سؤال أبدى حير الفلاسفة.. هل الإنسان مُخير أم مُسير؟ ذلك ما يكمن فى خلفية قصة “آدم ىيل للسقوط” للقاص ياسر سليمان، والتى يتناول فيها العلاقة الأبدية التى تربط الإبن بأمه، لا فى فترة الطفولة فقط، ولا لاحتياج المادى فقط، ولكن الاحتياج الأبدى الذى يستمر مع الحياة، طالما الإنسان على الأرض. وإذا ما فقد الإنسان الأم.. قُطع حبله السرى مع الحياة.

آدم آيل للسقوط

ياسر سليمان

 

 أنا الآن عجوز يا أمّي، أربعيني عجوز، ووحيدٌ كآدمَ قبل أن يخلق الله له حوّاء من ضلعه، أذكر ضلعك، أحِس به رغم البعد، لا تملكين سوى قلبٍ يغلّفه ضلوع، والكثير من العظام، دافئة كقلبك، وأنا الآن أشعر بالبرد والوحدة، علّمتِني وأنا صغير كيف أحضن نفسي، جرّبت كثيرًا يا أمي، لكن ذلك لا يجدي، أفتقِد دفء حضنك وسحر الحكايات، يرنّ الهاتف، يأتيني صوتك، يحمل ضلوعك وعظامك وقلبك، يحمل الدفء. لكنّ صورتك المعلّقة على جدار الغرفة تخبرني بقسوةٍ أنكِ ميتة منذ سنواتٍ بعيدة، تكذب الصورة، ويكذب العالم، لا شيء صادق سوى صوتك، سوى عظامك وضلوعك وقلبك، لا شيء صادق سوى دفئك، قلتُ لهم "أنتم تكذبون".

لكنكِ لم تكوني هناك لتعدّي لي العشاء، فلم آكل، ولم توقظيني في الصباح وقد أعددتِ لي كوب الشاي، هل نمتُ ليلتها؟

 لأيامٍ كنت أبحث عنك في الغرفة البائسة، وفي السوق، وعند الفرن، وعند بائع الحليب، لكنكِ لم تكوني هناك، لم أجد سوى نظراتٍ تلفّني بشفقة، وتمتماتٍ تطلب لك الرحمة، أنا الذي أذكر التفاصيل لا أذكر متى حدث ذلك، ولا متى ظهر الشرخ في جدار الحائط، أذكر أني وجدت صورتكِ في أوراقي القديمة، لم تكن كبيرة ولكنها كافية لتخفي الشرخ. نظْرتُك فيها كانت كافية لترمّم شرخ الروح وتصنع شرخًا آخر أعمق وأكثر إيلامًا، الجدار قديم، رغم تماسكِه الظاهر، فمتى بدأ الشرخ؟

تَقَشر الطلاء منذ زمنٍ بعيد، إلا مِن بقعٍ صغيرة باهتة على أطرافه، يكاد لا يبين لها لون، قد تبدو خضراء للمتأمل، أو العارف بتاريخ الجدار، تَخرجين مِن صورتك كل مساء حين أنام، تمنحينني الدفء وما تَيسر من الحكايات، مِن خلف صورتك برزَ امتداد للشرخ، لم يكن ثمّة صورة أخرى لك أداريه بها، فوضعتُ عليه ورقة من مفكرتي، مفكرة قديمة، حين كان لي شغفٌ بالقراءة، ورقة فورقة، حتى صار الجدار ملصقًا كبيرًا لأوراق قديمة وصورة في المنتصف، عيناكِ في الصورة ترقباني أينما كنت، خائفةً مرة وحزينة في كل المرات، وحنونة على الدوام.

"الأرواح التي تستعيد نفسها بنفسها، أرواحٌ قوية"

"بابلو نيرودا"                     

كتابة بقلم أزرق رخيص، خطّي، أذكره، كان متأنقًا، حتى خطّي تَغير، لا أذكر الكتاب، لكن ما الذي شدّني لتلك الجملة؟

لم أكن بحاجةٍ للقوة، فيمَ يحتاج المرء للقوة؟

علّمتني أن المرء لا يحتاج إلا للحب، الحب وكفى، لكني لم أجِده مِن بعد رحيلِك، وها أنا ذا لا قوة ولا حب!

ورقةٌ أخرى من المفكرة مكتوبة بالأحمر أسفل صورتك، وذات الخط المتأنق:

"أنا لم أقم بأي خطيئة ضد مجتمعكم الحساس، كل ذنبي أنني موجود في هذا العالم"

"بيلار جوميز رودريجز"

في اللحظة التي يولد فيها المرء فهو متورط، ربما يكون بريئًا، لكنّ التجربة الأولى ستغتال براءتك، وستتخلى عن جثتها عند المنعطف الأول، لذا فالبراءة كائنٌ خرافي. ترمقني أمّي بنظرتها الحنون، أظنها تخبرني بأنني كنت بريئًا، هل حقًا كنتُ بريئًا يا أمي؟

هل ثمّة شخصٌ بريء؟

"إنْ أردتَ شيئًا من العالم، فدعْه يسمع ضجيجك"

"مالكوم إكس"

ورقةٌ عليها الكثير من الشخبطات، ورسمة سيئة لمَركب.

كانت لي ذاكرة عجيبة، كل الأصوات والروائح التي ارتبطت بها خلال تسعة أشهر كاملة داخلك لم تكن تفارقني، صوت دقات قلبك، صوت سريان الدم في الشرايين، رائحة الدم، طعم الغذاء، صوتكِ وأنتِ تغنّين لي بينما تملّسين على بطنك المنتفخ.

"لما قالوا ده ولد

انشد ضهري وانسند

وجابوا لي البيض مقشر

وعليه سمن البلد"*

لذا كان تلقّيي لتجاربي الأولى مختلفًا، التجربة تضيف ولا تمحو، تؤكد ما سبق وعشته خلال تسعة أشهر، فمِن بين كل الروائح التي صادفتها عشقت رائحة الفانيليا؛ فقط لأنها الرائحة الأقرب لعالمي الخاص والذي استمر لتسعة أشهر، أذكر حين تركتِني عند جارتنا التي تكبرني بعشرين عامًا، كنتُ في السادسة، وكان بيتنا مزدحمًا بالنساء والصراخ لموت أحدِهم، ربما كان أبي أو جدّتي، منحَتْني جسدها، أنا الطفل الذي لا يعرف الجسد ارتبكت، لم يكن لجسدها رائحة الفانيليا، كان أشبه برائحة النار والعطور الرخيصة، وشيئًا فشيئًا أعجبني الأمر، ثم اعتدت عليه مع مرور الأيام.

*أغنية من التراث

تبدلتُ يا أمي ، هل لاحظتِ ذلك ، بعد السنة الأولى لاكتشاف الجسد الناري ؟ نسيت

رائحة الفانيليا تمامًا، بعد السنة الثانية جرّبت جسدًا آخر، عند اكتمال السنة الثالثة كنت قد جرّبت كل الأجساد المتاحة في بلدتنا.

كلما ظهر امتداد للشرخ في الحائط خبّأته بورقةٍ من مفكرتي، لكنه أبدًا لم يتوقف.

عندما أتممت السادسة عشرةَ قابلتها، بيضاء كحزمة ضي، كانت مِن قريةٍ بعيدة، رأيتها في فرحٍ في قريتها، كانت ترقص كمهرةٍ شرسة، "لازِمها خيال" قلت، فدنوت، مأخوذًا بعينيها دنوت، مشدودًا بسحر خطوتها دنوت، مبهورًا بالضحكة دنوت، واحتوتني، بعد أن اقتحمتْ كياني رائحةُ جسدها، فصِرت كمنْ يسبح في غيمةٍ من فانيليا، واحتوتني، حتى كأنما عدتُ لبطنك يا أمي.

لم يكن حبًا، ولم تكن تشبهك في شيء.

مِن خلف كل الاقتباسات كان الشرخ يزداد، حتى صار جدارًا آيلا للسقوط، تحته يرقد آدم ينظر للصورة التي بدأت في الاهتزاز.