فى فترة ضياع الوطن، كثرت عمليات البيع، حتى وصلت للإنسان ذاته، فأصبحت تزويج القاصرات لمن يملك المال، منتشرة ، خاصة فى مناطق معينة، لتصبح المبيعة فى حكم الموت لأهلها. وهو ما تناوله الكاتب فى قصته “رقصة تنفيض الوجع”.

قصـة تنفيض الوجع

أحمد محمد عبده

 

ارتسمتْ علي جبينكِ خريطة للغضب، كانت نشازاً مع التاج الأبيض الرقيق ، وأنوثة ألوان الطيف علي صفحة وجهٌكِ " البفتة ".

توقعنا أن تأمري.. فأنتِ الملكة؛  بإلقائها خارج الفندق, لكن  يبدو أنكِ استدركتِ حساسية الموقف، فسرعان ما شكَّلتْ ألوان طيفكِ, كرنفالاً من أضواء  ذابت فيها تجاعيد الخريطة العابسة!

واتسع صدُرِك.. وقلتِ: " هي مفروضة عليَّ ، فلا لزوم للفضائح، فربما لا يلاحظ الناس أنها أختيثم استحضرتِ في نفسكِ أرق إحساس وأرهف إشفاق لعروس مثلك, تجاه شقيقة لها - أنتِ وهي - كأنكما  " فولةُ .. وانقسمت نصفين " , لولا ما انطبع عليها من "طَمش" عجيب !, وذلك الملح المجنزر في تضاعيف نحرها، والقشف الُمضَّمخ بالحناء علي ظهر كفيها وذراعيها, وعلي شقوق كعبيها.. فقلتِ لنفسكِ " دعيها وهمومها , فكفى ما هي فيه, فمن الليلة .. سوف يطول تقلبها في سريرها وحدها،  فلن تجد ضفائري بعد اليوم, كي تظل تعبث في تلافيفها ونحن على وسادة مشتركة, فأصرخ في وجهها" عايزه أنااااام",  فلا تكُف عن عبثها فيها حتي أغيب في النوم. كما أنها لن تجد هياكل العظم, ولا الجمجمة.. لكي تحضنها وتُقبّلها.. وتغني لها الأغنية التي تلبّستها بعد واقعة البطة والكتاكيت"!    

 ... فمن يوم أن سقطت بطّتهم " الشرشير " الوحيدة  في البئر,  وسقط في إثرها سرب من صغارها الخُضر, من ساعتها و" بهيجة " لا تكف عن ترديد:              

""  شيـر شير .. شير .. شير .  بطتنا وقعت في  البـــــــــــير" !

وكان أبوها ينهرها، تشاؤماً وخوفاً من أن يكون ما ينفـرط منها , فألاً نحساً علي جاموسـتهم.. الوحيدة أيضاً.

لكن يا ترى حينما نكون في قاعـة " ألف ليلـة وليلــة ", أيضا نقول " كوشــة " ؟

خَجِلتُ أن أسأل أحـداً،  فكفـي ما تفعـله "بهيجـة" في الهيلتون !

" بهيجة " ترقص في الهلتــون !!

 في ذات المكان.. الذي دبت عليه إيقاعات وتوقيعات صافيناز, وسهير زكي,  واحدة قادمة من على مُنزلقات الجليد في روسـيا, وواحدة خرجـت من حقول الذهب الأبيض في أراضي مصر!

تجلسـينَ بجوار عريسـك في " الكوشـة" ، وعلي رأسـك الطرحـة التوللي ، بينما هو علي رأسـه  شـال أبيض وعقـال ! 

هو لم يكف ـــــــ ومنذ بدأتْ " بهيجـة " في الرقص ـــــــ  عن القهقهـة والكحـة والحشـرجة ! , فطغت عليكِ  نوبـة من الأسـف الشفيف المُغلـف بابتسـامة مواربة, قد تتطور إلى ضحكة صامتة,  وتضربين  كفـاً بكـف مُستهجِنة ماتفعله بهيجة, ربما لتصرفين الأنظار عن محاولة ربطهم بين توأمك, الجزء الثاني من " فصـي الفولـة " . 

تحفــة .. والله تحفــة !

ولو أن " شكوكو أو اسـماعيل يس" , واحدا منهما هو الذي يرقص, ما ضجَّت القاعة بهذا النشـيج الضاحك، فلا نعرف, من بين ثنايا شنهفاتهم, ورغرغة  الدمـوع  في عيونهم، إن كانوا يبكون أم يضحكون !

 " كان من المفروض عليها أن تقول أنها سترقص في فرحـي ، كنا أجبرناها علي حـك حراشـف قدميها، وكنا  ألبسـناها - غصبـاً عنها - جلبـاباً مغسـولاً "

 هي حاجـة من اثنتـين: إما  كنتم تُقيمونَ الفرح في العـزبة ، وإما كان واحـداً ممن لهم تأثـير عليها, يمنعها من أن تنفلت وتركب معهم الميكرو باص لتذهب إلي كورنيش النيل, كورنيش النيل "مرة واحدة !! "

وهل كان " الشــيخ " يرضي بأن يكون زفافـه في عزبة ؟!

وإن كنا نظـن أن أحـداً مهما كان, لم يكن ليقدر علي واحدة " عيارها مفلوت "!   طورت " بهيجة " كوميدية الموقف, سحبت الإ يشارب الملون من على شعرها الأكرت,  وهي منهمكة في الرقص؛ راحت تتحزم به, زغـر لها والدها، التقت عينها الناعسـة علي كتفها, بعين أبيها الزاغرة , فلم تهتم, وواصـلت حنجلتها وتفقيرها مثل مجاذيب الزار, في تطويحات سريعة ومتتابعة وهي تغـني :

"  شـر شير .. شير .. شير . بطتنا وقعت في  البــــير " !!

الإ يشارب حزام فوق ردفيها المهطولين،  وجلبـابها  الفضـفاض المنقوش بفصوص توت بنفسـجي, كأنه نذرُ عليها أن ترقص في فرح أختــها " اللكتــورة " الدكتورة .

يمنعوهــا.. يضـربوها.

ـــــــــــ  لازم أرجـص لازم

=  يا بهيجــــــة !!

ــــ   لازم أرجـص في فرح أختي  لازم

=  يا بنـت  النـــاس!!

ـــــــــــــ   " لا زم  .. لازم "

ذراعاها الممصوصتان مثنيتان إلى فوق, انحسر عنهما الأكمام, يشكلان الرقم سبعة, عليه الرقم ثمانية, شكل المُعين, أو مثل فانوس رمضان, رأسـها بشعرها الأكرت بداخله مثل قنفذ يتنطط, وحينما تتعب تضع أصابعها المشتبكة على رأسها. فتميـل مرة نحو الشـمال فتبرز فلقـة ردفهـا اليمني, ومرة  نحو اليمين, فتعلــو فلقـة ردفهـا اليسـرى,  وتظل علي ناحية منهما.. لثـوانٍ, لتظل فلقــة الردف المُشـرعة تنبـض وتنتفـض من تحت جلبـابها معلنةً عن نفسها, يشـتد تصـفيق المعـازيم، كلمـا  قَبَّت فلقة الردف أو غطـست.

برطشـة الحنـاء، تخُضِّـب القشـف، وعرق " العافيـة الهابلة ".. يلمع علي فتحـتي أنفها , ويجعل شقوق كعبيها تترك بصماتهما علي نعومة الباركيـه.

 خرجت " بهيجة " من قلب الدائرة ، راحت تتجول  في أنحـاء " ألف ليلة وليلة "!  توقفت أمام لوحـة " فلاحـة من بحري ", فانهمكـت تلطُم بكفيهـا علي فخـذيها وهي تنـط مع كل خبطـة.

ثم سـارت.. وهي تتهجـي الرقص، وقفـت أمام  بورتريـه لـ " شـهرزاد " وهي تحكـي لـ " شهريار" ،  فَصفَّقت وأطلقت الزغـاريد..

ثم مشـت إلي ركن آخر من أركان القاعـة، تَسـمّرت قدماها أمام لوحـة "مسـرور" وهو يرفع  سيفه.. فراحت تغني :

"  شـر شير .. شير .. شير .  بطتنا وقعت في  البـــير " !!!