يتناول الكاتب السوري رؤى كتاب عالميين لموضوعة الحياة من خلال نصوصهم الإبداعية.. ومن خلالها نتعرف عن أرائهم في الحرب والموت.

هكذا ينظر الروائيون إلى الحياة

عبد الباقي يوسف

غابرييل غارسيا ماركيز
ليس باليسر العثور على كاتب حي متعلق بالحياة على قدر الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، وهو أعظم روائي حي في العالم الأن.. ولعل تمسكه العنيف بالحياة خلف رعبه الشديد من الموت..

فالحياة تنبض في ثنايا سطوره.. وهو بكل إمكاناته اللغوية والفنية والتقنية يجنب شخوصه الموت حتى تنتصر إرادة الحياة. ويكاد الموت يختفي في إبداعاته الروائية والقصصية، وهو من أشد المدينين للحروب مهما كانت أسبابها ودوافعها. يعلق ماركيز على هذه القضية قائلا:

"أنا لا أخلق شخصياتي ليموتوا.. أخلقهم ليعيشوا". ولكن ليس بوسع ماركيز عدم الاعتراف بالموت وعندما يضطر لقتل أحد شخوصه لن يحدث ذلك ككتابة أي مقطع آخر.

تقول "مرسيدس" زوجة ماركيز بأنه في رواية (لا رسالة لدى الكولونيل) أطلق صراخا ثم هرب من غرفته شاحبا مرتعدا، وعندما سألته عما حدث.. أجاب بإرباك كمن عاد للتو من اقتراف جريمة مروعة: "لقد قتلت الكولونيل الآن".

يعلق ماركيز في ذات الرواية، لكن على لسان ساعي البريد بقوله:

"إن الشيء الوحيد الذي يصل دون خطأ هو الموت"

ويمكن ملاحظة موقع الموت من موقع الحياة في عناوين رواياته الأكثر شهرة وبروزا. فالموت يعني عكس الحياة.. فعندما يقول: "الحب" فأنه سيضيف: "في زمن الكوليرا"، وعندما يقول: "أجمل رجل" يضيف: "غريق"، وهكذا: الجنرال.. في متاهة ـ وقائع موت معلن ـ مأتم الجدة العظيمة ـ مائة عام من العزلة ـ الساعة الرديئة ـ الحب وشياطين أخرى.

ففي مائة عام من العزلة التي تعد أهم حدث في تاريخ الرواية المعاصرة، يأخذنا إلى حياة أسرة في أمريكا الجنوبية.. نتابع وقائعها عاما بعد عام منذ مؤسسها الأول الذي يطمح أن يحول التراب فيها إلى ذهب، مرورا بالشخصيات السحرية، وحتى آخر المحررين/ سيمون بوليفار/.

أن رعب الموت يدفع الأم لتتحسس بمقتل ابنها وهي بعيدة عنه أميالا، وترى دمه ينزل من أعلى السفوح والتلال.. يسير عبر الطرقات الملتوية إلى أن يصل إليها.. ورغم مرور عشرات الأعوام تظل رائحة البارود تفوح من قبره. يتدخل ماركيز ليفسر هذا الجانب بقوله: "أنني أرفض أن أخلق أبطالي وأدعهم يتطورون كي يموتوا فقط، أنني لا أخلقهم من أجل هذا الغرض.. أنهم يتطورون كي يعيشوا، لكن فجأة يظهر هذا الموت المقيت ويفسد كل شيء".

ثمة شخصية أخرى في مائة عام من العزلة تلخص مسألة حرية الانسان "ريميديوس" الجميلة.. إحدى حفيدات الأسرة وهي تسحر الرجال بجمالها وترفض الزواج من جميع الذين يتقدمون إليها.. ولكنها تقرر الهرب مع من تختاره، وعندما تكشف الأسرة هذه الواقعة، فأنها تعلن أن أحدهم رأى ريميديوس الجميلة ترتفع إلى السماء عندما كانت تطوي ملاءات السرير. وأيضا يمكن ملاحظة الإصرار على الحياة والحب في روايته "الحب في زمن الكوليرا" فلورأنيتو ينتظر أن يتزوج فيرمينا حتى يبلغ سن السبعين.. لم يمت فلورأنيتو.. ولم يذهب انتظاره عبثا.

يقول ماركيز مرة أخرى في محاولة قول ما لم يتمكن من قوله في رواياته: "لا أحد يموت سعيدا حتى أن معظم الناس لا يموتون وقد استبد بهم الغضب والاستياء واستاءوا أشد الاستياء لكونهم يجب أن يموتوا.. وقد تبين لي دائما الحقيقة التالية عندما يموت أنسأن عزيز فأن الشعور الرئيسي الذي يحس به أهل المتوفى هو شعور الغضب والاستياء إذ أن موت أنسأن هو خسارة لا يمكن تعويضها إطلاقا". يبقى الإبداع هو الوسيلة الكبرى لمواجهة الموت. "أنني أكتب كي يزيد الناس من حبهم لي". وهنا يلتقي مع نيتشه الذي رأى "الفن ولا شيء إلا الفن.. فنحن لدينا الفن كي لا نموت في الحقيقة".

الحياة عبر الكتابة.. الكتابة عبر الحياة ,، وعندما يموت الأنسان سيكون قد خسر حياته لكنه لن يخسر أفكاره وشخوصه. يعبر ماركيز عن حبه للحياة قائلا: "أنا مولع بالحياة.. الحياة هي أفضل ما وجد على الإطلاق.. بهذا المعنى يبدو لي الموت شيطانا رهيبا.. أن الموت بالنسبة لي هو النهاية.. انتهاء كل شيء.. أنه أكبر مصيدة على الإطلاق".  

رسالة من ماركيز
مع نهاية عام 2008 وماركيز يعاني من المرض، وجه رسالة إلى أصدقائه، وهي رسالة مؤثرة، وتكاد تلخص نظرة ماركيز إلى الحياة. يقول:

لو وهبني الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه، لكنني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله. كنت سأقيم الأشياء ليس وفقاً لقيمتها المادية، بل وفقاً لما تنطوي عليه من معان. «كنت سأنام أقل»، وأحلم أكثر في كل دقيقة نغمض فيها عيوننا نفقد ستين ثانية من النور، كنت سأسير بينما يتوقف الآخرون. أظل يقظاً بينما يخلد آخرون للنوم، كنت سأستمع بينما يتكلم الآخرون. كنت سأستمتع بآسي كريم لذيذ بطعم الشكولاتة.

لو أن الله أهدأني بعض الوقت لأعيشه كنت سأرتدي
البسيط من الثياب، كنت سأتمدد في الشمس
تاركاً جسدي مكشوفاً بل وروحي أيضاً.
يا إلهي...
لو أن لي قليلاً من الوقت لكنت كتبت بعضاً
مني على الجليد وانتظرت شروق الشمس.
كنت سأرسم على النجوم قصيدة "بنيدتي" وأحلام "فأن كوخ"
كنت سأنشد أغنية من أغاني "سرات"
أهديها للقمر، لرويت الزهر بدمعي، كي
أشعر بألم أشواكه، وبقبلات أوراقه
القرمزية
يا إلهي...
إذا كأن مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما
تركت يوماً واحد يمر دون أن أقول للناس
أنني أحبهم، أحبهم جميعاً، لما تركت
رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته أنه
المفضل عندي، كنت عشت عاشقاً للحب.
كنت سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم
يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن،
في حين أنهم في الحقيقة لا يتقدمون في السن
إلا عندما يتوقفون عن الحب.
كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة وأتركه يتعلم وحده
الطيران كنت سأجعل المسنين يدركون أن تقدم
العمر ليس هو الذي يجعلنا نموت بل: الموت
الحقيقي هو النسيان.
كم من الأشياء تعلمتها منك أيها الإنسان، تعلمت
أننا جميعا نريد أن نعيش في قمة الجبل،
دون أن ندرك أن السعادة الحقيقية تكمن في
تسلق هذا الجبل، تعلمت أنه حين يفتح
الطفل المولود كفه لأول مرة تظل كف والده
تعانق كفه إلى الأبد، تعلمت أنه ليس من
حق الإنسان أن ينظر إلى الآخر، من أعلى
إلى أسفل، إلا إذا كأن يساعده على النهوض
تعلمت منك هذه الأشياء الكثيرة، لكنها
للأسف لن تفيدني لأني عندما تعلمتها كنت أحتضر
عبر عما تشعر به دائماً، افعل ما تفكر فيه.. لو كنت
أعرف أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي
أراك فيها نائماً، لكنت احتضنتك بقوة،
ولطلبت من الله أن يجعلني حارساً لروحك.
لو كنت أعرف
أن هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها
تخرج من الباب لكنت احتضنتك، وقبلتك، ثم
كنت أناديك لكي احتضنك وأقبلك مرة أخرى.
لو كنت أعرف أن هذه هي آخر مرة أسمع فيها صوتك لكنت
سجلت كل كلمة من كلماتك لكي أعيد سماعها
إلى الأبد.
لو كنت أعرف أن هذه هي آخر اللحظات التي أراك فيها لقلت
لك "أنني أحبك" دون أن أفترض بغباء أنك
تعرف هذا فعلاً..
الغد يأتي دائماً، والحياة تعطينا فرصة لكي نفعل
الأشياء بطريقة أفضل.
لو كنت مخطئاً وكأن اليوم هو فرصتي الأخيرة فأنني
أقول كم أحبك، ولن أنساكم أبداً. ما من
أحد، شاباً كأن أو مسناً، واثق من مجيء
الغد، لذلك لا أقل» من أن تتحرك، لأنه إذا لم يأت الغد، فأنك بلا شك
سوف تندم كثيراً على اليوم الذي كأن
لديك فيه متسع كي تقول أحبك، لن تبتسم لأن
تأخذ حضناً أو قبلة أو تحقق رغبة أخيرة
لمن تحب.  

ألبير كامو
وكذلك نرى هذا الحب الجارف لدى الروائي والفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو الذي بقوة حبه لحياته دافع عن حق الآخرين في الحياة وقد أدان الإعدام قائلا:/ عندما يبارك الأسقف حكم الإعدام، يكون في رأيي قد خرج عن دينه وعن معتقده/ و اصطدم مع سلطات بلاده عندما أدانها في احتلال الجزائر كامو الذي أحب الحياة بعمق وكتب يصف حبه الجارف لها بعمق:/ الموت بالنسبة لي باب مغلق، أنه مغامرة فظيعة، كل مايقترح علي» يسعى إلى أن يخفف عن الأنسان وطأة حياته وأمام الطيران الثقيل للطيور الكبيرة، أن في» من الشباب ما لايمكنني معه أن أتكلم عن الموت، لكن يخيل إلي أنه إذا كأن علي «أن أفعل ذلك، فإنما هنا سأجد الكلمة المضبوطة التي تعبر بين الهول والصمت عن اليقين الواعي لموت بلا أمل0 لابد أن هذا هو الشباب، هذا الاختلاء القاسي مع الموت، هذا الخوف الجسماني للحيوان الذي يحب الشمس.

لقد تعلق كامو بالحياة الى درجة لا يمكن تصورها وأظن أن كلماته التي سأختارها من جملة أعماله ستعطي صورة عن هذا التعلق المدهش، ففي ذروة تعلقه بالحياة يسطر: كل رعبي من الموت يكمن في غيرتي على الحياة.. أنني غيور ممن سيعيشون من بعدي.. وممن سيكون للأزهار والشهوات الى المرأة معنى من لحم ودم بالنسبة لهم.. أنني حسود لأنني أحب الحياة حبا جما لا استطيع معه إلا أن أكون أنانيا.

ولا أسوأ من المرض في هذا الصدد. أنه دواء ضد الموت، أنه يمهد له، أنه يحلق في مرحلته الأولى، الإشفاق على الذات، أنه يدعم الإنسان في جهده الكبير في التهرب من يقينه بأنه سيموت بأسره، واشعر عندئذ أن التقدم الحقيقي الوحيد للحضارة، التقدم الذي يتعلق به البشر من زمن لآخر، هو أن نبدع ميتات واعية. أن ما يدهشني دوما هو فقر أفكارنا عن الموت.

أن كامو يتحدث عن الموت من خلال موت الآخرين وعندما يتحدث عن نفسه لا ينجح في تصوير هذا الموت ولكنه يرى أن الإبداع هو خير وسيلة لمجابهة الموت: أنه الموت الواعي والناضج، أقول في نفسي، سأموت، لكن هذا لا يعني شيئا لأنني لا أتوصل الى الاعتقاد به ولا يمكن أن تكون لي إلا تجربة موت الآخرين لقد رأيت أناسا يموتون، رأيت على الأخص كلابا تموت، وكأن لمسها هو الذي يبلبلني أفكر عندئذ: الأزهار، الابتسامات، الشهوات الى المرأة، أريد أن احمل صحوي حتى الثمالة وأن أنظر الى نهايتي بكل إسراف غيرتي وسعادتي، وبمقدار ما أنفصل عن العالم أخاف من الموت.  

ميلان كونديرا
يركز ميلان كونديرا في معظم رواياته وأيضا في كتابه (كتاب الضحك والنسيان) الذي يتألف من سبعة أجزاء على علاقة الأنسان بذاته ومن ثم بالحياة، وفقط عندما يصل إلى ذاته، يصل إلى اكتشاف ألوان الحياة. فهو من أشد المعجبين بـ دستويفسكي فيقول عنه: أنه يبدع في شخصياته عوالم عقلية غنية وأصيلة بشكل خارق، يحلو لنا أن نبحث في شخصياته عن أفكاره. وربما ينطبق شيء من هذا على كونديرا نفسه الذي لا نستطيع أن نتعرف إليه بشكل واضح إلا عبر شخصياته. يقول: تعكف جميع الروايات في كل زمان على لغز (الأنا) إذ ما أن تبتكر كائنا خياليا، شخصية قصصية، حتى تواجه آلياً السؤال التالي: ما هي الأنا؟ وبم يمكن إدراك الأنا؟ أنه واحد من هذه الأسئلة التي تقوم عليها الرواية بوصفها كذلك. يقص علينا بوكاشيو أحداثا ومغامرات مثلا، ومع ذلك نتميز وراء كل هذه القصص المسلية القناعة التالية وهي أن الأنسان يخرج من عالم الحياة اليومية المتكرر التي تتشابه فيه الأشياء جميعا بواسطة الفعل وبالفعل أنما يتميز الأنسان عن الآخرين ويصير فردا. قال أنتي: (يقوم القصد الأول للفاعل في كل فعل يمارسه على كشف صورته الخاصة به) فهم الفعل في البدء على أنه اللوحة الذاتية للفاعل لكن (ديدرو)، بعد أربعة قرون من بوكاشيو كأن أكثر شكا إذ يفتن بطله جاك القدري خطيبة صديقه ويسكر من السعادة، لكن أباه يضربه وتمر كتيبة عسكر فيلتحق بها ويتلقى رصاصة في ركبته عند أول معركة تجعله يعرج حتى موته. يقول كونديرا عن هذه الحادثة: كأن يظن أنه يبدأ مغامرة غرامية في حين أنه كأن يتقدم في الواقع نحو عاهته، ومن ثم فأنه لم يستطع أبدا أن يتعرف ذاته في فعله. أن الطابع المعقد للفعل هو احد اكتشافات الرواية الكبرى، هاهنا تأتي اللحظة التي يتوجب فيها على الرواية في بحثها عن الأنا أن تهمل عالم الفعل المرئي لتعكف على اللامرئي في الحياة الداخلية.

أن كونديرا ينطلق من أرضية ثقافية خصبة وهو المشبع من قراءة روايات عظماء الروائيين: مارسيل بروست ـ جيمس جويس ـ ستندال ـ جوته ـ ريتشارد سون ـ بوكاشيو ـ كافكا وغيرهم. يقول كونديرا محاولا إعطاء صورة واضحة عن مجمل مشروعه الروائي: لقد انتهى البحث عن الأنا دوما وسينتهي دوما إلى عدم إشباع غريب ولا أقول إلى فشل. لأن الرواية لا تستطيع اختراق حدود إمكاناتها الخاصة بها. كما أن إضاءة هذه الحدود يعتبر أصلا اكتشافا كبيرا واستثمارا إدراكيا هائلا سوى أن كبار الروائيين، بعد أن مسوا القاع الذي يقتضيه سبر الحياة الداخلية للأنا بالتفصيل بدؤوا البحث بوعي أو بغير وعي، عن توجه جديد. وأن كأن كونديرا يرفض أن يضف ضمن سلسلة أو قائمة الروائيين السيكولوجيين فأن رواياته لا تستطيع أن تتخلص من هذه المدرسة التي ربما تكون إحدى أهم واكبر وظائف الرواية.  

هرمان هسة
يعيد هرمان هسة سبب اندفاعه الى الكتابة الى سنوات الطفولة حيث حلم بأن يكون ساحرا فيستطيع أن يفعل مالا يقدر عليه في الواقع وما لم تسمح به طاقته العقلية والجسدية/ لذلك تملكتني رغبة ملحة لتغيير الواقع بالسحر وتبديله والرقي به وفي طفولتي اتخذت رغبتي في السحر اتجاها نحو أهداف خارجية صبيانية كنت أود أن اجعل شجرة التفاح تثمر في الشتاء وأن تمتلئ محفظتي عن طريق السحر بالذهب والفضة وبواسطته حلمت بشل أعدائي وبإلحاق العار بهم ولكن بشهامة لأتوج بعدها بطلا وملكا,، أردت أن أكون قادرا على أن أجد الكنوز الدفينة وعلى جعل نفسي لا مرئيا واعتبرت قدرة المرء على إخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية وتقت لامتلاكها بشدة/. ويعترف هسة بأن الكتابة استطاعت أن تخلصه من هذا الهاجس حينما كبر واكتشفها: فبعد أن كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة حاولت مرارا أن أتواري خلف مخلوقاتي وأعيد تعميد نفسي متخفيا بمرح خلف أسماء مبتكرة وقد جعلت هذه المحاولات زملائي الكتاب كثيرا ما يسيئون فهمي ويعتبرونها مأخذا علي» عندما أنظر الى الماضي، أرى كيف تغيرت اتجاهات هذه الرغبات السحرية بمرور الزمن وكيف حولت جهودي تدريجيا من العالم الخارجي وركزتها على نفسي، وكيف طمحت لاستبدال العبارة السحرية الساذجة وقدرتها على الاختفاء بقدرة اختفاء الحكيم الذي يرى كل ما حوله ويبقى هو غير مرئي دائما هذا التوق الذي أصبح فيما بعد المضمون الحقيقي لقصة حياتي.

يتحدث هرمان هسة عن تفاصيل حياته على النحو التالي: ولدت قرب نهاية العصر الحديث مثل عودة العصور الوسطى بفترة قصيرة تحت علامة برج الرامي في طالعي كوكب المشتري في حالته الواعدة حدث مولدي في ساعة مبكرة من مساء يوم دافئ من شهر تموز فقد أحببت وبحثت طيلة حياتي وبلا وعي عن حرارة تلك الساعة من ذلك المساء وحين لا أجدها كنت أفتقدها بشدة فلم أتمكن من العيش في بلدان باردة وكانت جميع رحلاتي الاختيارية تتجه نحو الجنوب ومع أني استسلمت فيما بعد وبشكل لا رجعة فيه الى اغواءات العالم الغبي حتى أني عاقبت حواسي بشدة وأهملتها لوقت ما إلا أنه رافقتني دائما خلفية هذا الانغماس الحسي المرعي بعناية فائقة وخصوصا فيما يتعلق بالنظر والسمع ولعبت دورا حيويا في عالمي الفكري حتى لو كأن يبدو مجردا وهكذا فقد زودت نفسي كما ذكرت بقدرات معينة كي أواجه الحياة. ما يميز كتبات هسة وخاصة في المرحلة الأخيرة من عمره أن كاتبها هو رجل يكتب في مرحلة سكينة الشيخوخة المشبعة بالحياة وهي قريبة الى حد كبير من الاعترافات الكبرى وأحيانا يتحدث بأسلوب الحكيم الطاعن في السن لأبنائه وأحفاده يقول: السنا موقنين أن قدرنا هو أمر غريزي لا مفر منه إلا نتشبث رغم ذلك بشكل عاطفي بوهم الاختيار والإرادة الحرة ألا يكون اختيار المرء لطبيب يعالج أمراضه ولحرفة يمتهنها ومكان لسكناه وانتقائه لعروس أثيرة على قلبه وهو ذات الأمر وربما أوفر نجاحا لو ترك التصرف للصدفة المحضة، ألم يختر الشيء نفسه ألم يكرس قدرا كبيرا من العاطفة والجهد والعناية لكل هذه الأمور وهو يفعل ذلك بسذاجة مؤمنا بحماس طفولي في قوته الذاتية ومقتنعا بأنه يمكن أن يكون للقدر تأثير عليه أو من المحتمل أن يقوم بهذا بدافع الشك مقتنعا في أعماقه بعبث جهوده، ولكنه في الوقت نفسه موقن أن العمل والجهد والاختيار وعذاب النفس هي أفضل وأكثر حياة وأكثر جاذبية أو على الأقل أكثر متعة من التحجر في الاستسلام بإذعان.  

عندما تنطفئ الحياة
يقول فرانز كافكا في مذكراته: أن خير ماكتبته له دوافعه في قابليتي لأن أستطيع الموت مسرورا وفي جميع هذه المقاطع الجيدة المتسمة بالإقناع القوي، كأن المقصود على الدوام شخصا يموت ويجد أن الموت صعب، وأنه ظلم، أو على الأقل نوع من القسوة يقع عليه مما يجعل ذلك في رأيي على الأقل يؤثر في القارئ 0 أما بالنسبة لي، أنا الذي أعتقد أني سأكون مسرورا على سرير الموت، فأن مثل هذه الأوصاف لا تشكل أكثر من لعبة خطيرة حفيفة، لهذا السبب أستغل بدقة انتباه القارئ المركز على الموت، فأنا في حالة فكرية تفوقه صفاء وأحسب أنه سيشكو على سرير الموت، أما أنا فشكواي ستكون والحالة هذه أكمل شكوى ممكنة لأنها لن تنفجر في فجاءت الشكوى الواقعية، بل ستتم في جو من الجمال والصفاء/0 فترى حضور الموت طاغيا في كل مؤلفات هذا الكاتب، الموت الذي دائما يأتي حاملا الخلاص للأشخاص الذين بلغوا اليأس ولم تعد لديهم ذرة أمل في أن يعيشوا لحظة واحدة، ولننظر إلى تصويره البارع في كتابة مشهد الانتحار لشخصية غريغوار سمسا الذي نهض ذات صباح وقد رأى نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة في رواية/ المسخ/ والأن؟00 سأل غريغوار نفسه وهو ينظر في الظلمة حوله وللحال اكتشف أنه لم يعد بإمكانه التحرك إطلاقا 0 لم يفاجئه ذلك، بل بدا من غير الطبيعي أنه كأن قادرا حتى الآن فعلا على دفع نفسه على هذه السيقان الصغيرة الرفيعة 0 وأحس من جهة ثانية بارتياح نسبي 0 كأن يشعر بالألم في كل أنحاء جسده، لكن بدا له أنه يذوي ويذوي تدريجيا وسوف يذهب في النهاية كليا، وظل في هذه الحال من التفكير الفارغ والأمن حتى وقعت ساعة البرج معلنة الثالثة صباحا وظل يرى أن كل شيء خارج النافذة كأن قد بدا يزداد ضوءا ثم دون موافقته غطس رأسه على الأرض وتجدلت من منخريه آخر أنفاسه الضعيفة/0 وفي مثل هذه الأوضاع فأن كل يوم يمر لايقدم فيه المرء على الانتحار يشكل ألما بالغا في نفسه، وكافكا نفسه يقول:/ لقد عانيت طوال حياتي وأنا أتهرب من الانتحار/.  

يوكيو ميشيما
يوكيو يفهم جيدا عبارة أبيقور ويعجب بها ويرددها في أعماقه: "ما دمنا نعيش فالتفكير في الموت في غير محله.. وعندما نموت ينعدم وجودنا فلا موجب إذا للخوف من الموت". أنه لا يخاف الموت.. وليس بمقدور الموت النفسي أن يجد طريقا إليه.يكتب في دراسة عن جورج باتاي:

أريد أن تحبيني حتى في الموت
أما أنا فأني أحبك هذه اللحظة
في الموت.

ويوصل تصوير مشاهد التصوير الموتى في أفضل وأرقى أعماله الإبداعية: صوت الأرواح البطولية ـ وطنية ـ عطش للحب ـ وفي الثلاثية الروائية (بحر الخصوبة). يقول يوكيو قبل انتحاره: "أريد أن أجعل من حياتي قصيدة". وبعد انتحاره نستخرج جملة هامة من سيرته: "اعترافات قناع" هي: "كانت تصيبني الرعشة مع لذة غريبة حينما كنت أفكر بموتي، كنت أشعر أنني ملكت العالم بأسره". أنه شكل من أشكال ممارسة أقصى حدود الحرية.. امتلاك كل شيء في لحظات خسران كل شيء.. بيد أن مفهومه للموت يغدو أكثر نضجا في روايته الكبيرة: "الشمس والفولاذ" فعندما يطير في طائرة حربية يشعر للحظة ما أن روحه تنفصل عن جسده ويتمتم بينه وبين نفسه: "في مكان ما يجب أن يوجد مبدأ ما يتوصل إلى أن يجتمع بينهما ويصالحهما.. وخطر ببالي أن هذا المبدأ هو الموت". ولكن لا ينبغي ليوكيو على الأقل أن يرضخ لشبح ما.. ويُقاد إلى الفراش.. ليدخل الشبح خلفه، يمد يده ويسحب روحه.. بينما يوكيو يستلقي في الفراش مستسلما له حتى ينجز مهمته ويهرول قبيل الضوء، لابد أن يحتدم التصادم بينهما، وهذه هي دقائق اللذة التي ينظر إليها البطل بشغف وينتظر قدومها بشوق.. أنه صراع ممتع بين الجسد الذي يتمسك بالعالم وبين قوة الشبح الشبح، الجسد يتمسك بالعالم، والشبح يصر على أن يسليه حياته.

هذه هي الدقائق الحاسمة التي عليها أن تطول ـ لذلك كله يلجأ إلى رياضتي/ الكندو ـ والكاراتيه/ وتمارين رفع الأثقال ويغدو من دعاة تقديس القوة الجسمانية والعضلية في اليابان ويطلق مقولة سرعان ما تذاع: "أن الشيء الذي يقي الجسد في النهاية من أن يصبح مضحكا هو عنصر الموت الذي يستوطن جسما عامرا بالصحة".

وتقرع أجراس الموت في كتاباته الأخيرة ويواصل نشاطه الجسمي والسياسي والعضلي.. ويشعر بأنه يقترب من دقائق التصادم الكبرى في تاريخه.. لن يموت بصمت على سرير ميت، أن موته سيكون مواجهة ميتافيزيائية.. سيكون مشهدا مذهلا يبهر العالم ويهز اليابان لسنوات طويلة. وبعد الصراع يستوطن الهدوء. يستقر الشبح ويسترد أنفاسه بعد أن يسلب الجسد آخر رعشة، يتخيل يوكيو لحظات ما بعد الصراع: "حديقة ومضيئة آمنة لا تنفرد بشيء خاص، يسمع فيها صرير الزيران كأصوات تنبعث من سبحة وردية يفركها المرء بين يديه.. كأنه قد وصل إلى مكان ما... ولم تعد لديه ذاكرة ولا أي شيء، وشمس الصيف تغرق الحديقة الهادئة".

الانتحار على طريقة/ السيبوكو/ طريقة فرسان اليابان الشجعان القدماء.
يوكيو يمارس هذا الطقس من التراث الياباني للرد على الحاضر المخزي.

في يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني من عام 1970 احتل الروائي يوكيو كلية الأركان العسكرية بقوة "ميليشياه وأسر قائد الكلية.. وجمع الجنود البالغ عددهم ثلاثة آلاف جندي ياباني في الساحة وقرأ بيانه الأخير التالي": "لقد انتظرنا طويلا انتفاضة القوات المسلحة ولكن انتظارنا كأن عبثا، أن لم نتحرك فأن القوى الغربية ستبقى مسيطرة على اليابان حتى نهاية القرن القادم فإما أن نبقى يابانيين بالمعنى الحقيقي أو نموت.. أم أنكم لم تعودوا تكثروا إلا بالعيش وتتركون الروح تموت.. أننا نقدم لكم قيما أهم وأرقى من العيش السطحي.. لا تهمنا الديمقراطية أو الحرية.. ما يهمنا هو اليابان.. أرض التاريخ والتراث.. اليابان التي نحب".

وعلى الفور أخرج سيفه وفتح جرحا بمساحة 13 سم في بطنه واحتدم التصادم العنيف بين الجسد الشجاع القوي الذي وقع عليه بغتة.. ووقع على الأرض ينتفض بقوة وقسوة في مشهد دموي أرعب الجنود.. لم يستسلم الجسد للطعنة، بدأ يقاوم.. بين دماء ساخنة ويتقدم إليه صديقه الحميم المسؤول عن قيادة الميليشيا بعده وعاجله بضربة لم تكن القاضية، وعاجله بضربة أخرى لكنها لم تكن الفاصلة.. وما زال يوكيو يقاوم ويحدق إلى رفاقه بعينين قاسيتين.. فتقدم رفيق أخر وسدد ضربة حاسمة إلى عنقه فأنفصل رأس الروائي عن جسده في لحظة واحدة.. وجاء دور/ موريتا/ الخائف لتنفيذ الاتفاق كي يطعن بطنه هو الآخر وسط نظرات الرفاق.

وجه ضربة خفيفة، وسحب السيف بخوف دون أن ينفذ الاتفاق.. فتقدم نفس الرفيق إليه وسدد ضربة إلى عنقه وجعل رأسه بالقرب من رأس زميله الروائي، ولبث ثلاثة أعضاء من الميليشيا أحياء حسب الخطة المتفق عليها قبل بدء العملية.  

كاتب من سوريا
a-osso@scs-net.org