يشير الباحث لتحولات الكتابة التي يمهرها توقيع المرأة في المغرب، ويعرض رؤيته للتبدلات الحاصلة فيها كاستجابة لتساؤلات الواقع. يشيد بتجاوزها للمحرم الجنسي، وللمسلّم الأدبي، إضافة لتخطّيها لدهريّة الثنوية المتناقضة في علاقتها مع الذكر. وكأنها كتابة تعيد تعريف الكتابة نفسها.

تجليات الكتابة النسائية الجديدة بالمغرب

محمد رمصيص

طرحت الكتابة النسائية نفسها مؤخراً في حقل الأدب بقوة وعمق، نظراً لخصوصية خطابها الجريء وطبيعة قضاياها المعالجة، فضلاً عن جدة واختلاف زوايا نظرتها للواقع والوجود. كتابة استفادت من التحول الذي لحق المجتمع والفكر. إذ أضحى طرحها لقضية الحرية مثلاً يكتسي طابع الشمولية، بحيث تجاوزت وقوفها عند علاقتها بذاتها أو علاقتها بالرجل لتمتد إلى بنية المجتمع كله. فتجاوزت الصراع المبتسر بين الرجل والمرأة، وعملية النفي والنفي المضاد التي عملت على إعادة إنتاج نسق مجتمعي متخلف. وبذلك يمكن القول إن الكتابة النسائية المغربية شكلت إحدى المرايا اللاقطة لتبلور وعي نسائي حداثي متقدم. فبعد أن تخلصت من خطاب الأزمة صارت كتابتها ذات مسحة ميلودرامية، أقصد أنها باتت تكتب باللونين الأبيض والأسود: أي اشتمال كتابتها على الحواجز الكابحة لنمو شخصيتها بنفس القدر الذي ترصد المتغيرات المساعدة على تطورها. وهذه الحصيلة جاءت على خلفية تجدر وعيها بقيمة تجربة الحياة نفسها قبل الكتابة. وبالتالي كفت عن كتابة ما تسمع لتنتقل لرصد ما تجرب. وهذا أكسب خطابها الأدبي صدقاً فنياً وحرارة واقعة. إن مسألة الصدق الفني المؤسس على التجربة والمعايشة للقضية المرصودة عامل أساسي في الكتابة، ويشفع لنا بتوصيف إجرائي لكتابة المرأة بكونها كتابة نسائية. ولنأخذ إحساسها بالمهانة والانسحاق في المجتمع الذكوري. فلا يعقل أن يمتلك خطاب الرجل قوة إقناعية وحرارة واقعية أكثر من خطاب المرأة الكاتبة لسبب بسيط هو أن الأول يكتب اتكاء على فعل المتابعة من الخارج بينما الثانية تغرف من المعايشة اليومية والإحتراق الداخلي. وبذلك فهي تؤنث قضيتها وترفض استمرار وصاية الرجل عليها. ولهذه الاعتبارات تحديدا، لا نتفق مع خالدة سعيد التي تنظر لتسمية الأدب النسائي بكونها تتضمن حكما بالهامشية مقابل مركزية مفترضة(1).

إن تجاوز المرأة للكتابة المتذمرة واليائسة تأسس على مباشرتها فعل الحياة واستخلاصها العبرة التالية: إن المرأة الجديدة تبدعها التجربة. التجربة المبنية على مساءلة الجوانب المعتمة في وجودها كمناقشتها للتابو الجنسي دون تهيب. فبتنا نصادف في كتاباتها تيمة العذرية وتعدد الزواج وما شابه.

إن قناعة المرأة بأنها ستظل ملاحقة بلعنة الجنس دفعتها دفعا للحسم معه باعتناق حق التجربة بدلاً من قمع حقها في المبادرة تحت هاجس الحفاظ على طهرانيتها.

وبهذا يمكن القول أن تسليطها الضوء على بقع العتمة والنور في حياتها أنتج كتابة ميلودرامية، كتابة بقدر ما توجه النظر لتناقضات المجتمع الذكوري تفتح الأعين على طرف الخيط المؤدي للحرية. وهذا يبرر رهان معظم الشخصيات المتخيلة على بناء الذات عوض مشروع الزواج مثلا. رهان يروم الخروج من دائرة تراكم الخسرات المتتالية ويجعل المسافة الفاصلة بين السهم والهدف معبدة بخليط الوعي والإرادة. ترى هل يعني هذا الكلام أن حواء المغربية حققت هدفها بالإطلاق؟

نجيب بدون تردد لا. ولكنها خطت خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح. إن وعيها بالانتماء لقضية عادلة أكسب فعل كتابتها جدوى ومشروعية، فتراجعت مساحة الكوابح والقيود بما فيها الرقيب الذاتي الذي بدأ يتوارى خلف كتابة تحتفل بالجسد احتفالاً ديونيزياً يمجد المتع المشروعة دون أن يعني هذا سعيها لحرية عدمية بقدر ما هي حرية مسئولة. إن اتساع رقعة وعي المرأة بحقها في التجربة الحياتية انعكس على مرايا الكتابة فبدأت تصوغ أشكال وجودها للذات لا للغير. دون أن يعني هذا تنصيبها للرجل عدواً. فعوض هذا الانشطار العمودي للمجمع رجل/ امرأة: قسمته أفقياً إلى سيد/ وعبد، وإن كانت بعض الشخصيات القصصية تجد في الرجل مسكناً ضرورياً لأوجاع الدونية، وهذا يعود لبحث بعضهن عن الخلاص الفردي لا الجماعي. ومع ذلك يسود التشبث العام ببقع البياض الداخلية لحياتهن رغم رقع السواد الهائلة السائدة في المجتمع الذكوري.

إن هذا السياق العام يجعلنا نقر بأن الكتابة النسائية المغربية ليست مجرد صدى لحساسيات غربية. وإنما تكتسي خصوصيتها النابعة من طابع الأسئلة المحلية المتمحورة حول التخلف والكبت وما شابه. مع وجوب الإشارة هنا إلى أننا لا نروم تأسيس "دعوة انفصالية تهدف إلى تجزيء قطعي بين الأدب (النسائي والرجالي) بل نحاول فهم ومناقشة الاختلاف والتعدد داخل وحدة فعل الكتابة الإبداعية ككل"(2).

وإذا كانت الكتابة كفعل إنساني مركب يتدافع في مجراه الوعي واللاوعي. ويتأسس على إعادة صياغة التجربة الحياتية فضلا عن تفجير تخزينات الذاكرة الحلمية ومركونات اللاوعي. فإن الكتابة النسائية لهذه الاعتبارات بالذات استطاعت الكشف عن درجة الاحتباس العاطفي موازاة مع تطور مكانتها المهنية والاعتبارية. كما أشرت على تداعيات الإرادة المعطلة. وأبانت عن قدرة المرأة على تفجير المكبوت والتشكيك في مسلمات التاريخ والثقافة الذكوريتين. بل وانتقادهما بعنف. إن الوضع المجتمعي الراهن وما طرأ عليه من تحولات خلق حالة نزوع للاحتكام لسلطان العقل والنقد. وبالتالي تحرك معظم الكائنات المتخيلة ضمن عوالم حداثية، مع انتقاد المجتمع الذكوري المزدوج الذي يقول ما لا يفعل. مجتمع يلعن المرأة نهارا ويتودد إليها ليلا. وبهذا تكون الكتابة النسائية قد أنثت قضية المرأة وتجاوزت فترة الوصاية الرجولية على قضيتها. وفي هذا التحول مزايا عدة منها: أن العين المؤنثة والرؤية النسائية ترى ما لا يراه الرجل. وبالتالي لا يمكنه أن يكتب بدلا عنها خاصة وأنه لا يعيش خصوصية زمنها وفضائها. فضلا عن كونها بهذا النحو استردت عرش الحكي الذي سلب منها منذ زمن شهرزاد. فأضحت الكتابة وطناً ثانياً لنون النسوة المضطهدة. لهذه الاعتبارات جميعها يمكن القول أن كتابة المرأة تأخذ أبعادا مغايرة عن الرجل. "فالمرأة تصوغ كتابتها بشكل مختلف تماما عن أشكال الكتابات التي لا تتوقف المرأة عن ممارستها في علاقتها بجسدها، فالمرأة باعتبارها كائنا مختلفا في تكوينه وجسده عن الرجل وباعتبار تواجدها في مجتمع ذكوري تعمل على الدوام على إظهار جسدها بشكل مغاير"(3).

وإذا كانت المرأة كائناً واهباً للحياة وكفى في فترة مضت. فإن جسر الكتابة منحها الانتقال لمستوى التنظير لأشكال الوجود المرغوب فيها، والمؤسسة على ثقافة الاعتراف المتبادل والتساوي. بل إن الرجل نفسه بالكتابة تخلى عن الفكرة القائلة "الرجل الذي لا يلد ذكرا يدفن اسمه معه". وهذا لأن الكتابة تشكل امتداداً وجودياً للجسد. وتمتلك سلطة قاهرة للزمن. بذلك تخلت المرأة عن الارتهان للإنجاب البيولوجي، فباتت تراهن على قدرتها على الولادة الرمزية وإن ظل جسدها شديد الحضور في متخيلها فذلك يترجم بقايا رغبتها الدفينة في استرداد سلطتها المعنوية الضائعة وانتزاع الاعتراف بوجودها المختلف. «إن امرأة لا تغري تعيش انمحاء وجوديا. جسدها ميت فكيف إذن يمكن إحياؤه؟ بالتمويه بالنقش عليه. أي بإعطائه قناعاً معيناً"(4).

وبهذا يمكن تفسير تراجع الهم القومي في الكتابة النسائية موازاة وهمومها الذاتية. واقع لا يعني بالضرورة تموقع قضيتها خارج التحديات المصيرية، بقدر ما هو ردة فعل على المعالجة التجزيئية للأنظمة العربية لتحررها، وإرجائه لقضيتها لزمن لاحق. وهذا يعني ترك هذه الكائنات لآلامها وللتشوه النفسي والجسدي والفكري إلى حين. فتركيزها على وجودها المستقل لا يمكن تصوره بمعزل عن استقلال مجتمعها من الاستبداد والاستغلال. وهذا ما يبرر تمرد أغلب البطلات المتخيلة عن واقعهن. بل إن تمركز كتابتها على الذات تبرره قرون النفي لوجودها ورد على تاريخ إقصائها.

تبقى الكتابة الأدبية بشكل عام تعويضا عمليا للصمت الذي فرض عليها ووسيطاً إجرائياً لتمديد حضور الذات بعد تفسخها البيولوجي. فهي فعل يمنح المرأة تجديد التوقيع باسمها حافيا من الألقاب الاجتماعية كما تنعت في واقعها اليومي بأم فلان أو زوجة فلان. إن تغييب الاسم ينفي خلفه الجسد وصاحبه ويترجم وضع المرأة المرتهن بالآخر. فالاسم عنوان للجسد. والتوقيع به حافيا تنصيص على رغبة مضمرة في الانتقال من الهامش إلى المركز ومن التبعية إلى الاستقلالية ومن النكرة إلى المعرفة قصد انتزاع الاعتراف. ومع الوقت ينتقل الإبداع من النص إلى الاسم. وبذلك فالكتابة شكلت إحدى الجسور العملية للمرأة لتحقق الذات وتأمل امتداداتها. وقراءة دلالاتها الوجودية المزدوجة بحيث اعتبرت "خصيصة الأنثوية أعظم رد على الموت، بما أنها إنتاج الحياة ورعايتها. ولكن المرأة من جهة ثانية مشروطة بالزمن الذي يذكرها بمروره الباهض وتحولات جسدها. هذا التضاد الذي يوقفها باستمرار بين حدي الحياة والموت هو سبب عظمتها وبلائها التاريخي في آن"(5).

وعلى الرغم من استمرار تغييب اللغة للمرأة. فإنها أضحت حاضرة بقوة في الكتابة. كتابة تصر على التقاط الضوء والعتمة في ذات الآن. وإن كانت تروم تجلية حجم آلامها وضعفها في الكتابة. فإنها تنحو في الواقع نحو إبراز مكامن قوتها وإغرائها. ترى هل هو مجرد بحث عن توازن نفسي؟ أم هو بحث مضن قصد لملمة شظايا ذاتها المكسورة من خلال إعادة بنائها وفق المنطق التخيلي؟ علماً أن "زمن الإبداع (هو) زمن تفجير الإشباع، وزعزعة الثقل، وترويض النفس على لغة الاهتزاز حين يحدث الاغتسال. الإبداع بهذا فعل حر. إنه صرخة، تنفجر لتملأ البياض لغة، والصمت بوحا، وتحيل العالم بكامله إلى سؤال يخرج الأشياء من رتابتها"(7).

ترى هل يقدم لنا الإبداع النسائي فعلاً صورة المرأة المشتهاة والمعدلة، على اعتبار أن الخيال يمنحها حرية أكثر من البوح والتصريح بالممنوع والمصادر إبان الكتابة؟ أم أن تجليات السلط المعنوية بما فيها الرقيب الذاتي تحول دون ذلك؟ خاصة وأن خطابها لا زال من ينظر له كإمداد لغوايتها وفتنتها الجسدية؟!

نستنتج أن السياق التاريخي والثقافي هما بالذات ما طبعا كتابة المرأة بطابع الخصوصية، لا هويتها الجنسية كأنثى فحسب. علما أن الفرق البيولوجي بدوره يجد صداه في اللغة وتمثل العالم، ما دامت الحياة التي تعيشها المرأة مختلفة تماما عن حياة الرجل. إن توصيف كتابة المرأة بكونها خطابا نسائيا، هو تسمية تشدد على مرحلة اكتشافها للذات وخروجها من حيز الأدوار التقليدية لمجال الإنتاج الرمزي، والذي ظل حكرا على الرجل. مع وجوب تجنب التداعيات التي يستدعيها مصطلح "كتابة نسائية". أقصد السلبية والضعف والرقة. وبالمقابل لا يكفي أن تكتب المرأة حتى ينعت منتوجها بخصوصية النسائي. فهذه الصفة تستلزم وعي المرأة بذاتها الخاصة ووجودها المتميز وتاريخها النوعي. الشيء الذي يجعل مكتوبها مسكونا برغبة رد الإعتبار وصوغ الذات بشكل مغاير لما هو سائد. علماً أن "هناك نساء كثيرات كتبن بقلم الرجل ولغته وبعقليته، وكن ضيفات أنيقات على صالون اللغة، إنهن نساء استرجلن وبذلك كان دورهن دوراً عكسياً إذ عزز قيم الفحولة في اللغة من هنا تصبح كتابة المرأة ـ اليوم ـ ليست مجرد عمل فردي من حيث التكليف أو من حيث النوع. إنها بالضرورة صوت جماعي فالمؤلفة هنا وكذلك اللغة هما وجودان ثقافيان فيما تظهر المرأة، بوصفها جنساً بشرياً، ويظهر النص بوصفه جنساً لغوياً"(8)

ناقد من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ المرأة التحرر الإبداع، خالدة سعيد، نشر الفنك،1991، ص 85.
(2) ـ المرأة والكتابة، رشيدة بن مسعود، إفريقيا الشرق، 1994، ص 6.
(3) ـ الهوية والاختلاف، محمد نور الدين آفاية، إفريقيا الشرق، 1988، ص 41.
(4) ـ المرأة والكتابة، مقالة نور الدين آفاية، مجلة الوحدة، 1985، ع 9، ص 69.
(5) ـ المرأة التحرر والإبداع، خالدة سعيد، نشر الفنك، 1991، ص 69.
(6) ـ نفس المرجع السابق، ص 85.
(7) ـ في ضيافة الرقابة، زهور كرام، منشورات الزمن، 2001، ص 16 ـ 17.
(8) ـ الغدامي محمد عبد الله، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996، ص 91.