص حسب الله يحيى(عفونة امرأة سعيدة)ص238 بالتوافق مع المتن والعنوان (كنت ادرك ان تماما ان نتانة هذه المرأة لا تحتمل، نتانة تقبض الروحوتحيل المرء الى عفن يدور حوله وتضيق عليه خطاه، كنت احسني وانا سجين عطر فاسد، لمرأةنتنة ..لا خلاص لي منه الا بخنق انفاس هذا العطر ..الا عطر ابدا)وهو يحمل تاويلا بارتكاب قطيعة تامة مع بطلة القصة على وفق مجريات السرد، انها نهاية مقصودة، تحققت بفعل فكرة السارد.
وتنساب نهاية قصة القاص عائد خصباك (قداس جنائزي)ص 288 مع ثيمة وقائع السرد والعنوان (سألت باسل بصوت خافت ان كان يضايقه الان في هذه الساعة من الليل ان يسمع مقطعا من موسيقى القداس الجنائزي لموتسارت، عندي صديق وصل للتو، طلبت ان اعزف له هذه الموسيقى ولم يمانع.عاد باسل الى جلسته ولم تكن غير دقائق بعدها بدأ العزف)حيث يشير الى ان الحياة عبارة عن خسارات وحروب وفقدان ومحاولة تعويض بالموسيقى الحزينة.
وكذلك يتوافق عنوان القاصة بثينة الناصري (عازف الطبل الصغير)ص291 مع تحول الطبلة الممزق الى مايشبه البوق الناطق لكي يستطيع بطل القصة ان يتوافق مع محيطه (رد عليها الصمت ولكن بعد عدة ضربات اخرى انفتح باب غرفته فجاة وخرج الفتى وقد وضع فوهة الطبلة على فمه مثل بوق)بوصف صوت الطبلة اشهار خارجي يمثل امكانية الصغير في التعايش بشكل حر في عالم يضج بالجدران.
وتسير قصة القاص محمد سعدون السباهي متماهية مع عنوانها الغريب (بيض السلاحف)ص294 بوصفه رمزا للاخر الغربي الى نهايتها مدفوعة باكتناز السرد نحو نهايته، باتساق متظافر مع الدافق النفسي للبطل(شكرها على طبق بيض السلاحف العجيب، خطف حقيبته، اوقف اول تاكسي في طريقه الى المطار كان النهار قد اوشك على الغروبالضباب يتكثفن ورائحة بيض السلاحف المقلي صادمة تنطلق من اكثر من مطبخ، ارتخى في مقعده ولأول مرة في حياتهيبتسم راضيا عن نفسه) يعود البطل الى مكمنه الاول رغم احساسه بالخطر الا ان النهاية تعني الدفاع عن الذاكرة، ولو كانت تفاصيلها جارحة هربا من رائحة بيض السلاحف.ويكثف لنا القاص خبرته مستفيدا من ادب الرحلات الذي يتميز به في مسيرته الادبية الطويلة.
ويلخص القاص ثامر معيوف في قصته(مهجة الريح)ص299 الطويلة نسبيا، ثيمة الحرب ورفض بطله الحرب في قصة تنتمي الى اشارات السيناريو في مكانات كثيرة بدلا من تلاحم السرد المختصرفي نهاية متلاحمة مع انتقالات البطل بين الواقع والغياب عنه كذلك(وبصورة محيرة اصبح هو –وحده- من يدخل ويخرج في الوقت ذاته ..لذلك اسند راسه الى ظهر المقعد وغاب في ميتته التاسعة والاخيرة)ثمة اتساق وتوافق بين لغة السرد وتحرك البطل داخل ثيمة القصة.
وتنهي قصة القاص محمد مزيد(حارس المتحف الهولندي)ص306 مع توافق السرد الذي يستقي انسيابيته من ايقاع ألف ليلة وليلة دون تكلف في سردية خيالية حين تتحرك شخصيات اللوحات مع الحارس في المتحف (فخلعت زوجته الهولندية ملابسها ونامت بجانب زوجها وسط دهشة فتيات اللوحات فهن لا يعرفن الاساليب التي تعرفها زوجة الحارس غطت الفتيات وجههن وهن يتضاحكن بصمت من الطريقة التي اخذت بها زوجة الحارس تمارس الحب مع زوجها ثم نامت بجانبه نوما هانئا الى الصباح.
ولا تحار في تشخيص طبيعة نهاية قصة القاص سلام ابراهيم (صوت ملائكي)ص308 نسبة لتلاحم السرد الواقعي لحد الانكشاف دون موانع حتى تبصر وقائع الغربة والعلاقات ودواخل البشر في بوح قريب الى القارئ وشغف في حب اكمال السرد(يتذكر في جلسته المخذولة على السرير لهفة عناقها في عتمة غرفته نبضها المسرع الخارق كل ركن من انحائه، صوت لهاثها اللافح عنقه وهي تبتعد قليلا بصدرها عنه مبقية على تلاصقهما المحكم بنقطةالسرة...ليخوض بصحبتها عسير التجربة التي رست بهما الايام في هذه البقعة النائية على جزيرة تطفو على بحر الشمال البارد الموحش) وثمة نهايات كثيرة يمكن اقتطاعها من السرد، نسبة للتوافق المتين في خطاب القاص الذي لايخفي شيئا من دواخله الفائرة ببساطة وعمق.
ولا يذهب بعيدا القاص محمد سهيل احمد في قصته (تحرير السمكة)ص313 عن عنوانه وبساطة ذاكرته دون حذلقة سردية مفتعلة (يداي وهما تمتدان نحو السمكة الفضية المغزلية الهيكل العالقة في شراك الاعشاب وعوالق الطحلب لتحررها وتعيدها الى ماء النهر الرقراق لتنساب بسلاسة مع تيار ذلك الجدول المتلالئ المياه).
في نهاية قصة (فكرة الذئب) للقاص لؤي عباس حمزة توافق بين السرد العام والعنوان ولكنه لا يفضي الى اجابة سردية بسبب غياب اشارات الرمز التي احالت الحكاية الى حافة قصص كليلة ودمنة ومجاورة لقصص الفتيان بسبب غياب المرجعية الاسطورية المتخيلة عن فضاء السرد لقصة فكرة الذئب.
في قصة القاص كاظم الحلاق "عظم هدهد" مراوحة بين الواقعية المحددة بتاريخ 2007 كما يفصح السارد وبين محاولة بعث تعويذة عتيقة تتمثل بعظم الهدهد لجلب المحبة الا ان القصة تفقد في النهاية، اكثر عناصرها التي تديم انفتاحها على التأويل، لذا بقيت في منطقة البوح الذاتي وكأنها محض ذكريات خاصة عن حب مضاع.
وتتساوق عناصر العنوان ونهاية السرد في ثنائية الموت والحياة في قصة القاص حميد المختار "قبر وحيد على سفح جبل" (اجعل من قبري نظيفا كقلب تلك الشجرة وادفني على سفح جبل ملئ باشجار التين على الاقل في هذا الشتاء القارس ساجد مكانا دافئا ...)ص 327
ان الاحالة الى نهاية السرد تمشي متطابقة مع بداية التارجح بين الحياة والموت.
ويبتر القاص اسماعيل سكران في قصته"شجرة الكرز" انغماسنا في سرده الساحر وترقبنا لنهاية تنويرية مدهشة،ليعطينا نهاية تقليدية تفضي الى حل سردي سريع (تملكني شعور بالغبطةيمكنني الان ادخال متغير جديد من الحياة الى منزلنا القديم والى العالم الصامت الذي تعيشه اسرتي) ص332 .
وتنقلنا قصة القاص خضير فليح الزيدي الى نهايةتناسب طريقته في السرد الساخر واختياره لشخصيات مركبة وان بدت بسيطة في شكلها الاولي ويعمد الى اخفاء الدهشة في النهاية بالتماعة تجعل القارئ قريبا من شخصيات قصته(عن طبائع هذه الخرساء في داخل البيت اكتشفت انها ليست كذلك ولكنها كانت تمارس تلك الهواية منذ يوم مات زوجها بصرخة نارية قاتلة) ص334
وتندمج قصة القاص ميثم الخزرجي"اصفاد تلوح من بعيد" مع عالم رائحة الادوية والخشية من مراقبة الاخرينلكائن يبوح بعدم قدرته على التكيف مع المحيط بسبب المراقبة الحساسة للذات (ليفاجئني الطبيب المعالج برسالة صوتية "تشخيصي كان دقيقا جدا اطفئ العيون التي احاطت بك وراجعني الى العيادةلكن توقف:هناك عيون اخرى في الخارج من الذي سيطفئها لو اردت ان تكون؟)ص336.
ويدخل القاص زهير كريم في قصته "السيد كاف" في اشتباك مع السرد الذي يحاول ان يبقى واقعيا مع استعارة الخيال من عالم الكتب الذي يغرق فيه السيد كاف مستأنسا بوحدته (وهولايفكر فيما إذا قيل عنه بانه واقعي او انه من نسج الخيال حقيقة او وهما ولا يعنيه ان راوي حكايته لم يمنحه اسمافهو مكتف بهذه الكاف التي لا تعني شيئا او ربما تعني كل شئ)ص 339 هنا ثمة حرفة تنهض بالقصة ليصبح سردها حيا باكثر من تأويل.
ولا تغادر قصة القاص حسن السلمان"زائر الظلام "واقعيتها الواضحة وسردها المتمهل لنقل حكاية العائد من الغربة ليدخل مدينة صنع ديكورها العام الذي يشير الى مشهد متشابه مع مشاهد كثيرة وتنهي باشارة تحتاج الى اجابة اوضح من نقصها السردي المكتوب(فتحت الباب لأرى اين ذهب العجوز، ومالذي يدور في الخارج، فتدفق الظلام بغزارة الى داخل المقهى، وكانت الساعة تشير الى الساعة العاشرة صباحا)ص 341.
وتصعد قصة القاص كاظم جماسي (اليزابيث وخريط فطيم العجيب)من واقعيتها المفرطة وحسها المحلي الى رمز سردي واسع يفعل المزاوجة بين رموز الواقع والمتخيل الكتابي (طول الطريق الى المقبرة.كان موكب تشييع جنازة فطيم ام تفكة مهيبا بنحو لافت ...لكأنها تخاف انكشاف غطاءه ووقوف فطيم من جديد، بينما يقف خلف تلك المدافع مستريبين متحفزين، شاكوا السلاح، جنود المارينز وهم يشهرون جميعهم اصابعهم الوسطى.)ص 345.
ويعمد القاص نبيل جميل في قصته(رجل نسيه الزمن) الى استحضار كل الازمنة (غادر خالد غرفة المكتبة دون اغلاق بابها، جاءته فكرة بعدم ترك حامد محبوسا فيها كان قلقا بشأنه ويتطلع الى الوصول به الى نهاية موفقة، وهذا ما جعله مأخوذا بحمايته أكثر من بقية الشخصيات الاخرى) ص 348 حتى بدت النهاية غير مكتملة تستدعي الرجوع الى اوليات الحكاية ومسيرة سرد البطل في محاولة لخلق ضربة قصصية تختزل مبتدأ الحكاية.
وتنجح قصة القاص انمار رحمة الله(العاب محظورة) في التوافق السردي بين العنوان وبين الحكاية الغامضة السحرية لالعاب المدينة واختلاطها باليتم والحرمان (بعد مدة من اقفال مدينة الألعاب، عادت للحياة من جديد في ليلة ماطرة حين انتبهت دورية للشرطة الى اصوات صرير المكائن التي تحرك الألعاب، واجراس موسيقى واضواء ساطعة تملأ المكان ..كانت الالعاب تعمل لوحدها والسماء تبكي بغزارة)ص 351.
وتنساب قصة القاص عبد الزهرة علي(ظلال مشاكسة)في سرد واضح وشفاف، لتشكل سردية تتوافق مع قصدية السارد وعنوان قصته (لم اجد على الارض سوى ظل واحد ولم اجد اثر لظل صديقي ظننت انه تركني وتشاغل في احد المحال المنتشرة هناك لكن صديقي كان معي ولم يفترق عني سالته متعجبا
-اين ظلك؟
اجاب مبتسما
نحن الاموات تبقى ارواحنا بلا ظلال)ص354 ثمة سرد مدروس وقصدية لاتخدش عملية القراءة.
وينجح القاص سعدون جبار البيضاني في قصته(نوبة حراسة) في تخليق ثيمة ترقى الى تفاعل رمزي بتاويل واسع المدى برغبة بطل القصة بالعمى، كناية عن النفور من الواقع المرئي بكل موانعه(افقت بعد ثلاثة ايام في المستشفى العسكري، وقد استفدت كثيرا من التمرين على العمى وظل الليل يلازمني دون ان يثير ايما خوف..) ص356.
ويذهب بنا القاص صادق الطريحي في قصته(ابراهيم في صورته المفقودة) الى اقاصي التداخل الاسطوري والواقعي والاستفادة من اكثر من صوت داخل السرد القصصي، حتى ان في القصة اكثر من نهايات محتملة كلها تحمل ثيمة طرح الاسئلة الوجودية في غرفة تحميض الصور كناية عن كيمياء الحياة وصراعها (فرد ابراهيم بفرح وادب:"وانا طوع امرك يامولاي"
وانا فرحت أيضا، فنحن نعمل منذ الصبح دون ان نأكل شيئا ما.)ص360.وبذلك يستمر السرد في دائرته للبحث عن اجوبة لاكثر من سؤال وجودي لا تنضب مسبباته.
فيما تندرج قصة القاص عزيز الشعباني (يوميات مومس) في منطقة البوح المسكوت عنه، لذا يتعامل النقد بحذر بين المستوى الفني والجذب النفسي لوضوح المحاذير الممنوعة، الا اننا نفقد الخيط الرابط بين العنان والمتن ونهاية القصة(صار يلعب معي لعبة الهودج: يتشبث بضفيرتي، ثم يعتلي ظهريالصغير يضرب براحة يده على عضلتي الخلفية فارفسه مثل فرس، الثالث يقودني من ضفيرتي الثانية،فتكتمل اللعبة ؛؛)ص 363.فتتحول القصة الى بوح شخصي يحتاج الى سرد فني يرفع التاويل الى مصاف مغاير بعيدا عن الجنس وجرح الذات.
فيما حاولت قصة القاص علي حسين عبيد (آباؤنا القتلة) استيعاب الخيط الرابط بين الحكاية كقصة وبين السرد الفني الا ان التاويل ظل معلقا في فضاء غريب لم يصل الى التأويل الاوسع(شاهدنا على مبعدة منا، جسدين متشابكين، هرعنا اليهما، راينا الاب مبتور الساقين، بدا كأنه يضم ابنته الى صدره ..في لوحة لا تزال دماؤها ساخنة الى الان.)حتى بقيت القصة في محيطها الواقعي وكانها اقتطعت من رواية طويلة.
وتعطينا قصة القاص علي لفتة سعيد (باب الافكار) مساحة تاويل تتداخل فيها امكانية القاص ومرجعياته الادبية في تاثيث القصة بغية الوصول الى نهاية مقنعة مدروسة فنيا(دعني اقاوم ارتباك الافكار بقليل من المرح والصبر والهدوء، وجدته زوجه يركض في الشارع..جاعلا من يديه ما يشبه الباب المفتوح)ص 370. وهذا يحيلنا الى القصة التي تعتمد على المثاقفة التي تعبر احيانا بانغماس القارئ بسرد فني ممتع لا يحتاج الى تفسيرات,يقصدها الكاتب ولكنها تفلت من التاويل العام لنهاية القصة كما يريد في العنوان.
تتحول قصة القاص قيس عمر(اطياف العائلة) الى معاينة تاريخية تسجيلية لفن الفوتغراف مما يجعلها تنحرف عن مبتغاها السردي في قصة قصيرة لا تحتمل هذا الثبت التاريخي، مع انها في النهاية كانت متحررة من التتابع المتسلسل (يهتز المحترف ويميد المشهد بالداغستاني، ولكنه يستعيد لحظته الفذة ويضع العدسة على وضع" .“(close up
اننا هنا نفقد البوصلة في التعامل مع السرد بوصفه وثيقة، ام سرد فني سيما وانه يقدم نفسه في مساحة صغيرة اسمها القصة القصيرة.
فيما ذهبت قصة القاص هيثم بهنام بردى (الصورة الاخيرة) مع مؤلفها الى عالم الخيال وفيها الكثير من المحاولات الاولى في الكتابة الستينية في اخفاء الواقع واللجوء الى الرمز(ومن ثم وفي توقيت واحد طارت النسور الاربعة وشكلت سهما,نهايته فوق الواحة ,ومقدمته في عمق الصحراء ...واختفت،واختفى المصور الفوتغرافي في نفس الأفق، بعد ان منحته الصورة الاخيرة)ص382. وقد تكرر في أكثر من قصة الارتكان الى شخصية المصور الفوتغرافي في مختارات عدد الاقلام ولعلها مصادفة اشترك فيها أكثر من قاص.
وتحجز قصة القاصة تماضر كريم (أسوأ من الموت) منطقة مستقلة لشكل القصة القصيرة بالتداخل بين الحلم والواقع ودخول الشخصية في مساحة من الاقناع وهي تنتقل بين الحياة والغياب (مد يده ليزيح خصلة ربما لم يعجبه انها تحجب جزءا من عينيسمحت له ان يفعل، ابتعد عني واحببت ان يقتربلكني مضيت نحو الباب، جزء مني يريد ان يعود اليه، لتلك الغرفة، للقلادة على شكل عنقود عنب، لجميع تلك الاشياء هناك لكني خرجت)ص386.في القصة سرد هادئ تمكن من توصيل الحلم بالعودة من الغياب في نسيج مكتمل من العنوان حتى النهاية المفتوحة.
2ـ "نهايات غير مكتملة"
في وقوفنا عند قصتي القاص علي خيون (حدود الحب) والقاصة عالية طالب (حين رجعت الي)ثمة اختلاف في النهايات عن القصص المنشورة في هذا العدد.
ففي قصة القاص علي خيون تبدو النهاية واقعية بسيطة لا تدعم الحدث المتعلق بالعلاقة العاطفية المفترضة، ويعود السبب الا ان الموضوعة التي اختارها القاص، لا تحمل الدهشة المفترضة في القصة القصيرة التي تتيحها مساحتها القصيرة، لذا بدت وكأنها تحتاج الى نهاية اخرى تنتشل السرد من الانقطاع.
واما قصة القاصة عالية طالب(حين رجعت الي) فان السرد يشدك في البداية الا ان الزمن يتسرب من الشخصية القلقة التي تنوي الهروب، فيتيه الخطاب الملتبس بين الذات المتارجحة بين اصوات الاخرين وصوتها الداخلي(ياه كم هي كبيرة ومتسعة هذه النصف التي اعادتني وانهت توقفي، ترى هل لمست روحي ام احرقت سنواتي الهاربات مني واعادت لي تقويم جديد يقف بانتظار انهاء توقفي)ص305. واسهم السؤال في اعادة السرد الى بدايته المشتبكة ووقف بوجه التاويل لقصة تتمتع بلغة عالية وخبرة طويلة.
3ـ "صورة القصة القصيرة"
ثمة نصوص قصصية تذكرك بصورة القصة كما عرفناها، اي انها تدخل منطقتها بهدوء تام مكتفية بشروط القصة القصيرة وتتحرك ضمن فضاءها المتاح، دون مغامرات لغوية او شكلية، وهذا الراي النقدي غير ملزم للاخرين وقابل للنقاش كما اي راي اخر، لذا استوجب تبيان الراي والوقوف عند كل قصة.
تبدو قصة القاص كاظم حسوني(ليلة القدر)متماهية مع مساحتها القصيرة المتاحة وهناك اتصال لاينفك بين السارد وبطل القصة، وتتوافر فيها شروط القصة القصيرة من العنوان، والمتن والنهاية (سرعان ما غاضت فرحته حين راح معها يتطلع الى وسطه وهو يرى عضوه قد عادت قلفته الى مكانها !!اذاك اخرسته الخيبة وشله واغرقه الخجل وهو غير مصدق خداع الملائكة!!) ص 342.
واقترب القاص سعدي عوض الزيدي في قصته (احتجاج صامت) من الواقع المعاش القريب في سرد قصير موحي يقترب من الشعر ويلائم عنوان قصته(في الزقاق وجدت عددا من النساء والرجال مكممين مثلي، حاولت نزع شريط التكميم، لمأستطع، ولا شيء المسه منه سوى فمي المغلق تماما.)ص352.
وتعطينا قصة القاص صلاح عيال جرعة سريعة ومكتفية في قصته (الفراكين)لاسيما في ضربة النهاية(ذات يوم رأيت ابي في اخر ايامه يضع اذنه على السكة)ثمة دراية قصصية تربط كل القصة بنهاية محكمة.
وتتبع قصة القاص عبد الخالق سلطان(الطبال) التي ترجمها عبد الكريم يحيى الزيباري من اللغة الكردية، الحكاية القصصية باكتمال القصد سرديا من العنوان الى النهاية المضيئة (بالرغم من ثرائه الا انه كل خميس يظل يضرب الطبل حتى يغمى عليه ويستغرق في نوم عميق)ص361 .
وتعتمد قصة القاص محسن الرملي (ثورة وردية) على الحكاية التي ننتظر حكمة نهايتها(فالححت عليه بالسؤال عما به، الى ان نطق اخيرا وهو يحدق في الفراغ: الرجل كلمة فان كسرت كلمته؛انكسر)ص374.ثمة سرد واقعي يتتبع الحكاية بروح المذكرات الشخصية.
وتذهب بنا قصة القاص حسين محمد شريف (ما ليس هنا ولا هناك) الى الواقعية السحرية الخيالية التي تعيش واقعها المفترض بعد ان اغوتنا بالدخول الواقعي(دُفن صائب منقوصا من شئ ابن شعلان مرة ثانية.وبينما صعد صائب الى حيث ستستقر روحه بقي ابن شعلان تائها في محنته الى الابد)ص378.
ويتماهي بطل قصة القاص ناظم مزهر مع بيئته التاريخية الاسطورية في قصته (الفتى الحجري)فتصبح الاثار والجد والفتى كتلة واحدة من الاسطورة والواقع (في موكب بابلي مهيب تتقدمه الخيول المجنحة...كان جده يقترب منه ملوحا بعصاه وهو الاخر يفرد جناحي عباءته، ليحتضنه ويحمله بين ذراعيه مثل قربان، ثم يضعه اخيرا في عربة ملكية تطير بها الخيول، وتحف بها الاسود وثريات النجوم.)ص384.
4ـ "قصص بلا ضفاف"
في الحقل القصصي العراقي الوفير تبرز اسماء تشتغل في منطقة خاصة، ويمكننا تميز القاص علي السوداني في قصته (شاحنة اللفائف البيض)وكذلك قصة القاص محمد إسماعيل (شتاء)مع الاختلاف بين اشتغال القاصين واليات الكتابة لديهم.
في قصة القاص علي السوداني، تجد السرد متقافزا بين الفنتازي والسريالي والمحلي كذلك بمفرداته وصوره (مسافة طولها رجل بعير)ص328. او (فيها سيارة واربعة كائنات ولفائف قماش معتق وكراتين مقمطة بلواصق الصنعة، وحيرة درويش نام ولم يسمع صرير سلسلة او صفعة باب او نباح كلب خرج من ذروة السطر الاخير نابحا هائجا وأفسد صعود الحكاية صوب ذروة الخطف والذهول.)ص329.
اننا ازاء تنقلات شعرية صادمة وصور متراكبة وافعال متشظية، تفضي الى صورة واضحة اسمها طريقة علي السوداني في استخدام السرد والروي الصحفي، قطعة تنتمي جذورها الى القصة القصيرة ولكنها تتمرد بشكل جديد.
فيما يعمد القاص محمد اسماعيل في قصته(شتاء)الى السير باتجاه حكاية واحدة عن العلاقة الازلية بين الرجل والمرأة، متحررا من القواعد المعروفة في سرد القصة القصيرة عن طريق اللغة التي تذهب نحو الوصف الذي يعامل الموجودات البشرية والحيوانية والجماد بنظرة واحدة(وتشاغل عنها بعصف ريح الخريف المجدبة..غروبا يبعث الكآبة في الابقار، وصفارسنابل الحنطة والرز والشعير والجيران الابعدين ...شمرة عصا.) ان النموذجين لعلي السوداني ومحمد اسماعيل تحتاجان مستقبلا الى رأي نقدي أكثر خصوصية في تناول الاشكال المتنوعة للقصة العراقية المعاصرة.
5ـ "ليس ختاما"
في الأخير مازالت القصة العراقية المعاصرة، وعلى الرغم من الزيادة الحاصلة في النشر في الصحف والمجلات والمجاميع القصصية، تحتاج الى معاينة نقدية فاحصة تواكب الكم الهائل من النصوص، خاصة وان المشهد القصصي، يكشف في الوقت الراهن عن تجارب فردية كثيرة، لا عن تجارب وفق التقسيمات المدرسية السابقة، وتقسيمات المجايلة التي توقفت بعد القرن الواحد والعشرين، وهذه مهمة شاقة حملت مجلة الاقلام قسما منها، قصصا ونقودا وتجارب، لتصبح وقفة سيرجع اليها النقد في اغلب اوقات مراجعاته النقدية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رعد كريم عزيز
شاعر وناقد وأعلامي من مواليد بابل ١٩٥٣
حصل على: جائزة أفضل عمل مسرحي متكامل عام 2000 عن مسرحية أيام ذاهبة، مؤلفا، بغداد،منتدى المسرح.
الجائزة الأولى لديوان شرق وغرب عام 2005 لديوان الشعر النصوص فاكهة السواد طباعة الدار المصرية اللبنانية
ـ الاعمال الفنية
J تأليف وإخراج فيلم سينمائي عن الكاتب والمثقف الراحل قاسم عبد الامير عجام
ـ صدور ديوان شعري من دار الشؤون الثقافية عام 2011 التراب والعسل وبلبل بابل
ـ كتاب نقد فني عن الفنان محمد فهمي عام 2015/وزارة الثقافة العراقية
ـ ممارسة العمل في الاعلام الفضائي في عدة قنوات.