"نجمع ونوحد العالم في قصيدة" هي أنطولوجيا لكبار شعراء الصين واليابان، وهي الأنطولوجيا الثالثة بعد الشعر الروماني والعربي للمبدع والمترجم الفلسطيني المغترب، في هذا المقال نتعرف على ملامح مشروع الترجمات، وعلى أهم مضامين الأنطولوجيا الثالثة.

السحر الأسيوي: أنطولوجيا شعراء الصين واليابان

حسن حجازي

استمرارا للتفاعل الثقافي وتكثيف التواصل بين الأدب العالمي والأدب العربي وتحت شعار "نجمع ونوحد العالم في قصيدة" وبالتعاون بين "بيت الحكمة" و دار الصداقة للنشر الإلكتروني تم أصدار أنطولوجيا كبار شعراء الصين واليابان وحملت عنوان "السحر الأسيوي" والتي أعدها وترجمها عن الإنجليزية الشاعر والروائي والمترجم العربي الكبير "منير مزيد" والمقيم في رومانيا.. هذه الأنطولوجيا الشعرية الثالثة يصدرها منير مزيد وحاليا يعمل على ترجمة أنطولوجيا الشعر الروماني وأنطولوجيا الشعر العربي ويتوقع صدورهما في أيلول في رومانيا..

ومنير مزيد شاعر وروائي ومترجم عربي هاجر إلى رومانيا لمتابعة مشروعه الثقافي و هناك وجد الأرض الخصبة لزرع بذوره الإبداعية. وهذه الأنطولوجيا التي تعد الأبرز بين الأدب العربي والصيني تؤكد وتوضح لنا مشروع منير مزيد الثقافي في سبيل نشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب والتعرف على ثقافة الآخر لتصبح القصيدة وحسب مفهوم منير مزيد جسرا بين الثقافات.. وقد وضعت الأديبة هيام ضمرة مقدمة جاءت فيها: "مجموعة شعرية لكوكبة من أشهر شعراء الصين واليابان قام بترجمتها الشاعر والروائي المبدع منير مزيد..وهي واحدة من عدة عناوين شعرية قام بترجمتها ضمن مشروعه الكبير في الترجمة الأدبية.

الإنسان الذي يستطيع أن يصنع تميزه، هو قادر على أن يصنع إبداعه الخاص على الصورة الأرقى والأسمى، لأنه مؤهل فنياً وفكرياً وإبداعياً لأن يتفوق حتى على ذاته إذا ما امتلك قدراً عالياً من الإنسانية والدافعية الداخلية للعطاء الابداعي.. فحياة الإنسان لمحة عابرة من عمر البشرية إن أمضاها متطوراً ومعطاءً فقد كسب الارتقاء وحسن التواجد، وإن أطفأ رحيقها في التكاسل والتناعس سيذوي عقله في شعاب الظلمة والجهالة ويضمحل وجوده...

ومنير مزيد الروائي الشاعر والمترجم نحت إسمه بذؤابات مشاعل الشموع، بأناة وصبر وجلد، متزنراً فصول الجهد مستدركاً أهواء اللغة، معانقاً أبراج مكوناتها اللغوية وبلورات تشكيلاتها الفنية، جامعاً شذرات المعاني وتيارات مسكوباتها في عصارة أدبية تملأ وعاء إنجازاته وأقداح ترجماته بجهد مضني دون أن يغالبه الكلل أو يهاجمه الملل، فهو واحد من ندرة ممن يستحقون لقب أهل العزم، ينحض من بحر ما تيسر له من علم لغوي غزير متمكن خاشع التكوين، متروض القدرة، مدعوم بعزمه الذاتي العجيب.. فأن تكون إنساناً ممتلئاً بالانسانية والإبداع والعلم والدافعية، وسعة الأفق في الرؤية وانفتاحها المتوازن في حدود الوسطية، تنهض بعدة ثقافات غير مقاوم لرحيق ربيعها الأدبي والإبداعي تحترف لغة الانصهار في خدمة الإنسان وثقافته وهويته فأنت حتماً إنسان ليس مميزاً وحسب، بل قامة متطاولة لفعل إنساني فريد وجبار تنأى عن خطوات التراجع بعزم صادق مدفوع للتقدم صعوداً مجنحاً بالمجد.

وهذا هو فعلاً الشاعر الإنسان منير مزيد وهو يدور في دهاليز اللغة ومتاهات قواعدها، متابعاً كل مداراتها متحركاً بين فيافي معانيها لا ترتعش له يد ولا ينطفئ له قنديل، ينكب على العمل الدؤوب بدافعية داخلية نفسية ووجدانية وروحية، تحول القطرات إلى دفق أدبي هائل، وتقلب عتمة المجهول إلى واقع مرئي ومحسوس يشكل الأثرالعميق.. فها هو يزيح الستار ويبعث الضوء في العتمة الدامسة لجهلنا بالسحر الأدبي الآسيوي، ويضع بين أيدينا عملاً مترجماً لأشهر شعراء الصين واليابان، ليطلعنا على الهوية الثقافية لهذا العالم الذي لفه الغموض بغرابة اللغة وأقصاه التباعد، حتى وقرّ في الذهن أنه ذلك العالم الزاخر بحكايا الأساطير المحلقة في مرابع الفضاء اللا متناهي، مصقول باقتدار إنما مستور تحت صقيع الجهل بسبر أغوار أدبه وثقافته.. فانتهاج المترجم منير مزيد لاتخاذ خط الترجمة عن الأعمال الأدبية العالمية والآسيوية بالذات لهو اجراء حذق يجعلنا نسير وراءه بالدرب المضيء ونمعن الرؤية الواضحة في سبر ممالك وعوالم ثقافة أهل الشرق الآسيوي المتلألئين في صروف الألوان الفاقعة والروسومات الساطعة، ليتأكد لنا أننا لسنا أمام وجوه منسوخة أو ملامح ضئيلة مكررة، ولندرك أننا أمام شعب يتجلى في عراقة ثقافية مبدعة.. شعب جبار صنع الحكمة وروح اللُحمة وقدرة الصنعة وفنيتها، إنسانه يملك إبداعاً ثقافياً ساطعاً صادحاً، يتغنى الطبيعة ويتلمس جمالياتها وبديع حالاتها، كما يتغني المشاعر وعمقها وتأججاتها ويفتح شرفات جماليات إبداعه الأدبي الشعري على مسافات كل المشاهد مرتدياً التركيبات اللغوية الشعرية المتشكلة في ثنايا الرؤية التي تمنحه الهوية الخاصة...

واللغة.. هي نظم لغوية تكمن قدراتها في خصائص العقل والجسم، لجأ إليها الانسان ليخلق لنفسه لغة تفاهم بشري، كونه يمتلك خاصية إخراج الأصوات على نحو متنوع، مكنه من تنظيم منطوق لغوي شكل لغة تفاهم متحكم بها ومتفق عليها، تسمح بوجود أجواء من التفاهم والتواصل تتماشى والطبيعة الانسانية التي تميل نحو الخاصية الاجتماعية، والعيش ضمن المجموعات المتجانسة بيئياً وجنسياً وطبيعياً، وطور الإنسان اللغة بحيث تكون قادرة على التعامل مع التحولات النحوية بناءاً على تشكيلات متراكبة وفق قواعد عامة تشكل بنيتها الأساسية، وبحيث يستطيع المبدع استخدام تصريفاتها وأفعالها في صور التشبيه والانزياحات البلاغية والتركيبات الجمالية ليحولها إلى خاصية أدبية تدخل ضمن الواجهة الأدبية لثقافة الشعوب، تتناسب تناسباً طردياً مع ذائقيته العامة..

ولمثل هذه الخصائص نجد أن تعدد اللغات خير دافع لتعلم عدد من اللغات المتداولة عالمياً، مما يؤهل البعض لانتهاج أعمال الترجمة بينها وخلق جسر يربط طرفي الثقافات ببعضها، بحيث يعطي الجميع فرصة الاطلاع والتعرف بالآخر وحضارته الثقافية وفتح آفاق المعرفة بكل أشكالها ومستوياتها ، وهكذا نجد أن دور الترجمة عظيماً في فتح آفاق المعرفة والتقارب بل إنها تشكل الأهمية القصوى لتقريب وجهات النظر بين كافة الحضارات وتخلق أرضية التقاء حضاري يفرد طريقاً للمعرفة والخبرة وتوثيق الروابط الثقافية ببعضها، وتزيل كافة أشكال سوء الفهم أو التقدير للثقافات الأخرى فكل ما هو واضح ومفهوم ينزع عن العقل حالة إقصائه ويمنع بالتالي المكنونات العدائية بين الشعوب.

فالترجمة هي خط الانتقال السريع بين عالم وآخر، وهي طاقات الاطلالة الثقافية على الثقافات الأخرى، أي أنها البلورة السحرية التي تكشف المجهول وتوضح الحقائق، ومهمة المترجم تنحصر في امتلاكه لمفاتيح اللغة والتغلغل بين ثنايا المعاني والمصطلحات وتركيبات أفعالها ليشكل الصورة المترجمة بكامل فواصلها دونما زيادة أو نقصان ودون إمالة أو احدوداب، وهي مقدرة فذة لا يملكها إلا المقتدر، فالقدرة على الحفاظ على جوهر المعنى الأدبي هي أساس العملية في الترجمة لنقل الصورة الأدبية بكل أمانة والابقاء على جمالياتها الشعرية بذات عربدتها وبريقها، فقد تفقد الصورة الشعرية موسيقاها خلال عملية الترجمة إنما يبقى جوهر الصورة في المعنى وهو الأهم والأعم، فتبقى الصورة غير مسفوكة ولا مشوهة..

وإن قدرة المترجم المبدع في حشد طاقاته لمنح الساحة الثقافية أكبر قدر ممكن من الترجمات الثقافية التي تتناول القامات الشعرية الأعلى قيمة على النطاق العالمي في سبيل تحقيق حالة تبادلية لأجل هدف سامي ونبيل، هي خاصية إنسانية رفيعة المستوى في العطاء، وقوة عظيمة على المثابرة تنمي فيه المهارتين مهارة الحالة الابداعية ومهارة فعل الترجمة لدى المترجم، كما تكمن أهمية الترجمة من جانب آخر بالحفاظ على التراث الثقافي لحضارة الأمم وحفظها لذاكرة وهوية الإنسان والمجتمع، لأن تنوع الثقافات والحضارات يغني الثقافة والحضارة الإنسانية بمفهومها الشامل، بل إن الحضارة التي تعتمد على التنوع داخلها تكون مرشحة للقيام بعمليات التطور والارتقاء بالصورة الأكمل والأسرع، والمثال على ذلك الحضارة الاسلامية في عهد تنويرها، فحين تغذت من ثقافات الشعوب المختلفة، صهرتها كلها في بوتقة واحدة وهوية عامة شكلت حضارة أكثر بريقاً وأشد تقدماً وأحدثت نهضة ثقافية عظيمة نتيجة لهذا التلاقح، ولكنها أيضاً حافظت على سمتها الاسلامي الخاص مما جعلها حضارة الأساس لعالم اليوم.. فلا بد من التعرف على ثقافة الآخر من خلال فعل الترجمة للحفاظ علية والاستفادة منه، كون هذا الإطلاع سنة من سنن الله في الخلق، ومن تسول له نفسه معاندة هذه السنة فسيبوء حتماً بالاضمحلال والتراجع، فالثقافة مصدراً للارتقاء العلمي والفني والذوقي والاجتماعي، والترجمة تمكننا من فهم الآخر وتمد جسور التفاعل والتواصل والتبادل الثقافي وتعرفنا بالآخر، وترتبط ارتباطا طردياً مع الارتقاء بالإبداع والفكر والحضارة.. فها هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا فوائد الإطلاع على ثقافة الآخر وتبادل المنفعة الثقافية في قوله "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها" فكلما تزايدت حركة الترجمة وازدهرت تحقق التقدم بصورة أكبر حتى أن أغنى عصور الفكر هي تلك البلاد التي ازدهرت فيها حركة الترجمة.. فالترجمة كانت وما زالت الوسيلة الأساس في التفاعل الثقافي مع الآخر واكتساب المعرفة والوعي كقاعدة لانطلاق النهضات الحضارية الكبرى..

ولعل أقدم معاجم اللغة التي نشأت بين حضارتين في التاريخ الانساني هي تلك التي أنشأها البابليون بين لغتهم واللغة السومرية عندما احتلوا بلادهم بقيادة حمورابي واكتشفوا أن السومريين يتفوقون عليهم علمياً وثقافياً وحضارياً، فابتدعوا قوائم ثنائية اللغة كأداة للترجمة للاستفادة من مظاهر التقدم التي شاهدوها لمرتهم الأولى مما ساعد في إقامة نهضة بابلية متقدمة ومتفردة ارتبطت بفترة حكم حمورابي، ولا يتوقف دور الترجمة عند إثراء الثقافة واللغة والحضارة إنما يتعدى ذلك إلى الفضاء الفكري العام مما يحدث أثراً أكيداً في عملية التغيير لأن الأدب والفكر يحيا باللغات الأخرى كون اللغات متغيرة، فبعض اللغات التي كتب بها عباقرة الأدب والحكمة والفلسفة القدماء آلت للانقراض، إنما أدبهم وأعمالهم عاشت في لغات أخرى، فلولا وجود لها في ترجمات بلغات أخرى ما عاشت ولا وصلت إلينا، ومن منا لا يعرف أو يُقرّ أن حصيلة حضارة اليوم وثقافته ما هي الا نتيجة تلاقح فكري ثقافي متنوع أتاحته الترجمة..

في السحر الصيني
ونلمح في المجموعة الشعرية تشابه الصور، وانصراف الشعراء إلى رسم الصور الشعرية حول الطبيعة الشتوية الباردة لمناطقهم، وربطها بالمشاعر العاطفية أو النفسية للحالة التي هم عليها، وقد اختار الشاعر والمترجم منير مزيد كوكبة شعراء ينتمون لما قبل أكثر من ألف عام من هذا الزمان، في واقعهم الشعري هم الأشهر والأعلى قيمة أدبية في تاريخ بلادهم القديم، مما يعطينا صورة بليغة أن هذا الانسان الذي صورته الأحداث التاريخية بأنه الأقسى عاطفة والأنكى بلاءا على الأعداء هو في حقيقته لا يبتعد كثيرا عن مكوناته الانسانية حينما يرتبط الأمر بالتعبير عن الذات الانسانية ومشاعرها البليغة.. فها هو "بي جي" يرسم صوراً طبيعية تعبر عن طرفي معادلة الكون في الخير والشر، الموت والحياة، عن النقيضين ليدلف إلى حالة ازدحام المشاعر لفراق الصديق على سبيل المثال.. ونستطيع أن نلاحظ أن هناك قاسماً مشتركاً للأبواب التي دلف منها الشعراء جميعهم وتبدت صورها في قصائدهم، وقد أجمعوا على تناول فصلي الربيع والخريف في وصف الطبيعة الأجمل فيهما، ربما لأن هذين الفصلين تعتدل فيهما الحرارة في تلك البلاد وتلبس الأرض مظاهر جمالها خلالهما، كما تناول غالبية الشعراء صور المطر والثلج والجبال والتلال والبحيرة والنهر، والغيوم المتشكلة والرياح العازفة، والزهر والعشب المعطر والمبلل، والليل وتشكل القمر ولمعانه، والطبيعة الربيعية الساحرة، والمناطق الجنوبية وما يكتنفها من جمال وثمار بجبالها وتلالها وسهولها ووديانها، ثم شروق الشمس وجماله وما يحمله المشهد من معاني ورموز، إضافة لشعر الرثاء في موت الشريكة والتعبير عن الحزن والاشتياق وانحطاط الأحوال النفسية وتراجع المظهرالعام واشتهاء اللقاء بعد الموت، أو وصف ألم الفراق والبعد والحنين للوطن الأصل، ولكن الأغلب أن يفيض عالمهم بالحب والرضا والخصب والبهاء، تماماً بنفس قدر فيضها بالبساطة والعفة والشهامة والوطنية وقوة الانتماء، وقد يفضي بهم التأمل بالطبيعة إلى ربطها بحالتهم النفسية وما يعتريها من تأججات...

فرغم أن القصائد في طبيعتها تميل نحو القصر واقتصارها على الصورة الواحدة أو الاثنتين إلا أنها حافظت على البناء المحكم ووحدة الموضوع، وكذلك رغم مباشرتها إلا أنها لم تخل من الرمزية في بعض الحالات ولا تدارت عنها الإيحاءات أو حتى الجمل والصور الشعرية، ولا غافلتها تكرار الصور في بعض منها، ونرى من ذلك التكرار في وصف العشب المعطر، والقمر المقوس، والنهر أو البحيرة المخضرة لانعكاس خضرة النبات المحيط بها على صفحة مياهها، والشوق لمناطق الجنوب الأكثر جمالاً والأنعم خيراً، ووجود النافذة في عدد غير قليل من صور الشعراء، ربما لكونها الإطلالة من المجال الصغير إلى المجال الرحب الواسع، أو لكونها منفذ النظر من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة للعالم الكبير، وتكرار استخدام صور انهمال المطر وتتطاير ندف الثلج ورذاذ الندى...

وقد تبدت صور قليلة جداً لها وجه الشبه مع شعر الحداثة رغم تباعد زمن الشعراء عن زمن الحداثة مما يعطي انطباع عن جودة استخدام اللغة في التعبير وبراعة الشاعر نفسه في التصوير، ومن هذه الصور برزت تعبيرات في قصيدة "مي ياوتشي" الموسومة بـ "كتابة حزني":

المطر يسقط ويتغلغل في الأرض
لؤلؤة تغرق في أعماق المحيط
أغطس في البحر
يمكنك أن تبحث عن الؤلؤة
أحفر بالأرض
يمكنك أن ترى الماء
الناس فقط يعودون إلى المصدر
تحت

وقصيدة الشاعر "مينج هاوران" المعنونة بـ "أفكار في أوائل الشتاء" حيث يقول:

تذرف الأشجار الأوراق
والأوز يطير جنوباً
الريح الشمالية تهب
على نهر بارد
بيتي في انحناء مياه كسيانج
أبعد بكثير عن حافة غيوم تشاو
مسافراً استنزف دموعي
لأجل البيت
أراقب شراعاً وحيداً
في نهاية السماوات
ذهبت العبارة
من أين أسأل.. أين؟
الظلام يسقط بجانب مستوى البحر

ولا يزال الشعراء يربطون موسيقي آلة الناي بأصوات الحزن ومشاعر التشظي فها هو الشاعر "لي يو" في قصيدته "تتجول أحلامي الكسلى بعيدأً" يصور حنينه للأرض الجنوبية حيث الربيع المعطر والرياح تعزف على أوتار مركب يتماوج على سطح مياه النهر فيما المدينة تمتلئ بزهر الصفصاف الطائر بكثافة منتزعاً إعجاب الناس، لتعود وتتجول أحلامه الكسلى إلى الأرض الجنوبية البعيدة في فصل الخريف حيث تمتد الألوان الباردة في عمق القصبات والناي يعزف لوعة الشوق والحنين في أعلى البرج، ويظهر ثانية الناي بحزن موسيقاه في قصيدة "كم من الدموع" للشاعر "لي يو" وهو يقول:

لا تعزف على الناي
إذا كان سيجلب دموعك

في حين لا ننسى أن ننوه أن البرج نفسه تكرر ظهوره في أكثر من قصيدة مما يعطينا الانطباع بارتباط البرج بحياة وتفكير العامة والخاصة من الناس لأن الأبراج ترتبط استخداماتها في حدود السلطة والحراسة الأمنية أو السجون مما ينسج حولها الحكايا والأساطير ويربطها بعشق الأميرات للعامة وتعرض حريتهن للاعتداء وسجنهن داخل هذه القلاع...

وبالطبع قصائد بهذا القصر ووحدانية الصورة فإن استهلالاتها ترتبط بمتن القصيدة ولا تنفصل عنها أو تتباعد عنها، وهذا الارتباط يجعلها متجانسة التدفق ملتئمة الأجزاء، ولعل القدرة العظيمة للمترجم على نقل الصورة معتمداً الأمانة والحذاقة في الترجمة حافظ على تماسك القصائد وترابطها داخلياً، ففي قصيدتي الشاعر "تاو قيان" "شرب الخمر" و "العودة للعيش في الجنوب" نجد هناك تعدد في الصور وإن لم تتواجد الكثرة في عددها إلا أنها توسعت في منح الصورة الملامح الأوضح، على الأخص القصيدة الثانية التي تعتبر الأطول في المجموعة كلها فقد تناول الشاعر الحب الفطري للأماكن المرتفعة لما يتمثلها من صور الجمال في الطبيعة، وسقوطه بحب الدنيا والتمتع بترفها مدة ثلاثة عشرة عاماً، وفجأة اكتنفه الحنين للرحيل إلى الجنوب إلى حيث حقوله وبساتينه التي تمتد لعشرة هكتارات ومنزله الريفي المسقوف المتكون من تسع أو عشر غرف أغلبها فارغ، وفي ساحته شجرة الصفصاف ذات الظل وأشجار الخوخ والدراق، والدخان بأعلى الجبل يأبى الرحيل وأظنه يقصد كثافة الغيوم لعلو ارتفاعه وبرودة الطقس هناك واستمراها صيفاً وشتاء.. حياة التقشف والزهد يصفها الشاعر بالحياة الروحية البعيدة عن حياة الدنيا وترفها والتي تجعله يشعر بالحرية والاستقلال والسمو، تحررة من سجن المادية وتمنحه السعادة وهو يرى أنه الآن في مساره الصحيح يمارس زراعة فاصوليا الإيراق النادرة، يعزق الأرض نهاراً ويرتاح ليلاً وتتبلل ملابسه بالندى، وهو على صورته هذه لا يتمنى أن يتعرض للحسد لما هو فيه من السعادة الروحية.. إنها صورة رائعة لسمو النفس عن ماديات الدنيا وجنوحها للتقشف تقرباً من الآلهة..

في السحر الياباني
تناول المترجم أعمالاً شعرية للشاعر العظيم الأول في تاريخ شعر الهايكو "باتشو ماتشوو" وشعر الهايكو هو ذلك الشعر الروحي المعبر عنه بمقاطع من الخواطر السريعة القصيرة، والشاعر هو إبن العائلة النبيلة من محاربي الساموراي.. أحب العزلة والتأمل والترحال، وتعمق في المعرفة في مذهب "زن" البوذي، وظهرت أعماله الشعرية بشكل مقاطع سريعة وقصيرة جداً، مظهراً أركان الطبيعة ومشاهدها، كحركة النحل، قفزات الضفدع، خرير الماء، حركة اليعسوب، تساقط الثلج على الجسر، تفكير بالفصول، الأشجار والأثمار، هدير الريح في الخلوة الشتوية، غناء الحشرات تحت رذاذ المطر، القيلولة في الجو البارد، السكون، صرير السيكادا القوي، خفوت ضوء القمر، راهب يرشف الشاي في أجواء ربيعية، صمت البركة، عدم التنبؤ على موت السيكادا والتخلص من صريرها، خلو الطريق من المسافرين في المساء الخريفي، برودة البطيخ، استمرار حياة التقشف والزهد، وغيرها.. هناك إحساس عظيم من الشاعر بدقائق التراكيب داخل الصور فهو في طبيعته الروحانية ممارساً جيداً في التأمل، تتحسس روحه بواطن الجمال في الطبيعة العذراء..

فيما قصائد الشاعر "يوسا بوسون" في شعر الهايكو فيرسم لوحاته القصيرة على ذات المنهج في ولوجه إلى الحالة التأملية في الطبيعة ليصور طيران حشرة، حراثة حقل، تحليق طائرة ورقية، بخور محتضر، قطرات ندى على ظهر يرقة زغباء، طنين ناموسة، قمر يوشك على السقوط فوق جماعة يرقصون، اشراق القمر في قبة السماء، الكرى، القلعة.. إنما تظل المباشرة في التصوير ديدن شعراء الهايكو قلما يخرجون عنه..

في قصائد "ماساوكا شيكي" ويعتبر هذا الشاعر من آخر رواد شعر الهايكو في القرن التاسع الميلادي، نلاحظ الحالة التطورية بانتقال الرؤية من التصوير البسيط إلى الأعمق في رصد صور الطبيعة وارتباطها بالذات الشاعرة، وتأثير فصل الخريف الذي تتعرى فيه شجيرات الفاكهة الصيفية من أوراقها لتكتسي ألوان أزهارها وتنشر عطر شذاها الفواح في الأجواء الباردة وربما الثلجية، والشعب الياباني يحتفل بهذا المشهد ويقيم له شعائر العيد والفرح في الثقافة المحلية.

فيما قصائد "دوجين" وهو شاعر وفيلسوف من القرن الثالث عشر، راهب بوذي يعتبر المؤسس لمدرسة "سوتو" مدرسة دينية من طائفة "زن" الأساسية، فمقاطعه أكثر وضوحاً وأعمق معنى ولكنها لا تخرج عن المظهر العام في المباشرة إلا أنه تتوضح تلك الجمالية في التصوير وما يكتنفها من حكمة..

منتصف الليل.. لا أموج
لا ريح.. القارب الفارغ
مغمور بفيضان ضوء القمر
تتبدى جمالية التصوير بالقارب الفارغ المغمور بفيضان ضوء القمر، فهو تصوير بارع غير اعتيادي
طيور الماء تذهب وتجيء
أثارها تختفي
لكنها لا تنسى أبداً طريقها
والطيور التي تختفي آثار طريقها في أجواء لا علامات فيها ومع ذلك لا تنسى طريقها ولا تضيّع اتجاهها خلال هجرتها في رحلتها التالية، كناية عن إظهار الحكمة في ضرورة معرفة الاتجاه الصحيح ليظل الانسان بعيداً عن الضلال والضياع
لن أتوقف
عند ساقية الوادي
خوفاً على ظلي
أن يتدفق في العالم
جمالية عالية وفنية رسم في خلق المعنى والشاعر يتخوف من أن ظله المعكوس على سطح ماء النهر سوف يتدفق مع ماء النهر وينتشر في العالم المتنقل النهر في أرجائه، إنها صورة خيالية بليغة تحمل معنى الرغبة بالانتماء للمكان الذي هو فيه وعدم رغبته بمغادرته، حتى أنه يرفض مغادرة ظله للمكان..

كاتب مصري