تلعب القصة القصيرة، دورا كبيرا فى عملية التنوير، وإيقاظ الوعى، والتخلص من العادات التى تُكبل البشر بقيد غير مرئي. وهذا ما تلعبه الكاتبة المغربية نور الهدى سعودى فى قصتها. مغلفة إياها بالكثير من الغموض الذى يدفع القارئ لأعمال فكره، والبحث عن إجابة السؤال الأبدى لدى القارئ: ماذا تريد القصة أن أتقول؟. وحينها، عليه أن يبحث عن المفاتيح التى تفتح له ما انغلق، ويفكر خارج الصندوق المحدد بحدود القصة.

موسم الغبار

نور الهدى سعودي

 

الغبار يرتفع في دوائر كثيفة حول حوافر الخيول المجنونة، والبارود ينفجر في السماء الصافية كرعد صيفي مفاجئ. موسم سيدي جيلالي بن علي  في يومه السابع والأخير، نفس الطقوس منذ قرون، نفس الصرخات، نفس الانتظارات المعلقة في الهواء الساخن.

سعيد الخياط يقف عند مدخل الساحة الترابية، في عمره سبعين، خمسون منها قضاها يخيط أكفان الموتى وأثواب العرائس. جاء اليوم ليخيط كفنه الأخير، ليس من قماش، بل من ذكريات وخيبات وأمل واحد معلق على وعد قديم همسه له أبوه المحتضربصوت الموت :

  •  في اليوم السابع من الموسم، عندما يختلط الغبار بالبارود، ستعرف من أنت.

بجانبه تقف حليمة، ابنة أخيه التي أكملت ثلاثين عاما منذ يومين، وجهها مغطى بلثام أبيض لا يُظهر إلا عينيها السوداوين. جاءت معه مرغمة، تحمله على ذراعها النحيلة وتحمل في صدرها سراً ثقيلاً كالحجر.

الفرسان يدورون في حلقات محكمة، خيولهم البيضاء والسوداء تختلط في رقصة الموت والحياة. البارود يتفجر من بنادقهم العتيقة في إيقاع يشبه دقات قلب الأرض. سبعة أيام والناس يأتون من كل حدب وصوب، يجيئون بمرضاهم وأحلامهم المكسورة وحاجاتهم التي ضاعت في دهاليز الزمن.

يحملون دهورا من الجهل والضياع،  يخلطونها بغبار الموسم، عسى أن تنتج لهم وصفة نجاة. الأمل هنا محفوف بالحظ، والنية الطيبة، خائب من تخونه نيته، هذا يعني أن قلبه أسود، لا يصلح للصلاح ولا للنجاة، لذا الناس هنا، يأتون محملين بعلب الحليب لزيارة الضريح، عسى أن تعكس بياض قلوبهم المنشود.

الزيارة في طوافها السابع ، الفرصة الأخيرة للناس لتصل أمانيهم لصاحب القبة، خطواتهم بين يأس وأمل، متسائلة أما حان للنية أن تصفى، و تحقق الرجاءات المؤجلة لأعمار شارفت على نهايتها. الغبار يصعد من مشيهم الثقيل، ويلف علب الحليب بلون ترابي بائس.

سعيد يتقدم نحو الضريح الأبيض المتربع وسط الساحة. كل خطوة تكلفه ألماً في ركبتيه المتآكلتين، لكنه يمشي. خمسون عاماً وهو يحمل اللغز، أبوه الذي رباه لم يكن أباه، والخياط الحقيقي مدفون هنا، تحت هذا التراب المقدس،  كما باح له همس الموت.

الشمس تميل نحو الغرب، والظلال تطول كأصابع سوداء تمتد من عالم آخر. الغبار يزداد كثافة مع جنون الخيول، والبارود يملأ الهواء برائحة الكبريت والموت القديم. النساء يزغردن بأصوات تخترق الجمجمة، والرجال يصيحون بكلمات لا معنى لها إلا في هذا المكان، في هذا الزمان.

حليمة تشد على ذراع عمها عندما يترنح. تعرف سره، تعرف انتظاره، لكنها تحمل سراً آخر. كما كل الناس هنا، تأتي بهم أسرارهم، تبعات الأجداد الذين كانوا عبيد الزيارة، وكل واحد منهم رسم في مخيلته، سر ووعد، لتستمر الزيارة وأمل التغيير الحالم في الأجيال، خيال أم حليمة الذي سلم الروح لحظة ولادتها، هو الاخر كان  زائرا وفيا،  همس لها في الليلة التي أتمت الثلاثين : أنت لست من تظنين، وفي الموسم ستعرفين.

فجأة، الخيول تصهل في وقت واحد. صهيل يشق السماء كصرخة مولود أول. مرة، مرتان، ثلاث... سبع مرات. الغبار يرتفع عموداً أسود يختلط بدخان البارود، يحجب الشمس، يحول النهار إلى ليل مؤقت.

الأرض تحت أقدامهم تبدأ في الاهتزاز. ليس زلزالاً، بل نبضاً، كأن قلباً عملاقاً يدق تحت التراب. الحشد يصمت دفعة واحدة، حتى الخيول تتجمد في أماكنها كتماثيل من لحم ودم.

من الأرض، بجانب الضريح مباشرة، يبرز شق صغير. يتسع، يتمدد، يصير فوهة. يد تخرج منها، مغطاة بتراب عمره قرون. ثم ذراع، ثم جسد كامل ينبثق من رحم الأرض.

رجل طويل نحيل، ملامحه غامضة تحت قناع التراب. يقف، ينفض عن نفسه غبار السنين، ويمشي مباشرة نحو سعيد. عيناه فجوتان مظلمتان لا قاع لهما.

ينظر إلى سعيد طويلاً، ثم يمد يده ويلمس وجهه. سعيد يرتجف لكنه لا يتراجع. في تلك اللمسة، يرى كل شيء: يرى أباه الحقيقي يخيط في ضوء القمر، يخيط ستاراً غريباً من خيوط لا تُرى. يرى نفسه رضيعاً يُترك عند باب الخياط العقيم. يرى حليمة وهي تولد من امرأة ميتة في نفس هذا المكان. يرى الموسم يتكرر سنة بعد سنة، قرناً بعد قرن، والناس يأتون وهم لا يعرفون أنهم يطعمون بانتظارهم وحشاً نائماً تحت التراب.

الرجل يفتح فمه ويخرج صوت كالريح في مغارة:

  • سبعون عاماً كاملة. الدائرة تكتمل.

يشير إلى حليمة التي تقف متجمدة

  • وثلاثون أخرى. الأم والابنة، الخياط والمخيوط، والناس المنتظرة..

يرفع يديه إلى السماء، والغبار يبدأ في الدوران حولهم في دوامة بطيئة. الناس يريدون الهرب لكن أقدامهم ملتصقة بالأرض. الخيول تحاول الصهيل لكن لا صوت يخرج.

سعيد يدرك أن  الموسم ليس للبركة، بل للحصاد. كل سبعين عاماً، يستيقظ الخياط الأول ليأخذ خياطاً جديداً. كل ثلاثين، يأخذ امرأة لتحرس الضريح من الداخل. دورة أبدية من الأخذ والعطاء، والناس يأتون بأقدامهم ظناً أنهم يطلبون، وهم في الحقيقة يُقدمون.

حليمة تخطو خطوة للأمام، تخلع لثامها، وتكشف عن وجه يشبه وجه الرجل الخارج من التراب بشكل مرعب. نفس الملامح، نفس العينين الفارغتين، كأنها نسخة أنثوية منه.

الرجل يتراجع خطوة، وللمرة الأولى يبدو الارتباك على وجهه الترابي.

حليمة تمد يدها وتلمس صدره. في تلك اللحظة، يحدث انفجار صامت. موجة من الضوء الأبيض تنطلق من نقطة التماس، تكتسح الساحة، تعمي الجميع للحظات.

عندما يعود البصر، الرجل اختفى. حليمة تقف وحدها، لكنها مختلفة. عيناها تشعان بنور غريب، وحول جسدها هالة من الغبار الذهبي.

تنظر إلى سعيد وتبتسم ابتسامة ليست ابتسامتها:

  • دائرتنا انكسرت يا عم. أنا لست الضحية، أنا الخلاص. ثلاثون عاماً انتظرت لأعود وأنهي ما بدأه جدي الخياط الأول. كان يريد أن يخيط ستاراً بين العالمين، لكنه نسي أن بعض الأشياء يجب أن تبقى ممزقة.

تدير ظهرها وتمشي نحو الضريح. مع كل خطوة، يتساقط منها الغبار الذهبي، يغطي الأرض، يتسرب إلى الشقوق. الضريح يبدأ في التصدع، الجدران تتهاوى، القبة تنهار. في دقائق، لا يبقى سوى كومة من الحجارة البيضاء.

الغبار اختفى، الرؤية واضحة الان ، الناس يستعيدون قدرتهم على الحركة. يتفرقون في صمت، كل يحمل في قلبه قصة عن سره وخيال أجداده، لن يصدقها أحد. الخيول تعود لصهيلها، لكنه صهيل حزين، كأنها تودع شيئاً قديماً مات للتو.

سعيد يقف وحيداً وسط الساحة الفارغة. ينظر إلى المكان الذي كانت تقف فيه حليمة، لا أثر لها. هل كانت موجودة فعلاً؟ هل كان كل هذا حلماً؟

لكن الألم في ركبتيه اختفى. والثقل الذي حمله خمسين عاماً تلاشى. النية أخيرا تحققت! أم وهم خلاص اليوم السابع ضيعه؟ يمد يده ليلمس وجهه، يشعر بدموع  ساخنة، ممزوجة بغبار الموسم لم يذرفها منذ كان طفلاً.

الشمس تغرب نهائياً، والظلام يلف المكان. سعيد يدير ظهره للأطلال ويمشي نحو القرية. خلفه، الريح تعزف لحناً قديماً بين الحجارة المتناثرة، لحن الموسم الذي انتهى ولن يعود.

في جيبه، يجد قطعة قماش صغيرة لم تكن هناك من قبل. عليها كلمة واحدة مطرزة بخيط أحمر وأخضر.

  • حر.

يبتسم ويواصل المشي. الخياط الأخير صار حراً، لا زيارة بعد الان، والموسم الأبدي انتهى عنده.

 في القرية، الأضواء تشتعل واحداً تلو الآخر، والحياة تستمر كأن شيئاً لم يكن.

لكن سعيد يعرف، وفي مكان ما، ربما، حليمة تعرف أيضاً. أن بعض المواسم يجب أن تنتهي، وبعض الخيوط يجب أن تُقطع، حتى يمكن نسج شيء جديد بلا غبار من البداية.