يقول المثل العامى (جوزك يحبك عفيه ...وجيرانك يحبوك سخيه...واهللك يحبوك غنية)... . فغذا ما فقد الإنسان أى صفة من هذه الصفات، يصبح عديم الفائدة، ويصبح الموت أفضل له من الحياة، بل يصبح المرء ذاته فى حكم الميت بالنسبة للآخرين. وهو ما يعالجه القاص حاتم رضوان فى قصته “متحف الذكريات” وكأن الحياة لم تعد له سوى .. ذكريات.

متحف الذكريات

حاتم رضوان

 

لم تعدْ اختفاءاتُه المتكررة تبعث على القلق، أو تثير فضولهم، يعود إليهم بعد كل غيبة، وكأنه بينهم، لم يفارقهم، لم يَشُكُّوا للحظة في سلامة قواه العقلية، عَهِدوه دائمًا في كامل وعيه، ذاكرة حديدية، لم يخطئ مثلًا اسم أحد أحفاده، أو نسي أي حدث، بعيدًا كان أم قريبًا، احتاروا، يسألون عنه الأقارب، والمعارف، والأصدقاء، لا يظفرون منه بأية إجابة، حتى أنهم في أول مرة غاب عنهم فيها، أبلغوا الشرطة، أعطوهم صورته، لعلهم يستدلون عليه، وتطوع الأحفاد، علقوا صورته وبياناته، وأرقام هواتفهم في كل مكان بالمدينة، مناشدين من يعرف عنه أي معلومات الاتصال بهم، وعندما عاد انفجروا فيه، يستنطقونه، أين كان؟ يبتسم لهم: لا تقلقوا.. أنا بخير.   

   لسنوات قاربت الأربعين يغلق على صدره السر برزة وقفل ومفتاح، لم يُطلع عليه أحدًا: زوجة، ابنًا، ابنة، أو صديقًا مقربًا، لا يريد لهم أن يشاركوه فيها، دائمًا ما كانت ملاذه الأخير، من حين لآخر يعاوده  الحنين إلى الماضي، يرى جماله كلما أوغل في البعد، يلجأ إليها قِبلة للهروب، من حزن فاتك يجثم على قلبه، من هموم متراكمة تُحْكِمُ حصارها حوله، فيستعين بها على مواجهة صعاب الحياة ومشاكلها التي لا تنتهي، يخطف ساعات من يومه الطويل، يسافر فيها، يصعد بحذر السلالم الرخامية البيضاء والملساء في تلك البناية القديمة، القائمة في شارع جانبي، تواجه ضريحًا ذا قبة، يرقد تحتها لأكثر من مئتي عام ولي مجهول، لا يتذكره سوي عدد قليل، يزدحم بهم الشارع الضيق من العام للعام، يوم مولده، يوزعون قطع اللحم مع الأرز والفتة، وداخل سرادق أقاموه للتو، يتطوحون ويتساقطون حتى مطلع الفجر، أبواب الشقق ذات الضلفتين والشراعة التقليدية مغلقة، غاب معظم أصحابها إلا القليل من العجائز، نادرًا ما كانوا يغادرونها، يصل نهاية السلالم يكاد يحفظها سلمة، سلمة إلى الدور الأخير، يدير المفتاح في الباب والقفل، يفتح شباك الغرفة المطل على براح السطح، لم يعد متسعًا كما كان، ضاق بخزانات المياه، وأطباق الاستقبال المرشوقة في كل الأركان، تستقر أنفاسه اللاهثة، يسترخي، تصفو الروح، وتسمو فوق ما علق بها من شوائب الأيام الفائتة، يتمدد فوق سريره المفروش ويروح في نوبة نوم عميقة، يصحو بعدها خفيفًا، صافيًا، ومتخففًا من أثقال القلب، يغلق بابها ويعود إلى بيته، يتلقى استفساراتهم - الزوجة والأولاد، استنكارهم لتأخره، وغيابه المفاجئ، يتعلل بمهمة عمل طارئة، لم يسعفه فيها الوقت لإبلاغهم.

    زمان طويل مر وكأنه بالأمس، أيام التحاقه بالكلية، استأجر هذه الغرفة، تريحه من الصحيان المبكر وتعب السفر اليومي في قطار الضواحي والعودة متأخرًا، تُجَنِبُهُ تآكل ساعات المذاكرة المتاحة، ظلت على حالها لم تتغير حتى الآن، تبدو وكأنها متحف صغير، ومعرض لصور عائلية عبر مراحل عمره، بعضها يعود لأيام طفولته وسنوات المدرسة، وأخرى تجمعه مع الزملاء والزميلات، داخل الحرم الجامعي وفي مدرجات الكلية، وأثناء رحلاتهم الخارجية، يوجد بالغرفة تليفزيون نصر ١٤ بوصة أبيض وأسود بإريال داخلي ومؤشر لقنوات ثابتة يعلو منضدة خشبية في الركن المواجه لسرير سفري مفرد، شهد لياليه وذكرياته، السهر حتى الصباح لإدراك ما فاته من محاضرات ومراجعة مذكرات دراسية تحت ضغط اقتراب الامتحانات، وضيق الوقت، أو الهيام في قصة حب جديدة، تؤرقه، وتطيّر النوم من عينيه، ورغم مروره على أسرة كثيرة ووثيرة في فنادق وبنسيونات عابرة داخل البلد وخارجها، كان يتقلَّب فوقها، يستدعي النوم ويستجديه دون جدوى، لا ينعم بغير غفوات سريعة ، ومتقطعة، لا يجد راحة البال إلا فوق هذا السرير. في مواجهة الباب رف علوي يرقد فوقه راديو خشبي قديم ورثه أبوه عن جده، ويتوزع في الغرفة دولاب وعدد ثلاثة كراسي خيزران ومكتب يزدحم سطحه بدواوين شعر وروايات، بينما تمتلئ أدراجه بدفاتر خط عليها محاولات أولى في كتابة الشعر، وخواطر نثرية، ومذكرات يومية، وأظرف لخطابات غرامية، ومراسلات بالبريد مع أقارب وأصدقاء، وتذاكر سينما ومسرح، دوَّن على كل منها التاريخ واسم الفيلم أو المسرحية، وهل حضرها بمفرده أم مع من، يتأمل تذكاراته المنثورة بأركانها، جمعها طوال حياته الماضية، ألبومات لطوابع قديمة وعملات معدنية منقرضة، فضية ونحاس أحمر، تعود لملوك وسلاطين مصر السابقين، يُقلب في ركن الجرائد، احتفظ بها، تحمل عناوين لمناسبات فارقة في التاريخ، عبد الناصر في رحاب الله، طوفان من الدموع، يوم الوداع، ثورة التصحيح، حرب أكتوبر، إسرائيل في ذهول، قواتنا عبرت القناة واقتحمت خط بارليف، وغيرها الكثير، يزهو بتلك الأعداد النادرة، ثروته التي خرج بها من الدنيا، شكلت الغرفة جزءًا كبيرًا من تركيبته النفسية والعاطفية، وصار ارتباطه بها أكبر من أي شيء في حياته، لم يستطع التخلي عنها بعد انتهائه من الدراسة بالكلية، واقتراب ساعة العودة، داوم على دفع إيجارها، والحرص على نظافتها الدائمة، والاستمرار في ارتيادها، والاطمئنان عليها من حين لآخر.

   فشلت محاولات ابنته في مراقبته شبه المستمرة، والتضييق عليه، لا تسمح له الخروج بمفرده، أقام عندها بعد فقد زوجته، وزواج ابنه الوحيد في شقته، يشعر الآن أنه غريب فيها، لا يرتاح البقاء مع زوجة ابنه، لا يطيق أن يظل وجهه في وجهها لفترة طويلة، بعد خروجه إلى المعاش واتساع أواقات فراغه، يغافل ابنته وأحفاده، ويعاود الهروب إليها، يمكث بها لأيام ثم يعود، وكأن شيئًا لم يحدث، ويومًا بعد يوم تراخت قبضتهم عليه، فترت أسئلتهم، واعتادوا ما يفعل، لا يهتمون إن كان موجودًا أم لا، يستوي حضوره مع الغياب، نسيه الجميع عدا حفيده - طالب الجامعة، تقرَّبَ إليه وشغله أمر جده، قاده الفضول، وإحساس غريب لتتبعه في هذا اليوم، صوت خفي كان يتردد في أعماقه: اتبعْ جدك. ترك كل ما يشغله، وراقبه، جاهد ألا يلاحظه، أو يشعر به، دخل محطة القطار، حاول ألا يغيب عن عينيه وسط زحام الرصيف، صعد القطار بعد أن صعد، قفز وراءه الأتوبيس المزدحم، وفي الميدان الواسع مشى خلفه، انحرف يمينًا إلى شارع جانبي فشارع  آخر، دخل من بوابة بناية قديمة، انتظر قليلًا ودخل، أرسل عينيه وأذنه  في بئر السلم المظلم حتى انقطعت خطوات جده عند الدور الأخير، لا يوجد غيرها فوق سطح البناية، غرفة وحيدة، لا يوجد أي احتمال آخر مؤكد إنه بالداخل، تراجع على صوت فتح شباكها، ونزل مسرعًا، كاد أن ينزلق على السلالم الملساء التي براها الزمن، انطلق نحو الميدان بأفكار مشوشة تتلاطم داخل عقله، ماذا يفعل جده داخل هذه الغرفة؟ ولماذا يخفي عنهم سرها؟ وأي سر هذا الذي ينغلق خلف بابها؟ تثاقلت قدماه، ولم يفكر في العودة، خمشت معدته آلام الجوع، تذكر أن جده هو الآخر لم يتناول أي طعام منذ الصباح، قرر أن يشتري سندوتشات من مطعم شهير صادفه في طريقه، والصعود إليه مرة أخرى، يفاجئه، يطرق الباب خفيفًا، يجتهد ألا يفزعه، ثوانٍ وسوف يكتشف ما خلف الباب المغلق، سيفصح له جده – هو القريب إلى قلبه – عما خفي عنه، يحل له اللغز الذي حار هو وكل من بالبيت في تفسيره، لم يسمع ردًا، علت حدة خبطاته، ولا مجيب، تسلل ببصره من فتحة الشباك الموارب، رآه نائمًا على السرير، ممددًا على ظهره، ناداه، لم يلتفت إليه، انقبض قلبه، وتوترت أعصابه، كسا وجهه الوجوم، وارتبك، ماذا يفعل؟ فتح الشباك وقفز إلى الداخل، هز جده لم يتحرك، كانت عيناه تنظران إلى نقطة محددة من سقف الغرفة، وكان  وجهه يضيئ بابتسامة واسعة، رفع الحفيد رأسه، ركز بصره هو الآخر في الموضع نفسه، كانت النقطة تتسع، وتتسع لتشمل السماء، وغشى عيني الحفيد نور ساطع.