لسنا في حاجة لقراءة «صعود وانهيار الامبراطوريات العظمي» كي نتعرف على علامات التردي والانهيار التي تعيشها أمريكا منذ وصول ترامب إلى السلطة. هنا يكشف الباحث الأمريكي عن نهاية الامبراطورية العلمية التي جعلت أمريكا عظيمة بحق، وليست تلك الدعاوى الشعبوية لليمين المتخلف التي يقودها ترامب.

عن نهاية الإمبراطورية العلمية الأميركية

روس أندرسن

ترجمة: لطفية الدليمي

 

شهد روالد ساغدييف Roald Sagdeev انهيار إمبراطورية علمية من الداخل. عندما بدأ ساغدييف مسيرته المهنية عام 1955 كان العلم في الاتحاد السوفياتي يقترب من ذروته. في معهد كورتشاتوف بموسكو درس ساغدييف التفاعلات النووية الحرارية التي تحدث داخل النجوم، وعلى مبعدة بضع طاولات مختبرية منه كان أندريه ساخاروف Andrei Sakharov يطوّر القنبلة الهيدروجينية. سرعان ما أذهل برنامج الفضاء السوفياتي العالم بإطلاقه أول قمر صناعي، ثم أول إنسان، إلى مدار فضائي حول الأرض، ولم يزل ساغدييف يتذكر صيحات الجماهير التي استقبلت رواد الفضاء العائدين في الساحة الحمراء. لكن برغم كل هذا، وحتى خلال سنوات الانتصار العلمي تلك، كان ساغدييف يرى الفساد يتسلل إلى العلم السوفياتي مثل سُمٍ بطيء الانتشار.

كان الخطر قائمًا منذ بواكير تأسيس الاتحاد السوفياتي. أراد البلاشفة الذين تولّوا السلطة عام 1917 إرسال العلماء إلى معسكرات العمل في القطب الشمالي (تدخّل فلاديمير لينين ودافع عنهم). عندما تولى جوزيف ستالين السلطة موّل بعض الأبحاث بسخاء؛ لكنّه أراد أن تتوافق سياسة البحث العلمي مع أيديولوجيته الشيوعية. قال ساغدييف إنّ كتبه المدرسية عندما كان تلميذًا في المدرسة وصفت ستالين بأنّه أبو جميع مجالات المعرفة، ونسّبت الفضل للسوفيات في كل اختراع تقني تم بلوغه على الإطلاق. لاحقًا، في المؤتمرات العلمية، سمع ساغدييف فيزيائيين ينتقدون مبدأ عدم اليقين في ميكانيك الكمّ على أساس تعارضه مع أصول الفلسفة الماركسية. مع حلول عام 1973، عندما عُيّن ساغدييف مديرًا لمعهد أبحاث الفضاء السوفياتي - وهو المركز الرئيسي لعلوم الفضاء في البلاد- كان السوفيات قد تنازلوا عن القيادة في المدار لوكالة ناسا الأميركية. طار رواد الفضاء الأميركيون حول القمر وتركوا ألف بصمة حذاء على سطحه في وقت كان فيه معهد ساغدييف يعاني من نقص التمويل. كان لدى العديد من العاملين فيه صلات وثيقة بالحزب الشيوعي؛ لكنهم لم يتلقّوا تدريبًا علميًا رصينًا أو حتى كافيًا. في النهاية اضطر هو نفسه للانضمام إلى الحزب. قال لي عندما تحدّثنا في شهر حزيران/ يونيو الماضي: "كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتأمين تمويل مستقر".

في عام 1985 حاز ساغدييف لفترة وجيزة على مكانة مرموقة في السلطة. كان ميخائيل غورباتشوف قد تولّى لتوّه منصب الأمين العام للحزب في سن الرابعة والخمسين، وهو شابٌّ بالنسبة لحكم كبار السن من القادة السوفيات السابقين له. وعد غورباتشوف بإصلاحات واسعة وعيّن ساغدييف مستشارًا له. سافر الاثنان إلى جنيف معًا لحضور أولى محادثات غورباتشوف حول مباحثات الحدّ من الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية مع رونالد ريغان؛ لكنّ نظرة ساغدييف لغورباتشوف بدأت تتضاءل عندما عيّن رئيس الوزراء رجالًا اعتبرهم ساغدييف مقربين منه (أي من رئيس الوزراء) في مناصب علمية مهمة. في عام 1988 كتب ساغدييف رسالة إلى غورباتشوف يُحذّره فيها من خداع قادة برنامج الحاسوب العملاق السوفياتي له. زعموا أنّهم يُواكبون الوتيرة المتسارعة للولايات المتحدة في ميدان الحواسيب العملاقة؛ لكنهم في الواقع كانوا متخلّفين عنها كثيرًا، وسرعان ما سيتفوق عليهم الصينيون لاحقًا. لم يُجِب غورباتشوف على رسالته قطّ. تلقى ساغدييف لمحة عن كيفية استقبال رسالته عندما سُحِبت دعوته للانضمام إلى زيارة دولة إلى بولندا فجأة. قال لي: "لقد طُرِدت من الكنيسة".

أجرى ساغدييف تقييمًا لوضعه حينذاك. كان مستقبل العلوم السوفياتية يبدو قاتمًا، وفي نحو بضع سنوات شهد التمويل الحكومي مزيدًا من التراجع. بدأ أكثر زملاء ساغدييف موهبة بالهروب من البلاد واحدًا بعد الآخر، شاهدهم يبدأون حياة جديدة في أماكن أخرى، وقد ذهب العديد منهم إلى الولايات المتحدة. في ذلك الوقت كانت أميركا الوجهة الأكثر جاذبية للمواهب العلمية في العالم، وظلت كذلك حتى أوائل هذا العام2025

تذكّرت ساغدييف في زيارتي الأخيرة لمعهد ماساتشوستس للتقنية MIT. أخبرتني عالمة هناك، مشهورة في مجالها، أنها منذ تنصيب دونالد ترامب للمرة الثانية وهي تشاهد برعب كيف تُلحق إدارته ضررًا مُدبّرًا بالعِلْم الأميركي. ومِثْل العديد من الباحثين الآخرين في الولايات المتحدة فهي غير متأكدة من رغبتها في البقاء لتجنّب الحطام المتساقط، ولذلك بدأت تُفكّر في نقل مختبرها إلى الخارج. (رفضت ذكر اسمها في هذه القصة حتى تتمكّن من التحدّث بصراحة عن خططها المُحتملة). أفضل العلماء في العالم هم أشبه بنخبة لاعبي كرة السلة: يأتون إلى أميركا من جميع أنحاء العالم ليقضوا سنواتهم الذهبية في العمل جنبًا إلى جنب مع أفضل المواهب. أخبرني مايكل غوردن Michael Gordin، مؤرّخ العلوم وعميد قسم الدراسات الجامعية في جامعة برينستون: "من العسير جدًا العثور على عالم بارز لم يُجرِ ولو بحثًا واحدًا في الولايات المتحدة كطالب جامعي أو دراسات عليا أو باحث ما بعد الدكتوراه أو عضو هيئة تدريس". قد لا تكون هذه هي الحال بعد جيل من الآن.

أصبح الباحثون الأجانب مؤخرًا يشعرون بعدم الترحيب في الولايات المتحدة؛ فقد كانوا خاضعين للمراقبة والمضايقة المشدّدة، وعقّدت إدارة ترامب على مؤسسات البحث إجراءات قبولهم، ووُضِعت جامعات مرموقة تحت التحقيق الفيدرالي، وهُدّد اعتمادها المالي وإعفاؤها من الضرائب. في جانب آخر اقترحت إدارة ترامب تخفيضات حادّة في ميزانية الوكالات التي تموّل العلوم الأميركية - مثل مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH)  ووكالة ناسا، وغيرها - وسرّحت عددًا كبيرًا من الموظفين. كما أُلغيت منح بحثية قائمة أو عُلّقت بشكل جماعي، فضلًا عن حلّ لجان العلماء الخبراء التي كانت تُقدّم المشورة إلى الحكومة سابقًا. في شهر أيار/ مايو 2025 أمر الرئيس بأن تستوفي جميع الأبحاث الممولة اتحاديًا معايير أشدّ تحديدًا في طبيعتها وإلا ستكون عُرْضة للتصحيح (بمعنى التقليل أو الحجب، المترجمة) من قِبَل أشخاص ذوي سلطة سياسية بعيدين عن السياسات الأكاديمية.

لم يكن العلم الأميركي خاضعًا للأيديولوجية السياسية إلى هذا الحد منذ فترة "الهلع الأحمر Red Scare"، حين اضطر باحثون في جامعة كاليفورنيا إلى توقيع يمين الولاء، وتعرّض باحثون في جامعة واشنطن ومعهد ماساتشوستس للتقنية للتأديب أو الطرد للاشتباه بانتمائهم للشيوعية (إشارة إلى الحقبة المكارثية التي اشتدّت أواسط خمسينيات القرن العشرين، المترجمة). لكن في الأقلّ كان بإمكان العلماء في الحقبة المكارثية التماس المواساة لأنفسهم في أنّ الإنفاق الفيدرالي على العلم والتقنية، وبرغم كلّ السياسات التدخّلية، كان في ازدياد مضطرد. أما اليوم فهو آخذ في النضوب السريع.

أفاد ثلاثة أرباع العلماء الأميركيين الذين شاركوا في استطلاع رأي أجرته مجلة "Nature" مؤخرًا، أنهم يفكّرون في مغادرة البلاد. إنّهم لا يفتقرون إلى من يسعى حثيثًا للإفادة من خدماتهم. الصين تستقطبهم بقوة، وقد خصّص الاتحاد الأوروبي 500 مليون يورو كصندوق دعم مالي للقيام بمثل ما تقوم به الصين. منحت الحكومات الوطنية في النرويج والدنمارك وفرنسا - وهي أماكن رائعة للعيش - الضوء الأخضر لموجات الإنفاق على العلماء الأميركيين المحبطين، كما أطلق معهد ماكس بلانك، وهو مؤسسة بحثية نخبوية ألمانية رصينة، مؤخرًا، حملة لجذب الباحثين الأميركيين إلى ألمانيا. وفي الشهر الماضي عقدت جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية مؤتمرًا صحافيًا أعلنت فيه عن وصول ثمانية "لاجئين علميين" أميركيين.

أخبرتني عالمة معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) -التي أوردت ذكرها سابقًا والتي تفكّر في مغادرة الولايات المتحدة- أنّ المركز العلمي السويسري القوي، المعهد الفيدرالي السويسري للتقنية في زيوريخ  ETH Zurich، قد تواصل معها بالفعل بشأن نقل مختبرها إلى حرمها الجامعي الخلّاب المطلّ على جبال الألب، كما تواصلت جامعة كندية مرموقة معها. هذه المؤسسات مُغرمة بالمواهب الأميركية، وكذلك المواهب غير الأميركية. لم تُتَح فرصة كهذه لتجنيد أعداد كبيرة من الباحثين منذ أن سعى ساغدييف وغيره من الباحثين السوفيات النخبويين إلى مغادرة موسكو. تسقط كل إمبراطورية علمية، ولكن ليس بنفس السرعة، أو لنفس الأسباب في كلّ مرّة. في سومر القديمة ازدهرت حضارة علمية بدائية في مدينتي أور وأوروك العظيمتين. اخترع السومريون العجلات التي حملت عربات الملك الحربية بسرعة عبر سهول بلاد ما بين النهرين، ووقف كهنة السومريين فوق الزقورات يراقبون السماء؛ لكن يبدو أن السومريين أفرطوا في ري أراضيهم الزراعية - ربما كانت خطوة تقنية خاطئة -، وبعد ذلك غُزيت مدنهم الضعيفة، وتفككت مملكتهم. لم يَعُد بمقدورهم العمل في الطليعة العلمية.

اتّبع العلم في مصر القديمة واليونان نمطًا مشابهًا: ازدهر في الأوقات الجيدة وتراجع في فترات الطاعون والفوضى والإفقار. لكن لم تكن كل حالة من حالات التراجع العلمي بهذه الطريقة؛ فقد أهدرت بعض الحضارات قصدًا تفوقها العلمي. على سبيل المثال، عانى العلم الإسباني بشدة خلال محاكم التفتيش. خاف العلماء على حياتهم. تراجعوا عن الأنشطة والجمعيات ذات الصبغة العلمانية، وتردّدوا مليًا قبل مراسلة مَن يُشتبه في كفرهم. تباطأ تبادل الأفكار في إسبانيا، وتراجع تميزها البحثي مقارنة ببقية أوروبا. في القرن السابع عشر لم يُسهم الإسبان تقريبًا في الثورة العلمية الجارية.

عرقل السوفيات نجاحهم في الطب الحيوي. في عشرينيات القرن الماضي كان لدى الاتحاد السوفياتي أحد أكثر برامج علم الوراثة تقدمًا في العالم؛ ولكنّ ذلك كان قبل أن يُمكّن ستالين ليسينكو Lysinko، المُعيّن سياسيًا والذي لم يؤمن بالوراثة المندلية، من منصبه. في نهاية المطاف طرد ليسينكو آلاف علماء الأحياء المرتدّين من وظائفهم، وحظر دراسة علم الوراثة المندلية حظرًا تامًا. أُلقي ببعض العلماء في معسكرات العمل السوفياتية؛ بينما جُوّع آخرون أو واجهوا فرق الإعدام. ونتيجة لكل هذا لم يلعب السوفيات أي دور في اكتشاف بنية الحمض النووي الحلزونية المزدوجة. عندما رُفع الحظر على علم الوراثة "المناهض للماركسية" أخيرًا، أخبرني غوردن أنّ الاتحاد السوفياتي كان متأخرًا بجيل كامل في علم الأحياء الجزيئي  Molecular Biology، ولم يستطع اللحاق بالركب بعد ذلك.

كان أدولف هتلر صاحب أعظم موهبة في إيذاء النفس علميًا. كانت ألمانيا قوة علمية عظمى منذ أواخر القرن التاسع عشر الماضي، وكان الألمان روّادًا في جامعة الأبحاث الحديثة؛ إذ اشترطوا على الأساتذة ألا يقتصروا على نقل المعرفة بل أن يساهموا في تطويرها. في أوائل القرن العشرين الماضي حصد العلماء الألمان العديد من جوائز نوبل، وتوافد فيزيائيون من أوروبا الكبرى والولايات المتحدة إلى برلين وغوتنغن وميونيخ ليتعرّفوا على الكون الكمي الجديد الغريب (إشارة إلى نظرية الكم، المترجمة) من ماكس بورن، وفيرنر هايزنبرغ، وألبرت آينشتاين.

عندما استولى النازيون على السلطة عام 1933 طهّر هتلر جامعات ألمانيا من الأساتذة ممّن عارضوا حكمه. قُتِلَ العديد من العلماء، وفرّ آخرون من البلاد، واستقرّ عددٌ لا بأس به منهم في أميركا. هكذا وصل آينشتاين إلى برينستون. وبعد فصل الفيزيائي المرموق هانز بيته Hans Bethe من أستاذيته في توبنغن استقرّ في جامعة كورنل، ثمّ التحق بمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) للعمل على تقنية الرادار التي ستكشف الغواصات الألمانية خلال معركة الأطلسي إبان الحرب العالمية الثانية. جادل بعض المؤرخين بأنّ الرادار كان أكثر أهميةً لانتصار الحلفاء من مشروع مانهاتن (الذي أنتج القنابل الذرية، المترجمة). لكن بالطبع كان هذا المشروع (مشروع مانهاتن) أيضًا مزوّدًا بلاجئين علميين أوروبيين، بمن فيهم ليو زيلارد Leo Szilard، الفيزيائي الألماني الذي فرّ من برلين في العام الذي تولّى فيه هتلر السلطة، وكذلك إدوارد تيلر Edward Teller الذي بنى أول قنبلة هيدروجينية، وجون فون نيومان John von Neumann مخترع بنية الحاسوب الحديث.

في وقتٍ قصيرٍ جدًا ارتفع مركز ثقل العلم وانتقل عبر المحيط الأطلسي. بعد الحرب (العالمية الثانية، المترجمة) كان العلماء الأميركيون هم الأكثر سفرًا إلى ستوكهولم لتلقّي الأوسمة وجوائز نوبل، وكانوا هم من أسّسوا على عمل فون نيومان ليأخذوا زمام المبادرة في عصر المعلومات الذي لم تتخلَّ عنه الولايات المتحدة بعدُ. إلى جانب ذلك كانوا هم من طوّروا لقاحات شلل الأطفال والحصبة. خلال فترة ما بعد الحرب سعى فانيفار بوش Vannevar Bush، رئيس مكتب البحث والتطوير العلمي الأميركي في عهد روزفلت، إلى ترسيخ تفوّق أميركا في مجال العلوم. لم يُعجِبْ بوش اضطرارُ الولايات المتحدة إلى الإسراع في توفير الكادر اللازم لمشاريع الرادار والقنبلة الذرية؛ فسعى بعد نهاية الحرب لتوفير كوادر علمية كافية في الجامعات الأميركية تحسبًا لإشتداد الحرب الباردة. دافع بوش عن إنشاء المؤسسة الوطنية للعلوم NSF لتمويل البحوث الأساسية، ووعد بأن تُحسّن جهودُها الإقتصاد والدفاع الوطني الأميركي.

شهد تمويل العلوم الأميركية تقلبات على مدار العقود التي تلت ذلك؛ فقد ارتفع التمويل بعد إطلاق السوفيات للقمر الصناعي سبوتنك Sputnik وانخفض في نهاية الحرب الباردة. ولكن حتى تولّي ترامب السلطة للمرة الثانية مع بداية عام 2025 وبدء هجومه متعدد الجوانب على مؤسسات البحث الأميركية، كان الدعم الواسع للعلوم أمرًا مفروغًا منه في ظل كلّ من الإدارات الديمقراطية والجمهورية. تُعدُّ سياسة ترامب التدخّلية غير المسبوقة في العلوم أمرًا جديدًا؛ فهو يشترك في سمات سياسات ستالين وهتلر المُضرّة بالعلم، كما يقول ديفيد ووتون David Waughton، مؤرّخ العلوم في جامعة يورك. ولكن في العالم الناطق باللغة الإنكليزية ليس لهذا الأمر سابقة، كما أخبرني ووتون: "هذا تدمير لا مثيل له، ويجري من داخل الولايات المتّحدة وليس من أعدائها الخارجيين".

تواصلتُ مع مكتب مايكل كراتسيوس، مستشار الرئيس للعلوم والتقنية، عدة مرات أثناء إعدادي لهذا التقرير. سألتُه إن كان لدى كراتسيوس، الذي يشغل المنصب الذي كان يشغله فانيفار بوش سابقًا، أيُّ رد على الإدّعاء القائل بأن هجوم إدارة ترامب على العلم غير مسبوق. سألتُه عن احتمال أن تُنفّر سياسات ترامب التدخّلية الباحثين الأميركيين، وأن تردع الأجانب عن العمل في المختبرات الأميركية. كنتُ آمل في أن أعرف كيف يتعامل الرجل المسؤول عن الحفاظ على الهيمنة العلمية الأميركية مع هذا الانزلاق الواضح نحو الرتابة والأصولية الأيديولوجية. لم أتلقَّ ردًا.

لم يُفقَدْ كلُّ شيء بعدُ بالنسبة للعلوم الأميركية؛ فقد أوضح المشرّعون بالفعل أنهم لا ينوون الموافقة على التخفيضات الكاملة التي طلبها ترامب في المعاهد الوطنية للصحة، والمؤسسة الوطنية للعلوم، ووكالة الفضاء (ناسا). ستظلُّ هذه الوكالات قادرة على الوصول إلى عشرات المليارات من الدولارات من الأموال الفيدرالية العام المقبل، وقد استعاد المُدّعون العامون في الولايات الديمقراطية الزرقاء بعض المنح الملغاة هذا العام في المحكمة. لا يزال أمام المؤسسات البحثية بعض النضال؛ إذ يقاضي بعضها الإدارة بتهمة تجاوز صلاحياتها التنفيذية. تأمل جامعات الولايات الجمهورية أن يستجمع حُكّام هذه الولايات شجاعتهم قريبًا للدفاع عنها. قال لي ستيفن شابين، مؤرخ العلوم في جامعة هارفرد: "من الناحية السياسية، إغلاق الأبحاث في هارفارد أمر، وإغلاق جامعة أركنساس أمر آخر تمامًا".

لا تُموّل الحكومة الأميركية جميع البحوث العلمية الأميركية. يدعم الأسخياء المتبرّعون والشركات الخاصة جزءًا منها، وسيواصلون دعمها. لا ينبغي أن تواجه الولايات المتحدة الإنهيار السريع الذي حدث في الاتحاد السوفياتي، حيث لم يكن هناك قطاعٌ خاص قوي لاستيعاب العلماء. ولكن حتى الشركات ذات ميزانيات البحث والتطوير الكبيرة لا تُموّل عادةً الأبحاث مفتوحة النهايات في المسائل العلمية الأساسية. باستثناء مختبرات بل Bell Laboratories في أوج ازدهارها، تُركّز هذه الشركات على المشاريع ذات الآمال التجارية الفورية. سيثور مساهموها غضبًا إذا استثمرت الشركات التقنية 10 مليارات دولار في تلسكوب فضائي أو مصادم جسيمات يستغرق بناؤه عقودًا ولا يُدرّ إيرادات تُذكر في الأمد القريب. سيُشوّه نظام العلوم الأميركي المُخصخص والذي يخدم المشاريع قصيرة الأجل وعالية الربحية، وسيتّجه من يرغبون في إجراء تجارب طويلة الأجل بمشاريع أكثر تكلفة إلى أماكن جذب خارج أميركا. قال شابين: "قد يخسر العِلْم الأميركي جيلًا كاملًا. بدأ الشباب بالفعل يدركون أنّ العلم لم يَعُدْ يُقدّرُ كما كان في السابق".

إذا لم تَعُد الولايات المتحدة القوة العظمى التقنية - العلمية في العالم، فمن شبه المؤكد أنها ستعاني بسبب هذا التغيير. قد يفقد قطاع التقنية الأميركي إبداعه؛ لكن العلم نفسه، بالمعنى العالمي، سيكون على ما يرام. الفضول البشري العميق الذي يحرّك جذوة البحث العلمي لا ينتمي إلى أي دولة قومية. قال شابين: "إنّ تنازل أميركا عن العرش لن يؤدي إلّا إلى الإضرار بأميركا. قد يتجه العلم أكثر نحو اللامركزية في نظام متعدد الأقطاب، مثل النظام الذي كان قائمًا خلال القرن التاسع عشر عندما تنافس البريطانيون والفرنسيون والألمان على التفوّق التقني".

وربما، بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، ستصبح الصين القوة العلمية المهيمنة في العالم، كما كانت، على الأرجح، قبل ألف عام. لقد تعافى الصينيون من تبديد ماو تسي تونغ لخبراتهم خلال الثورة الثقافية. أعادوا بناء مؤسساتهم البحثية، وتحافظ حكومة شي جين بينغ على تمويلها الجيد. تُصنّف جامعات الصين الآن من بين الأفضل عالميًا، وينشر علماؤها بانتظام في مجلتي Science وNature وغيرهما من المجلات المرموقة. بدأ باحثون من النخبة وُلِدوا في الصين ثم قضوا سنوات أو حتى عقودًا في مختبرات الولايات المتحدة بالعودة. ما لا تستطيع الصين القيام به جيدًا حتى الآن هو استقطاب علماء أجانب من النخبة، الذين بمقتضيات مهنتهم يميلون إلى تقدير حرية التعبير.

مهما يحدث لاحقًا فمن غير المرجح أن تضيع المعرفة الموجودة، في الأقل ليس بشكل جماعي؛ فالبشر أكثر قدرة على الحفاظ عليها الآن، حتى في ظل صعود الحضارات وسقوطها. كانت الأمور في الماضي أكثر تعقيدًا: ربما كان النموذج اليوناني للكون قد نُسي، وتأخرت الثورة الكوبرنيكية كثيرًا لو لم يحفظ الكتبة المسلمون النموذج اليوناني للكون في بيت الحكمة ببغداد. لكن الكتب والمجلات تُحفظ الآن في شبكة من المكتبات ومراكز البيانات تمتد عبر القارات السبع، وقد جعلتها الترجمة الآلية مفهومة لأي عالِم، في أي مكان. سنستمر في اكتشاف أسرار الطبيعة حتى لو لم يكن الأميركيون أول من يعرفها ويبحث عنها.

في عام 1990 انتقل روالد ساغدييف إلى أميركا. وجد مغادرة الإتحاد السوفياتي صعبة. كان شقيقاه يعيشان على مقربة من منزله في موسكو، وعندما ودّعهما خشي أن تكون هذه هي لحظة الوداع الأخيرة. فكّر ساغدييف في الذهاب إلى أوروبا؛ لكن الولايات المتحدة بدت واعدة بفرص أكبر واكثر. كان قد التقى بالعديد من الأميركيين في زيارات دبلوماسية هناك، بمن فيهم زوجته المستقبلية. صادق آخرين أثناء مساعدته في إدارة الجزء السوفياتي من مهمات الرحلة الفضائية المشتركة أبولو- سويوز. عندما زار كارل ساغان Carl Sagan معهد أبحاث الفضاء السوفياتي في موسكو رافقه ساغدييف في جولة، وظلّ الإثنان صديقيْن مقرّبيْن بعد ذلك. ولتجنب إثارة شكوك السلطات السوفياتية سافر ساغدييف أولًا إلى المجر، ولما وصل بأمان إلى هناك حجز تذكرة سفر إلى الولايات المتحدة. قُبِل أستاذًا في جامعة ماريلاند واستقر في واشنطن العاصمة. استغرق الأمر سنوات ليتجاوز صدمة الثقافة. لا يزال ساغدييف يتذكّرُ إيقافه بسبب مخالفة مرورية، وإبرازه بطاقة هويته السوفياتية بالخطأ!!.

العِلْمُ الأميركي هو ما أكسب ساغدييف في النهاية منزله الجديد. أذهلته طموحاتُ أجندة البحث الأميركية، وأعجبه دعمُها المالي. كان يُقدّرُ حرية تنقل العلماء بين المؤسسات، وعدم اضطرارهم للزحف أمام قادة الأحزاب للحصول على التمويل. لكنْ عندما تحدثتُ مع ساغدييف آخر مرة، في الرابع من تموز/ يوليو 2025، كان يشعر بالحزن على وضع العِلْم الأميركي. مرة أخرى يشاهد ساغدييف قوة علمية عظمى تتراجع. لقد قرأ عن مقترحات خفض التمويل في الصحف، وسمع عن مجموعة من الباحثين الذين يخططون لمغادرة البلاد. يبلغ ساغدييف من العمر 92 عامًا، وليس لديه أيُّ خطط للانضمام إليهم. لكنْ كأميركي يؤلمه رؤيتهم يرحلون.

 

(*) روس أندرسن Ross Andersen: كاتب في مجلة "ذا أتلانتيك The Atlantic" الأميركية. شغل سابقًا منصب نائب رئيس تحرير المجلة. عمل مراسلًا صحافيًا في روسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الجنوبية واليابان وغرينلاند، وهو أيضًا مؤلف كتاب "البحث الطويل The Long Search" الذي سيصدر عن دار نشر راندوم هاوس Random House.  

- الموضوع المترجم أعلاه منشور في مجلّة The Atlantic الأميركية بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2025.
العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:

Every Scientific Empire Comes to an End