هل ما نختاره يوميًا عبر الإنترنت هو حقًا نابع من إرادتنا؟ أم أن هناك من يختار عنا دون أن ننتبه؟
قد تبدو الإجابة بديهية: بالطبع نختار ما نريد! لكن لو تأملنا قليلًا في الطريقة التي نستهلك بها المحتوى اليوم، سنجد أنفسنا أمام واقع مختلف تمامًا — واقع تحكمه خوارزميات ذكية، لا تكتفي بمراقبتنا، بل تعيد توجيهنا دون أن ننطق بـ"لا".
في عالمنا المعولم، حيث تتداخل الحياة الواقعية بالافتراضية، وتحت تأثير هوسنا الجماعي بالتكنولوجيا ومواقع التواصل، نعيش ضمن فضاء رقمي يعيد تشكيل وعينا دون أن نشعر. ولعل أبرز مظاهر هذا التأثير هو الدور الذي تلعبه الخوارزميات في "صناعة قراراتنا": ما نشاهده، ما نحبه، من نتابعه، بل وحتى كيف نفكر.
تخيل هذا المشهد البسيط الذي نعيشه جميعًا:
تفتح تطبيق تيك توك أو يوتيوب في لحظة فراغ، دون نية محددة. ما إن تُحمّل الصفحة، حتى تبدأ مقاطع الفيديو في التتابع تلقائيًا أمامك — مقطع يجذبك من أول ثانية، يليه آخر أكثر تشويقًا، ثم ثالث يشبه ما شاهدته بالأمس، لكن بلون جديد. أنت لم تبحث، لم تطلب، لم تقرر. ومع ذلك، وجدت نفسك تغرق تدريجيًا في تدفقٍ لا ينتهي من المحتوى المصمّم خصيصًا لك.
ما لا ندركه غالبًا هو أن هذه التجربة "الطبيعية" هي في الواقع نتيجة خوارزميات معقدة تراقب كل حركة نقوم بها: ماذا شاهدنا؟ كم من الوقت بقينا في كل فيديو؟ ما الذي أحببناه؟ ماذا تجاهلنا؟ هذه الخوارزميات لا تعرف فقط ما نحب، بل تتعلم كيف نرغب، متى نملّ، ومتى نعود.
إنها تصنع لنا واقعًا رقميًا مفلترًا بدقة، لا يترك مجالًا للصدفة، ولا حتى للحياد.
بهذا الشكل، تتحول المنصة من مجرد وسيط ترفيهي إلى جهاز توجيه نفسي/اجتماعي شديد الفعالية. لا تقول لك ماذا تفكر، لكنها تقدم لك واقعًا يجعلك تفكر بطريقة معينة — بل تعتقد أنها طريقتك أنت.
أخطر ما يُخيفني في هذه الخوارزميات ليس مجرد قدرتها على مراقبتنا، بل ما يمكن أن أسميه "سياسة الرؤية" — تلك القاعدة الصامتة التي تقول: من يتحكم في ما نراه، يتحكم في ما نعتقد.
الأمر لا يتعلق فقط بما يُعرض علينا، بل بما لا يُعرض أصلًا. فالخوارزميات لا تفرض آراء مباشرة، لكنها تصنع لنا عالماً بصريًا وفكريًا ضيقًا، نعيش داخله ونتنفسه كل يوم. حين يتم إغراقك بنمط معين من المحتوى، وتُحجب عنك أصوات وأفكار أخرى دون أن تدري، فأنت لا تختار، بل تُوجَّه. أنت لا تفكر بحرية، بل تفكر داخل حدود ما قُدِّم لك على أنه "العادي" و"الصحيح" و"الأكثر تفاعلًا".
هذا هو مكمن الخطر الحقيقي: أن تصبح رؤيتنا للعالم مصنوعة سلفًا، مشروطة بخوارزمية، لا بقناعة داخلية. أن نعتقد أننا نكوّن آراءنا بأنفسنا، بينما نحن في الواقع نعيد إنتاج ما تم تمريره إلينا بصمت، وبشكل متكرر.
التحكم في ما نراه ليس مسألة تقنية فقط، بل هو فعل سياسي بامتياز — فعل يصوغ وعينا، ويعيد تشكيل خريطتنا المعرفية والعاطفية من دون أن نشعر. وهذا بالضبط ما يجعل الأيديولوجيا الرقمية أكثر خطورة من أي دعاية تقليدية: إنها لا تُقنعك... بل تُبرمجك.
ما هي الأيديولوجيا الرقمية؟
أتحدث هنا عن "الأيديولوجيا الرقمية"، لكن ربما لا يدرك الكثير منا عمق المعنى الحقيقي لهذه العبارة.
شوشانا زوبوف، الباحثة الشهيرة التي كشفت عن خبايا ما سمتها بـ"رأسمالية المراقبة"، تصف الأيديولوجيا الرقمية بأنها قوة خفية تعمل على تحويل تفاصيل حياتنا اليومية، من أصغر التفاعلات على الإنترنت إلى أكبر القرارات التي نتخذها، إلى بيانات رقمية تُعاد هندستها لاستخدامها في إعادة تشكيل العالم من حولنا، بل وإعادة صياغة وعيّنا وفهمنا لأنفسنا وللواقع السياسي والاجتماعي.
إنها ليست مجرد أدوات أو منصات تقنية نتفاعل معها بشكل سطحي، بل منظومة أيديولوجية متكاملة، تخفي نفسها خلف قناع الحرية والتقدم والابتكار.
هذا القناع يخفي حقيقة أن هذه الأيديولوجيا تعيد برمجة أفكارنا ومعتقداتنا، وتحرف مفاهيمنا الأساسية عن الحرية، والخصوصية، والسياسة، بما يخدم مصالح اقتصادية وسياسية ضخمة تسيطر على هذه التكنولوجيا.
هذه التكنولوجيا وخوارزمياتها لا تسعى فقط إلى هندسة طريقة استقبالنا للأفكار، بل تعمل على تصفيتها بوعي، لتُجبرنا على استهلاك ما تخدمه مصالحها فقط. فهي ليست سوى محاولة لخلق نسخة جديدة من الإنسان الحديث؛ نسخة تعيش محاصرة داخل فقاعة رقمية محكمة، يظن نفسه حرًا، لكنه في الواقع يقبع خلف قضبان سجن لا يدرك حتى وجودها.
من المواطن السياسي إلى المستخدم المُراقَب
فيما يتعلق بحريتنا وأفكارنا السياسية، لا يحتاج المرء إلى رحلة بعيدة أو مواقف معقدة ليلاحظ مظاهر الاضطهاد الرقمي الجديد الذي يطالنا جميعًا. هذا الاضطهاد لا يأتي بصيحات أو قيود ظاهرة، بل هو أخطر وأدق: يتمثل في تقييد خفي وغير معلن على أفكارنا، ورؤانا، وحقنا في التعبير.
خذ على سبيل المثال قضية فلسطين، التي لطالما كانت حاضرة في وعي الشعوب العربية والعالمية، قضية تشكل نبضًا سياسيًا وإنسانيًا لا يمكن إنكاره. رغم هذه الأهمية، نشهد اليوم كيف تُمارس الرقابة بشكل خفي على المحتوى المتعلق بفلسطين عبر منصات التواصل الاجتماعي الكبرى. تقنيات مثل "الظل الرقابي" (shadow banning) لا تحجب المحتوى بوضوح، بل تخفيه تدريجيًا من أمام ملايين المستخدمين، تجعل المنشورات وكأنها تختفي في ضباب رقمي، دون أن يعرف أصحابها أو المتابعون السبب.
هذه الرقابة الخفية تُغيّب أصواتًا مهمة، تُضعف الحضور الرقمي للقضية، وتقلل من فرص النقاش والوعي. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يمتد ليطال حسابات المعارضين الذين يُختفون فجأة، دون تفسير، وحسابات الناشطين السياسيين التي تُحذف أو تُقيّد، خصوصًا في دول عربية كثيرة تستخدم هذه المنصات كأدوات تضييق وترهيب.
وهنا يظهر السؤال المحوري: في عالم نعتقد فيه أننا نتحدث بحرية ونشارك في صناعة الرأي العام، هل نحن حقًا أحرار؟ أم أننا أصبحنا مجرد مستخدمين رقميين مراقبين ومقيدين، محتجزين في فقاعة خوارزمية تحدد لنا ما نراه وما لا نراه، ما نسمعه وما يُلغى من حولنا؟
في ظل هذه الظروف المعقدة، تتحول منصات التواصل الاجتماعي تدريجيًا إلى ما يمكن تسميته بـ"البرلمان الصامت" — مكان تتخذ فيه قرارات مصيرية، لكنها غير معلنة، حول من يُسمح له بالبقاء والتأثير، ومن يُحجب أو يُلغى بشكل مفاجئ ودون تفسير. هذه القرارات لا تصدر عن جهات منتخبة أو جهات قانونية، بل تُدار خلف الستار.
في هذا البرلمان الافتراضي، لا تُمنح فرص متكافئة للآراء المختلفة، ولا تُحتكم النقاشات إلى قواعد واضحة أو شفافة. تُختزل الديمقراطية الرقمية إلى مشاهد تُدار بإيقاع خوارزمي لا يشعر به المستخدم، حيث تُوزع الأصوات، وتُحدد مدى انتشار المحتوى، ويُصنّف الأشخاص إلى مؤثرين أو مهمشين وفق معايير غير معلنة.
وبذلك، يتحول المجتمع من كيان سياسي حي، ينبض بالحوار والتفاعل والمشاركة الحقيقية، إلى شبكة من الأفراد المتصلين رقميًا، لكنهم في واقع الحال مفككون اجتماعيًا وسياسيًا. حيث يغيب الفعل الجماعي الحقيقي، ويتلاشى الوعي المشترك، ويحل محلهما وهم المشاركة الرقمية، الذي يقتصر على "إعجاب" أو "مشاركة" أو "تعليق" محدود التأثير.
هذا الواقع الجديد يخلق نوعًا من الانعزال الجماعي داخل الاتصال المستمر؛ حيث يبدو الناس متصلين ومتفاعلين، لكنهم في الحقيقة محاصرون في فقاعات شخصية، لا يلتقون إلا بأفكار تؤكد معتقداتهم السابقة، بعيدًا عن التنوع والتعددية التي تشكل جوهر الحياة الديمقراطية.
المقاومة الرقمية: بدائل تنبت في الهامش
لكي نوقف موجة الأيديولوجيا الرقمية ، نحتاج أولًا إلى ما يُسمى بـ"الوعي التكنولوجي" — ذلك الضوء الداخلي الذي لا يكتفي برؤية الشاشة، بل يرى ما وراءها. فالوعي هنا ليس مجرد إتقان تصفح التطبيقات أو معرفة وظائف الأزرار، بل هو فهم جذري لطبيعة المنظومة الرقمية التي تحيط بنا: كيف تُصمم الخوارزميات لتوجيهنا، لا لإعلامنا؟ كيف تُجمع بياناتنا، لا لتحسين تجربتنا، بل لتحويلنا إلى منتجات يُتاجر بها في سوق رأسمالية المراقبة؟ كيف تصير اختياراتنا مجرد انطباعات مُعدّة مسبقًا، نختارها من دون أن ندري أننا لم نختر أصلًا؟
لكن الوعي وحده لا يكفي… لا بد أن يتحول إلى فعل. وهنا تظهر برأيي الحاجة إلى ثلاث حلول ملموسة:
1. إعادة التفكير في علاقتنا مع التكنولوجيا
أن نسأل أنفسنا قبل كل تفاعل: من يتحكم هنا؟ هل أستخدم هذه الأداة، أم هي التي تستخدمني؟
أن نضع حدودًا لاستخدامنا اليومي، أن نستعيد وقتنا وتركيزنا، وأن نحرّر انتباهنا من قبضات الإشعارات المزعجة والمحتوى الموجه.
2. التعليم الرقمي كخط دفاع أول
في العالم العربي، حيث الفرص التعليمية غير متساوية، يصبح إدخال مفاهيم مثل الخصوصية، التفكير النقدي الرقمي، وأمان البيانات في المدارس والجامعات والمساجد والمراكز المجتمعية أمرًا لا غنى عنه.
التعليم يجب أن لا يُعطى فقط للنخبة، بل أن يصل إلى الهامش، إلى القرى، إلى النساء، إلى الأطفال — لأن أكثر من يُستهدف هو من لا يعي أنه مستهدف
3. إنتاج ثقافة رقمية بديلة
علينا أن نُنتج، لا أن نستهلك فقط.
أن نروي قصصنا بلغتنا، بأدواتنا، وأن نملأ الفضاء الرقمي بأصوات جديدة لا تُشبه الموجة السائدة.
أن نُشجع الفنانين، والمبرمجين، والناشطين، والكتّاب على استخدام الفضاء الرقمي كمنصة تحرر لا كقيد.
وختاما، نحن نعيش اليوم في زمن لا تُمارَس فيه الهيمنة بالعنف، بل بالتوجيه الصامت، والخوارزميات التي تُعيد ترتيب أولوياتنا دون أن نشعر. لكن الاستسلام ليس قدرًا.
إن الوعي بما يحدث خلف الشاشات هو أول خطوة في طريق التحرر.
علينا أن نتعلم، نُعلم، ونُعيد امتلاك أدواتنا. أن نرفض أن نكون مجرّد مستخدمين صامتين، ونصير فاعلين رقميين نعي كيف تُصنع أفكارنا، ومتى يُعاد تشكيل وعينا، ولماذا.
لن نصمت أمام رقابة خفية تضعنا في قوالب جاهزة.
ولن نرضى أن تكون الحرية الرقمية وهمًا يُسوَّق لنا على أنه واقع. يمكننا أن نبني فضاءً رقميًا جديدًا،
فضاءً تُحترم فيه الخصوصية، وتُصان فيه الكرامة، وتولد فيه الأفكار من الداخل لا من إملاءات الخوارزميات. الأيديولوجيا الرقمية ليست قدَرًا. وما بُني ليُعيد تشكيلنا… يمكننا نحن إعادة تشكيله.