مكان أنيق ونظيف .. صفوف متقاطعة وغير متناهية برفوف مطرزة بشكل عسكري يتخللها بعض التنافر أحيانا .. عشرات الأشخاص داخل القاعات، منهم الجالس ومنهم الواقف، منهم من يجوب طولا وعرضا الممرّات ومنهم الساكن الجامد كأنه تمثال أبي الهول تتفرج عليه الرفوف المحشوة بكتب الموتى. صمت رهيب. صمت كنائسي. هكذا كان فضاء المكتبة الفرنسية في المدينة الجديدة عندما اقتحمتها لأوّل مرّة. دخلني العجب! كما كان عجبي من أوّل درس للجغرافيا تلقيناه في قسم الملاحظة، أول قسم يستقبلنا في الإعدادية بعد تخطي أصعب امتحان عرفته في حياتي، امتحان الشهادة الابتدائية، عندما أخبرنا أستاذ التاريخ والجغرافيا بأن الأرض ليست وحدها الموجودة، وأن هناك كواكب ونجوم ومجرّات بعيدة جدّاً، أبعد مما يمكن أن يتصوّره الخيال، موجودة هي الأخرى على وجه الأرض. أبعد حتى من مكّة نفسها. وأننا "لسنا وحدنا". وأن الصراط والجنّة والنار ليست وراء جبل الوقواق مباشرة. فما عدا "لسنا وحدنا" هذه، لأنني كنت أعرف من مصادر موثوق منها: جدّتي وخالتي الكبيرة وأختها خالتي الصغيرة وعمّتي وفقيه الكُتّاب، وكذلك بعض الأخبار والأحاديث التي كانت تصلني متشتتة عبر أسانيد متينة أصلها آباء وأمّهات وأجداد وجدّات الحي، وفرعها أبناؤهم زملائي في أزقة الحي ومناضد المدرسة، أننا لسنا وحدنا لأن السماء تعجّ بالملائكة، كما تعجّ الأرض بكل أنواع الوحوش والشياطين والعفاريت والجنّ؛ منهم المسلمون والمسيحيون واليهود والشيوعيون والبوذيون والملحدون. عدا هذا، فإن كل ما قاله أستاذ الجغرافيا أدهشني إلى درجة أنه خلخل عُريقات مخّي، سقطتُ إثرها بين أحضان حُمّى دامت ما لا يقلّ عن أسبوع كامل، خردلت وخرّفت أثناءها ما شاء الله، أقذف بكلام لم تسمع أمي أغرب منه، حتى أنها ظنت أنني كنت أتكلم بلسان أصحاب الحال، كما كان يقول جدّي، أو موالين الأرض حسب جدّتي.
كنت قد ألححت على أمي، قبل تحضير امتحان الشهادة الابتدائية بطريقة جدّية وولوج، بعد النجاح، قسم الملاحظة في الإعدادية، أن تسجّلني في المكتبة الفرنسية، لأن ذلك سيساعدني على تحسين مستواي في اللغة الفرنسية. كانت رسوم التسجيل محدودة في عشرة دراهم سنويا. قضينا وقتا طويلا في تحويش المبلغ. حتى أن اليأس كان يسكنني، في بعض الأحيان، وأشك في أننا نستطيع يوماً جمع المبلغ الملعون. كان دكان "غورّام" وباقي باعة "مكينة بوني"، من "جبالة" الواردين من القرى المجاورة للتخلّص من منتجاتهم القروية و"العروبية" القادمين من الأماكن النائية للتخلص مما يستطيعون التخلص منه والباعة المتجولين المتنقلين، عبارة عن "ول ستريت" الحيّ. فإن كان ثمن اللوبيا (فاصوليا) يقل عن ثمن العدس أو الحمّص بعشر سنتيمات، كان الكل يتغذى ويتعشى باللوبيا لتوفير السنتيمات العشرة. كانت أمي تضع كل مرّة السنتيمات العشرة التي توفرها من ثمن العدس أو اللوبيا أو الحمص، حسب تموّج السوق وتقلّب الأسعار، في برّادة من طين في شكل كرة مستطيلة، تُدخلها من جرح في عنق البرادة. فبعد كل التضحيات، جاء الفرج أخيرا، وتوفرت العشرة دراهم. كسّرنا بحماس البرّادة التي من شدّة الألم ألقت ما فيها وتخلّت. وضعت أمي محتوى ما ألقته في صرّة صغيرة وعرجنا على بقّالة غورّام للمأكولات العامة والسجائر في "مكينة بوني" في قاع المصلّى لتركيز المادة. أمدّته أمي بالصرّة. حسب غورّام بنفسه محتواها سنتيما سنتيما. وضع نظّارته الطبية على عينيه. ألقى نظرة في كنّاش الديون ليتأكد إن كانت حساباتنا صافية.
ـ الحساب صابون .. قال غورّام وهو يطوي نظارته الطبية قبل أن يضعها في علبتها.
أخرج من أحد أدراج الصندوق ورقة نقدية من فئة عشرة دراهم عليها صورة الملك محمد الخامس بطربوشه الوطني. نفس الصورة التي رأتها جدّتي بوضوح، جليّة على سطح القمر. كانت هذه أول مرّة آخذ فيها ورقة نقدية. وأول مرّة أشم فيها رائحة الفلوس. ومن قال بأن ليس للفلوس رائحة، فليدفن نفسه في الرمضاء.
طوت أمي الورقة النقدية .. نشلتني من يدي. سألتني عن طريق المكتبة الفرنسية، وأنا أرد على سؤالها كنّا قد بدأنا المشي قاصدين المكتبة.
من غير أن ترنو إلينا طلبت السكرتيرة من أمّي صورتين وشهادة سكنى وظرفين على كل واحد منهما عنواننا بالكامل وطابع بريدي بالإضافة إلى عشرة دراهم ثمن التسجيل والاشتراك. نظرت أمي إلي بتعجب. تلعثمت في كلامها وهي تعتذر للسكرتيرة. نشلتني من يدي وقصدنا باب الخروج عائدين من حيث أتينا. لم تسألني هذه المرة عن طريق العودة. الكلّ يعرفه. لم يكن بحوزتنا سوى العشرة دراهم. رفيقي في القسم الذي كان يتردّد على المكتبة الفرنسية لم يخبرني بكل لوازم الانخراط.
ـ تيخّصك عشرة ديال الدراهم إدا بغيتي تتسجل في المكتبة فرنصيص. هذا كل ما قاله.
سأل المقدم أمي:
ـ أين تسكنين ؟
ـ في حومة كولومبيا. أجابت وهي شاردة.
ـ آش من موضع في كولومبيا؟
ـ قرب الفرّان. قالت وهي ما زالت شاردة.
ـ ساكن معكم شي حدّ في الدار؟
ـ ساكنة أنا وأولادي ..
ـ مطلّقة؟
ـ لا ..
ـ هجّالة؟
ـ لا.
ـ والأولاد.. جاؤوا وحدهم؟
ـ زوجي في الحبس. قالت وقد رجعت من شرودها.
ـ في الحبس؟ سأل المقدّم من غير تعجّب.
ـ قدر الله. قالت أمي مستسلمة.
ـ واش عندكم شي جيران ساكنين معكم؟ قال المقدّم وهو ينظر إلى ساعته اليدوية.
ـ السيد محمد وزوجته السيدة فاطمة.
ـ شكون السي محمد ؟
ـ السيد محمد، يملك حانوت في "البلاصة"[1] الجديدة.
ـ السي محمد اللي تيبيع القفف؟
ـ نعم.
حرك المقدّم يده التي تحوي ساعته اليدوية ثم وضعها على أذنه. قال وهو ينظر في اتجاه أمّي:
ـ سيري دبا ورجعي غدّا ومعك سبعة ديال الدراهم حقّ الطابع المخزني.
ـ الله يرحم والديك ويدخلهما الجنة ويدخلك كذلك أنت وذريتك أجمعين يا سيدي المقدّم.
ـ آمين. قلت وأنا أتصفح يدي اللتين جمعت بين أطرافهما وصارتا في هيئة كتاب مفتوح.
قبل العودة لمنزل مقدّم الحيّ للمرّة الثانية توقّفنا عند استديو "إيفا" للتصوير العصري. أخذت لي المصوّرة الإسبانية صاحبة الاستديو صورة .. طال انتظاري قبل أن تأذن لي بالنزول وآثار الدهشة بادية على تجاعيدها التي بدأت تتفتّح كشقوق خشب الفلّين. وكأنّها ترى ولأول مرّة وحشا مثلي ترك وَجْره هو الآخر لأول مرّة. تعجبت أنا الآخر. لقد طلبت منّا سكرتيرة المكتبة الفرنسية صورتين. لماذا لم تأخذ لي النصرانية إلاّ صورة واحدة؟ أردت أن أطرح هذا السؤال المصيري على أمي، لكني خفت أن يكون ثمن الصورة الواحدة باهظا ونقع في ورطة. هذه عادة عندنا، ورثناها عن أجدادنا، فكلّما صعبت الأشياء واختلط الحابل بالنابل، تجاهلناها وكأن الأمر لا يخصنا وأننا لا علاقة لنا به، ولا يعنينا في شيء وأننا في غنى عنه. التكرار يعلم الحمار .. إلى غاية أن تُسوي الأمور أمورها بنفسها. أعطت المصورة الأسبانية توصيلا لأمي وطلبت منها ثلاثة دراهم. رجعنا إلى المنزل بالتوصيل وبما تبقى من الدراهم العشرة.
انتظرنا طويلا قبل أن يخرج رجل استفسرنا عن سبب مجيئنا. كان غليظ البدن. ظننته السيّ مُحَنْد طبّال زقاقنا الريفي الذي كان يمارس هذه المهنة مرة في السنة وذلك بحلول رمضان، كما كان يمارس مهنة النفّار صباح يوم العيد الصغير. كان يمّر كلّ ليلة بجسده الكثيف مخترقا أزقة حيّنا، وهو يدقّ على طبله بثبات ووقار، معلنا وقت السحور. أذكر أنه حدث مرّة أن وضع بعض أطفال الحيّ الأشقياء، بعدما كُسّرت مصابيح النور العمومية، وأظلم الزقاق، شمعة على ظهر سلحفاة، وتركوها تمشي في اتّجاه السّي مُحَنْد، بعدما تأكدوا من أنه دنا من مكان المصيدة بخطاه المسرعة، وصوت طبله المزعج. لمّا رأى مُحَنْد الشيء المضيء يشقّ طريقه ببطء نحوه، ولّى راجعا من حيث أتى مسرعاً من إيقاع خطاه. أحسّ برعب شديد كادت تزهق بسببه روحه. كان قلبه يهتزّ كجلد طبله من كثرة الخفقان. في اليوم التالي هبّ نصف أهل الحي القاطنين في الجهة الشمالية، لسبّ مُحنْد الطبّال الذي كان السبب في عدم قيامهم لتناول وجبة السحور، وبالخصوص مدخّني الكيف منهم. أخبرت زوجته إثرها بأن زوجها لم يستطع القيام بالمعهود، لأنّه صادف، أثناء عبوره أحد الأزقة الجنوبية، سكان الأرض التحتيين يشقّون الطرق، وعلى رؤوسهم شموع. كانوا هم الآخرون يتأهبون لتناول وجبة السحور. لدى كان ملزما أن يُغيّر مسار جولته المعهودة.
قالت أمي للرجل الجسيم وهي ترتجف:
ـ مساء الخير يا سيدي ولد المقدّم.
ـ آش اللّي جابكم الصباح لله؟ كان الوقت عصرا.
ـ طلبنا من أبيك السيد المقدّم شهادة السكنى. نحن في حاجة إليها.
ـ آش غادة تديري بشهادة السكنى، باغية تمشي لجبل الطار (جبل طارق)؟ قال لو آش خصّك العريان قال لو الخواتم آمولاي .. إذا بغيت المقدم سيري لعندو لدار الخليفة .. هادي راها دار ماشي مكتب. قالت لك بغات شهادة السكنى .. يكويني فيك وفي شهادة السكنى.
هكذا كان جواب ابن المقدّم. أحست أمي بالخجل والاستياء. نشلتني من يدي ورجعنا، كالعادة، من حيث أتينا خائبا الأمل. لم أجد كيف أنتقم منه، فخلته يدقّ الطبل مكان مُحَند والسلاحف تجري وراءه وهو يستغيث ولا من يُغيثه. وضعت يدي على فمي لأخفي ابتسامتي .. ولّى ابن المقدّم ظهره وسمعنا صوت تفله وهو يلقيه على الأرض: تفو .. أخرجت أمي منديلها الأبيض ومرّت به على حبات العرق التي بانت على جبينها.
راودني نفس السؤال ونحن في طريقنا إلى البيت:
ـ أين سنجد الدراهم السبعة الناقصة لتسجيلي في المكتبة الفرنسية ؟
علم السي محمد بائع القفف بالقصة. تأسّف وتأسفت زوجته اللا فاطمة وتأسفت حمامتهما الياقوت. اعتمر بطربوشه التركي الأحمر، وأخذ عصاه التي لم تكن تغادره قط. نشلتني أمي من يدي وانطلقنا في اتجاه بيت المقدّم. كان المقدم صديقه ونديمه في اللعب، يجلسان معا في مقهى قدماء المحاربين لمزاولة ألعابهم المفضلة. غريب اسم هذا المقهى. الناس الذين كانوا يترددون عليه لم يكونوا لا من القدماء ولا من المحاربين. أغلبهم من سكان الحي. يجتمعون كالمقدم والسي محمد لمزاولة كل أنواع الألعاب: الورق بجميع أنواعه من التوتي والروندة وسييتي إي ميديا (سبعة ونصف) وكذلك لعبتي الدومنو والبارشي (الذي هو عبارة عن ورقة من كرطون رسمت عليها خانات من أربعة أنواع الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق، توضع في إطار من خشب عليه قطعة من الزجاج الشفاف. لكل لاعب أربع صدف من نفس لون الخانة، يطوف بها انطلاقا من خانته حسب الأرقام التي يحصل عليها عند إلقائه بالنرد على الزجاج مارا بكل الخانات ليصل في الأخير إلى الخانة التي انطلق منها، والهدف من اللعبة أن يصل اللاعب بصدفه إلى الخانة الخاصة به قبل الآخرين).
خرج المقدم ورحّب بالسي محمد، وطلب منه أن يتفضل بالدخول، لكن السي محمد اعتذر. لم يسأله المقدم عن سبب زيارته. التقط يد السي محمد وغابا عنّا مدة من الزمان. كان اليأس قد بدأ يغمرني عندما فوجئت بالمقدم وهو يتقدّم نحو أمي قائلا :
ـ رجعي لعندي مع السبعة وتلقي الشهادة واجدة، وديك سبعة ديال الدراهم بلاش .. هديك كنطلبوها غير للناس اللي تيصوبوا الباسبور.
قالت أمي:
ـ الله يرحم والديك أيها المقدم، الله لا يخطّيك عنا.
كم كانت فرحتي كبيرة لأن الأمل كان قد بدأ يتحقق. وازدادت فرحتي لما سمعت السي محمّد يقول لي:
ـ أجي لعندي في العشية للبلاصة الجديدة بغيتك ف شي سخرة.
ـ واخّ أسّي محمّد. قلت وأنا كلّي حماس.
كنت أعرف أنّه سيعطيني الدراهم الناقصة للتسجيل في المكتبة الفرنسية. لأن اللا فاطمة، ممّا لا شكّ فيه، بعدما استمعت إلى حديث أمي، كلّمته في الموضوع.
رجعنا إلى المكتبة الفرنسية وحصلت أخيرا على بطاقة التسجيل. كانت أول بطاقة أحصل عليها في حياتي، وعليها أول صورة أخذت لي في حياتي. بطاقة التعريف البلدي، هكذا كانت تسمى في تلك الفترة، الرمادية اللون، لم أحصل عليها إلا سنوات بعد حصولي بطاقة المكتبة الفرنسية.
كنت فخورا جدا بها، وضعتها في غلاف بلاستيكي كلّفني عشرين سنتيما، لم أحصل عليها إلا بالريق الناشف .. كنت لا أفارقها أبداً .. كانت تنام معي .. أتحسّسها بين الحين والآخر .. حتّى أنني أخذتها مرّة معي إلى المدرسة لأعرضها على رفاقي في القسم.
استعرت كتاب تان تان في الكنغو .. حاولت قراءته .. كنت أفهم بعض الأشياء وكان يصعب علي فهم البعض الآخر .. تنقصني المفردات والمعاني .. في بعض الأحيان كنت أسأل اللا فاطمة عن معنى كلمة من الكلمات .. وعندما يصعب عليها ذلك كانت تطلب من مصطفى ـ ابنها بالتبنّي ـ كلّما سمحت لها الفرصة بذلك، لأنه كان يتغيب من حين لآخر، وكان ذلك يقلقها، ولكنها لم تكن تستطيع أن تصارحه بقلقها. وبمجرد ما يخرج مصطفى كانت تطلع إلى السطوح دون انتظار لتعطيني مفتاح الكلمة .. كانت اللا فاطمة قاموسي المفتوح أبدا.
ظل كتاب تان تان في الكونغو بحوزتي لمدة شهرين أو ثلاثة .. إلى أن توصّلنا برسالة من المكتبة .. كانت أول رسالة نتوصّل بها في حياتنا .. حتّى أن أمي استغربت .. لأننا لم تكن تصلنا رسائل .. لم يكن يكاتبنا أحد .. وأبي عندما كانوا يستدعونه، كان الخليفة يرسل أحد المقدّمين أو العسكريين لتنفيذ المأمور به:
مقدم الحي بريد حيّ .. عيون الدولة الصغرى .. يعرف الكبيرة والصغيرة .. يعرف من أين يبول السمك .. حتى أنه كانت تصل به الوقاحة بأن يسأل صاحب الحانوت والجزّار وبائع الأحذية وغيرهم من التجار عن الحوائج التي اقتضاها فلان أو فلانة، لمعرفة إذا ما كانت ظروفه المعيشية قد تحسّنت أم لا .. سمعته مرّة يسأل غورّام صاحب دكان المأكولات العامة عن أحد سكان الحي إن كان قد أدّى ديونه أم لا، طالبا منه أن يعطيه كنّاش الديون ليتفحّصه.
كان غورام كغيره من أصحاب الدكاكين عبارة عن مؤسسة للسلف، فما من بيت في زقاقنا إلا وله كنّاش ديون .. فلولا هذه الكنانيش لكان نصف سكان الزقاق يعانون من سوء التغذية.
مدّت لي أمي بالرسالة وطلبت منّي أن أقرأ محتواها .. أخذت الظرف وألقيت عليه نظرة سريعة، وقلت لها مبتسما:
ـ انظري هذا عنواننا على وجه الظرف..
قاطعتني قائلة وهي ترتجف وتهتزّ كأنها الأرياح ضربتها:
ـ ولماذا أرسلوا لنا رسالة؟ ربّما أبوك ..
قاطعتها صارخا صرخة أيقظت الياقوت من نومها:
ـ الرسالة من المكتبة الفرنسية، والعنوان الذي على الظرف أنا الذي كتبته بخطّ يدي.
تنفّست الصُعَداء وتوقف ارتجافها واهتزازها. حملقت في الظرف الذي بين يديها ثم سألتني:
ـ ماذا يريدون منّا؟
ـ ربما لأنني تأخّرت عن إعادة القصة المصورة التي استعرتها.
ـ وأين هي القصة المصورة؟
ـ تحت سريري.
ـ ولماذا تأخّرت؟
ـ لأنّ أحد التلاميذ في المدرسة مزّق طرفا من رأس تان تان فأصبح بدون رأس.
ـ ألم أنبهك ألا تأخذ كتب المكتبة إلى المدرسة.
ـ كنت أريد أن أُطلع صديقي أحمد الريفي على قصّة تان تان في الكونغو .. لأنّه لم ير قصّة مصوّرة في حياته.
ـ وماذا تقول الرسالة؟
فتحت الظرف وأخرجت الرسالة .. كانت كلها مكتوبة بالفرنسية .. قرأت اسمي .. كنت فخورا .. كان محتوى الرسالة على قدّ ما فهمت: أنني تأخرت أكثر من سبعة أسابيع عن موعد إرجاع الكتاب. وعلي أن أُرجعه في أقرب وقت ممكن، علما بأنّني ملزم أن أؤدّي غرامة درهم عن كلّ أسبوع تأخرت فيه.
كنت أعلم أن أمي لا تملك السبعة دراهم، وأن أبي مغيّب، وأن اللا فاطمة والسي محمّد لا يستطيعان أن يعولا أسرتنا أكثر من هذا .. فهمت إثرها أنني لن أعود أبدا إلى المكتبة الفرنسية.
نظرت إلى أمّي وقلت لها:
ـ إنّهم يطلبون منّي أن أعيد الكتاب يوم السبت.
ـ فقط؟
ـ فقط.
كلّما كنت أقول لأمّي: أنا ذاهب إلى المكتبة الفرنسية، كنت آخذ معي كتاب تان تان في الكونغو العنصري، وأتركه عند البقّال اسْعيد حتى لا يضيع مني، وأذهب إلى حي جدّي في المحجّ الكبير ألعب مع أبناء الحي ألطو، وطاكو ليبري، وأوليمان، واللويو، وسارطة كبايا، ومونسطيرو، والجري بالتحرير، والسميطة، وخريبشة وحابا ... وأسماء ألعاب أخرى أضاعتها الذاكرة. وهكذا كنت أقضي وقتي أجوب الأحياء المجاورة بألعابي التي اصطنعتها لنفسي بنفسي .. كل هذا كان يجعلني أحس بين الفينة والأخرى بحنين إلى ذلك الأب المغيّب الذي لن أطعم بحلاوة اللعب معه أبدا.
كنت مرّة في المكتبة الأهلية بباريس، أطلع على ميكروفيلم لمخطوط كتب في القرن العاشر الميلادي، أتوسّط رفوفاً مملوءة بالكتب. أحسست وكأنني تلفت. برزت لي الرفوف المملوءة بالكتب في شكل متاهات لا متناهية. حاولت أن أجد طريقي نحو الباب الخارجي، وجدتني هائما وسط هذه المتاهات .. بحثت عن طريق العودة إلى الباب الرئيسي .. أحسست بتعب شديد .. استندت إلى أحد الرفوف .. لا أدري كيف غفوت .. لم تدم غفوتي أكثر من برهة .. رأيت فيما يرى النائم اللا فاطمة والسي محمد واللا الياقوت ومحند الطبال والمقدم ... و.. و.. و.. متجهين نحوي كالسلاحف حاملين كتبا مشتعلة. كانت باب مكتبة تطلّ على فضاء لا حدّ له، وأحسست أنني أستطيع أن استعير منها كل كتب الحياة.
عندما استيقظت من غفوتي قررت ألاّ أتكلّم إلاّ بلغة أمّي.
بيزوس / طنجة
[1] كلمة مأخوذة عن الإسبانية تعني "السوق" بلغة أهل الشمال