يتناول هذا المقال الديمقراطية كما طُبّقت كنظام في العالم الثالث. وقد جاء تطبيقها ناقصاً وغير مُقنِع. وتناولتها الأدبيات بالشرح من خلال ثلاثة مفاهيم هي «الديمقراطية بالإنابة»، و«الديمقراطية بوتيرة منخفضة»، و«ديمقراطية الحد الأدنى».
الديمقراطية بالإنابة أو عدم الاحتكام للقانون
استخدم الباحث الكبير غيللرمو أودونيل هذا المفهوم (Delegative Democracy) لوصف الديمقراطيات التي نشأت من الثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين في أميركا اللاتينية على وجه الخصوص. وهي أعادت العمل بالانتخابات وبالتعددية الحزبية. لكن أهم خاصية في هذه الديمقراطيات هي أن المسؤولين المُنتخبين فيها لم يكونوا يتعرّضون للمُساءلة (accountability) (أودونيل، 1992).
وفي نصوص لاحقة عكف الباحث على تفصيل مواصفات هذه الديمقراطية بالإنابة. وانطلق من الأساس الذي هو أن الدولة لكي تكون مستوفية شروط الديمقراطية التمثيلية، يجب أن توفّر الحقوق المدنية والحقوق السياسية لمواطنيها، مضافاً إلى ذلك اعتمادها آليات المساءلة، خصوصاً الأفقية منها (أودونيل، 1998). ويعني ذلك خضوع السلطة التنفيذية وأدواتها لرقابة المؤسسات الرقابية بدءاً من البرلمان وصولاً إلى مختلف الأجهزة الرقابية في جسم الدولة (أودونيل، 1998). أي إن أودونيل اختصر الديمقراطية بتوفّر ثلاثة عناصر هي الحقوق المدنية والحريات السياسية والمُساءلة.
وشرح أودونيل في نصوصه المختلفة كيف أن التجربة الغربية أظهرت أن المواطنين حصلوا أولاً على حقوقهم المدنية، بمعنى المساواة أمام القانون وعدم حرمان فئات منهم من هذه الحقوق بسبب انتمائها الإثني أو الجهوي أو غير ذلك. ويدخل في خانة التمتع بالحقوق المدنية، عدم تعرّض المواطنين لعنف المؤسسات الحكومية أو تحيّزها ضدهم (أودونيل، 1998: 11). أما الحقوق السياسية فهي حق الانتظام في أحزاب وحق الانتخاب وحق التعبير عن المواقف بالقول والنشر. وبيّن أودونيل ظاهرة استفحلت بعد انتقال الكثير من البلدان من الأنظمة السلطوية، خصوصاً العسكرية منها، إلى النظام الديمقراطي، بمعنى وجود انتخابات وحرية تعبير عن الرأي. فقد ضمرت في هذه البلدان رقعة «الدولة القانونية» (legal state) أو دولة العمل بالقانون (أودونيل، 1998: 16).
واتسعت فيها المناطق والرقع الجغرافية التي يحظى ممثلوها من السياسيين المُنتخبين بالقدرة على عدم تطبيق القانون. أي إنهم يكونون بالفعل «فوق القانون» (above the law) ويجيّرون مؤسسات الدولة ومواردها الموجودة لخدمتهم وخدمة قطعانهم الانتخابية. وفي كثير من الأحيان يكون هؤلاء من فئة الخارجين على القانون (gangsterlike) الذين وفّرت لهم التحالفات الانتخابية بعد الانتقال إلى الديمقراطية فرصة أن يُنتخبوا ويصبحوا ممثلين رسميين للأمة (أودونيل، 1998: 17؛ أودونيل، 1993: 1359).
أي إن أودونيل أضاف إلى غياب المساءلة كممارسة في هذه الديمقراطية عنصراً آخر هو عدم تطبيق القانون (un rule of law) في مناطق يتسع نطاقها أو يضمر تبعاً لحالة كل بلد. وهذان العنصران يجسّدان عدم الاحتكام للقانون في نماذج «الديمقراطية بالإنابة».
ولقد استخدمتُ أدبيات أودونيل المذكورة أعلاه عام 2009 وقبل الانتخابات النيابية آنذاك لإظهار أن اللبنانيين يتمتعون بحقوق سياسية من دون أن يتمتعوا بحقوقهم المدنية. وأول وأهم هذه الحقوق حقّهم في الأمن. واتخذت دليلاً هو قانون العقوبات اللبناني الذي يجرّم كل التفجيرات والاغتيالات التي حصلت بين عامي 2005 و2008. وأعطيت أمثلة أخرى مأخوذة من الواقع اللبناني حول عدم جدّية المساءلة العمودية الممثّلة بالانتخابات وغياب المساءلة الأفقية التي يعبّر عنها التزام الأجهزة الرقابية بتنفيذ مهامها. ولم يُنشر بحثي في الصحافة اليومية. وصدر كفصل في كتاب عام 2012 (داغر، 2012). وأعدت نشره في كتاب صدر عام 2017 (داغر، 2017).
الديمقراطية بوتيرة منخفضة
جاء استخدام هذا المفهوم (Low Intensity Democracy) على أيدي المساهمين في الكتاب بالعنوان ذاته الصادر عام 1993 (جيل، روكامارا، ويلسون، 1993). وقد جرى نقل مفهوم (الوتيرة المنخفضة) من ميدان العلاقات الدولية إلى ميدان العلوم السياسية. وكان قد اعتُمد في الأساس لتمييز حالات تكون فيها الحرب أو الحرب الأهلية قائمة لكن بوتيرة منخفضة تؤمّن ديمومتها. وربط الباحثون وجود حالات نزاع من هذا النوع بتدخّلات الولايات المتحدة. واستنتج بعضهم أن الصراع من أجل الديمقراطية يكون، في بعض منه على الأقل، مدفوعاً بتنفيذ أجندات خارجية.
ولقد أطلق الباحث ستيفان جيل على الواقع القائم منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي صفة «النيو-ليبرالية المعنيّة بفرض الانضباط» (disciplinary neoliberalism) (جيل، 1995). وعنى ذلك وضع الاقتصاد العالمي واقتصاد كل دولة بمفردها تحت المراقبة. وعنى الانضباط إلزام كل دولة من دول العالم بالتقيّد بقواعد صارمة لجهة ضبط الإنفاق العام وتوسيع قاعدة المكلّفين بالضريبة وتطوير أدوات التحصيل الضريبي وإزالة كل العوائق على الاستيراد من الخارج وإطلاق حرية حركة الرساميل بالكامل. واعتُبرت هذه الشروط أنها الوسيلة الأفضل لاجتذاب رؤوس الأموال من الخارج للاستثمار داخل هذه البلدان (جيل: 412).
وقد أخذت المؤسسات الدولية، ممثّلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، على عاتقها فرض الالتزام بتطبيق هذه الإجراءات. وحفلت العقود الأربعة الماضية بالمواجهات الضارية التي خاضها صندوق النقد الدولي لفرض برامج التصحيح الهيكلي التي أعدّها، وخاضها البنك الدولي لتنفيذ برامج مكمّلة لبرامج الصندوق، وخاضتها منظمة التجارة العالمية عبر مؤتمراتها لنزع كل أشكال الحماية التي اعتمدتها البلدان النامية وبنت في ظلها اقتصاداتها. وكل ذلك مقابل وعود بأن الاستثمار الأجنبي المباشر سوف يأتي ويعوّض دمار القطاعات الإنتاجية الناجم عن تطبيق برامج هذه المؤسسات. وتجربة لبنان عام 2000 بإزالة الرسوم الجمركية على الواردات مثال على ذلك.
وأشار الباحث جيل إلى الدور الكبير الذي باتت تلعبه مؤسسات من القطاع الخاص، هي وكالات التصنيف، في تكوين المعطيات وإطلاق الأحكام على الأداء الاقتصادي لكل دولة بمفردها (جيل: 413). وبعد خفض تصنيف لبنان من قبل الوكالات الثلاث في آب 2019، توقفت المصارف عن الدفع في الشهر التالي، معلنة إفلاسها.
لقد خرجت الخيارات الاقتصادية من دائرة النقاش السياسي في هذه البلدان لأنه كان على كل دولة أن تطبّق سلّة الإصلاحات المقترحة من المؤسسات الدولية بغضّ النظر عن موقف مسؤوليها
ولقد خرجت الخيارات الاقتصادية من دائرة النقاش السياسي في هذه البلدان لأنه كان على كل دولة أن تطبّق سلّة الإصلاحات المقترحة من المؤسسات الدولية بغضّ النظر عن موقف مسؤوليها منها. وكان من شأن إخراج هذه الخيارات من دائرة النقاش أن أضعف أهمية التمثيل السياسي بواسطة الانتخابات ودور ممثلي الأمة في تعيين الخيارات الوطنية (جيل: 415). أي إن النيو-ليبرالية انتزعت من الديمقراطية مضمونها لجهة كونها آلية تعزّز المشاركة السياسية لأفراد المجتمع وتجعلهم قادرين على التقرير بشأن مستقبلهم. أمّا فرضها على شعوب وبلدان العالم الثالث، فكانت نتيجته مزيداً من تردّي الأوضاع الاقتصادية، ومزيداً من الفقر وتفاوت الدخل، ما جعل هذه الشعوب تعيش تجربتها في ظل النيو-ليبرالية ككابوس.
والباحث الكبير ريموند هينبوش اعتمد هو الآخر الأدبيات التي توصّف الديمقراطية بأنها «بوتيرة منخفضة» في العالم الثالث بوجه عام وفي البلدان العربية بوجه خاص. وهو قدّم قراءة لتجربة الدمقرطة العربية أو استحالة أن تتحقّق ديمقراطية فعلية في هذه البلدان، من خلال ربط ذلك بأسباب داخلية أولاً وأسباب خارجية ثانياً. وعنى الباحث بالأسباب الداخلية، التحولات الاقتصادية القائمة في البلدان العربية.
وقصد بالتحولات الانفتاح الاقتصادي منذ سبعينيات القرن الماضي وتخلّي الدولة عن مهامها السابقة التي أرستها مرحلة «العقد الاجتماعي الشعبوي»، وتحوّل النظام الاقتصادي القائم إلى «رأسمالية محاسيب». ولقد خصخصت الدولة الأرض وممتلكات القطاع العام لمصلحة رجال أعمال جدد باتوا يشكلون قاعدتها الاجتماعية، وجعلتهم يستفيدون من الإعفاءات الضريبية ومن بيع الاحتكارات الحكومية لهم وتحويلها إلى احتكارات خاصة، وفرضت رسوماً جمركية أو إجراءات منع للاستيراد حمت بها أصحاب الشركات هؤلاء من المنافسة الخارجية. أي إن الإجراءات المُتخذة في ظل «رأسمالية الأصحاب» كانت متحيّزة وتحصل في الظل ويقع المستفيدون منها تحت طائلة المساءلة القانونية (هينبوش، 2006: 384؛ هينبوش، 2015: 341).
وضمن شروط كهذه يصبح من المتعذّر القبول بالديمقراطية لأنها تعزّز الشفافية ولأنها تنطوي على المساءلة (هينبوش، 2006: 385)، وكبديل عن الدمقرطة الفعلية (democratization)، اعتمدت الأنظمة العربية نظام التعددية الحزبية (pluralisation) وفتحت المجال أمام تعدّد الأحزاب للخروج من نظام الحزب الواحد. وجعلها ذلك أكثر قدرة على ضبط تحركات المجتمع وضبط المعارضة وليس العكس (هينبوش، 2006: 373).
وربط هينبوش ثانياً بين التحوّلات في النظام الدولي واستحالة الديمقراطية العربية. وقد بيّن هو الآخر أن «النيو-ليبرالية المعنيّة بفرض الانضباط» فرضت نفسها كواقع لا يمكن تجاوزه في كل هذه البلدان. وهي انتزعت حق مناقشة القضايا الاقتصادية من أيدي المسؤولين في هذه البلدان، وجعلت النقاش الاقتصادي غائباً في النقاش العام (هينبوش، 2006: 390). وأصبح محظّراً أن يتولى المعنيون الذين يراهنون على تدخّل الدولة، بدءاً من المجتمع المدني وصولاً إلى الجمهور الواسع، مناقشة الأمور التي تطاول حياتهم اليومية ومستقبلهم (هينبوش، 2015: 338). وفي كل هذا لم تختلف التجربة العربية في شيء عن مثيلاتها في عموم العالم الثالث.
ديمقراطية الحدّ الأدنى
ولقد اعتمد الباحث في القانون الدستوري من جنوب أفريقيا نكوذا ماهاو الأدبيات ذاتها تقريباً المُشار إليها لوصف ديمقراطيات العالم الثالث (ماهاو، 2010). ووصف الدولة الليبرالية التي نشأت في الغرب بأنها جسّدت نموذج «دولة الحد الأدنى» (minimum state). وهي عكست توجّس النخب السياسية والاقتصادية من أي حضور طاغٍ للدولة. ثم شرح سيرورة انتقال الواقع القائم في العديد من الدول من «دولة الحد الأدنى» إلى «ديمقراطية الحد الأدنى» (minimum democracy).
وأوضح الباحث كيف أن عولمة الاقتصاد منذ ثمانينيات القرن العشرين كانت الدافع لخفض حضور الدولة ومهماتها بشكل إضافي. وأصاب هذا الخفض على وجه الخصوص الدولة في العالم الثالث. ولقد جرى خفض صلاحيات مسؤولي هذه الدول والحد من سلطة القرار لديهم، وإعطاء الأولوية لمصالح الشركات الكبرى ورأس المال المعولم على حساب مصالح كل دولة بمفردها (ماهاو، 2010: 12). وبات ممنوعاً على هؤلاء المسؤولين التفرّد بالقرار في أمور أساسية مثل علاقات التبادل مع الخارج سواء تناولت السلع أو رؤوس الأموال. وفُرِض عليهم قبول حرية التجارة وحرية حركة الرساميل كائناً ما كان موقفهم من هذه الأمور.
وسوف ينعكس هذا الخفض لمسؤوليات الدولة النامية، تراجعاً في جدية وجدوى الانتخابات بوصفها الآلية التي توفّر للأمة ممثلين تقع عليهم مسؤولية اتخاذ القرار في هذه المجالات. أي إن الانتخابات أصبحت ممارسة منتظمة في جميع البلدان لكنها باتت خالية من أي مضمون. وشهد الكل أن الانتخابات لا تضع في مواجهة بعضهم بعضاً أناساً يحملون برامج سياسية واقتصادية مختلفة، بل تتشابه برامج هؤلاء في كل نقاطها رغم احتدام المنافسة الانتخابية بينهم (ماهاو، 2010: 13). وكل هذا يفسر اعتماد مصطلح «ديمقراطية الحد الأدنى» لوصف هذه التجارب.
خلاصة
تبدّي اثنتان من المقاربات الثلاث التي جرى عرضها العامل الاقتصادي، أي التحولات الاقتصادية في ظل النيو-ليبرالية، بمعنى اعتماد نظام فُرض على العالم كله وتولّت فرضه المؤسسات الدولية، كأسباب انتزعت من الممارسة الديمقراطية مصداقيتها وجعلت قيام ديمقراطية حقيقية أمراً مؤجّلاً. واعتمدت الثالثة قراءة قانونية لكيفية اشتغال الديمقراطية من الداخل للإضاءة على واقع عدم تشكّل ديمقراطية فعلية.
* أستاذ جامعي
المراجع
Gill Stephen, “Globalization, Market Civilization and Disciplinary Neo-liberalism”, Millennium Vol. 24, No. 3 (1995), pp. 399–423.
Gills B, Rocamara J, Wilson R, “Introduction”, in Gills, Rocamara, Wilson (eds), Low Intensity Democracy: Political Power in the New World Order, Pluto Press, London, 1993.
Hinnebusch Raymond, “Globalization, democratization and the Arab uprising. The international factor in MENA’s failed democratization”, in Democratization, 22(2): 335- 357, 2015.
Hinnebusch Raymond, “Authoritarian persistence, democratization theory and the Middle East: An Overview and Critique”, in Democratization, 13(3): 373- 395, 2006.
N. L. Mahao, “The Constitutional state in the developing world in the age of globalization: from limited government to minimum democracy”, Law, Democracy & Development, 2010.
O’Donnell G., “Delegative Democracy?”, Kellogg Institute Working Papers, 1992,17 pages.
O’Donnell G., “Horizontal Accountability in New Democracies”, in Diamond L., M. Plattner (eds.), The Self-Restraining: Power and Accountability in New Democracies, Boulder, Colo.: Lynne Rienner, 1998, pp. 29-51.
O’Donnell G., “On the State, Democratization and some Conceptual Problems: A Latin American View with Glances at some Post-Communist Countries”, in World Development, vol. 21, n. 8, 1993, pp. 1355-1369.
O’Donnell G., “Polyarchies and the (Un) Rule of Law in Latin America”, Kellogg Institute & Dpt. of Government, Univ. of Notre Dame, 1998, 41 pages.
ألبير داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، (بيروت : دار الطليعة، 2012)، 224 صفحة.
ألبير داغر، لبنان المعاصر: النخبة والخارج وفشل التنمية، (بيروت: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، 2017)، 223 صفحة.