تكشف هذه القصة عن عبثية الحرب في الصحراء المغربية، وعن ثمنها الفادح على الجنود البسطاء في الوقت نفسه. فما أن تهب عاصفة رملية قوية حتى يتبدد الكثيب الذي تدور حوله المعارك، وتروح ضحيته أروواح شابة عديدة! ويجد الخصمان نفسيهما وجها لوجه أمام الحقيقة، فهما معا أبناء تلك الصحراء المغربية التي لا يستفيد ممن الصراع حولها إلا الأعداء.

الْكَثِيــــــــبُ

ميلود بنباقي

 

كَانَ يَوْمُ الْخَامِسِ عَشَرَ مِنْ أَغُسْطُسَ، أَسْوَءَ يَوْمٍ مَرَّ عَلَى كَتِيبَتِنَا فِي هَذِهِ الْحَرْبِ الشَّرِسَةِ. تَكَبَّدْنَا فِيهِ خَسَارَةً فَادِحَةً فِي رِجَالِنَا. فَقَدْنَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ جُنْدِيًّا، وَجُرِحَ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ جُرُوحًا خَطِيرَةً، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ بِإِحْصَاءِ مَنْ جُرِحَ جُرُوحًا مُتَوَسِّطَةً أَوْ طَفِيفَةً. هَذِهِ أَكْبَرُ خَسَارَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مُنْذُ بِدَايَةِ الْحَرْبِ الَّتِي مَرَّ الْآنَ عَلَى نُشُوبِهَا ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا بِالتَّمَامِ.

قَبْلَ هَذِهِ الْخَسَارَةِ، كُنَّا قَدْ عِشْنَا فِي شِبْهِ سِلْمٍ مُدَّةً تَبْدُو طَوِيلَةً فِي زَمَنِ الْحُرُوبِ. إِذْ لَمْ نَخُضْ مَعَارِكَ حَقِيقِيَّةً مَعَ الْعَدُوِّ طِيلَةَ شَهْرٍ كَامِلٍ تَقْرِيبًا. لَمْ تُسْفَكْ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ دِمَاءٌ وَلَمْ تُزْهَقْ أَرْوَاحٌ، وَلَمْ يُصَبْ جُنْدِيٌّ وَاحِدٌ بِجُرُوحٍ، أَوْ حَتَّى بِخُدُوشٍ بَسِيطَةٍ. أَحْجَمَ اَلْعَدُوُّ عَنْ مُهَاجَمَتِنَا، وَأَحْجَمْنَا عَنْ مُهَاجَمَتِهِ، وَاكْتَفَيْنَا بِمُنَاوَشَاتٍ بَسِيطَةٍ لَمْ تُسْفِرْ عَنْ خَسَائِرَ فِي صُفُوفِنَا وَلَا أَظُنُّهَا خَلَّفَتْ خَسَائِرَ فِي صُفُوفِهِمْ أَيْضًا. كُنَّا نُشَاهِدُ قَنَابِلَ عَشْوَائِيَّةً تَرْتَفِعُ فِي اَلْجَوِّ ثُمَّ تَسْقُطُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْ خَنَادِقِنَا. وَكُنَّا نَرَى وَنَسْمَعُ رَصَاصًا طَائِشًا يَبْدُو أَنَّ مِنْ يُطْلِقُهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُ سِوَى مُحَارَبَةَ مَلَلِ أَيَّامِ الصَّحْرَاءِ الطَّوِيلَةِ، وَقَتْلَ الْوَقْتِ، وَلَا يَسْعَى مِنْ وَرَائِهِ إِلَى إِلْحَاقِ اَلْأَذَى بِنَا. وَكَانَ رَدُّنَا قَنَابِلَ نُصَوِّبُهَا بَعِيدًا عَنْ اَلْعَدُوِّ، وَرَصَاصًا نُهْدِرهُ فِي الْهَوَاءِ وَلَا نُوَجِّهُهُ إِلَى صَدْرِ أَحَدٍ. كُنَّا نَتَبَادَلُ مَا يُشْبِهُ طَلَقَاتِ الْبَارُودِ اَلَّتِي تُزَيِّنُ الْحَفْلَاتِ وَالْأَعْرَاسَ، وَلَمْ نَكُنْ نَتَبَادَلُ إِطْلَاقَ نَارٍ حَقِيقِيًّا. كَانَ تَصَرُّفُنَا وَتَصَرُّفُهُمْ، مُجَرَّدَ اسْتِهْلَاكٍ لِلذَّخِيرَةِ كَيْ نُوهِمَ الْقِيَادَةَ الْعُلْيَا أَنَّنَا نَخُوضُ حَرْبًا يَوْمِيَّةً بِالْفِعْلِ. حَرْبًا بِلَا هَوَادَةٍ تَسْتَنْزِفُ ذَخِيرَتَنَا.

كُنَّا مُتَوَاطِئِينَ مَعَ الْعَدُوِّ عَلَى شِبْهٍ هُدْنَةٍ لَمْ يُعْلِنْهَا صَرَاحَةً أَيُّ طَرَفٍ، وَلَمْ يَرْفُضْهَا أَيُّ طَرَفٍ، وَلَمْ يُوَقِّعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ. هُدْنَةٍ رَسَّخَتْهَا وَفَرَضَتْهَا حَرَارَةُ صَيْفِ الصَّحْرَاءِ اَلْجَهَنَّمِيَّةُ. هُدْنَةٍ أَقَرَّهَا الْجُنُودُ فِي الْمَيْدَانِ بَعِيدًا عَنْ أَعْيُنِ وَعِلْمِ قَادَتِهِمْ فِي الْمَكَاتِبِ الْمُكَيَّفَةِ الْبَعِيدَةِ عَنْ الْجَبْهَةِ.

لَكِنْ أَيُّ شَيْطَانٍ لَعِينٍ وَسْوَسَ لِلْعَدُوِّ بِخَرْقِ بُنُودِ تِلْكَ الْهُدْنَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْحَزِينِ؟

كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، طَوِيلاً وَرَتِيبًا وَبِلَا نِهَايَةٍ، كَأَيَّامِ الصَّيْفِ فِي الصَّحَارِي الْقَاحِلَةِ. كَانَتْ الشَّمْسُ فَوْقَنَا تُسْقِطُ لَهَبًا حَارِقًا، وَنُورًا أَبْيَضَ سَاطِعًا يُعْمِي الْعُيُونَ، وَتُحَوِّلُ الْخَلَائِقَ تَحْتَهَا إِلَى كَائِنَاتٍ تُوشِكُ أَنْ تَذُوبَ وَتَتَلَاشَى وَسَطَ سَرَابٍ صَحْرَاوِيٍّ تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ عَلَى طُولِ الصَّحْرَاءِ وَعَرْضِهَا.

فِي الْجِوَارِ صَمْتٌ مُطْبِقٌ يَبْعَثُ عَلَى الْجُنُونِ، يُخَيِّمُ عَلَى مَشَاهِدَ قَاحِلَةٍ وَقَاتِمَةٍ تُكَدِّرُ الْمِزَاجَ وَتَبْعَثُ عَلَى الْكَآبَةِ. لَا شَيْءَ فِي مَرْمَى اَلْبَصَرِ سِوَى رِمَالٍ صَفْرَاءَ وَتُرَابٍ أَحْمَرَ وَصُخُورٍ بِنْيَةٍ دَاكِنَةٍ، وَأَشْوَاكٍ وَنَبَاتَاتٍ جَافَّةٍ تَحَوَّلَتْ إِلَى أَعْوَادٍ وَحَطَبٍ وَقَشٍّ. حَتَّى أَشْجَارُ الطَّلْحِ وَالسِّدْرِ الَّتِي تَنْمُو فِي الصَّحَارِي، لَا تَنْبُتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ. خَلْفَنَا أَرْضٌ خَلَاءٌ مُنْبَسِطَةٌ وَأَمَامَنَا كَثِيبُ رَمْلٍ شَاهِقٌ يَتَجَاوَزُ اِرْتِفَاعُهُ مِئَةَ مِتْرٍ، يَنْتَصِبُ حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، وَمِنْ أَجْلِهِ تَدُورُ رَحَى هَذِهِ الْحَرْبِ. وَفَوْقَنَا سَمَاءٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ لَوْنَهَا الْحَقِيقِيَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّوْءِ اللَّاذِعِ، وَتِلْكَ الطَّبَقَةِ مِنْ الْغُبَارِ وَالرِّمَالِ الْعَالِقَةِ فِي اَلْجَوِّ. رُبَّمَا كَانَتْ سَمَاءً بِلَا لَوْنٍ خِلَافَ السَّمَاءِ فِي بِقَاعٍ أُخْرَى.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَثيبِ اَلَّذِي يَقِفُ شاهِقًا أَمَامَنَا، تُزْهَقُ أَرْواحُنَا وَأَرْواحُ الْعَدوِّ. مِنْ أَجْلِهِ فَقَدَتْ كَتِيبَتُنَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عَدَدِ رِجَالِها مُنْذُ بِدايَةِ الحَرْبِ إِلَى الآنَ. كُنَّا أَلْفَ عَسْكَريٍّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَّا الآنَ سِوَى أَرْبَعِ مِئَةٍ. أَرْسَلُونَا إِلَى هَذَا المَكانِ وَأَمَرُونَا أَنْ نُدافِعَ عَنْهُ، أَلا نُفَرِّطَ فِي حَبَّةِ رَمْلٍ واحِدَةٍ مِنْهُ. وَفِي الجِهَةِ الأُخْرَى مِنْ الْكَثيبِ، كَانَ يَقِفُ جُنودُ العَدوِّ، يَتَلَقَّوْنَ مِنْ قادَتِهِمْ نَفْسَ التَّعْليماتِ اَلَّتِي نَتَلَقَّاهَا.

أَقْسَمْنَا أَنْ نَفْتَدِيَّ الْكَثيبَ بِدِمائِنا وَأَرْوَاحِنا، وَأَدَّى العَدوُّ نَفْسَ القَسَمِ. والْكَثيبُ فِي مَكانِهِ يَسْخَرُ مِنَّا وَمِنْهُمْ، وَلَا يُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَدِيَّهُ.

فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ الحَزينِ ذَاكَ، كُنَّا مُمَدَّدِينَ فِي الخَنادِقِ، بَعْضُنا يَلْعَبُ الوَرَقَ وَيُدَخِّنُ السَّجائِرَ، وَبَعْضُنا يُحَاوِلُ أَنْ يَقْتَنِصَ غَفْوَةً يَصْعُبُ الظَّفَرُ بِهَا مَعَ ذَلِكَ الحَرِّ الخَانِقِ والْعَرَقٍ اللَّزِجِ اَلَّذِي أَغْرَقَ أَجْسادَنا وَبَلَّلَ مَلابِسَنا وَجَعَلَها تَلْتَصِقُ بِجُلودِنا وَعِظامِنَا.

كُنَّا فِي مُنْتَصَفِ النَّهارِ. انْحَسَرَتِ الظِّلالُ وَاخْتَفَتْ كُلُّ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ مِنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. اخْتَفَتْ الحَشَرَاتُ وَطُيورُ الصَّحْرَاءِ وَزَّواحِفُها وَبَدَا المَكانُ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَحْتَرِقَ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَيَتَحَوَّلَ إِلَى جَمْرٍ وَرَمادٍ وَيَفْنَى إِلَى الأَبَدِ.

وَكَكُلِّ يَوْمٍ تَقْرِيبًا، وَفِي نَفْسِ التَّوْقيتِ، هَبَّتْ رِيحٌ شَرْقيَّةٌ تَحْمِلُ الغُبارَ وَاَلْرِمالَ وَتَنْثُرُهُمَا فِي كُلِّ مَكانٍ. رِيحٌ حَارَّةٌ كَأَنَّهَا هَواءٌ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ فُرْنٍ أَوْ فُوَّهَةِ بُرْكانٍ. جَفَّتْ حُلُوقُنا وَتَفَاقُمَ العَطَشُ، وَكَانَ الْمَاءُ اَلَّذِي مَعَنَا قَلِيلًا، يُوَزَّعُ عَلَيْنَا بِمِقْدَارِ لِتْرَيْنِ فِي اليَوْمِ لِلْفَرْدِ الواحِدِ. كُنَّا نَجْلِبُهُ مِنْ بِئْرٍ بَعيدَةٍ تُوشِكُ أَنْ تَجِفَّ، وَكَانَ مالِحًا لَا يَرْوِي مِنْ الظَّمَأِ بَلْ يَزيدُهُ وَيُؤَجِّجُهُ.

بَعْدَ مُنْتَصَفِ النَّهارِ بِسَاعَةٍ واحِدَةٍ، وَصَلَ إِلَيْنَا طَعامُ الغَدَاءِ مِنْ المَطَابِخِ خَلْفْنَا. كَانَ مَرَقًا بِاَلْعَدَسِ وَلَحْمِ الْجَامُوسِ الجافِّ المُمَلَّحِ. كَانَ مالِحًا بِدَرَجَةٍ لَا تُحْتَمَلُ. تَفاقَمُ بِنَا العَطَشُ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا بُدٌّ مِنْ اسْتِنْزافِ حِصَصِنا اليَوْميَّةِ مِنْ الْمَاءِ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ مِنْ اليَوْمِ. وَكَانَ فِي ذَلِكَ خَطَرٌ عَلَيْنَا، لِأَنَّنَا لَنْ نَسْتَلِمَ حِصَصَنا لِلْيَوْمِ الْمُوَالِيِّ إِلَّا عِنْدَ الثّامِنَةِ صَبَاحًا. وَكُنَّا فِي أَمَسِّ الحاجَةِ لِلْمَاءِ بِالنَّهَارِ كَمَا بِاللَّيْلِ، لِأَنَّ حَرارَةَ اللَّيْلِ لَا تَقِلُّ عَنْ حَرارَةِ النَّهارِ إِلَّا قَلِيلًا.

لَمْ نَكَدْ نَنْتَهي مِنْ طَعامِنا حَتَّى بَدَأَ القَصْفُ. كَانَ مُباغِتًا وَعَنيفًا وَيَحْمِلُ حِقْدًا يَفُوقُ الحِقْدَ اَلَّذِي يُضْمِرُهُ عَدوٌّ لِعَدوِّهِ. لَمْ يَحْدُثْ مِنْ قَبْلُ أَنْ تَعَرَّضْنَا لِهُجومٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ مِنْ اليَوْمِ. فِي تِلْكَ السّاعَةِ اَلَّتِي تَبْلُغُ فِيهَا الحَرارَةُ ذِرْوَتَها، وَلَا يُغادِرُ فِيهَا أَيُّ مَخْلوقٍ جُحْرَهُ أَوْ مَأْوَاهُ، وَلَا يَسْتَطيعُ فِيهَا أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا سِوَى الخُمولِ وَاَلْتَّثاؤُبِ وَمَسْحِ العَرَقِ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَدِّ الوَقْتِ المُتَبَقِّي لِانْحِدارِ الشَّمْسِ نَحْوَ المَغْرِبِ وَحُلولِ المَساءِ.

فِي ذَلِكَ الوَقْتِ اَلَّذِي انْسَحَبَتْ فِيه الحَياةُ، تَسَلُّقَ جُنودُ العَدوِّ قِمَّةَ اَلْكَثيبِ وَأَمْطَرُونَا بِالْقَنَابِلِ والرَّصاصِ وَكُلِّ مَا تُضْمِرُهُ نُفوسُهُمْ نَحْوَنا مِنْ غِلٍّ وَضَغينَةٍ وَرَغْبَةٍ فِي الثَّأْرِ.

لَا أَعْرِفُ كَيْفَ اسْتَطَاعُوا الوُقوفَ فَوْقَ جَبَلٍ مِنْ الرِّمَالِ تَفوقُ حَرارَتُها الخَمْسِينَ دَرَجَةً مِئَويَّةً، أَصْبَحَتْ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مِنَ النَّهارِ، جَمْرًا حارِقًا وَلَمْ تَبْقَ مُجَرَّدَ رِمالٍ.

انْهَالَتْ عَلَيْنَا القَذائِفُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، واخْتَلَطَتْ حَبّاتُ العَدَسِ فِي اَلْصُّحُونِ المَعْدِنيَّةِ بِالتُّرَابِ وَالحَصَى، وَاخْتَنَقْنا بِالْغُبَارِ داخِلَ الخَنادِقِ.

كَانَ عَلَى يَسارِي جُنْديٌّ شابٌّ فِي العِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، اِلتَحَقَ بِنَا قَبْلَ شَهْرَيْنِ مَعَ مَجْموعَةٍ مِنْ الجُنودِ أُرْسِلُوا إِلَيْنَا لِتَعْوِيضِ الرِّجالِ اَلَّذِينَ خَسِرَناهُمْ. رَأَيْتُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَصْرُخُ صُراخَ الإِبِلِ المَفْجوعَةِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ، وَيَدَاهُ عَلَى وَجْهِهِ. لَمْ أَرَ دَمًا وَلَا جُرْحًا عَلَى جِسْمِهِ، فَلَمْ أَعْرِفْ لِمَ كَانَ يَصْرُخُ وَيَتَأَلَّمُ بِتِلْكَ القَسْوَةِ. فَجْأَةً تَشَبَّثَ بِساقي بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَحَاوَلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا، لَكِنَّ الأَلَمَ غَلَبَهُ. انْحَنَيْتُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَمَا اسْتَطَعْتُ، بَعْدَ مَجْهودٍ شاقٍّ، أَنْ أُبْعٍدَ يَدَيْهِ عَنْ وَجْهِهِ، تَرَاجَعَتُ إِلَى الخَلْفِ مَذْعورًا وَعَلَى فَمِي صَرْخَةُ رُعْبٍ لَمْ تَكْتَمِلْ. رَأَيْتُ شَظيَةً تَسْتَقِرُّ فِي عَيْنِهِ اليُمْنَى وَتَشُقَّ مِحْجَرُهُ إِلَى نِصْفَيْنِ.

اِبْتَعَدْتُ عَنْهُ مُتَحَسِّرًا، وَعاجِزًا عَنْ فِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ لِمُساعَدَتِهِ، ثُمَّ تَعَثَّرْتُ بِجُنْديٍّ آخَرَ كَانَ يَتَمَرَّغُ فِي تُرابِ الخَنْدَقِ مِثْلَ الخَرُوفِ الذَّبيحِ. رَأَيْتُ أَمْعَاءَهُ تَتَدَلَّى مِنْ بَطْنِهِ وَهُوَ يُلَمْلِمُها بِيَدَيْهِ وَيُحاوِلُ أَنْ يُعيدَها إِلَى مَكانِها وَلَا يَفْلَحُ فِي ذَلِكَ. ظَلَّ يَصْرُخُ نِصْفَ ساعَةٍ تَقْرِيبًا، ثُمَّ هَمَدَ وَأَسْلَمَ الرّوحَ، وَظَلَّتْ أَمْعاؤُهُ مُلْقاةً عَلَى الأَرْضِ، مُعَفَّرَةً بِالتُّرَابِ. خَلْفَهُ رَأَيْتُ جُنْدِيًّا مُهَشَّمَّ الرَّأْسِ. لَمْ يَكُنْ يَصْرُخُ، وَلَمْ يَكُنْ يَتَأَلَّمُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِك، لَا عَلَى الصُّراخِ وَلَا عَلَى اَلْتَّأَلُّمِ. كَانَ يَنْتَظِرُ مَلَكَ المَوْتِ فَقَطْ. مَلَكَ المَوْتِ وَحْدَهُ. كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الفَرَاغِ بِعَيْنَيْنِ جَاحِظَتَيْنِ مَذْعُورَتَيْنِ وَيَنْتَظِرُ. لَكِنَّ مَلَكَ المَوْتِ خَذَلَهُ وَلَمْ يَزُرْهُ. حَمَلَهُ المُسْعِفُونَ عَلَى الْمٍحَفَّةِ إِلَى خَيْمَةِ المُسْتَشْفَى، وَتَلَقَّى العِلاجَ وَعَاشَ سَنَوَاتٍ طَويلَةً بَعْدَ تِلْكَ اَلْحَادِثَةِ.

حَاصَرَتْنَا القَذائِفُ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ. كَانَتْ تَنْفَجِرُ بِالْقُرْبِ مِنَّا، فَيَتَطَايَرُ التُّرابُ وَيَغْمَرُنا داخِلَ الخَنادِقِ. نَفَذَ الغُبارُ إِلَى رِئَاتِنَا وَأَصْبَحْنَا نَتَنَفَّسُ بِصُعوبَةٍ، وَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا لِصَدِّ الهُجومِ.

الَّذِينَ كَانُوا فِي الخَنادِقِ الأَمَامِيَّةِ نَالُوا النَّصيبَ الأَوْفَرَ مِنْ القَصْفِ. خَرَجُوا مِنْ مَخابِئِهِمْ وَقَدْ اخْتَفَتْ مَلامِحُهُمْ تَحْتَ التُّرابِ والدِّماءِ، وَزَحَفُوا عَلَى بُطونِهِمْ وَهُمْ يَسْعَلُونَ وَيَشْتُمونَ، وَلَجَأُوا إِلَى الخَنادِقِ الخَلْفيَّةِ اَلَّتِي كَانَ نَصيبُها مِنْ القَصْفِ والْقَنابِلِ أَقَلَّ.

عِنْدَمَا صَحَوْنًا مِنْ هَوْلِ المُفاجَأَةِ، جَهَّزْنَا أَسْلِحَتَنا لِصَدِّ المُهَاجِمِينَ وَإِجْبَارِهِمْ عَلَى التَّراجُعِ خَلْفَ اَلتَّلِّ. لَكِنَّنَا لَمْ نَجِدْ أَمَامَنَا مُهَاجِمِينَ نَصُدُّهُمْ. كَانُوا قَدْ تَرَاجَعُوا بِالْفِعْلِ، لَكِنْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ مَهَمَّتِهِمْ وَأَدُّوا واجِبَهُمْ بِلَا مُقاوَمَةٍ مِنَّا. وَمِن حُسْنِ حَظِّنا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ بِإِمْكَانِهِمْ أَنْ يُبِيدُونَا جَمِيعًا، أَوْ يَأْسُرُونَا مِثْلَ اَلنِّعَاجِ.

اِنْشَغَلْنَا فِيمَا تَبَقَّى مِنَ النَّهَارِ بِمُعَالَجَةِ الجَرْحَى، والتَّحَسُّرِ عَلَى مَا وَقَعَ. ثُمَّ قُمْنَا بِدَفْنِ المَوْتَى. إِذْ لَمْ نَكُنْ نَحْتَفِظُ بِجُثَثِ القَتْلَى فِي التَّوابِيتِ كَيْ تُرْسَلَ إِلَى عَائِلَاتِهِمْ. كَانَتْ التَّعْليماتُ تَنُصُّ عَلَى دَفْنِهِمْ فِي ساحَةِ القِتالِ. عَلَى رَبْوَةٍ تَحَوَّلَتْ خِلالَ عُمْرِ الحَرْبِ إِلَى مَقْبَرَةٍ فِي حَجْمِ مَقْبَرَةِ بَلْدَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ.

فِي اَلْيَوْمِ الْمُوَالِي وَصَلَنَا تَوْبيخٌ مِنَ القِيَّادَةِ العُلْيَا. اتَّهَمَتْنَا بِاَلْتَّفْريطِ فِي أَداءِ الواجِبِ، والتَّقْصِيرِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ اَلْكَثِيبِ، والِانْشِغالِ بِقَتْلِ اَلْقَمَلِ فِي رُؤُوسِنَا، بَدَلَ حِراسَةِ المَوْقِعِ حِراسَةً يَقَظَةً. وَطالَبَتْنَا بِالرَّدِّ عَلَى تِلْكَ الضَّرْبَةِ " رَدًّا مُزَلْزِلًا ". وَلَمْ تُوَضِّحْ لَنَا كَيْفَ وَلَا مَتَى.

اعْتَكَفَ قائِدُ الكَتيبَةِ فِي خَنْدَقِهِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ مُتَتاليَةٍ لِإِعْدَادِ خُطَّةٍ لِلرَّدِّ. لَمْ يَنَمْ دَقيقَةً واحِدَةً خِلالَ تِلْكَ الأَيّامِ الثَّلاثَةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ قِسْطًا مِنْ الرّاحَةِ، وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، حَيْثُ اكْتَفَى بِالْمَاءِ وَالقَهْوَةِ السَّوْداءِ والسَّجائِرِ. وَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا سِوَى الجِنْدِيِّ المُكَلَّفِ بِاَلْلاَّسِلْكِي.

فِي اليَوْمِ الرّابِعِ، خَرَجَ مِنْ خَنْدَقِهِ نحيلا ويكاد لا يشبه البشر، وَدَعَانَا لِتَجَمُّعٍ عَامٍّ. حَدَّدَ لَنَا مُنْتَصَفَ لَيْلِ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ مَوْعِدًا لِلْهُجُومِ عَلَى العَدوِّ. تَجَهَّزْنَا وَانْتَظَرْنا المَوْعِدَ. وَفِي وَقْتِ الِانْتِظارِ الطَّويلِ المُمِلِّ، تَفَقَّدْنَا تَمَائِمَ حَظٍّ كُنَّا نُعَلِّقُهَا عَلَى أَعْنَاقِنَا، وَرَسَائِلَ قَدِيمَةً مُخَبَّأَةً فِي الجُيوبِ مِنْ أُمَّهاتِنَا وَزَوْجاتِنَا، وَصوَّرًا يَكْسُوهَا اَلْغُبَارُ لِوُجُوهٍ عَزِيزَةٍ نُحِبُّها، وَنُدوبًا لِجِراحٍ قَدِيمَةٍ، وَذِكْرَياتٍ قَفَزَتْ فَجْأَةً مِنْ اَلْعَدَمِ وَاسْتَقَرَّتْ فِي أَذْهَانِنَا.

هَبَّتْ الرِّيحُ قَبْلَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ بِسَاعَةٍ. رِيحٌ شَرْقيَّةٌ حَارَّةٌ تَحْمِلُ رَوَائِحَ القَبائِلِ القَديمَةِ اَلَّتِي اسْتَوْطَنَتْ يَوْمًا مَا هَذِهِ الصَّحْرَاءَ. وَمَعَ مُرورِ الوَقْتِ، بَدَأَتْ قوَّةُ الرّيحِ تَتَضاعَفُ حَتَّى تَحَوَّلَتْ إِلَى عاصِفَةٍ رَمْليَّةٍ مُدَمِّرَةٍ تُشْبِهُ الإِعْصارَ.

لَمْ تَحْمِنَا الخَنادِقُ مِنْ الرِّمَالِ. تَكَوَّمْنَا عَلَى أَنْفُسِنا وَغَطَّيْنَا أَجْسَامَنَا بِكُلِّ مَا وَجَدْنَاهُ مُتَاحًا أَمَامَنَا. العَمَائِمُ وَاَلْمَلَاءَاتُ وَقِطَعُ الخِيَّمِ المُمَزَّقَةِ، وَاَلْمَعاطِفُ القَديمَةُ، وَقِطَعُ الكَارْتُونِ واَلْقَصْدِيرِ.

باتَتْ الرّيحُ تَعْصِفُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَنَحْنُ مُخْتَبِئُونَ فِي الخَنادِقِ. وَتَأَجّلَ الهُجُومُ عَلَى العَدُوِّ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ. وَعِنْدَمَا لَاحَ نُورُ الفَجْرِ، بَدَأَتْ قُوَّةُ الرٍّيحٍ تَتَراجَعُ. ثُمَّ هَدَأُتْ تَمَامًا بَعْدَ شُروقِ الشَّمْسِ.

 خَرَجْنَا مِنْ ظُلْمَةِ الخَنادِقِ إِلَى ضَوْءِ النَّهَارِ السَّاطِعِ. وَعِنْدَمَا صَوَّبْنَا أَعْيُنَنَا إِلَى جِهَةِ اَلْكَثِيبِ، لَمْ نُصَدِّقْ مَا رَأَيْنَاهُ. لَمْ يَعُدْ لِلْكَثِيبِ وُجودٌ. ظَهَرَتْ مَكانَهُ أَرْضٌ سَبْخَةٌ عاريَةٌ.

 حَمَلَتِ الرّيحُ رِمالَ اَلْكَثيبِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَنَثَرَتْهَا فِي أَرْجاءِ الصَّحْرَاءِ الشّاسِعَةِ، وَكَنَسَتِ اَلْكَثِيبَ مِنْ خَرِيطَةِ المَكَانِ.

وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا وَجْهًا لِوَجْهٍ أَمَامَ العَدوِّ، وَلَا حَاجِزَ بَيْنَنَا. تَقَدَّمْنَا نَحْوَهُمْ بِحَذَرٍ، وَتَقَدَّمُوا نَحْوَنَا. انْتَظَرْنا أَنْ يَبْدَأُوا بِالْهُجُومِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْجُموا. كَانُوا يَنْتَظِرُونَ هُجومَنا بِدَوْرِهِمْ. ظَلَلْنا نُحَدِّقُ فِي وُجوهِ بَعْضِنا البَعْضِ.

كُنَّا نَتَحارَبُ مِنْ أَجْلِ اَلْكَثيبِ، وَالآنَ لَمْ يَعُدْ لِلْكَثِيبِ وُجودٌ، فَلِمَ نَتَحارَبُ؟

دَارَ هَذَا السُّؤالُ فِي نُفُوسِ الجَميعِ، فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُمْ وَلَمْ تَسْتَطِعْ الضَّغْطَ عَلَى الزِّنَادِ. عَلِموا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَاتَلُونَ مِنْ أَجْلِ لَا شَيْءَ. مِنْ أَجْلِ رَمْلٍ يُمْكِنُ أَنْ تَذْرُوهُ الرّيحُ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ. وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ بِالفِعْلِ فِي اللَّيْلَةِ المَاضِيَّةِ.

أَلْقَيْنَا بَنادِقَنا وَتَعَانَقْنَا، ثُمَّ رَقْصْنا عَلَى إِيقَاعِ التَّصْفِيقِ وَالهُتَافَاتِ. وَشَرِبْنَا الشّايَ مَعًا نَخْبَ السلام الذي جاءت به الريح وباركته الرمال.

الطُّبُولُ اَلَّتِي قَرَعْنَاهَا لِلْحَرْبِ مِنْ قَبْلُ، عُدْنَا وَقَرَعْنَاها لِلسِّلْمِ والْإِخاءِ هَذِهِ المَرَّةِ.

ذَهَبْنَا إِلَى مَقْبَرَتِهِمْ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلَى مَقْبَرَتِنَا. جَثَوْنَا عَلَى رُكَبِنَا وَتَرَحَّمْنَا عَلَى مَنْ يَرْقُدُ فِي القُبورِ. وَتَأْسَفْنا لِأَنَّهُمْ رَحَلُوا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدُوا هَذِهِ اللَّحْظَةَ.