رسالة القاهرة
أوباما والجوائز
مفتتح: لم تشهد القاهرة منذ أعوام طويلة زخما ثقافياً وحراكاً فكرياً مثلما حدث في شهر يونيو من هذا العام، إذ تعاقبت على القاهرة أحداث وقضايا متعددة ومتنوعة، أخذ بعضها طابعاً سياسياً، بينما اتسم بعضها الآخر بالطابع الاجتماعي، لكنها في نهاية المطاف لم تخرج عن محيط الثقافة ودائرة الفكر، وان اختلف المحللون بشأنها وبشأن تأثيراتها التي ربما تمتد لسنوات وسنوات قادمة. وقد استُهِلت تلك الأحداث بزيارةٍ للرئيس الأمريكي باراك أوباما، في الرابع من هذا الشهر، زيارةٍ كان أقل ما وصفت به أنها تاريخية، واختتمت تلك الأحداث بإعلان جوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم، وبين المفتتح والختام امتدت فعاليات ثقافية وفنية لا تقل إحداها عن الأخرى أهميةً وتأثيرا، كان أبرزها صدور قرار المحكمة الإدارية ببطلان إيقاف صدور مجلة إبداع، ومعرض الفنون بدار الأوبرا المصرية، وتجدد أزمة كتاب "المعلم يعقوب" بهيئة قصور الثقافة، واختيار اتحاد الكتاب المصري كأول جهة ترشيح عربية معتمدة لجائزة نوبل للآداب، وعزل مجلس إدارة جمعية أتيليه القاهرة للفنون والثقافة بسبب تجاوزات إدارية ومالية، ثم تعيين سلوى بكر مفوضاً لإدارة الجمعية حتى الفصل في النزاعات، هذا بخلاف الأحداث المتعاقبة في رحلة ترشُّح وزير الثقافة المصري لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو وردود الأفعال التي واكبتها داخليا وخارجيا. أحداثٌ كبيرةٌ وكثيرة وكان يكفي وقوع أحدها منفرداً ليظل الوسط الثقافي منشغلا بنواتجه وتبعاته، ولذلك سنعرج على أهمها في سياق رسالة هذا الشهر على أن تتوالى بمشيئة الله تباعاً تغطيات بقية الأحداث في رسائل الأشهر القادمة هذا إن استمرت وقائع تلك الأحداث في الظهور على ساحة الثقافة القاهرية، ولا نظنها تنزوي. أولا: خطاب أوباما في جامعة القاهرة من السياسة إلى الثقافة بين يدي الخطاب ربما لم يحمل خطاب باراك حسين أوباما الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة جديداً ملموساً على مستوى السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي وفكرة الحرب ضد التطرف والإرهاب التي افتتحها سلفه بوش، فمعظم المحللين السياسيين لم يجدوا في عبارات الرئيس التي ضمنها خطابَهُ ما يشفي الغليل فعلياً، ولم يجدوا في تصوراته عن المرحلة القادمة سوى وجهات نظرٍ عامة تجاه القضايا العالقة بمنطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها القضية الفلسطينية والإصلاح السياسي، فخطاب أوباما الذي اختار أن يلقيه من تحت قبة جامعة القاهرة مدعوا من قِبلها بالتعاون مع الأزهر الشريف لم يخرج عن مجرد مجموعةٍ من التأملات في التاريخ والحضارة وقراءة الواقع، دونما تمييز في ذلك الواقع بين جلادٍ ومسجونين أو بين قاتلٍ وضحايا بالآلاف، فالخطاب الذي كُتِبَ بحرفيةٍ عالية تُحسد عليها الإدارة الأمريكية تعرض لسبع قضايا رئيسية هي: "العنف العالمي، وقضية فلسطين، والسلاح النووي، والديمقراطية، وحرية الأديان، وحرية المرأة، والتنمية الاقتصادية"، وقد استبق أوباما عرض قضاياه السبع بفكرة إعادة الثقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي قائلاً: "لقد أتيت إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والإسلام لا تعارضان بعضها البعض ولا داعي أبدا للتنافس فيما بينهما بل ولهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها ألا وهي مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان. إنني أقوم بذلك إدراكا مني بأن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها. ولا يمكن لخطاب واحد أن يلغي سنوات من عدم الثقة كما لا يمكنني أن أقدم الإجابة على كافة المسائل المعقدة التي أدت بنا إلى هذه النقطة. غير أنني على يقين من أنه يجب علينا من أجل المضي قدما أن نعبر بصراحة عما هو في قلوبنا وعما هو لا يقال إلا وراء الأبواب المغلقة. كما يجب أن يتم بذل جهود مستديمة للاستماع إلى بعضنا البعض وللتعلم من بعضنا البعض والاحترام المتبادل والبحث عن أرضية مشتركة". ومن هذه الأرضية الافتراضية المشتركة يتأسس التحول الذي مثله الخطاب الأوبامي من منطقة السياسة وألاعيبها إلى منطقة الثقافة وآفاقها، فأوباما الذي وصل إلى البيت البيض كأول أمريكي من أصول إفريقية يتولى هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، والذي يمتلك أصولا إسلامية ورثها مع اسمه الأوسط (حسين)، ويمتلك أيضاً بشرةً سمراء تمتد بتاريخٍ من النضال ضد العنصرية ليس في أمريكا فحسب وإنما في مناطق متفرقة من العالم، يبدو أنه أدرك تماماً ما يمكن له صناعته بكل هذه الأدوات الفاعلة والتي يدعمها تمتعه بكاريزما عالية التأثير وحضور ذهني متقد، إن خطاب أوباما من واقع هيكله والخيط الناظم بين أجزائه وبين قضايا التوتر الأساسية التي طرحها، يعكس إشكالية ممتدة في العلاقة بين الثقافي والسياسي في النظام العالمي (أي العلاقة بين القيمة والمصلحة) وهي ثنائية افتعلتها المنظورات الغربية والأمريكية تحديداً في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تجعل من القيم مجرّد أطر عامة، بينما المستهدف الأساسي هو المصلحة في ذاتها والتي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة من خلال تسويق قيمها الخاصة بكلّ مرحلة جديدة تدخلها في سياستها الخارجية والداخلية. ولهذا فإن أبرز ما لفت انتباه المتابعين لخطاب أوباما هو إسقاطه المتعمد ـ عن قصد أو غير قصد ـ لقيم الجهاد الإسلامي، والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال والتي يقرها القانون الدولي، وذلك حين رفض أي صورة للمقاومة بالعنف يقوم بها الفلسطينيون، ناهيك عن طرحه لفكرة تواصل الحضارات كبديل لفكرة صراعها التي كان يتبناها بوش الابن، وقد رأى المحللون في خطاب أوباما استدعاءً منتظما لقضايا كبرى معرفية وفكرية ينطلق منها الخطاب وينبني عليها، وبقدر ما تمتع به الخطاب من تماسكٍ في الأفكار والرؤى، بقدر ما نجح في اكتساب مساحة في قلوب عامة العرب مسلمين كانوا أو مسيحيين، خاصةً في ذلك التضمين والاستشهاد المستمر بآيات من القرآن الكريم والكتاب المقدس تدور معظمها حول أفكار التسامح والمحبة والسلام. المثقفون والخطاب أما المثقفون فقد تباينت آراؤهم فيما يتعلق بالخطاب، وربما وقع بعضهم تحت التأثير ذاته الذي وقع تحته العامة. لكن البعض الآخر كان لهم موقف مغاير وحذر بعض الشيء. فالكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصري والعربي رأى أن الخطاب غير عادى ويخرج عن مناسبة الزيارة ليعبر عن رؤية شاملة ليس فقط لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي وإنما للعالم كله، مقدما رؤية تقوم على الكثير من المبادئ المثالية، لكنها تأتى في هذا الخطاب في شكل خطوات عملية واضحة مما يجعله مانيفستو لمرحلة جديدة بالفعل من التعامل الدولي. وتوافقه الرأي د.هبة نصار نائب رئيس جامعة القاهرة فتقول أن الخطاب كان شاملا وهو يعبر عن لغة حوار جديدة لابد من فهمها وأن نعي أهمية التفاوض والتحاور بطريقة ذكية متضمنة الأدلة والتواريخ.. وأعتقد أنها خطوة جديدة قائمة علي بث الثقة في العالم الإسلامي. بينما ترى الدكتورة ليلي عبد المجيد عميدة كلية إعلام جامعة القاهرة أنه خطابٌ يعبِّر عن صفحة جديدة لعلاقة الولايات المتحدة بالعالم. وأنه كان خطاباً واقعيا إلي حد كبير ولكننا يجب ألا نتفاءل بصورة كبيرة. أما الروائي إبراهيم أصلان فيرى أن الخطاب يتسم بقدر واضح من التوازن ويحمل مجموعة من الأفكار الجديدة بالنسبة للإدارة الأمريكية، والمهم الالتزام بها وتفعيلها، كما يحمل لهجة من الصدق الحقيقي وفيه أفكار جدية مثل أنه رغم الإشارة إلى قوة العلاقات مع إسرائيل، فإنه لم يتجاهل المشاكل الضخمة التي يعيشها الفلسطينيون وإشارته إلى المستوطنات وتأكيده على وجود الدولة الفلسطينية فهو موضوعي وصريح. وفي المقابل يرى الدكتور سيد القمني الحاصل منذ أيام على جائزة الدولة التقديرية "أن باراك يفهم المسلمين جيدا لذلك لبس لنا ثوب الواعظ الشيخ باراك بن حسين آل أوباما حفظه الله ورعاه هو ومن يلوذ به، ليعلن كيف يعرف لغانا وكيف يلغو لغونا بما حمله لخطابة من دلالات نعرفها ولا نعرف غيرها، وجاءت أمنيتي بفهم الغرب لنا، بعكس الهدف المرتجى منها، فها قد جاء من يعرفنا ويفهمنا عاش وسطنا وجيناته من جيناتنا، ويعرف كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ولكن ليس من أجل خلاص شعوبنا مما هي فيه من تخلف وجهل ومرض وفساد اجتماعي معمم وحكومي علني واستبداد وقمع واستعباد، كلا الرجل ليس مشغولا بهذا بالمرة، إنه لم يأت ليخلصنا. لكنه جاء مخلصا لأمريكا من عثرتها في بلادنا ولتحييد شرنا عنها، بتكاليف أقل من تكاليف طريقة الحزب الجمهوري الأمريكي بما لا يقارن، وفى وقت تستفحل فيه الأزمة الاقتصادية العالمية". ولعل الأمر الرئيسي الذي اتفق عليه المثقفون فيما يتعلق بأوباما وخطابه هو الاختيار الموفق للقاهرة كمنصة يلقي رئيس أمريكا من عليها خطابه للعالم الإسلامي أجمع، ومعظمهم رأوا في هذا الاختيار استعادة مشرّفة لدور القاهرة الإقليمي الذي افتقدته في الفترات الأخيرة بفعل عوامل متعددة. ثانياً: جوائز الدولة: توقعات صائبة وحجْبٌ لافت واستثناءٌ وحيد لم تحدث مفاجآت كبيرة في جوائز الدولة هذا العام في مصر، فقد وافقت الجوائز توقعات المهتمين من المثقفين والإعلاميين، غير أن عدم حجب أيٍ من الجوائز الثلاث الكبرى هو أمرٌ انفردت به جوائز هذا العام، كما أن التقارب بين المتنافسين أدى إلى إعادة التصويت أكثر من مرة وفي أكثر من مجال بشكلٍ لافتٍ للنظر. وفي المقابل مُنيت فروع جائزتي التفوق والتشجيعية بأربعة عشر حجب، وقد كان الاستثناء الوحيد الذي خالف التوقعات هو حصول الدكتور سيد القمني على الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية في ثالث مرحلة للتصويت على المرشحين ليلحق به الدكتور حسن حنفي في المرحلة الرابعة. بقية الجوائز كانت متوقعة، فقد فاز بهاء طاهر بجائزة مبارك للآداب بفارقٍ كبير في الأصوات عن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي حصل على 6 أصوات فقط في مقابل 38 لبهاء طاهر الذي انسحب من الجائزة العام الماضي لصالح اسم الدكتور الراحل رجاء النقاش. وحصل محمد طه حسين على نفس الجائزة في الفنون، وحصل علي رضوان عليها في العلوم الاجتماعية، متجاوزاً فؤاد زكريا وأحمد أبو زيد بفارقٍ صغير جدا في الأصوات وفي المرحلة الرابعة من التصويت. أما جائزة الدولة التقديرية في الآداب، ففاز بها جابر عصفور من أول جولة، وتلاه الناقد الدكتور أحمد درويش والروائي يوسف القعيد، وفي العلوم الاجتماعية حازت نعمات أحمد فؤاد الجائزة ثم قاسم عبده قاسم، وسيد القمني وأخيراً حسن حنفي كما ذكرنا سالفا أما في الفنون، فحصل عليها الكاتب وحيد حامد، والموسيقي جمال سلامة، والمسرحي هاني مطاوع. وكعادة كل عام كان للراحلين نصيبٌ في الجوائز، على قلة نصيبهم وهم أحياء، فقد حصل اسم الروائي الراحل يوسف أبو رية على جائزة الدولة للتفوق في الآداب، تلته المترجمة رجاء ياقوت. أما في العلوم الاجتماعية، فذهبت جائزة التفوق للمؤرخ محمد عفيفي، ومسعد عويس، والسيد أمين شلبي. وأما في الفنون فحصل عليها نقيب الممثلين أشرف زكي، والباحث في الفنون الشعبية عبد الرحمن الشافعي. وقد شهدت جوائز الدولة التشجيعية للآداب حجباً في فروعها الأربعة بواقع أربع عشرة جائزة محجوبة، ومنحت في ثلاثة فروع فقط، حيث فازت الشاعرة نجوى الشيخ ـ التي اجتهد البعض في التعرف عليها ـ بجائزة شعر العامية، وفاز بها في الرواية زكريا عبد الغني بروايته "حالات الروح"، وفي جائزة عمل موسيقي للأطفال فازت د. وفاء حسن عن "مجموعة الأغاني الدينية للأطفال المخصصة لسن من 6 ـ 12". وتلافياً لمسألة حجب الجوائز التي عانت منها جوائز الدولة المصرية في كافة فروع الجائزة وعلى امتداد تاريخ الجائزة منذ إنشائها عام 1958 وحتى يومنا هذا، اجتمع في اليوم التالي لإعلان الجوائز أعضاء المجلس الأعلى للثقافة وعلى رأسهم وزير الثقافة وعلي أبو شادي أمين المجلس الأعلى للثقافة وبحضور 48 عضوا من أصل 60 عضوا، واتفق الأعضاء على تعديل نظام التصويت على جوائز الدولة بدءا من العام المقبل، بحيث يحصل على الجوائز أعلى الأصوات + 1 بدلا من حجب الجوائز كما كان يحدث في الدورات السابقة والدورة الحالية، كما اقترح الوزير فاروق حسنى اسم الدكتور فوزي فهمي ـ رئيس أكاديمية الفنون السابق ـ لعضوية المجلس بديلا عن الراحل كامل زهيري الذي وافته المنية في نوفمبر من العام الماضي، ويبدو أن هذا التعديل في نظام التصويت سيحمل للمثقفين والكتاب حلا نهائياً لذريعة الحجب التي كان يتذرع بها أعضاء المجلس لعدم اكتمال النصاب، ولكن تبقى قضية الاستحقاق معلقةً فيما يتعلق بالجوائز الكبرى التي يرى فيها بعض المثقفين ترضيةً لرجالات الدولة وحراسها، بينما نفس القضية تطال الجوائز الصغرى ولكن في مدى ملائمة الأعمال المقدمة للحصول على الجائزة، خاصةً في ظل خضوع هذه الجوائز للترشيح المباشر من قبل المتسابقين، دون الحاجة لترشيحات المؤسسات والهيئات كما هو الحال في جائزتي مبارك والتقديرية. ويبدو أن فكرة الجوائز المصرية في عمومها تحتاج إلى إعادة نظر من كافة جوانبها خاصةً في ظل اختيار اتحاد الكتاب المصري كجهة ترشيح رسمية لجائزة نوبل في الآداب، ذلك الاختيار الذي لا يضاهيه في التميز إلا الحاجة الملحة لتفعيل آليات أكثر مصداقية للتكريم، وإجراءات ومعايير منتظمة لمنح الجوائز دون النظر في توجهات الأشخاص وعلاقاتهم بالهيئات والمؤسسات المانحة موالين كانوا أو معارضين، فلعلها تأتي الرياح أخيراً بما قد تشتهي السفن.
مفتتح: لم تشهد القاهرة منذ أعوام طويلة زخما ثقافياً وحراكاً فكرياً مثلما حدث في شهر يونيو من هذا العام، إذ تعاقبت على القاهرة أحداث وقضايا متعددة ومتنوعة، أخذ بعضها طابعاً سياسياً، بينما اتسم بعضها الآخر بالطابع الاجتماعي، لكنها في نهاية المطاف لم تخرج عن محيط الثقافة ودائرة الفكر، وان اختلف المحللون بشأنها وبشأن تأثيراتها التي ربما تمتد لسنوات وسنوات قادمة. وقد استُهِلت تلك الأحداث بزيارةٍ للرئيس الأمريكي باراك أوباما، في الرابع من هذا الشهر، زيارةٍ كان أقل ما وصفت به أنها تاريخية، واختتمت تلك الأحداث بإعلان جوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم، وبين المفتتح والختام امتدت فعاليات ثقافية وفنية لا تقل إحداها عن الأخرى أهميةً وتأثيرا، كان أبرزها صدور قرار المحكمة الإدارية ببطلان إيقاف صدور مجلة إبداع، ومعرض الفنون بدار الأوبرا المصرية، وتجدد أزمة كتاب "المعلم يعقوب" بهيئة قصور الثقافة، واختيار اتحاد الكتاب المصري كأول جهة ترشيح عربية معتمدة لجائزة نوبل للآداب، وعزل مجلس إدارة جمعية أتيليه القاهرة للفنون والثقافة بسبب تجاوزات إدارية ومالية، ثم تعيين سلوى بكر مفوضاً لإدارة الجمعية حتى الفصل في النزاعات، هذا بخلاف الأحداث المتعاقبة في رحلة ترشُّح وزير الثقافة المصري لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو وردود الأفعال التي واكبتها داخليا وخارجيا.
أحداثٌ كبيرةٌ وكثيرة وكان يكفي وقوع أحدها منفرداً ليظل الوسط الثقافي منشغلا بنواتجه وتبعاته، ولذلك سنعرج على أهمها في سياق رسالة هذا الشهر على أن تتوالى بمشيئة الله تباعاً تغطيات بقية الأحداث في رسائل الأشهر القادمة هذا إن استمرت وقائع تلك الأحداث في الظهور على ساحة الثقافة القاهرية، ولا نظنها تنزوي.
أولا: خطاب أوباما في جامعة القاهرة من السياسة إلى الثقافة بين يدي الخطاب ربما لم يحمل خطاب باراك حسين أوباما الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة جديداً ملموساً على مستوى السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي وفكرة الحرب ضد التطرف والإرهاب التي افتتحها سلفه بوش، فمعظم المحللين السياسيين لم يجدوا في عبارات الرئيس التي ضمنها خطابَهُ ما يشفي الغليل فعلياً، ولم يجدوا في تصوراته عن المرحلة القادمة سوى وجهات نظرٍ عامة تجاه القضايا العالقة بمنطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها القضية الفلسطينية والإصلاح السياسي، فخطاب أوباما الذي اختار أن يلقيه من تحت قبة جامعة القاهرة مدعوا من قِبلها بالتعاون مع الأزهر الشريف لم يخرج عن مجرد مجموعةٍ من التأملات في التاريخ والحضارة وقراءة الواقع، دونما تمييز في ذلك الواقع بين جلادٍ ومسجونين أو بين قاتلٍ وضحايا بالآلاف، فالخطاب الذي كُتِبَ بحرفيةٍ عالية تُحسد عليها الإدارة الأمريكية تعرض لسبع قضايا رئيسية هي: "العنف العالمي، وقضية فلسطين، والسلاح النووي، والديمقراطية، وحرية الأديان، وحرية المرأة، والتنمية الاقتصادية"، وقد استبق أوباما عرض قضاياه السبع بفكرة إعادة الثقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي قائلاً: "لقد أتيت إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والإسلام لا تعارضان بعضها البعض ولا داعي أبدا للتنافس فيما بينهما بل ولهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها ألا وهي مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان. إنني أقوم بذلك إدراكا مني بأن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها. ولا يمكن لخطاب واحد أن يلغي سنوات من عدم الثقة كما لا يمكنني أن أقدم الإجابة على كافة المسائل المعقدة التي أدت بنا إلى هذه النقطة. غير أنني على يقين من أنه يجب علينا من أجل المضي قدما أن نعبر بصراحة عما هو في قلوبنا وعما هو لا يقال إلا وراء الأبواب المغلقة. كما يجب أن يتم بذل جهود مستديمة للاستماع إلى بعضنا البعض وللتعلم من بعضنا البعض والاحترام المتبادل والبحث عن أرضية مشتركة".
ومن هذه الأرضية الافتراضية المشتركة يتأسس التحول الذي مثله الخطاب الأوبامي من منطقة السياسة وألاعيبها إلى منطقة الثقافة وآفاقها، فأوباما الذي وصل إلى البيت البيض كأول أمريكي من أصول إفريقية يتولى هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، والذي يمتلك أصولا إسلامية ورثها مع اسمه الأوسط (حسين)، ويمتلك أيضاً بشرةً سمراء تمتد بتاريخٍ من النضال ضد العنصرية ليس في أمريكا فحسب وإنما في مناطق متفرقة من العالم، يبدو أنه أدرك تماماً ما يمكن له صناعته بكل هذه الأدوات الفاعلة والتي يدعمها تمتعه بكاريزما عالية التأثير وحضور ذهني متقد، إن خطاب أوباما من واقع هيكله والخيط الناظم بين أجزائه وبين قضايا التوتر الأساسية التي طرحها، يعكس إشكالية ممتدة في العلاقة بين الثقافي والسياسي في النظام العالمي (أي العلاقة بين القيمة والمصلحة) وهي ثنائية افتعلتها المنظورات الغربية والأمريكية تحديداً في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تجعل من القيم مجرّد أطر عامة، بينما المستهدف الأساسي هو المصلحة في ذاتها والتي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة من خلال تسويق قيمها الخاصة بكلّ مرحلة جديدة تدخلها في سياستها الخارجية والداخلية.
ولهذا فإن أبرز ما لفت انتباه المتابعين لخطاب أوباما هو إسقاطه المتعمد ـ عن قصد أو غير قصد ـ لقيم الجهاد الإسلامي، والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال والتي يقرها القانون الدولي، وذلك حين رفض أي صورة للمقاومة بالعنف يقوم بها الفلسطينيون، ناهيك عن طرحه لفكرة تواصل الحضارات كبديل لفكرة صراعها التي كان يتبناها بوش الابن، وقد رأى المحللون في خطاب أوباما استدعاءً منتظما لقضايا كبرى معرفية وفكرية ينطلق منها الخطاب وينبني عليها، وبقدر ما تمتع به الخطاب من تماسكٍ في الأفكار والرؤى، بقدر ما نجح في اكتساب مساحة في قلوب عامة العرب مسلمين كانوا أو مسيحيين، خاصةً في ذلك التضمين والاستشهاد المستمر بآيات من القرآن الكريم والكتاب المقدس تدور معظمها حول أفكار التسامح والمحبة والسلام.
المثقفون والخطاب أما المثقفون فقد تباينت آراؤهم فيما يتعلق بالخطاب، وربما وقع بعضهم تحت التأثير ذاته الذي وقع تحته العامة. لكن البعض الآخر كان لهم موقف مغاير وحذر بعض الشيء. فالكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصري والعربي رأى أن الخطاب غير عادى ويخرج عن مناسبة الزيارة ليعبر عن رؤية شاملة ليس فقط لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي وإنما للعالم كله، مقدما رؤية تقوم على الكثير من المبادئ المثالية، لكنها تأتى في هذا الخطاب في شكل خطوات عملية واضحة مما يجعله مانيفستو لمرحلة جديدة بالفعل من التعامل الدولي. وتوافقه الرأي د.هبة نصار نائب رئيس جامعة القاهرة فتقول أن الخطاب كان شاملا وهو يعبر عن لغة حوار جديدة لابد من فهمها وأن نعي أهمية التفاوض والتحاور بطريقة ذكية متضمنة الأدلة والتواريخ.. وأعتقد أنها خطوة جديدة قائمة علي بث الثقة في العالم الإسلامي. بينما ترى الدكتورة ليلي عبد المجيد عميدة كلية إعلام جامعة القاهرة أنه خطابٌ يعبِّر عن صفحة جديدة لعلاقة الولايات المتحدة بالعالم. وأنه كان خطاباً واقعيا إلي حد كبير ولكننا يجب ألا نتفاءل بصورة كبيرة. أما الروائي إبراهيم أصلان فيرى أن الخطاب يتسم بقدر واضح من التوازن ويحمل مجموعة من الأفكار الجديدة بالنسبة للإدارة الأمريكية، والمهم الالتزام بها وتفعيلها، كما يحمل لهجة من الصدق الحقيقي وفيه أفكار جدية مثل أنه رغم الإشارة إلى قوة العلاقات مع إسرائيل، فإنه لم يتجاهل المشاكل الضخمة التي يعيشها الفلسطينيون وإشارته إلى المستوطنات وتأكيده على وجود الدولة الفلسطينية فهو موضوعي وصريح. وفي المقابل يرى الدكتور سيد القمني الحاصل منذ أيام على جائزة الدولة التقديرية "أن باراك يفهم المسلمين جيدا لذلك لبس لنا ثوب الواعظ الشيخ باراك بن حسين آل أوباما حفظه الله ورعاه هو ومن يلوذ به، ليعلن كيف يعرف لغانا وكيف يلغو لغونا بما حمله لخطابة من دلالات نعرفها ولا نعرف غيرها، وجاءت أمنيتي بفهم الغرب لنا، بعكس الهدف المرتجى منها، فها قد جاء من يعرفنا ويفهمنا عاش وسطنا وجيناته من جيناتنا، ويعرف كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ولكن ليس من أجل خلاص شعوبنا مما هي فيه من تخلف وجهل ومرض وفساد اجتماعي معمم وحكومي علني واستبداد وقمع واستعباد، كلا الرجل ليس مشغولا بهذا بالمرة، إنه لم يأت ليخلصنا. لكنه جاء مخلصا لأمريكا من عثرتها في بلادنا ولتحييد شرنا عنها، بتكاليف أقل من تكاليف طريقة الحزب الجمهوري الأمريكي بما لا يقارن، وفى وقت تستفحل فيه الأزمة الاقتصادية العالمية". ولعل الأمر الرئيسي الذي اتفق عليه المثقفون فيما يتعلق بأوباما وخطابه هو الاختيار الموفق للقاهرة كمنصة يلقي رئيس أمريكا من عليها خطابه للعالم الإسلامي أجمع، ومعظمهم رأوا في هذا الاختيار استعادة مشرّفة لدور القاهرة الإقليمي الذي افتقدته في الفترات الأخيرة بفعل عوامل متعددة.
ثانياً: جوائز الدولة: توقعات صائبة وحجْبٌ لافت واستثناءٌ وحيد لم تحدث مفاجآت كبيرة في جوائز الدولة هذا العام في مصر، فقد وافقت الجوائز توقعات المهتمين من المثقفين والإعلاميين، غير أن عدم حجب أيٍ من الجوائز الثلاث الكبرى هو أمرٌ انفردت به جوائز هذا العام، كما أن التقارب بين المتنافسين أدى إلى إعادة التصويت أكثر من مرة وفي أكثر من مجال بشكلٍ لافتٍ للنظر. وفي المقابل مُنيت فروع جائزتي التفوق والتشجيعية بأربعة عشر حجب، وقد كان الاستثناء الوحيد الذي خالف التوقعات هو حصول الدكتور سيد القمني على الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية في ثالث مرحلة للتصويت على المرشحين ليلحق به الدكتور حسن حنفي في المرحلة الرابعة.
بقية الجوائز كانت متوقعة، فقد فاز بهاء طاهر بجائزة مبارك للآداب بفارقٍ كبير في الأصوات عن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي حصل على 6 أصوات فقط في مقابل 38 لبهاء طاهر الذي انسحب من الجائزة العام الماضي لصالح اسم الدكتور الراحل رجاء النقاش. وحصل محمد طه حسين على نفس الجائزة في الفنون، وحصل علي رضوان عليها في العلوم الاجتماعية، متجاوزاً فؤاد زكريا وأحمد أبو زيد بفارقٍ صغير جدا في الأصوات وفي المرحلة الرابعة من التصويت.
أما جائزة الدولة التقديرية في الآداب، ففاز بها جابر عصفور من أول جولة، وتلاه الناقد الدكتور أحمد درويش والروائي يوسف القعيد، وفي العلوم الاجتماعية حازت نعمات أحمد فؤاد الجائزة ثم قاسم عبده قاسم، وسيد القمني وأخيراً حسن حنفي كما ذكرنا سالفا أما في الفنون، فحصل عليها الكاتب وحيد حامد، والموسيقي جمال سلامة، والمسرحي هاني مطاوع.
وكعادة كل عام كان للراحلين نصيبٌ في الجوائز، على قلة نصيبهم وهم أحياء، فقد حصل اسم الروائي الراحل يوسف أبو رية على جائزة الدولة للتفوق في الآداب، تلته المترجمة رجاء ياقوت. أما في العلوم الاجتماعية، فذهبت جائزة التفوق للمؤرخ محمد عفيفي، ومسعد عويس، والسيد أمين شلبي. وأما في الفنون فحصل عليها نقيب الممثلين أشرف زكي، والباحث في الفنون الشعبية عبد الرحمن الشافعي.
وقد شهدت جوائز الدولة التشجيعية للآداب حجباً في فروعها الأربعة بواقع أربع عشرة جائزة محجوبة، ومنحت في ثلاثة فروع فقط، حيث فازت الشاعرة نجوى الشيخ ـ التي اجتهد البعض في التعرف عليها ـ بجائزة شعر العامية، وفاز بها في الرواية زكريا عبد الغني بروايته "حالات الروح"، وفي جائزة عمل موسيقي للأطفال فازت د. وفاء حسن عن "مجموعة الأغاني الدينية للأطفال المخصصة لسن من 6 ـ 12".
وتلافياً لمسألة حجب الجوائز التي عانت منها جوائز الدولة المصرية في كافة فروع الجائزة وعلى امتداد تاريخ الجائزة منذ إنشائها عام 1958 وحتى يومنا هذا، اجتمع في اليوم التالي لإعلان الجوائز أعضاء المجلس الأعلى للثقافة وعلى رأسهم وزير الثقافة وعلي أبو شادي أمين المجلس الأعلى للثقافة وبحضور 48 عضوا من أصل 60 عضوا، واتفق الأعضاء على تعديل نظام التصويت على جوائز الدولة بدءا من العام المقبل، بحيث يحصل على الجوائز أعلى الأصوات + 1 بدلا من حجب الجوائز كما كان يحدث في الدورات السابقة والدورة الحالية، كما اقترح الوزير فاروق حسنى اسم الدكتور فوزي فهمي ـ رئيس أكاديمية الفنون السابق ـ لعضوية المجلس بديلا عن الراحل كامل زهيري الذي وافته المنية في نوفمبر من العام الماضي، ويبدو أن هذا التعديل في نظام التصويت سيحمل للمثقفين والكتاب حلا نهائياً لذريعة الحجب التي كان يتذرع بها أعضاء المجلس لعدم اكتمال النصاب، ولكن تبقى قضية الاستحقاق معلقةً فيما يتعلق بالجوائز الكبرى التي يرى فيها بعض المثقفين ترضيةً لرجالات الدولة وحراسها، بينما نفس القضية تطال الجوائز الصغرى ولكن في مدى ملائمة الأعمال المقدمة للحصول على الجائزة، خاصةً في ظل خضوع هذه الجوائز للترشيح المباشر من قبل المتسابقين، دون الحاجة لترشيحات المؤسسات والهيئات كما هو الحال في جائزتي مبارك والتقديرية. ويبدو أن فكرة الجوائز المصرية في عمومها تحتاج إلى إعادة نظر من كافة جوانبها خاصةً في ظل اختيار اتحاد الكتاب المصري كجهة ترشيح رسمية لجائزة نوبل في الآداب، ذلك الاختيار الذي لا يضاهيه في التميز إلا الحاجة الملحة لتفعيل آليات أكثر مصداقية للتكريم، وإجراءات ومعايير منتظمة لمنح الجوائز دون النظر في توجهات الأشخاص وعلاقاتهم بالهيئات والمؤسسات المانحة موالين كانوا أو معارضين، فلعلها تأتي الرياح أخيراً بما قد تشتهي السفن.