بعيون إنسانية حساسة للألم ولمعاناة اللبنانيين في مواجهة حربهم ضد إسرائيل، يأتينا أحدث أفلام العراقي عباس فاضل بعنوان “حكايات الأرض الجريحة”، حيث يدمج فيه بين السرد الوثائقي والدرامي ليعكس الحياة اليومية في ظل الحروب، والدمار، حياة نكتشفها من عيني طفلة صغيرة، عزز حضورها أسلوب والدها السينمائي الذي يختار أن تكون كاميرته عينا محايدة وراصدة، تبتعد عن التوجيه المباشر وتترك الحكم للمُشاهد، مما يضفي على أفلامه طابعا واقعيا ومؤثرا.
" وكانت لجنة التحكيم التي ضمّت المخرجين العالميين ريتي بان وكارلوس ريغاداس قررت منح الفيلم جائزتها لقيمته الفنية وأثره الإبداعي وموضوعه الإنساني.
"الحب أقوى في البناء من الكراهية في التدمير"
يفتتح الفيلم بمنظر جوي يظهر الدمار الذي تسببت فيه إسرائيل في جنوب لبنان، لدقائق طويلة، تقوم كاميرا المخرج العراقي فاضل المقيم في لبنان، بتصوير عدد لا يحصى من المشاهد التي صورت حجم الخراب الذي لحق بالبنية التحتية للمدن وقرى الجنوب اللبناني جراء القصف المستمر.
نحن في فبراير 2025، بعد ثلاثة أشهر على وقف إطلاق النار، يعود الفيلم بالزمن إلى الوراء لبضعة أشهر، ويصور فتاة صغيرة (ابنة المخرج) في المدينة، تمشي بلا هموم بين الزهور لكن حياتها اليومية ليست مثل الآخرين: بسرعة كبيرة، نسمع انفجارات كبيرة. بطريقة تقشعر لها الأبدان، ترافق سحب الدخان العملاقة صرخات الأطفال، تهتز الجدران، وتشير الشاشة المنقسمة إلى الكارثة التي تصيب المدن. تظهر لنا صور وحشية العدو عند سقوط القنابل وانهيار المباني. صور صادمة، نرى مصابا يتذمر وهو يجر نفسه على الأرض، نرى حصانا يركض بين أكوام الأنقاض في منتصف الشارع (بوستر الفيلم). نرى المساجد المدمرة، المكتبات المدمرة، المحفوظات المدمرة، المتنزهات الترفيهية، حتى المقابر لم تسلم من همجيتهم!
الحرب لا تتوقف عند أي شيء ولا تترك إلا الصدمة والدمار والموت. نرى صورا توضح كيف محيت معالم مدينة بأكملها في 65 يوما فقط. ليس كأضرار جانبية، لكن عمدا لكسر الناس الذين يعيشون هناك. لكن نرى أشخاصا صامدين يرفضون الهزيمة. نرى الكتابة على الجدران وسط المباني المهدمة. نراقب الطفلة الصغيرة التي كتب عليها أن تكبر محاطة بكل هذا الخراب الذي لا معنى له في عالم لا يستطيع حتى الكبار فهمه، هذه هي الحكايات التي يجب أن ترويها أرض جريحة مثل لبنان.
على الرغم من سياقه في زمن الحرب وتوثيق الدمار، إلا أن الفيلم لا يركز فقط على الصراع نفسه، بدلا من ذلك، يستكشف ما ينبثق منه: المرونة البشرية واستمرار الأمل. إذ يصور الفيلم الوثائقي على مدار ساعتين تقريبا الحياة اليومية لمجتمع في حالة خراب ولكنه مصمم على التحمل، ويظهر المدنيين وهم يتصارعون مع الحزن بينما يسعون جاهدين لإعادة البناء. يصبح منظور فتاة صغيرة، صورها والدها طوال الفيلم الوثائقي، رمزا للحياة المتجددة وسط الدمار. هذا التفاعل بين الدمار والمقاومة يمنح الفيلم عمقا إنسانيا وفلسفيا عميقا، حظي بإشادة من النقاد على نطاق واسع. يتتبع هذا الفيلم الحياة اليومية لأولئك الذين اضطروا إلى تحملها في خضم تلك العاصفة من القصف الوحشي.
تشهد أصوات العائلات والأصدقاء والجيران على الخسارة والنزوح، وعلى المحاولات الهشة للشفاء وإعادة البناء والحفاظ على الكرامة على الرغم من كل الدمار. بين أنقاض المباني والذكريات، تتكشف مساهمة عباس فاضل الوثائقية في مهرجان لوكارنو كعلامة سينمائية على روح مقاومة لا تقهر. بصدمة هادئة ومن دون شعارات وهتافات، ولكن بإلحاح لا لبس فيه، يرسم المخرج العراقي – الفرنسي تاريخا غير خطي للقرى المدمرة والسير الذاتية المحذوفة والحقائق المكبوتة في جنوب لبنان الذي مزقته الحرب.
فسيفساء إنسانية
في سلسلة من القصص القصيرة المجزأة التي تتخللها ومضات من الشعر المؤلم، لا يعيد المخرج بناء سرد واضح، بل فسيفساء من اللحظات التي تصبح فيها الحياة اليومية بيانا سياسيا تحت ضغط القوة العسكرية. يكمن الانفجار السياسي للعمل أيضا في اتهامه الضمني: جنوب لبنان، الذي تميز منذ عقود بالضربات الجوية الإسرائيلية والتوترات الداخلية على الساحة اللبنانية والمنطق الجيوسياسي بالوكالة في الشرق الأوسط.
يختفي في الظل الخطاب الإعلامي لنقاط الاضطرابات الجديدة، لكن المخرج عباس يضفي على هذا التهميش شكلا مكثفا يرفض التجريد الفكري، تنزلق كاميرته المحمولة باليد بنظرة متيقظة على الحقول المتفحمة والمنازل المهجورة والوجود الرواقي لأولئك الذين ظلوا بعيدين عن كل المحن من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن لتحدي نسيج الخيوط الهشة للمجتمع والبدايات الجديدة في وسط الأنقاض. تضفي اللقطات الطويلة غير المنقطعة وتركيبات الصور الثابتة على التضاريس المدمرة حضورا مستقلا.
الفصول القصيرة، التي تقطعها أبيات شعرية متراكبة على الشاشة السوداء، تنظم الفيلم مثل الأنفاس بين الصدمة والتأمل، منظر جوي طويل الأمد لموكب جنازة، يتضخم باستمرار، ينتهي في مقبرة، هناك، تقفز فوق ألواح القبور، يتم تكثيف رمزية الفيلم المزدوجة: الأمل والبدايات الجديدة، وفي نفس الوقت الهاجس القمعي لمستقبل طغت عليه أزمة سياسية دائمة. توثيق سينمائي من الجبهة يبدو وكأنه البلد نفسه: متآكل ومجزأ وحاضر بعناد، في تدمير جنوب لبنان بالكامل، وكاميرا طائرة بدون طيار تحلق فوق حشود تحمل توابيت ملفوفة بأقمشة خضراء.
يمسح فاضل بكاميرته الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية للمنطقة وإزهاق أرواح الناس. يصور وحشية الحرب، ولكن أيضا الحياة اليومية التي تستأنف. ومع ذلك، فإن الجرح مفتوح: “لا أستطيع وصف مشاعري”، يقول رجل فقد منزله والصيدلية التي كان يعمل فيها. “كل شيء يفوق قدرتي على الفهم”، قالت إحدى النساء في وقت لاحق.
في هذه الأثناء، نعبر المدينة بالسيارة، ونشهد سلسلة من الأماكن التي دمرها الجيش الإسرائيلي. ويجسد هذا الفيلم تاريخا حميما للحرب التي اجتاحت جنوب لبنان لمدة عام ونصف، الحياة اليومية لأولئك الذين وقعوا وسط الاضطرابات والدمار. من خلال أصوات الأقارب والأصدقاء والجيران، يشهد على الخسارة والنزوح والجهود الهشة لشفاء كرامتهم وإعادة بنائها والحفاظ عليها تحت أنقاض الدمار.
يصور عباس فاضل في فيلمه إعادة إعمار هذه الأرض الجريحة وقبلها أرواحهم، لكن هناك بعض الأشياء التي لا تلتئم، “الآثار تقف مثل الأشباح، شهود صامتون لما كانت عليه المدينة في السابق: ملجأ، قلب نابض، مشهد للحياة”، تقرأ في حكايات الأرض الجريحة، أسباب الوفيات المأساوية، وهناك أيضا الذكريات التي تم محوها في كل زاوية من أركان الشوارع التي تم قصفها. في هذه الشهادات القوية، يتحدث المخرج عن الأمل الهش الذي يعتز به كل واحد منا، خوفا من عودة الفوضى. يقدم الفيلم تأريخا حميما للحرب التي دمرت لبنان لمدة عام ونصف، ويلتقط الحياة اليومية لضحايا غضب الحرب.
عن فيلمة يقول “ولد فيلمي من الحاجة إلى سرد قصة حرب دمرت منازلنا وحياتنا وإظهار أنه على الرغم من كل شيء، تستمر الإنسانية والصمود لشعب جنوب لبنان في الازدهار حتى وسط الأنقاض”.
يوثق الفيلم إحدى الرغبات الشديدة للعدو الإسرائيلي المدمرة في كسر روح الصمود. في ذلك الوقت، كان الهدف هو لبنان. ولكن ما مدى القسوة والوحشية اللتين نراقب بهما هذا الهوس الإسرائيلي في تدمير المدنيين وقتلهم وإزعاج المصائر السلمية من خلال غمرهم في أهوال غير مسبوقة؟ لكن، كما يقول عباس فاضل على لسان أبطاله في الفيلم “الحب أقوى في البناء من الكراهية في التدمير”.
الحرب تدمر الحجارة والنفوس
إن مشاهد عباس فاضل المدمرة تستغني بشكل شبه كامل عن التفسير التاريخي والعلامات الموضعية والمقابلات التفسيرية بل تجعل الصورة تتكلم وتكشف حجم الهمجية الإسرائيلية التي لا تفرق بين الشيخ أو الطفل أو المرأة، بل حتى قبور الموتى لم تنجوا من همجيتهم، إضافة إلى الحيوانات والأشجار والناس التي دمرتها الماكنة الإسرائيلية التخريبية.
يعكس السرد العاجل لحكاية البلاد الجريحة التماسك المجتمعي بين منظوره الإنساني وعمق التركيز السياسي والرمزية الغنائية. إنه بروتوكول وثيقة إدانة بالصورة والقصيدة، تقرير سينمائي من الجبهة يبدو وكأنه البلد نفسه: متآكل ومجزأ وحاضر بعناد. استخدم المخرج عباس فاضل في سرد الفيلم سلسلة من قصائد الهايكو التي وظّفها المخرج كفواصل تختم كل فصل، فتنقلنا من لحظة إلى أخرى، ومن مشهد إلى آخر، تصبح تلك القصائد بوابة للدخول إلى المشاهد وتصبح أعمدة ترتكز عليها الحكاية.
الفيلم الوثائقي يصور على مدار ساعتين تقريبا الحياة اليومية لمجتمع في حالة خراب ولكنه مصمم على التحمل
اتخذ المخرج خيارات صارمة للغاية، سواء على مستوى الإنتاج أو على مستوى السرد. بادئ ذي بدء، قرر أن يفعل كل شيء بنفسه، لجأ إلى كاميرا يسهل الوصول إليها لجهاز آيفون، يشير إلى أن استخدامها منحه حرية غير مسبوقة في التصوير، كما سمح لنفسه بالاستفادة من الطائرات بدون طيار “الدرون”، تلك الطائرات بدون طيار نفسها التي قصفت بها البلاد، ولا تزال، وذلك لإخبار بعض المشاهد القابلة للتصوير، من أجل التقدير.
ويوضح “ولد فيلمي من الحاجة إلى الشهادة على حرب حطمت حياتنا وبيوتنا، وإظهار كيف أن الصمود والإنسانية لا تزال تزدهر وسط الأنقاض على الرغم من كل شيء”. في العديد من المشاهد، تسأل الصغيرة والدها، الذي يكون دائما خارج الإطار، ويسجل لها، دون أن ينبس ببنت شفة. إنه مصور يتبع نور وطفلتها في الشوارع المتداعية. وكما هو الحال في بعض أفلام عباس فاضل السابقة، يسجّل هذا الفيلم الواقع من منظور السينما الوثائقية القائمة على الملاحظة، التي تسعى إلى أقصى قدر من الشفافية، حيث تصبح الكاميرا شاهدا صامتا على جرائم الجيش الإسرائيلي ووحشيته.
يصبح المخرج وسيطا منحازا، فهو يمسك الكاميرا، ويلتقط الإيماءات، ونبرات الصوت، والنظرات والصمت، ويتجنب الألعاب، ويتجنب أن يذكر اسمه، وعدم الشعور به، لأن هدفه ليس تقديم ذاتيته بطريقة واضحة. تدور نظرته حتما إلى اختيار الإطار، في نهاية كل لقطة، على إيقاع بعض المقاطع، دون التدخل في مقابلات نور أو محادثاتها.
ويتخذ المخرج خيارا آخر مثيرا للدلالة في نفس الاتجاه، فـ”حكايات الأرض الجريحة” تروى من خلال نظرة ابنته الفتاة الصغيرة، وتأتي أكثر دهشة من الرعب وحجم الدمار، وكذلك عيون والدتها. إن استخدام الممثلين يعني، مرة أخرى، الأصالة والإلهام الأخلاقي العميق لهذا الفيلم الوثائقي، نتيجة المشاركة والعاطفة التي يحاول المخرج قدر الإمكان إخفاءها، بفضل استخدام الوسيط السينمائي.
التفاعل بين الدمار والمقاومة يمنح الفيلم عمقا إنسانيا وفلسفيا عميقا حظي بإشادة واسعة من النقاد
وكما قال في المؤتمر الصحفي “تعمل الكاميرا أيضا بطريقة ما كحماية من الخوف من الوقوع ضحية للحرب”. المنظور من الأعلى هو الطائرة بدون طيار التي تحلق فوق الأراضي التي دمرها القصف، والمنازل المهدمة، والأنقاض التي تحتل الشوارع التي يسير على طولها موكب الجنازة الطويل الذي يصاحب توابيت الرياح الطائفة العديدة. هذه الطائرة السينمائية بدون طيار التي تصور الألم لها نفس منظور العديد من الطائرات بدون طيار القتالية التي أرهبت سكان البلاد في جنوب لبنان حيث عاش عباس فاضل لسنوات وحيث قام هذا المخرج العراقي بتصوير فيلم “حكايات الأرض الجريحة”.
إن رواية ”حكايات الأرض الجريحة” موجودة بالفعل في عنوانها، لكنها ضرورية أكثر من أي وقت مضى لأنها تتوافق مع الحاجة إلى إظهار نتائج الحرب التي جلبتها إسرائيل أولا، وقبل كل شيء الإشارة إلى صمود الشعب الفلسطيني واللبناني. هذا الفيلم الوثائقي الصارخ الذي صور على الأرض، يذكر بحب اللبنانيين للحياة لأنهم واثقون أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
وعباس فاضل هو مخرج سينمائي وكاتب سيناريو وناقد سينمائي عراقي، يحمل الجنسية الفرنسية، ولد في بابل، العراق، وانتقل إلى فرنسا في سن مبكرة، يعيش هناك منذ سن 18 عاما، ودرس السينما في جامعة السوربون وتدرب على يد المخرج الفرنسي الشهير إريك رومر. كان يريد توفير المعرفة التي اكتسبها في خدمة قضية مرتبطة ارتباطا وثيقا بأصله، بدأ في صنع أفلام، معظمها وثائقية، كان يطمح إلى توثيق ما كان يحدث أو ما حدث في واحدة من أكثر المناطق سخونة على وجه الأرض.
في يناير 2002، عاد إلى العراق وصور الفيلم الوثائقي “العودة إلى بابل”. في عام 2008، أكمل فيلمه الروائي الأول “فجر العالم” الذي تم تصويره في مصر، بطولة حفصة هرتسي وهيام عباس، عاد إلى السينما الوثائقية مع فيلم “العراق العام صفر” عام 2015، وهو فيلم طويل جدا من جزأين، يغمرنا في الحياة اليومية لعائلة عراقية قبل وبعد الغزو الأميركي في عام 2003. قرر التوجه إلى بلد آخر دمرته الحرب عدة مرات وهو لبنان.
وفاضل أحد أبرز الأصوات العربية في السينما الوثائقية والروائية المعاصرة. تعكس خلفيته توليفة غنية من الشرق والغرب، وتمزج الواقعية مع التفكير الفلسفي. يتميز بمشاركته العميقة في القضايا الإنسانية، وغالبا ما يتأمل الحياة اليومية مع توثيق لحظات التحول التاريخي من منظور شخصي. كثيرا ما يستخدم الكاميرا كأداة مباشرة للتوثيق، ويدمج رواية القصص الذاتية مع البصيرة السياسية، في حين أن أفلامه غالبا ما تلتقط لحظات الانهيار والصراع، إلا أنها تبحث في نفس الوقت عن جذور الأمل والهوية وسط الفوضى.