يعيش الإنسان - بعد الأسرة- فى مجتمع، تتمثل قراراته فى تحديد سلوك الإنسان، فإما أن يكون إيجابيا، وإما أن يكون سلبيا. وها هو الرجل يجلس بجوار السور، ذلك الذى صوره أحمد رجب شلتوت، ليؤكد أن المبدع لا يعيش لنفسه، وبنفسه ... فقط.

الجالس بجوار السور

أحمد رجب شلتوت

 

دقات طبول عنيفة أيقظت الناس. صحوا مفزوعين. كل منهم سأل الآخر عما حدث، لكن أحدا لم يجب.    بعد انتظار طويل مر المنادى راكبا حماره، وممسكا بمكبر صوت فى يده اليمنى، بينما ارتفعت يسراه فى محاذاة الأذن اليسرى.

  لما تكلم المنادى علم أهل المدينة بما حدث. وحكى كل منهم للآخر عن المساجين الخطرين الثلاثة الذين قتلوا حارسهم وفروا من السجن. فأصاب الفزع الجميع، وراح كل منهم يحتمى بالآخر ويبثه خوفه.

 عمت الفوضى المدينة. ولذا مر المنادى مرة أخرى راكبا حماره. أمرهم بأن يذهب كل منهم إلى عمله، ومن كان منهم بلا عمل يلزم بيته، وأبلغهم بضرورة الإدلاء بكل المعلومات التي يعرفونها عن الهاربين. هددهم بأن من لا يفعل ما يؤمر سوف يلقى شديد العقاب.

 ولما ازداد فزعهم حاول أن يطمئنهم فأكد على أن الهاربين سيبيتون ليلتهم فى السجن بعد إعادة القبض عليهم، ولذا أعاد أمره للجميع بأن يهدأوا ويذهبوا إما إلى أعمالهم وإما في بيوتهم.

***

 لما انتهى اليوم نام أهل المدينة مفزوعين لأن المنادى لم يخبرهم بنبأ القبض على الهاربين.

***

    فى اليوم التالي قام أهل المدينة من نومهم ليجدوا سورا عاليا أقيم حول المدينة. كل منهم سال الآخر عن السور.. من بناه؟ ومتى؟ وكيف؟ لكن أحدا لم يجب.

وبعد انتظار طويل جاءهم من خارج المدينة صوت. كان  المتحدث واحدا من الهاربين. قال:

    _  لقد سجنتمونا عاما وسنسجنكم الدهر كله.  

بوغت أهل المدينة. خروا مغشياً عليهم.

***

فى الصباح الثالث قام أهل المدينة من نومهم كي يتدبروا أمرهم، ويفكروا فى كيفية الخروج من سجنهم. أحدهم حاول تسلق الجدار. لكن الجدار كان أملسا فسقط ولم يقم. أخر حاول أن يثقب الجدار فجاءته - لا يدرى كيف ولا من أين؟ - رصاصة ثقبت صدره.

   طافوا جميعا - ما عدا القتيلين طبعا - بالسور. اكتشفوا بابا حديديا ضخماً عند الطرف الشمالي للمدينة.

   بضراعة دقوا الباب. قالوا:

             _ افتحوا ونحن عبيدكم.

جاءهم الرد:

    _  لن نفتح لكم الباب إلا بعد أن تلقوا لنا برأس رئيس المدينة.

وصلت الأخبار إلى رئيس المدينة. فلاذ بالفرار. وظلوا طوال اليوم يبحثون عنه، 

 وفى الصباح الرابع ألقوا برأسه من فوق السور. لكن من بالخارج لم يفتحوا الباب.

وفى الصباح الخامس والخمسين وقف تاجر تجار المدينة بالباب.. زعق بأعلى صوته. اقترح عليهم أن يدعوه يخرج بأمواله ليتاجر بها فى المدن الأخرى ولهم ربع ما يكسب.

قال أولهم: لا

فقال التاجر: نصف ما أكسب.

قال الثاني: لا

سكت التاجر فقال الثالث: تسعه أعشار ما تكسب.

 وبعد مساومة خفضوا نصيبهم إلى سبعة أعشار ما يكسب، ولما وافق التاجر أخرجوه بأمواله.

***

فى الصباح السادس بعد المئة الأولى وقف راعى الغنم بالباب. زعق بأعلى صوته. اقترح عليهم أن يتركوه يرعى أغنامه خارج المدينة التي أجدبت على أن يذبح لهم كل يوم خروفا.

قال أولهم: لا

فقال الراعي: أذبح خروفا وشاة.

قال الثاني: لا

سكت الراعي فقال الثالث: تذبح خروفا وشاتين.

ولما وافق الراعي أخرجوه بأغنامه.

    وفى الصباح السابع بعد المئة الثانية لم يكن قد تبقى للراعي من قطيعه سوى خروفا واحدا وشاتين اثنتين. تحسر على القطيع الذى كان. الحسرة أشعلت نار حقده، عندئذ فقط تحرك عقله. فكر فى أن يضع لهم السم في طعام اليوم الأخير.

وفى الصباح التالي صحا أهل المدينة على صوت الراعي. قال:

            _ افرحوا وهللوا، فقد خلصتكم من الأشرار

هللوا له وهتفوا باسمه. لكنه قاطعهم قائلا:

          _ لا أريد هتافكم بل أريد ثمن خرافي التي أكلوها، وفوقه مثل الثمن للخراف التي كان يمكن أن تولد، ومثل الثمن مقابل الحسرة التي كنت أتجرعها كل يوم وأنا أقدم للأشرار خرافي وشياهي.

تبرع كل منهم بما يستطيع لكنهم لم يكملوا المبلغ المطلوب، فباتوا حزانى.

    وفى الصباح العاشر بعد المئة الثانية صحوا على صوت المنادى يدعوهم لمقابلة أغنى أغنياء المدينة. قال:   

       _ سأدفع المبلغ كله. وليسترد كل منكم ما دفع.

هللوا له  وهتفوا باسمه. وقف يسمع حتى انتهوا ثم ابتسم وهو يقول:

  _ سوف أدفع المبلغ كله، إن وافقتم على شرطي

    زاموا وهمهموا ثم صمتوا منتظرين أن يذكر الشرط، قال:  

               _  أن تبايعونني رئيسا للمدينة

***

    وبعد صباحين طاف المنادى معلنا نبأ مبايعة الرئيس الجديد ويأمر الجميع برفع صوره على كل جدران المدينة، وفى هذه ال ليلة ناموا مسرورين لأن رئيس المدينة تسلم مفاتيحها من راعى الغنم.

***

      وفى صباح اليوم الأول من المئة الثالثة ذهبوا إلى رئيس المدينة مقترحين هدم السور، فقال إنه سيتشاور فى الأمر مع كبار رجال المدينة وسيصلهم الرأي عن طريق لمنادى.

       وفى صباح اليوم الأول من المئة الرابعة صحوا على صوت المنادى يعلن رفض رئيس المدنية لهدم السور لأنه يدفع عن المدينة الأعداء، كما يمكن أهلها من طرد الخارجين على النظام.

    وبعد صباحين طاف معلنا إن الرئيس يطلب حراسا لباب المدينة بماهية كبيرة. عندئذ هرعوا جميعاً إلى  مقر الرئيس، يداعبهم الأمل فى شغل الوظيفة.

     وفي ذلك المساء، وبينما كانت الزينات تُعلّق على الجدران، جلس أحدهم بجوار السور، لا لينتظر شيئًا، بل ليسترجع السنين التي مضت... والسنين التي قد لا تأتي.

===========================================