قد لا تشعر .. إذا ما طالعت وجهه لأوّل مرّة (عم ابراهيم) أن ذلك الرجل تعدّى سنه الخمسين ببضع سنوات, إذ هي ابتسامته لا تفارق وجهه وملاحة الحديث تجتمع حولها من موظّفي المستشفى الكثير بمختلف درجاتهم التعليميّة والوظيفيّة, يرتدي جلبابًا نظيفًا يتم تغييره قبل الشّروع في عمله, نادرًا ما تُطالع شعرة بيضاء تسللت خِلسة لتُعكِّر صفو أناقة السّواد في رأسه.
- إيه الأخبار يا عم إبراهيم؟
كانت كلماتي المعتادة له كل صباح, ما إن رايته قادمًا وبيده جريدته الصّباحيّة, وقبل أن يناولني الجّريدة مبتسمًا يقول: (كل خير إن شاء الله) ومع كوب من الشّاي تفوح رائحة النعناع المتصاعدة منه, وفي جلسة لبضع دقائق, انكبُّ على تصفّح الجريدة سريعًا في حين يُتابع هو عمله في عيادة الباطنه التي كلّف برعايتها والاهتمام بنظافتها وتسهيل دخول المرضى بها, وقبل أن يشرع طبيب العيادة في عمله وبعد كوب القهوة المُعتاد يسألني: إيه الأخبار؟ في إشارة منه لقراءة بعض عناوين الأخبار الرئيسيّة, اهتمام عم إبراهيم بعمله أمر مقدّس فلا يجوز ترك مكان عمله إلا بعد انتهاء العيادة وخروج أخر مريض تم متابعة حالته.
وما إن تفرغ العيادة من المرضى, يشرع عم إبراهيم في القراءة بتأنّ دون أن يزعجه أحد, ولمّا كان يوم تأخر فيه الطبيب عن الحضور, وقبل أن أباغته بسؤالي المعتاد: إيه الأخبار؟ سألته عن السّر وراء اعتياده تصفّح الجريدة بشكل يومي, ابتسم وقبل أن يسترسل في حديثه تنهّد طويلًا وقال: توفّى والدي وتركنا سبعة أبناء مابين ذكر وأنثى, في زمان كانت العزوة بالأبناء ميراث كبير دون وعي أو اهتمام باختلاف ظروف الحياة في مستقبل الأيام , وأمام تلك التحدّيات التي أورثتني ثقل ما أنّت لحملِه أكتافي صغيرًا, مكتفيًا بما نلته من حظ قليل من القراءة والكتابة, متنقّلًا بين مختلف المهن التي حاولت من خِلالها جاهِدًا بناء بعض ما تهدّم بوفاة والدي, ورعاية إخوتي حتّى إتمام شهاداتهم الجامعيّة, وكلّما مر الوقت اشعر بحنين إلى القراءة والكتابة, فأجدها كما قال عميد الأدب العربي: (التّعليم كالماء والهواء) فلا أجد متنفّس لهواء نقي سوى تلك الجرائد والمجلّات, لا سيّما وشعوري بالفخر وأنا اتحدّث عمّا يدور من حولي في السّياسة أو الفن أو الرّياضة, قاطعته قليلًا لتخفيف حِدّة كلماته التي أرّقت مدامعه: كل واحد بياخد نصيبه, ثم واصل حديثه كمن أراد أن يُفرغ ذاكرته من كل ما علِق بها من هموم, دارات الأيام وجاءتني الفًرصة لشغل إحدى الوظائف الحكوميّة, ومن حُسن حظّي أني امتلك شهادة أتمام المرحلة الابتدائيّة, وكنت احد المختارين لذلك السّبب, قاطعته مرّة أخرى: لديك من الأبناء مَن يحمل شهادات جامعيّة أليس كذلك؟ نعم وهل يُعقل أن اجعل منهم مَن لا يستطيع أن يقرأ سوى الجريدة! ابتسمت له وتمنّيت لو أنّي استطعت أن أصفّق له, إلا أن نظراتي إليه وما يحمله من شغف وحُب للحياة كانت كفيلة أن تفعل ذلك.
تقاعد عم إبراهيم عن عمله, إلا أنني داومت في قادم الأيام على مُتابعة إحدى الصّحف اليوميّة, نظرًا لاهتمام ابنتي وبعض من صديقاتها لما كانت تحتويه من بعض أسئلة مراجعة ليلة الامتحان, ولمّا كانت تربطني علاقة ود وصداقة بأحد الأطباء كما ذكرت سلفًا, وإذا بصوته عاليًا: صباح الخير, الله يرحمك ياعم إبراهيم, ثم تابع: إيه الأخبار؟ وقبل أن أبادله تحيّة الصّباح وأمد له يدي بالجريدة يتصفّح بعض عناوينها في عُجالة: أخبار اليوم كالأمس, ليس من جديد هُناك, فقط هو ترتيب جدول الدّوري العام بعد أخر جولة, ثبوت أسعار السِّلع رغم ارتفاعها الجنوني, صور من حفل افتتاح احد المهرجانات السينمائيّة, يتخلله عرض أزياء لبعض الفاتنات من سكّان القمر, وقليل من الفن ومزيد من الملابس العارية, وأخيرًا قصف صاروخي من هُناك ومزيد من القتلى والمُشرّدين من هُنا.