رسالة السودان: الكوميديان السوداني "الوحيد" لم يجد من يتذكره

وإذاعة المستقبل وجماهيرية المعرفة

عصام أبوالقاسم

مرت الذكرى الرابعة للممثل السوداني الكوميدي الفاضل سعيد (1935/ 10 يونيو2005) دون ان تجد أي اهتمام يذكر لا من المؤسسات الثقافية الاهلية ولا الرسمية، وهو ما حصل العام الماضي اذ مرت ذكراه الثالثة دون ان يحفل بها إلا ابنه وقلة من المقربين له! لم يكن الفاضل سعيد اسماً مسرحياً عابراً يمكن نسيانه بل كان مفصلاً اساسياً في الذاكرة المسرحية السودانيّة وهو كان يري نفسه واحدا من ثلاثة اقطاب للمسرح الكوميدي في العالم العربي "هو، ودريد لحام وعادل امام"! في أوقات عديدة ما كان ممكناً القول ان ثمة نشاط مسرحي في السودان غير ما كان يقدمه الرجل مغالباً الظروف الاقتصادية الضارية والتعقيدات السياسية والثقافية البالغة ولذلك يسميه بعضهم بـ "صانع جمهور المسرح السوداني"!

من هنا يبدو غريباً ألا تجد الجهات ذات الصلة، مثل وزارة الثقافة والمسرح القومي وقطاعات المسرحيين المتعددة، ما يحملها علي احياء ذكراه والاكثر غرابة ان جهات عدة بينها الوزارة كانت وعدت بأكمال تشييد المسرح الذي يحمل اسمه إلا ان ذلك لم يحصل لغاية الان، وكان السعيد بدأه من حر ماله وقد قال في تلك الاثناء (خلال خمسين عاما بنيت فن المسرح كمعني في أذهان الناس واريد ان اراه اليوم كمبني) لكنه رحل قبل ان يكمله! كان الوحيد، بين أجيال المسرح السوداني المختلفة، الذي عُرف بإشتغاله الدائم علي "الكوميديا" بل يمكن القول ان مصطلح "كوميديا" إنما كرسه في السودان الفاضل سعيد بتجربته التي استمرت ما يزيد عن الخمسين عاماً، شُغف الرجل بهذا اللون من الاداء المسرحي منذ بداياته في اربعينات القرن الماضي ولم يتركه إلي ان رحل في العام 2005 فيما كان يقدم مسرحيته "الكسكتة" في مدينة بورسودان.

عٌرف ايضا بكونه الوحيد الذي لم يتوقف يوماً عن المسرح لأسباب سياسية أو اقتصادية فقد قدم مسرحياته التي لم تكن تخلو من نقد للانظمة السياسية في أحلك الظروف وذهب بها إلي أقاصي أصقاع السودان في الشرق والغرب بلا عون من المؤسسة المسرحية الرسميّة لا في ما يتعلق بالتمويل ولا في أي من برامجها التخطيطية، كما يلفت في سيرته انه بمقدار ما احتشدت ضده هذه المؤسسة، خاصة كلية المسرح التي كانت تنظر الي تجربته بالكثير من الاستخفاف إلا انه لم يكترث لما كان يشاع وسط طلابها من ان ما يقدمه لا يرقي لفن المسرح وانه من ألوان الفكاهة الشعبية السطحية، ومضي في سبيله بلا توقف!

ويمكن القول انه، وبالرغم من ان ظهور سعيد في المجال المسرحي جاء من باب الهواية ـ إذ لم ينتسب إلي المعهد المسرحي ـ إلا انه استطاع ان يخلق لمسرحه قاعدة جماهيريّة هي الاكبر قياساً علي الاسماء المسرحية الاخرى التي جايلته والتي جاءت من بعده، من الهواة والمحترفين، وقد ظل محتفظاً بهذه القابلية الجماهيرية لعقود عدة ولم يحصل قط في تاريخ المسرح السوداني ان استمر عرض مسرحية ما لأعوام إلا مع الفاضل سعيد! وقد غلبت عليه صفة "الممثل الكوميدي" بالرغم من انه كان مخرجاً لأعماله ومؤلفاً ومنتجاً ومروجاً كذلك، وربما كان السبب وراء ذلك بداياته التي قدم فيها "المونولوجات" و "الاسكتشات" خاصة في برامج الاذاعة، التي شهرت اسمه وصقلت موهبته، كما يمكن القول انه عُرف كممثل أكثر من أي شيء اخر لأن مسرحه كان مكرساً باكمله للتمثيل، فليس ثمة نص مكتوب اعتمد عليه، فكل اعماله مبينة علي الارتجال، كما ان الاهتمام بالاخراج في مسرحه كان أقلّ... الديكور لا يتعدى فضاء عام لمنزل أو غرفة تؤسس بالدلالة العامة للمكان لا بتلك التفاصيل الاحالية أوالموحية، وهو يقول ان الجمهور علمه فن الاخراج "الجمهور علمني الكثير جداً، فعرفت عندما يكون الممثل صوته منخفضاً، ويقوم الجمهور بالصياح علي الممثل ان يعلي صوته، فيجب ان يكون الممثل جهوري الصوت. أو عندما تعترضك قطعة أثاث سواء كرسي أو منضدة ويضحك الجمهور فمعناها أنه يضحك عليك وعلى غفلتك. وبالتالي وضع الأثاث خطأ. أو أنه غير موظف بشكل سليم. أو عندما تجعل ظهرك للخلف ويطالبك الجمهور بأن تواجهه فهذه قواعد إخراجية تعلمتها من الجمهور، وبنيت عليها، ووضعت عليها إضافاتي"

لقد عني بالتمثيل أكثر من أي شيء آخر، وطوّر خبرته الادائية بالتركيز علي بعض الشخصيات النمطية في المجتمع كالمرأة العجوز "الساخرة" التي جسدها في شخصية "بت قضيم" والابن المدلل الغبي مثل "العجب أمو" وسواها من شخصيات كان يقدمها هي الاخري في اطار عام أي دون تعمّق فني لكنه كان يعّقد حضورها بطريقته الادائية وقد ساعدته بنيته الجسمانية المميزة بنحافتها ومرونتها في الاتيان بتلك الحركات والاشارات والالتواءات الكاركيتورية التي كانت تعجب جمهوره فضلا عن قدرته العالية في تلوين صوته ورسم التعبيرات الكوميدية علي وجهه الضاحك دائما! ومما يلفت في علاقة الفاضل سعيد بشخصيات مسرحه ان بعضها كان يستمر في مسرحيات عدة، فـ "بت قضيم" المرأة العجوز الساخرة والمنتقدة للظواهر الاجتماعية المستجدة تجدها في أكثر من عمل بدايةً من دراما الاذاعة التي بدأ بها مشواره، وظل محتفظاً باداء دور المرأة هذا منذ المرحلة التي لم يكن مسموحا فيها للنساء بالتمثيل!

وبالرغم من انه لم يدرس المسرح إلا انه قرأ المجتمع السوداني بحساسية العارف، استدعى شتي تفاصيله الي الخشبة وقف عند تحولاته الكبرى منذ فترة ما قبل الاستقلال، سخر من الفساد والمفسدين كما هو الحال في مسرحيته "أكل عيش"، قارب التغييرات القيمية الطارئة علي المجتمع في اغلب اعماله وعلي الدوام سعي الي الترويح عن السودانيين علي امتداد جغرافيا البلاد بقفشاته وحركاته مقرباً الي نفوسهم جماليات فن المسرح! كانت الانطلاقة الاولي له في العام 1955 عندما أسس فرقة الشباب للتمثيل الكوميدي والارجح انه استفاد في هذه المرحلة من التحاقه بمدراس البعثة المصرية في الخرطوم حيث شاهد اعمال نجيب الريحاني، واسكتشات محمد احمد المصري "ابو لمعة الاصلي" وهو يصف اطلالته الاولي في حوار معه مشيرا الي ان المسرح حينها كان مشغولا بالامتياح من التراث المحلي كما في تجارب "ابراهيم العبادي، وخالد ابوالروس، يوسف على أردب" والذي بدأ في الثلاثنيات ثم جاء مسرح "الخريجين" اي مسرح طلاب كلية غردون والذي انشغل بمسألة التحرر من الاستعمار وغلب عليه الحس السياسي وبعدها، يقول الفاضل سعيد: جاء مسرح ناس "ميسرة السراج" لم يكن مسرحا سودانيا بقدر ما هو مسرح "مسودن" ويتناول مسرحيات توفيق الحكيم والمسرحيات المصرية والمسرحيات المترجمة (ويضيف: الكوميديا لم تكن موجودة!) ولعله بذل كل عمره ليوجدها ومنذ ذلك الوقت اغني الراحل ذاكرة المسرح السوداني بالعديد من الاعمال التي استمر عرضها لفترات طويلة مثل "بت الحلال"، "رجيعهن"، "الفي راسو ريشة"، "ما من بلدنا" وغيرها وكانت كلها من تأليفه باستثناء مسرحية واحدة هي "جارة السوء" التي كتبها الكويتي عبد الله السريع.

إذاعة المستقبل
كيف يمكن ان يكون مستقبل الاذاعة ونحن نشهد حالياً سيادة شبه كاملة لكل ما هو مرئى، هل بمقدور هذا الجهاز السحري ان يعمر أكثر؟ هذا هو السؤال الذى ناقشته الندوة التي أقامتها الإذاعة السودانية مؤخراً في مناسبة مرور 55عاماً علي تأسيسها، وشاركت بها عدة اسماء اعلاميّة أبرزها المدير الأسبق للإذاعة الخاتم عبد الله الذي قدم ورقة عنوانها (إذاعة المستقبل: برامجياً) ود.عز الدين كامل أمين الذي ناقش الجوانب التقنية للاذاعة المستقبلية.

لقد بدا واضحاً في ما تمّ تقديمه خلال الندوة "اوراق ومناقشات" ان ثمة خشية من تراجع دور الاذاعة المسموعة وضعف تأثيرها علي العامة وذلك بسبب تسيد الوسائط المرئية للفضاء الاعلامي، علي أن قلق الإذاعة السودانيّة "الأم" من إذاعات موجات الـ FM الخاصّة كان هو الأكثر حضوراً، فوجود أكثر من تسع إذاعات محلية إضافة إلي إذاعة "بي بي سي" وراديو "سوا" علي موجة الـ FM التي توفر خدمة البث الإذاعي بدرجة عالية من الوضوح هو ما استغرق أغلب المناقشات!

لكن الخاتم عبد الله، الذي سنفرد هذه المساحة لتغطية مداخلته، ركز في ورقته علي ان التحديات أكبر من ذلك فالعالم يشهد اليوم تغيرات جذرية في اوجه الحياة العامة بعد هيمنة القطبية الواحدة وبروز نهج العولمة، كما قال، مشيراً الي انه سيتوقف في ورقته عند النقاط التالية:

ـ العولمة والتدفق الاعلامي الهائل الهادف الي تنميط العالم وتشكيله علي النمط الغربي سياسيا وثقافيا واقتصاديا.

ـ إفرازات مجتمع المعلومات وجماهيرية المعرفة التي أدت الي بروز قيم جديدة تتمثل في الحق في الاتصال، حرية التعبير، والرأي والمشاركة.

ـ الاعلام البديل.

عقب ذلك رأي الخاتم عبد الله ان علي دول العالم الثالث ان تعي بهذه المخاطر التي تهدد الهوية والثقافة واللغة، ومنظومة القيم والمعتقدات السائدة، وألا تستسلم بل تتخذ من التدابير ما يجعل ثقافاتها ليس في محل المقاومة فقط لكن مشتركة في الحوار الحضاري الماثل.

وكان الخاتم بدأ حديثه بنبذة تاريخية عن بدايات الاذاعة السودانية منذ ان تم تأسيسها من قبل الاستعمار البريطاني1940، مشيرا الي ان الاحتفاء بذكري تأسيس الاذاعة ينبغي ان يُربط بالعام 1954 أي من لحظة تسلم الكوادر الوطنية ادارتها في العام1954 بدلاً عن 1940 حيث كانت واحدة من آليات الاستعمار في السيطرة علي المواطنيين.

جماهيرية المعرفة
وبعد ان استعرض المسارات المختلفة لتاريخ الاذاعة قال الخاتم عبد الله ان ظهور مجتمع المعلومات نتج عن تزواج بين تقانة الاتصال والبث المباشر عبر الاقمار الاصطناعية وتقانات الحاسبات الالية ذات القدرة علي تخزين المعلومات الهائلة واستراجعها وان ذلك أسهم في اشاعة المعرفة في نطاق أوسع وصارت المعرفة جماهيرية بعد ان كانت وقفاً علي النخبة، وهذا الوضع مكن الدول المتقدمة من التحكم في مراكز المعلومات المختلفة من جوانبها التقنية والمضامنية فيما دول العالم الثالث أو الدول المتخلفة صارت متلقية لدرجة انها باتت تلجأ للدول المتقدمة لمعرفة معلومات اساسية عن بلدانها! ومستندا علي تقرير للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة "الاليسكو" اشار الخاتم عبد الله الي ان هذه الثورة الاتصالية عززت من قبول الاخر وعمقت مفهوم الديمقراطية وحقوق الانسان، موضحاً ان تراكم المعلومات واتساع شبكاتها جزء من منظومة معرفية واسلوب حياة لا يتأتي للامم الاستفادة منها إلا من خلال اتقان اساليب استخدام تقانة المعلومات والتفاعل معها وتسخيرها لخدمة التطور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

الاعلام البديل
وتوقف الخاتم عبد الله في ورقته عند مصطلح الاعلام البديل متسائلاً في البداية "ان مدلول كلمة اعلام معروف لكن وصف هذا الجديد بالبديل يثير العديد من التساؤلات: أولها هل المراد به انه اعلام بديل للاعلام الرسمي الذي تموله الدول؟ وما وجه التقصير في الاعلام الرسمي".. كما تساءل عن الطريقة التي يعتمد عليها هذا الاعلام البديل في التمويل والغايات التي تدفع بعض الدول "الغربية" الي تحفيزه ليحقق اغراضها، وما لبث ان جاء بالاجابة علي اسئلته قائلاً: يقال انه الاعلام الذي يعبر عن حركة الجماهير وعن الضمير الانساني المناهض للحرب والظلم والقهر ومصادرة الحرية وانتهاك حقوق الانسان ولان الصحف والمجلات والاذاعات المرئية والمسموعة التابعة للدول لا تصدر الا من المنظور الرسمي، الذي لا يعطي الصورة بكل ابعادها، بل يبتسرها ويشوهها.. "لذلك جاءت اجهزة الاعلام البديل المتمثل في الصحافة الالكترونية والمدونات الشخصية" واستعرض عدة مفاهيم لمصطلح "الاعلام البديل" ليخلص الي ان الاعلام البديل يتوفر علي امكانيات عدة لسحب البساط من الاعلام الرسمي، خاصة في الدول غير الديمقراطية، فالاعلام البديل مادته هي ما تمّ حجبه أو تغييبه من قبل المؤسسة الرسمية، ومتي ما اتاحت الدول حرية التعبير قصر طريق ذلك الاعلام وقلت فعاليته!

المجتمع المدني
كذلك اشار الخاتم عبد الله إلي ان الشراكة ما بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني تعد من الوسائل الاكثر فعالية في التقليل من الحاجة لهذا الاعلام البديل، وقال ان الاتجاهات الحديثة في إدارة التنمية الشاملة تتطلب تعاوناً بين الدولة والمؤسسات المدنية. وان من ضمن وجوه هذا التعاون أن يتاح للمجتمع طرح مبادراته في مناخ مفعم بالديمقراطية وترسيخ حق التعبير، مشيرا الي ان مستقبل الاذاعة السودانية، واية اذاعة رسمية، يرتهن بقدرتها علي مواجهة التحديات الخارجية مع الاخذ باسباب العلم والتقانة ومواكبة التطورات التي أفرزتها الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات مع الحرص علي الهوية الثقافية والاحتفاء بالتعددية باعتبارها عامل اثراء لتيار الثقافة الوطنية الموحد.

هذا وطرح الخاتم عبد الله في نهاية ورقته عدة توصيات لعل أبرزها:

الغاء كل القوانيين والتشريعات التي تحتكر البث الاذاعي بشقيه المسموع والمرئي.

ايلولة التخطيط الثقافي والاعلامي للجهات العلمية والاكاديمية المختصة بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني والمبدعين في كل المجالات.

العمل علي تعميق مفهوم قبول الاخر

تطوير تقانة الاتصال التبادلي، متعدد الوسائط

التحرر من التبعية الحكومية

اتخاذ التدابير الكفيلة بتنمية الثقافة بحيث لا تقاوم المد القادم فحسب، بل تشترك في الحوار الحضاري وتسهم في بناء الحضارة الانسانية

اعتماد الحقوق الجديدة المكتسبة كهدف لا حيدة عنه وهي (الحق في الاتصال، حرية التعبير والرأي والمشاركة، ديمقراطية الاتصال).