يتابع الروائي العراقي في مقاربته النقدية لهذا العدد ما كان قد بدأه في شهادته، التي نشرت في العدد الماضي. يتناول الفضاء الروائي على أنه خبرة عرفانيّة تتغيا الجوهر المحايث فيها، وتقوم على تفكيك دلالات الكتابة التي حوّل الكلام إليها.

الرواية بوصفها كائناً أنطولوجياً

محمد علي النصراوي

نعتقد أن الرواية بنوعها الإجناسي المتطور نحو التجريبية، تعدُّ كائناً انطولوجياً، فإنَّ هذا الكائن هو فضاء إشكالي، فضاء لا يمكن حسمه، بين أن يكون أو لا يكون، إنَّ هذا اللاحسم، هو مكان الاختلاف، بعدّهِ كائناً أنطولوجياً يتخارج مع نفسه باستمرار، إلاّ أنَّ هذا الفضاء تتشكل من خلاله الأنا المفكرة، التي تكون هي المصدر الأساس لهذا الوجود الافتراضي، فهل هذا الوجود يعطي حقيقة الذات المفكرة من خلاله؟ وإذا ما تأكدنا إنَّ الحقيقة وبطلانها، لا يمكن أن تنبثقا من هذا الفضاء الإشكالي، إلاّ من خلال الفهم وحده. وإذا ما كان ذلك الفضاء إشكالياً في وجوده، فهل نعدّه الكون العقلي والموطن الأساس لكل حقيقة؟ وإذا ما كانت تأملات (ديكارت) قد توصلت من خلال رحلتها إلى مبدأ الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) هذا يعني أنَّ الأنا المفكرة هي طريقنا الوحيد للوصول إلى هذا الوجود الإشكالي، وجود الشيء ولا وجوده، فنحن إذن لا نوجَد إلاّ من خلال تفكيرنا بالشيء.

في هذا الفضاء الإشكالي، ثمة ذات لا تعرف نفسها إلاّ من خلال تفكيرها، وفهم نفسها جيداً، إن هذا التفكير هو ما يجعلها إن تخوض تجربتها، من خلال مغامرة الكتابة، وبما أنَّ الكتابة تعدُّ ظاهرة معرفية، فهي وجود لأثر الشيء وليس الشيء نفسه، لأنها هي الوحيدة القادرة على تشكيل فضائها الإشكالي، وإذا ما كانت هي عبارة عن أفكار غير محسومة، فهي آثار لوجود الموجود، الكائن غير المعلن في النص على اعتبار إنَّ هذا الكائن يمثل كل موجود ينبثق منه. وإذا كان هذا الوجود ممكن حدوثه، أي بالإمكان وجوده، فهو إذن يفصح عن شيء ما بواسطة الإخبار عنه، أي أن نقول شيئاً يفصح عن شيء آخر، أي أنَّ هذا الإفصاح يشكل منطق الموجودات التي شكلها هذا الوجود الافتراضي، والذي يرتفع بالنص إلى مرتبة كائن أنطولوجي يتخارج مع نفسه باستمرار، أي بمعنى آخر إنَّ صيرورة النص واستمراره يتحدد من اختلافه مع نفسه، بحيث أن هذه الصيرورة تقع تحت خيمة الذات المفكرة، التي تقوم بتوليف هذه المونادات أو الموجودات في بوتقة من أواصر ارتباطها أو انفصالها عن بعضها. تُشكل علاقات حضور وغياب، علاقات تصورية تقوم بها الذات المفكرة الواعية في العمل، فتكتشف هذه الذات نفسها من خلال ممارستها لسلطتها المعرفية التي نشأت من خلال هذه العلاقات المفاجئة.

إلاّ أنَّ هذا الكائن الأنطولوجي يقوم بتوليد صور فكرية، والصورة الفكرية في النص قائمة بين أجزاء شيء ما تلك التي تؤلف في الوقت ذاته الشيء بما هو موجود، أي بمعنى آخر أن تمييزنا للشيء ينبثق من تصورنا له، أي من صورة الشيء وليس مادته.

وعلى هذا النحو فإن لكل رواية منطقها الخاص، ذلك المنطق الذي نفكر من خلاله، أي أنَّ التفكير بحد ذاته يعدُّ هنا تصوراً عن الموجود في وجوده، طالما إنَّ تفكيرنا يبحث في صورة الشيء أو الموجود. فإذا كان منطق الرواية هو عبارة عن (لوغوس) خاص بها، فإنَّ هذا اللوغوس يبحث في انتماء الموجود للوجود، لذا فإنَّ هذا اللوغوس سوف يشكل منطقاً متشككاً في محمولات الوجود ذلك الذي يشكل عالم الرواية، من حيث إنها تعدُّ وجوداً إشكالياً، فهل هذا الوجود الإشكالي يمثل حقيقة الموجود بما هو موجود؟ وعليه فإنَّ هذا الوجود أما أنْ يكون تأكيداً أو إنكاراً، من هنا تتشكل حقيقة منطق الرواية وهو منطق مراوغ بين الحقيقة واللاحقيقة، بين الصدق والكذب، بين اليقين واللايقين، وعليه فإن هذا اللايقين هو ما يشكل النقطة الحاسمة في بلورة متخيل سردي يأخذ على عاتقه تمفصلات أو انقطاعات هذه الذات المفكرة، لذا فالأنا تأكد وجودها باستمرار، ما دامت تعدُّ المصدر الأساس في احتواء الذات بما هي ذات إنسانية، قادرة على التفكير في كل لحظة من خطابها الذاتي، من هنا يتشكل اختلافها مع الذوات الأخرى، بعدها ذاتاً متميزة واعية لحقيقتها، والاختلاف هنا هو ما يميز وعيها وذلك باختلاف هذه الذات مع نفسها. وإذا ما كانت الحقيقة تستمد وجودها من المنطق، فهي تعدُّ الحكم في القول، وهي تستمد ماهيتها من ماهية الحكم، وهذا متأت من الفكرة التقليدية عن صدق الحكم وكذبه، من هنا تصبح الخاصية الأساسية للمنطق هي الحقيقة، والحقيقة من هذا المنطلق تعدُّ تصوراً ذاتياً للشخص الذي يصدر الحكم، وحينما تصبح الحقيقة بوصفها هوية، تكون الحقيقة قد وصلت إلى فكرة التطابق، وحينما تصل الحقيقة إلى التطابق يصل المنطق إلى اكتماله ونهايته، أي إنه بعمله هذا سوف يصل إلى نهاية المطاف فثمة نسق متعالٍ يلوح في الأفق بصفته الموجود الحق/ المطلق. عندئذ سوف تُغلق دائرة احتمال التأويل، ويصبح المنطق نفسه يمثل مدلولاً متعالياً، وإن الكتابة التي شكلت الفضاء الإشكالي للرواية قدمت هنا على إنها النص/ أو الفارماكون(1) تكون هنا معروضة ليتم تقييمها كصنيع وهذا الصنيع هو نفسه صنعة تحتوي على قدرة عاملة وقوة إجرائية، فإذن هي حيلة/ صنعة، ومن اجل إعطاء قيمة لهذه الكتابة ـ أو الفارماكون ـ ولكن مَن سيهبها قيمتها ومَنْ سيحدد ثمنها؟ نعم هو الأب ـ الإله، وهو الاسم الآخر لأصل القيمة، أي بمعنى لنْ يكون للكتابة أية قيمة إلاّ بقدر ما يأخذ بها الأب ـ الإله بالحسبان وانطلاقاً من هذا المقام سيحط الأب من قيمة الفارماكون ويظهر عدم جدواه وتهديده وضرره، وهذا يعني أن عدم القبول والإعراض عن الكتابة هو أن الأب ـ الإله بدأ يرتاب من الكتابة ويراقبها، لأنها قدمت هنا بصفتها صنعة/ حيلة فهي تمتلك سلطة المعرفة وآلياتها والقوة على اختراق السائد والمألوف في آن، وبما أنَّ الكتابة من هذا المنطلق قد احتوت على مكامن القوى وامتلاك المعرفة والسيطرة عليها فهي وحدها باستطاعتها أن تُحدِث شرخاً في السياج الميتافيزيقي لمنطق الأب ـ الإله. أي بمعنى إن الفاعل المتكلم هو أبو كلامه. وعليه فاللوغوس ابن، وإنه يُفنى من دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر. حضور أبيه الذي يُجيب، يُجيب عنه ومن أجله من دون أبيه لا يعود بالذات سوى كتابة، هذه هي أطروحة الأب وعليه فخصوصية الكتابة إنما تعود إلى غياب الأب وبعد حين نرى أن هذا اللوغوس يتخذ معنى (الخطاب) أو البرهان المطروح، والكلام الناظم الذي ينعش الحوار الشفوي Le Logos ـ وهو هنا أيضاً يعدُّ (Sujet ذات فاعلة) ـ أي بمعنى وحده خطاب حي، وحده كلام وليس (مادة أو موضوعا أو ذاتاً فاعلة للخطاب) ـ فهذا الكلام يستطيع أن يتمتع (بأب) وعلى هذا الأساس الاستقرائي فإن (Logoi) الخطابات ما هي إلاّ أبناء أحياء بما فيه الكفاية للاحتجاج وهذا يخالف الشيء المكتوب/ المصنوع من نسيج الكتابة، أي عندما يتم ترحيل هذا الكلام الشفوي المنعش وترجمته إلى حالة الكتابة، يكون الكلام قد تأطر في داخل مدلول، وتحول الدال إلى أثر منقوش في الفراغ ـ أي بما معناه إنَّ الدال هنا في حالة ترحيل الكلام إلى كتابة قد فقد أصله/ أباه. فخصوصية الكتابة تعود إلى غياب الأب، فهنا إما أن يلتمسه مباشرة أو يستغني عنه وهذا هو بؤس الكتابة، فالمكتوب بحاجة دائمة إلى عون أبيه، بحاجة أن يُعان أو يُنجد بحضور أبيه. وعلى هذه الشاكلة فـ (الفارماكون)/ الكتابة لا يكاد يكون أبناً لأحد. فقراءة هذا النسيج المصنوع من الكتابة دائماً ما يحيلنا إلى (أثر) ما، ينبثق من باطن النص كشبح يُراود القارئ إنه ذات الأب الغائبة.

ولكن هل الرواية تُعدُّ وجوداً بإمكاننا تخيله؟ أي بمعنى آخر إذا كان الفضاء الإشكالي يمثل وجود الموجود في داخل الرواية، فإننا بالإمكان تخيله أو رؤيته بواسطة تصوراتنا الذهنية له، وعليه فإن ماهية هذا الوجود الإشكالي هو في (ما يكون) sein ـ was أو ما مايرى، لذا فإن هذا الفضاء هو عبارة عن أفكار ذهنية محض، أتاح لنا إمكانية تخيله، وذلك لأن هذا الفضاء الإشكالي بوصفه قدرة عاملة وقوة إجرائية أتاح لنا إمكانية التفكير في وجوده، لأنه قد امتلك شرطاً للإمكان

والفلسفة عند أرسطو لا تخرج عن إطار الموجود بأي حال من الأحوال وهي أما إنها أنطولوجيا ـ وذلك عندما تبحث في الموجود بما هو موجود ـ أو أنْ تكون لاهوتاً ـ وذلك حين تتحدث عن الموجود الحق/ المطلق، وتتخذه موضوعاً لبحثها(2).

والقيمة الأساسية لعمل أرسطو هو في تساؤله عن وجود الموجود، وأيضاً في تساؤله عما يجعل هذا الموجود المتعدد الصفات موجوداً، لذا فإنَّ الذات المفكرة في داخل الفضاء الإشكالي للرواية، تمتلك شرطاً للإمكان بصفتها موجوداً متعدد الصفات، تقوم بانشطار ذاتها وتناسلها إلى ذوات أخرى بالإمكان وجودها ضمن وحدة الوجود لهذا الفضاء الإشكالي.

وإذا ما كان مضمون فلسفة أفلاطون وأرسطو قد دفع فلاسفة العصور الوسطى إلى أن يقصروا البحث على الموجود الحق/ المطلق لأنهم تصوروا أنَّ العالم كان في عماء اللاوجود قبل وجوده أو إنه موجود فانٍ متجه إلى العدم، فإنَّ بحثهم هذا كان يتجه صوب اللاهوت، ولكن مَنْ يرد للموجود كيانه، ويجعله في خانة المفكر فيه، ذلك الموجود بما هو موجود. الكائن الإنساني بوصفه ذاتاً مفكرة في هذا الوجود.

يعدُّ رينيه ديكارت (1596 ـ1650) مؤسس الفلسفة الحديثة لأنه أعاد للذات وجودها، بوصفها مصدر الفكر ومنبعه، ولكن كيف تصور ديكارت وحدة الوجود. وهل هذا الوجود يمثل الحقيقة عنده؟ فهو يقول (إنَّ الحقيقة أو البطلان بمعناهما الأصلي لا يمكن أن يوجدا في أي مكان آخر غير الفهم وحده)(3).

أي أنَّ الحقيقة واللاحقيقة هي مجرد مفاهيم من صنع الخطاب الميتافيزيقي، فهما ليستا قيمتان متتامتان بقدر ما يصدران عن تصورات الذات الشخصية لإصدار الحكم. أي إن العقل لدى ديكارت يعدُّ موطن الحقيقة، إذن بواسطة العقل وحده نستطيع التفكير كي تُثبت الأنا المفكرة وجودها، وكما جاء في مقولته الشهيرة (أنا أفكر إذن أنا موجود)، أي بمعنى أنْ يكون سلوك هذه الذات المفكرة خاضعاً لتفكيرها، وهذا ما يؤكد لنا أيضاً إنَّ هذه الذات المفكرة قد امتلكت سلطة المعرفة على الوجود، أي أنَّ ديكارت قام بتنحية الوجود ليعطي الصدارة للأنا ـ بوصفها الأنا العارفة والمالكة لسلطتها، وعليه فإن هذه الذات عليها أن تهب لكل موجود وجوده وفقاً لمنطق الفكر التصوري الخاضع للذات المفكرة. يقول ديكارت (الأشياء التي أتصورها تصوراً واضحاً جداً ومتميزاً جداً صحيحة كلها)(4). أي أنَّ الأنا المفكرة يصبح لديها يقين المعرفة المكتسبة عبر عملية تصورها لموجودات الفضاء الإشكالي للرواية، أي أن تصورات الأنا تُعدُّ تفكيراً.

إلاّ أنَّ ديكارت يرسخ السياج الميتافيزيقي ويدعمه بمفاهيمه كي تكون له ركائز إسناد لتقوية دعائمه، وذلك بواسطة يقين المعرفة المكتسبة عبر تفكير الكوجيتو، أي إنَّ هذه الذات أو الأنا العارفة تصبح علة الوجود الحقيقي (لأن هناك موجود آخر هو علة كل موجود، وهو أيضاً علة كل علة، إنه الله، فهناك إذن على قمة الكون الديكارتي إله حقيقي بأعلى صورة ممكنة، هو مصدر كل قيمة وكل حقيقة، معادل للخير على قمة العالم الأفلاطوني) (5).وهكذا فإنَّ يقين المعرفة المكتسبة للكوجيتو يُفهم ابتداءً وانتهاءً بالله، طالما إنَّ كل موجود في وحدة الوجود يعدُّ كائناً مخلوقاً ما عدا الله، فيقين الذات المفكرة مرتبطة عند ديكارت ارتباطاً مباشراً بوجود الله لأن وجود الله هو مبدأ كل يقين. إلاّ أنَّ الشيء الأساس الذي خرج به ديكارت إلى العالم أنه آمن بقيمة الإنسان على أنه المنبع الأساس للمعرفة، وهو في منحاه هذا جاء متفقاً مع الميتافيزيقية الفرنسية التي كانت تعتقد (إنَّ معرفة الإنسان لنفسه عن طريق التفكير هي المنبع الرئيس للميتافيزيقية) (6). ولكن ديكارت لم يتحدث عن الوجود، بل جعل وجود الموجود مزعزعاً حين تحدث عن مشاركة الله في أفعاله، فمن وجهة نظره فإذا كان الله موجود والعالم موجود فنحن لا نستطيع أن نؤكد الوجود، من هنا تمسك بالكجيتو على إنها الأنا المفكرة والمكتسبة للمعرفة اليقينية والعارفة بنفسها على إنها جزءاً من وحدة وجود.

أما نيتشه فقد حاول بكل جهده أن يزحزح الجدار الميتافيزيقي، حين أطلق تساؤله عن أصل الخير والشر، بصفته فيلسوفاً يعالج مشكلات الأخلاق، وهو بعمله هذا راح يبحث عن المبدأ أو الأصل الأنثروبولوجي، أي أنه راح يقتفي أثر تطور المصطلحات المستخدمة في مجال الأخلاق كالخير والشر والحق والجمال وغيرها وكيفية تطورها عند الشعوب وذلك عبر ثقافاتها المختلفة، وفي مبحثه هذا قدم نقداً لأساليب التفكير السائدة في عصره، فأكتشف إنَّ العقل أخذ يتدخل أو يتحكم في كل شيء حتى بدت الحياة بالنسبة له حياة عقلية صرف، ولكن ما الحقيقة عند نيتشه؟ هل هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يمكن أن نعيش بدونه. إذن الحقيقة عند نيتشه هي بمثابة الخطأ الأول في الوجود. وهنا لا يُعدُّ الإنسان عند نيتشه بأنه الواسطة في الإمساك بالحقيقة، أو القبض عليها بل يتعدى دوره ليصبح هو الحقيقة النهائية. وأنه هو السيد الذي لا تحدّه أية شروط. (أي أنَّ النزعة الذاتية، التي أسسها ديكارت وطبعت كل تاريخ الميتافيزيقيا الغربية، والتي لم يكن بإمكان نيتشه أنْ يخرج عنها، تعطي أولوية للمعرفة على الوجود، وبالتالي تعطي استقلالية ما للموضوع عن الذات، غير أن الذات عند نيتشة أصبحت هي كل شيء، وكل شيء من إبداعها وتجليها، إنها الموجود الأعلى ـ الإنسان الأعلى)(7).

وقد منح نيتشه الذات الإنسانية دوراً متعاظماً، مما جعل تصوره لها على أنها الحقيقة، وهذا ما دفعه لقلب جميع القيم التي اعتمدت في النسق الميتافيزيقي الغربي، تلك القيم التي ترتكز على موقف الذات العارفة التي تتلقى اليقين من علٍ. ولما كانت الذات الإنسانية بوصفها الحقيقة النهائية عنده، أي هي الوجود والموجود في آن معاً، عدَّ التفكير في الوجود بوصفه قيمة. وهذا ما جعله يفكر بأنَّ القيمة (هي الشرط الذي وضعته الحياة نفسها لإمكان الحياة)(8). فهو يؤكد في أكثر من مرة إنَّ إرادة القوة هي ليست إرادة كونية خارجة عن الكون بل هي سعي نحو ممارسة القوة داخل إمكان الحياة ذاتها، (فليس الوجود إلاّ الحياة وليست الحياة إلاّ إرادة، وليست هذه الإرادة إلاّ إرادة قوة)(9).

ولكن كيف أستطاع نيتشه أن يُعلن عن قتل الإله؟ هذا ما يجعلنا نبحث في الآليات المعرفية التي تم الاشتغال عليها، وهي كما تبدو اشتغالات قائمة بنقد ومهاجمة أنساق القيم القائمة منذ بداية التحول الذي حدث عند اليونان ابتداءً من سقراط وحتى عصره، فبدأ مهاجمته للمسيحية وعدّها الطرف المسؤول الأول للوضع المزري الذي وصل أليه عصره، فكانت أغلب القيم المسيحية تنادي باحتقار القوة والعظمة والشجاعة والاعتزاز بالذات، وقد جاء في مهاجمته للمسيحية (على إنها تستهدف هدم الأقوياء وتقويض روحهم، واستغلال لحظات الملل والضعف عندهم، وتحويل اعتزازهم بأنفسهم واحساسهم بالأمن إلى قلقٍ وإلى إزعاج الضمير، بحيث إنها تعرف كيف تفسد أنبل الغرائز وتصيبها بعدوى المرض حتى ترتد قوتها وإرادتها القوية على ذاتها إلى أن يهلك الأقوياء من خلال احتقارهم لذواتهم وتضحيتهم بها)(10). وفي السياق نفسه ذكر: (المسيحية منحلة ومفعمة بالعناصر المفسدة العفنة، قوتها القائدة هي ثورة المعوجين الرقعاء، بدأت هذه الثورة باليهود وسرت إلى المسيحية بواسطة الشخصيات المقدسة المصابة بالصرع، مثل القديس بولس الذي لم تكن لديه أمانة)(11). ومن هذين الاقتباسين يتوضح لنا أن اشتغال نيتشه كان قائماً بتفكيك الخطاب المسيحي وتعريته وفضح ما كان ينادي به من قيم، تلك القيم التي عدّها نيتشه قيماً مفسدة، بل هي المسؤولة عن التدهور الذي لحق بالأوضاع الاجتماعية الناتجة عن سيادة تلك الأخلاق، وإن صح القول فهي أخلاق العبيد، إلاّ أن هذا النسق المتكون من القيم المسيحة كان يتأسس على تصور المسيحيين للإله، إذن يمكن أن نعدُّ تلك الأنساق من القيم بمثابة المدلول المتعالي، وهي بالتأكيد نظرة الأب ـ الإله إلى رعيته، فهو ينظر نظرة ارتياب لكل من يخالفه الرأي، من هنا أقام نيتشه بخلخلة هذا الجدار الميتافيزيقي التي تمثله الأنساق المسيحية من قيم الأخلاق، وعدَّهُ بمثابة إعلان حرب على الحياة وعلى الطبيعة وعلى إرادة الحياة، من هنا كان إعلان نيتشه النهائي عن تصوره للإله كمبدأ أخلاقي، وذلك بوصفه الموجود الأول أو العلة الأولى. نعم لقد أعلن في كتابه (العلم المرح) على لسان الرجل المجنون: (نحنُ قتلناه، أنتم وأنا نحنُ جميعاً قَتَلتَهُ)(12). ويتضح لنا من ذلك أن فلسفة نيتشه جعلت الموجود هو كل الوجود، ذلك الموجود الذي لاشيء قبله أو بعده أو أمامه أو وراءه أو فوقه، فهو إذن كل شيء وهذا ما يتحتم علينا أن نفكر فيه.

وهل مات الإله فعلاً؟ وكيف يمكن للعالم أن يبقى بدونه؟ مَنْ سيقوم إذن على تنظيم هذا العالم، ومَنْ سيفصل بين الخير والشر أو بين النور والظلام، أو بين الحقيقة واللاحقيقة؟!! وأخيراً مًنْ سيدير العالم بغياب الإله؟ ما هو دور الكوجيتو وهو يفكر بنفسه إزاء هذا العالم؟ هل الذات المفكرة هي وحدها مَنْ تمتلك الحقيقة؟ أم أنَّ الحقيقة كامنة في وحدة الوجود لذلك الفضاء الإشكالي للرواية، وإذا ما مات المؤلف مَنْ سينظم هذا الفضاء الإشكالي، هل حقيقته هو إمكانية وجوده، بصفته قد امتلك شرط الإمكان؟ ستغيب الآلهة وسيغيب المؤلفون ويبقى الوجود يحمل في داخله مكامن القوى، وستدعمه آلياته المعرفية ومثيراته وشفراته، وطلاسمه الغامضة، لأنه هو وحده من يمتلك سلطة المعرفة على البقاء، لأنه هو وحده يمتلك حقيقة وجوده.

وإذا ما أمتلك هذا الفضاء الإشكالي للرواية حقيقة وجوده، فهو يعدُّ حيزاً يمثل مكان الاختلاف مع نفسه، وعندما يُستحضر هذا الفضاء، معناه إننا قد استحضرنا مكان الاختلاف الذي يحتويه، بتميزه أو لا تميزه عن باقي الأمكنة أو الفضاءات الأخرى، فهو مكان الهوية، مكان المابين، مكان الأبتكار والتجدد والحقل التجريبي الذي يتم من خلاله إنتاج المعنى أو انكشافه، من هذا المنطلق يصبح هذا (الفضاء الإشكالي) هو الوجود الكلي للرواية بصفتها كائناً أنطولوجياً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الفارماكون: هي كلمة لاتينية ترجمت إلى العربية على أنها (عقار) أو (دواء)، وهكذا فالفارماكون بقدر ما يعطي الشفاء فإنه في الوقت نفسه يعطي النقيض. وقد طرح سقراط هذا المصطلح بِعَدّ النص عبارة عن فارماكون (عقار أو دواء) يقدم إلى الآخر بوصفه خطاباً مدوناً/ معرفياً. ولمّا كانت الرواية تُقدم إلى الآخر بِعَدِّها خطاباً معرفياً، ولمّا كانت الكتابة من وجهة النظر التفكيكية تمثل ظاهرة معرفية، إذن فأنَّ (الفضاء الإشكالي للرواية) يطرح نفسه بصفته (فارماكون)، أي خطاباً معرفياً/ أو نصاً مفتوحاً يقوم بتفكيك العالم وبنائه من جديد. وذلك بِعَدِّ هذا (الفضاء الإشكالي) يمثل المكان الافتراضي/ المجال الشبحي/ المخلّق الذي يتشكل منه شيئاً فشيئاً طيف (المنطقة المقدّسة) الخاص بهذا الفضاء. وبما أنَّ هذا الفضاء غير المحسم يعطي الإشكالية التواترية على مستوى الوعي/ المعرفة، فهو يمثل منطقة الاختلاف، الخط الفاصل ما بين الداخل والخارج، ذلك الاختلاف الذي لا يمكن حسمه، فهوية هذا الفضاء هو اختلافه عن نفسه.
(2) ـ هيدحر، مارتن: الوجود والموجود، تأليف د. جمال محمد أحمد سليمان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009م، ص 15.
(3) ـ Heidegger. M. Platons Lehre. OP Cit. P. 45.
(4) ـ ديكارت، رينيه: التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،1974، ص 132.
(5) ـ فال، جان: الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، دت، ص 16.
(6) ـ برييه، إميل: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة محمود قاسم، دار الكاشف للنشر والطباعة والتوزيع، دت، ص 105.
(7) ـ هيدجر، مارتن: الوجود والموجود، تأليف د. جمال محمد أحمد سليمان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009م، ص 75.
(8) ـ هيدجر، مارتن: نداء الحقيقة، ويشمل (ماهية الحقيقة، نظرية أفلاطون عن الحقيقة أليثيا هيراقليطس، الشذرة السادسة عشر)، ترجمة د. عيد الغفار مكاوي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1977، ص 337.
(9) ـ بدوي، عبد الرحمن: نيتشه، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 5،1975، ص 216.
(10) ـ راسل، براتراند: تاريخ الفلسفة الغربية، ج 3 (الفلسفة الحديثة)، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977، ص 401.
(11) ـ المرجع السابق نفسه، ص 400.
(12) ـ يلاحط أن الرجل المجنون ترد صورته في صفحات كثيرة من كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" ويرد ايضاً عن عرضه مشكلة الإله، ولكن ليس على لسان الرجل المجنون بل على لسان المعتزل يقول المعتزل موجهاً حديثه لزارا أيها المسافر المتجول أياً كنت أتجد هذا الشيخ التائه المعرض للمخاطر في هذه الأنحاء؟ إنني أسمع زئير الوحوش من كل جانب وقد كان هنا رجل بوسعي أن ألجا أليه، ولكنه توارى وعبثاً فتشت عن مستقره، وهذا الرجل هو آخر الأتقياء، هو الناسك الصالح الذي لم تبلغ أذنيه الكلمات التي ذاعت بين الناس في هذه الأيام فقال زارا: وما هذه الكلمات؟ لعلها قولهم بأنَّ الإله القديم الذي كانوا يؤمنون به من قبل قد مات. انظر: نيتشه، فريدريك: زرادشت، ترجمة فليكس فارس، المكتبة الثقافية بيروت، دت، ص 287.