رسالة باريس: فيلم «المسيح الدجال» في باريس
صورة المرأة في مرآة اللاوعي الجمعي والعودة الي الطبيعة الشر
من ابرز الافلام التي خرجت للعرض في باريس حديثا فيلم «المسيح الدجال» للمخرج الدانمركي لارس فون تراير (من مواليد كوبنهاجن الدانمرك في 30 ابريل 1956 اخرج اكثر من 11 فيلما وحصل بفيلمه "راقصة في الظلام" عام 2000 علي سعفة "كان" الذهبية) وكان الفيلم عرض في مسابقة مهرجان "كان" السينمائي 62 الفائت. وحصلت به ممثلته الفرنسية شارلوت جانسبورج علي جائزة أحسن ممثلة، وكنت شاهدت الفيلم في المهرجان واعجبت به كثيرا، علي الرغم من أن بعض النقاد صفروا ضد الفيلم في العرض الخاص بالصحفيين في المهرجان، ونعتوه ومخرجه بأقبح الالفاظ، وكنت من ضمن قلة اعجبت بالفيلم، وأشادت به وبفنه، ثم اني انتهزت فرصة خروجه للعرض في باريس لمشاهدته مرة ثانية، والتمعن فيه، فاستمتعت به أكثر. يحكي الفيلم عن أم تفقد طفلها اثناء ممارستها الجنس مع زوجها والد الطفل، وهو عالم وطبيب نفساني وتكون صدمة الام كبيرة بما وقع، حين يتسلل الطفل من فراشه في أول مشهد في الفيلم، ويشاهد ابويه وهما يمارسان الجنس سويا، فيحمل لعبته علي شكل عروسة ويقترب من النافذة ويفقد توازنه ليسقط من حالق علي ارتفاع شاهق ويموت علي قارعة الطريق الذي تغطيه الثلوج في الشتاء. وكانت الام شاهدت الطفل خلسة وهو يقترب من النافذة، الا انها لم تتوقف مع زوجها عن ممارسة الجنس لكي تسارع الي نجدة الطفل وانقاذه من موت محقق، وربما يكون مخرج الفيلم لارس فون تراير خبر ذات التجربة في حياته اثناء طفولته، فاصابته بصدمة او عقدة نفسانية، وقد اراد ربما بهذا الفيلم من ناحية ان ينبهنا الي خطورة هذا الامر، وتأثيراته النفسانية العميقة علي الاطفال، واراد من ناحية اخري ان يعاقب بفيلمه تلك الام التي فضلت متعتها الشخصية الانانية، وضحت من اجلها بطفلها. والشيء المؤكد في الحالتين ان فيلم "المسيح الدجال" كما في جل الافلام، يستشعره ويحس به كل منا علي طريقته، ومن خلال تربيته وثقافته وخبراته الحياتية ايضا، ولذلك فاننا ـ وهذه هي القضية ـ لانري ابدا ذات الفيلم، ولا نبصره من زاوية واحدة، بل تتدخل عوامل كثيرة لكي تشكل رؤيتنا الفريدة والجديدة في هذا "النوع" من الافلام التي تعزز من حق الاختلاف، وتصبح بمجرد مشاهدتها مثيرة للنقاش والجدل كما في فيلم "المسيح الدجال"، وكما في جل افلام المخرج الاسباني لوي بونويل مثل فيلم "الكلب الاندلسي" وفيلم "لوس اولفيدادوس"، ويحتفل السينماتيك الفرنسي الشهير حاليا به، ويعرض في ريتروسبيكتيف ـ استعادة ـ كل افلامه وحتي الثاني من اغسطس. واعتبر هذا المشهد الاول في الفيلم، الذي يؤسس فيما بعد لتطور الحدث الدرامي، بمثابة فيلم بمفرده. اذ يكشف عن مخرج رائع وبصمته الفنية السينمائية التي لا تخطئها العين من خلال ذلك "التوليف" المدهش بين الصوت والصورة، ذلك التوليف الذي يستغرقك، ويستحوذ بشحنته الفنية المتوهجة علي كل كيانك، مازجا بين متعة شهوة الجنس والألم، بين اليأس والرجاء، ويستخدم هنا تراير اللقطات المكبرة اثناء فترة الجماع، ويقطع علي لقطة مكبرة لقضيب في لحظة الانتصاب، ثم يعود الي مشهد الزوجين العاريين وهما يشهقان من فرط المتعة والنشوة، ويصور باللقطات البطيئة جدا حركة الطفل، وخروجه من الفراش، ويبني أو يشكل ذلك المشهد الافتتاحي علي موسيقي كلاسيكية اوبرالية حزينة. وفي المشهد التالي نري جنازة الطفل حيث يغمي علي الام من فرط حزنها علي طفلها ـ تلعب دور الزوجة والأم الممثلة الفرنسية الشابة الجميلة شارلوت جانسبورج ـ ونتابع في ما بعد حالات الجنون التي تنتابها بعدما تصير مسكونة بمشاعر الذنب والألم. ويحاول الزوج يلعب دوره في الفيلم الممثل الامريكي القدير ويليام ديفو ـ وهو طبيب نفساني، ان يعالج زوجته عبر جلسات علاج، تفضفض فيها عن المها، عله ينتشلها من عذاباتها التي سوف تقودها الي حافة الجنون، وهاوية الضياع، لكنه يفشل في مهمته. فيقترح عليها ان يلجأ الاثنان الي حضن الطبيعة، ويقيمان سويا في كوخ لهما يدعي "عدن" اي كوخ الجنة في قلب غابة موحشة فتوافق، وكانت الزوجة لجأت الي ذلك الكوخ من قبل وهو عبارة عن بيت من الخشب لكي تنكب علي كتابة بحث عن "الساحرات الشريرات في العصور الوسطي" والمؤسسة الدينية، التي كانت آنذاك تعتقل النساء حين يشتبه في امرهن واتصالهن بقوي الجن والعفاريت، وممارستهن لاعمال السحر، ثم تقوم بعد تعذيبهن، تقوم بحرقهن في الميادين العامة، وسط صيحات وتصفيق وصراخ الدهماء. وهنا يبدأ فيلم جديد حين ينتقل الزوجان الي الغابة لنشهد عملية "تحول" او ميتامورفوز تطرأ علي الأم، تتحول معها من ملاك الي شيطان. وتتلبسها قوي الشر والعفاريت لتصبح ساحرة من ساحرات العصور الوسطي، واشبه ما يكون بالمرأة الغول، وقد تذكرت اثناء مشاهدة الفيلم الغني بالاشارات والاحالات الي الافلام والاعمال السينمائية العظيمة في تاريخ السينما تذكرت فيلم "وحش البحيرة السوداء" الذي شاهدته في طفولتي في "سينما ايزيس"، كما ذكرني بأشهر افلام التحول في تاريخ السينما مثل تحول الممثل الامريكي القدير سبنسر تراسي من طبيب طيب الي وحش رذيل مرعب في فيلم "دكتور جيكل ومستر هايد". كما يتحول الفيلم ايضا من فيلم درامي الي فيلم من أفلام النوع اي افلام الرعب، ويجعنا نخشي علي انفسنا من تلك المرأة التي صارت مسكونة بقوي الشر، وتريد الآن ان تقتل زوجها وتتخلص منه وربما كل الذكور باية طريقة، ونري ذلك في مشاهد قاسية دموية مرعبة وصادمة. وهم العودة الي الطبيعة فالزوجة الام التي تحولت الي وحش مرعب ملييء بالشبق، ولا تشبع ابدا من ممارسة الجنس ـ وكل هذه التحولات تعكس في الواقع صورة المرأة كما يتمثلها مخرج الفيلم لارس فون تراير، فهي عنده ذلك "الحيوان الجنسي" المخيف ـ ونحن بالطبع لا نشاركه هذا التصور التطهري المتخلف الديني الوسيطي نسبة الي العصور الوسطي ان صح التعبير ـ تريد ان تنتقم من زوجها حين يرفض ان ينكحها، فتطعنه في خصيتيه بسكين، وتكون قبلها اجرت عملية استمناء لقضيبه الذي يقذف دما، ثم انها في احد اشد المشاهد واكثرها قسوة في الفيلم، تغرس سكينا في لحم الساق ثم تدخل فيه صامولة متصلة بطاحونة حجرية ثقيلة، حتي تمنعه من السير والتحرك، الا وهو يجر تللك الطاحونة المربوطة بالساق، ويذكرنا هذا المشهد بمشهد قطع حدقة العين بسكين حاد في فيلم "الكلب الاندلسي" للاسباني لوي بونويل، وهو احد اشهر واعظم الافلام السريالية في تاريخ السينما. وتتوالي مشاهد التعذيب في الفيلم، لتصل الي حد دفن الزوج حيا في طين الغابة، واهالة التراب عليه، ويشعلها المخرج لارس فون تراير حربا بين الجنسين، ولا نعرف كيف ستنتهي، ومن سوف يكسب تللك الحرب: أهي تلك المرأة التي تحولت الي "المسيح الدجال" رمز الغواية، ام هذا الزوج البريء المخلص، الذي قد ينجح في القضاء عليها، ويخلصنا من شرورها في النهاية؟ وعلي العكس من الافكارالخاصة بان العودة الي الطبيعة الام ـ كما يري المفكر الفرنسي جان جاك روسو ـ سوف يكون فيه خلاصنا من قبح وسوءات عالمنا الاستهلاكي المادي الصناعي في تلك المدن الكزموبوليتانية الاسفلتية التي تجثم ثقيلاعلي انفاسنا بعماراتها الشاهقة وتخنقنا، والتي يصفها الشاعر الالماني برتولت بريخت بقوله ان "فوقها دخان وتحتها بالوعات، وحماك الله من شر أهلها". يقدم لنا لارس فون تراير تصوره الخاص بجنة عدن هذه في حضن الطبيعة والبراءة، فيكشف لنا في فيلمه عن "وهم العودة " الي الطبيعة، الذي سوف يكون فيه خلاصنا والبلسم الشافي، لأنها صارت كما يتمثلها، صارت "الجحيم" بعينه، والارض اليباب الخراب، التي صورها الشاعر الانجليزي ت. اس . اليوت في قصيدته بنفس الاسم، ليعلن عن خراب وانهيار حضارة الغرب المادية الاستهلاكية. هنا في حضن تلك الغابة الموحشة كقبر،التي يقدمها لنا تراير في فيلمه، تطلع علينا من كل ناحية الحيوانات الكاسرة المتوحشة لتخيفنا وترعبنا، ويظهر ذئب ووعل في الفيلم، ثم يطلع علينا ثعلب دموي متوحش مرعب لكي يقول لنا بصوت آدمي أجش مرعب ـ يذكرنا بصوت الشيطان الذي سكن جسد الطفلة الصغيرة في فيلم "طارد الارواح" للامريكي ويليام فريدكين ـ يقول: "لقد صارت الفوضي تتحكم في العالم". فيلم "المسيح الدجال" فيلم قوي وشجاع، ويكشف عن جرأة مخرج في تقديم فيلم باهر متميز علي المستوي الجمالي البصري التقني. جرأته في ان يفصح من خلال "الاستبطان الذاتي" والغوص في الاعماق، عن افكاره وكوابيسه وتصوراته بخصوص المرأة. جرأته في أن يستخرجها من لاوعيه الباطن، وبكل ما فيها من تشوهات وعنف وقسوة، لكي يقذف بها في وجه مجتمع برجوازي استهلاكي مادي منافق محفلط وجبان، ولم يكن ليقبل أبدا بالاعتراف بصدقها وحقيقتها ومصداقيتها، كما فعل الاسباني بونويل في فيلمه "الكلب الاندلسي" فاثار عليه غضب الطبقات البرجوازية التقليدية الرجعية الحاكمة، وكما فعل المخرج الايطالي بيير باولو بازوليني في فيلمه "ثيورم" اي نظرية، واثار عليه غضب وحنق البرجوازية الايطالية المعفنة، فظلت تتعقبه وتطالب بمحاكمته، ولما لم تنفع معه محاكم، قامت باغتياله والتمثيل بجثته انتقاما منه علي رصيف الشارع العام. ويقول المخرج لارس فون تراير في حوار معه انه لم يكن يقصد ايذاء البعض بفيلمه، بل لقد اراد فقط ان يكشف عن حقيقة التصورات بخصوص المرأة عند بعض المثقفين في الغرب، فمازال بعض الرجال ينظرون الي المرأة علي انها "ساحرة" من ساحرات العصور الوسطي وتستحق الحرق. وقد اراد ان يسخر منهم ومن تصوراتهم في الفيلم، وان يتطهر هو ذاته اثناء صنعه من بعض عقده النفسانية ومشكلاته في التعامل معهن، وقد نجح. والغريب كما يقول تراير ان البعض من النقاد اساءوا فهم الفيلم، وكتبوا ضده، ويريدون حرمان تراير في عصر الانترنت وفضاءات الحرية، من توجيه الانتقادات في فيلمه الي "حضارة الرجال في الغرب". فيلم "المسيح الدجال" بروعة تصويره، واحكام بنيانه، بايقاعه وافكاره وعظمة اداء الممثلين فيه وتألق شارلوت جانسبورج في دور الام والزوجة، وحصولها به علي جائزة احسن ممثلة في دورة مهرجان "كان" 62، يستحق المشاهدة عن جدارة. لانه باضافة الي كل ما ذكرنا، يحقق اضافة فنية جديدة وهامة الي مسيرة لارس فون تراير (اخرج اكثر من 11 فيلما روائيا طويلا ولحد الآن) كتجربة سينمائية أصيلة، تجربة متوهجة ومتفردة ومثيرة للاعجاب.
من ابرز الافلام التي خرجت للعرض في باريس حديثا فيلم «المسيح الدجال» للمخرج الدانمركي لارس فون تراير (من مواليد كوبنهاجن الدانمرك في 30 ابريل 1956 اخرج اكثر من 11 فيلما وحصل بفيلمه "راقصة في الظلام" عام 2000 علي سعفة "كان" الذهبية) وكان الفيلم عرض في مسابقة مهرجان "كان" السينمائي 62 الفائت. وحصلت به ممثلته الفرنسية شارلوت جانسبورج علي جائزة أحسن ممثلة، وكنت شاهدت الفيلم في المهرجان واعجبت به كثيرا، علي الرغم من أن بعض النقاد صفروا ضد الفيلم في العرض الخاص بالصحفيين في المهرجان، ونعتوه ومخرجه بأقبح الالفاظ، وكنت من ضمن قلة اعجبت بالفيلم، وأشادت به وبفنه، ثم اني انتهزت فرصة خروجه للعرض في باريس لمشاهدته مرة ثانية، والتمعن فيه، فاستمتعت به أكثر.
يحكي الفيلم عن أم تفقد طفلها اثناء ممارستها الجنس مع زوجها والد الطفل، وهو عالم وطبيب نفساني وتكون صدمة الام كبيرة بما وقع، حين يتسلل الطفل من فراشه في أول مشهد في الفيلم، ويشاهد ابويه وهما يمارسان الجنس سويا، فيحمل لعبته علي شكل عروسة ويقترب من النافذة ويفقد توازنه ليسقط من حالق علي ارتفاع شاهق ويموت علي قارعة الطريق الذي تغطيه الثلوج في الشتاء. وكانت الام شاهدت الطفل خلسة وهو يقترب من النافذة، الا انها لم تتوقف مع زوجها عن ممارسة الجنس لكي تسارع الي نجدة الطفل وانقاذه من موت محقق، وربما يكون مخرج الفيلم لارس فون تراير خبر ذات التجربة في حياته اثناء طفولته، فاصابته بصدمة او عقدة نفسانية، وقد اراد ربما بهذا الفيلم من ناحية ان ينبهنا الي خطورة هذا الامر، وتأثيراته النفسانية العميقة علي الاطفال، واراد من ناحية اخري ان يعاقب بفيلمه تلك الام التي فضلت متعتها الشخصية الانانية، وضحت من اجلها بطفلها. والشيء المؤكد في الحالتين ان فيلم "المسيح الدجال" كما في جل الافلام، يستشعره ويحس به كل منا علي طريقته، ومن خلال تربيته وثقافته وخبراته الحياتية ايضا، ولذلك فاننا ـ وهذه هي القضية ـ لانري ابدا ذات الفيلم، ولا نبصره من زاوية واحدة، بل تتدخل عوامل كثيرة لكي تشكل رؤيتنا الفريدة والجديدة في هذا "النوع" من الافلام التي تعزز من حق الاختلاف، وتصبح بمجرد مشاهدتها مثيرة للنقاش والجدل كما في فيلم "المسيح الدجال"، وكما في جل افلام المخرج الاسباني لوي بونويل مثل فيلم "الكلب الاندلسي" وفيلم "لوس اولفيدادوس"، ويحتفل السينماتيك الفرنسي الشهير حاليا به، ويعرض في ريتروسبيكتيف ـ استعادة ـ كل افلامه وحتي الثاني من اغسطس.
واعتبر هذا المشهد الاول في الفيلم، الذي يؤسس فيما بعد لتطور الحدث الدرامي، بمثابة فيلم بمفرده. اذ يكشف عن مخرج رائع وبصمته الفنية السينمائية التي لا تخطئها العين من خلال ذلك "التوليف" المدهش بين الصوت والصورة، ذلك التوليف الذي يستغرقك، ويستحوذ بشحنته الفنية المتوهجة علي كل كيانك، مازجا بين متعة شهوة الجنس والألم، بين اليأس والرجاء، ويستخدم هنا تراير اللقطات المكبرة اثناء فترة الجماع، ويقطع علي لقطة مكبرة لقضيب في لحظة الانتصاب، ثم يعود الي مشهد الزوجين العاريين وهما يشهقان من فرط المتعة والنشوة، ويصور باللقطات البطيئة جدا حركة الطفل، وخروجه من الفراش، ويبني أو يشكل ذلك المشهد الافتتاحي علي موسيقي كلاسيكية اوبرالية حزينة.
وفي المشهد التالي نري جنازة الطفل حيث يغمي علي الام من فرط حزنها علي طفلها ـ تلعب دور الزوجة والأم الممثلة الفرنسية الشابة الجميلة شارلوت جانسبورج ـ ونتابع في ما بعد حالات الجنون التي تنتابها بعدما تصير مسكونة بمشاعر الذنب والألم. ويحاول الزوج يلعب دوره في الفيلم الممثل الامريكي القدير ويليام ديفو ـ وهو طبيب نفساني، ان يعالج زوجته عبر جلسات علاج، تفضفض فيها عن المها، عله ينتشلها من عذاباتها التي سوف تقودها الي حافة الجنون، وهاوية الضياع، لكنه يفشل في مهمته. فيقترح عليها ان يلجأ الاثنان الي حضن الطبيعة، ويقيمان سويا في كوخ لهما يدعي "عدن" اي كوخ الجنة في قلب غابة موحشة فتوافق، وكانت الزوجة لجأت الي ذلك الكوخ من قبل وهو عبارة عن بيت من الخشب لكي تنكب علي كتابة بحث عن "الساحرات الشريرات في العصور الوسطي" والمؤسسة الدينية، التي كانت آنذاك تعتقل النساء حين يشتبه في امرهن واتصالهن بقوي الجن والعفاريت، وممارستهن لاعمال السحر، ثم تقوم بعد تعذيبهن، تقوم بحرقهن في الميادين العامة، وسط صيحات وتصفيق وصراخ الدهماء.
وهنا يبدأ فيلم جديد حين ينتقل الزوجان الي الغابة لنشهد عملية "تحول" او ميتامورفوز تطرأ علي الأم، تتحول معها من ملاك الي شيطان. وتتلبسها قوي الشر والعفاريت لتصبح ساحرة من ساحرات العصور الوسطي، واشبه ما يكون بالمرأة الغول، وقد تذكرت اثناء مشاهدة الفيلم الغني بالاشارات والاحالات الي الافلام والاعمال السينمائية العظيمة في تاريخ السينما تذكرت فيلم "وحش البحيرة السوداء" الذي شاهدته في طفولتي في "سينما ايزيس"، كما ذكرني بأشهر افلام التحول في تاريخ السينما مثل تحول الممثل الامريكي القدير سبنسر تراسي من طبيب طيب الي وحش رذيل مرعب في فيلم "دكتور جيكل ومستر هايد". كما يتحول الفيلم ايضا من فيلم درامي الي فيلم من أفلام النوع اي افلام الرعب، ويجعنا نخشي علي انفسنا من تلك المرأة التي صارت مسكونة بقوي الشر، وتريد الآن ان تقتل زوجها وتتخلص منه وربما كل الذكور باية طريقة، ونري ذلك في مشاهد قاسية دموية مرعبة وصادمة.
وهم العودة الي الطبيعة فالزوجة الام التي تحولت الي وحش مرعب ملييء بالشبق، ولا تشبع ابدا من ممارسة الجنس ـ وكل هذه التحولات تعكس في الواقع صورة المرأة كما يتمثلها مخرج الفيلم لارس فون تراير، فهي عنده ذلك "الحيوان الجنسي" المخيف ـ ونحن بالطبع لا نشاركه هذا التصور التطهري المتخلف الديني الوسيطي نسبة الي العصور الوسطي ان صح التعبير ـ تريد ان تنتقم من زوجها حين يرفض ان ينكحها، فتطعنه في خصيتيه بسكين، وتكون قبلها اجرت عملية استمناء لقضيبه الذي يقذف دما، ثم انها في احد اشد المشاهد واكثرها قسوة في الفيلم، تغرس سكينا في لحم الساق ثم تدخل فيه صامولة متصلة بطاحونة حجرية ثقيلة، حتي تمنعه من السير والتحرك، الا وهو يجر تللك الطاحونة المربوطة بالساق، ويذكرنا هذا المشهد بمشهد قطع حدقة العين بسكين حاد في فيلم "الكلب الاندلسي" للاسباني لوي بونويل، وهو احد اشهر واعظم الافلام السريالية في تاريخ السينما.
وتتوالي مشاهد التعذيب في الفيلم، لتصل الي حد دفن الزوج حيا في طين الغابة، واهالة التراب عليه، ويشعلها المخرج لارس فون تراير حربا بين الجنسين، ولا نعرف كيف ستنتهي، ومن سوف يكسب تللك الحرب: أهي تلك المرأة التي تحولت الي "المسيح الدجال" رمز الغواية، ام هذا الزوج البريء المخلص، الذي قد ينجح في القضاء عليها، ويخلصنا من شرورها في النهاية؟ وعلي العكس من الافكارالخاصة بان العودة الي الطبيعة الام ـ كما يري المفكر الفرنسي جان جاك روسو ـ سوف يكون فيه خلاصنا من قبح وسوءات عالمنا الاستهلاكي المادي الصناعي في تلك المدن الكزموبوليتانية الاسفلتية التي تجثم ثقيلاعلي انفاسنا بعماراتها الشاهقة وتخنقنا، والتي يصفها الشاعر الالماني برتولت بريخت بقوله ان "فوقها دخان وتحتها بالوعات، وحماك الله من شر أهلها". يقدم لنا لارس فون تراير تصوره الخاص بجنة عدن هذه في حضن الطبيعة والبراءة، فيكشف لنا في فيلمه عن "وهم العودة " الي الطبيعة، الذي سوف يكون فيه خلاصنا والبلسم الشافي، لأنها صارت كما يتمثلها، صارت "الجحيم" بعينه، والارض اليباب الخراب، التي صورها الشاعر الانجليزي ت. اس . اليوت في قصيدته بنفس الاسم، ليعلن عن خراب وانهيار حضارة الغرب المادية الاستهلاكية.
هنا في حضن تلك الغابة الموحشة كقبر،التي يقدمها لنا تراير في فيلمه، تطلع علينا من كل ناحية الحيوانات الكاسرة المتوحشة لتخيفنا وترعبنا، ويظهر ذئب ووعل في الفيلم، ثم يطلع علينا ثعلب دموي متوحش مرعب لكي يقول لنا بصوت آدمي أجش مرعب ـ يذكرنا بصوت الشيطان الذي سكن جسد الطفلة الصغيرة في فيلم "طارد الارواح" للامريكي ويليام فريدكين ـ يقول: "لقد صارت الفوضي تتحكم في العالم".
فيلم "المسيح الدجال" فيلم قوي وشجاع، ويكشف عن جرأة مخرج في تقديم فيلم باهر متميز علي المستوي الجمالي البصري التقني. جرأته في ان يفصح من خلال "الاستبطان الذاتي" والغوص في الاعماق، عن افكاره وكوابيسه وتصوراته بخصوص المرأة. جرأته في أن يستخرجها من لاوعيه الباطن، وبكل ما فيها من تشوهات وعنف وقسوة، لكي يقذف بها في وجه مجتمع برجوازي استهلاكي مادي منافق محفلط وجبان، ولم يكن ليقبل أبدا بالاعتراف بصدقها وحقيقتها ومصداقيتها، كما فعل الاسباني بونويل في فيلمه "الكلب الاندلسي" فاثار عليه غضب الطبقات البرجوازية التقليدية الرجعية الحاكمة، وكما فعل المخرج الايطالي بيير باولو بازوليني في فيلمه "ثيورم" اي نظرية، واثار عليه غضب وحنق البرجوازية الايطالية المعفنة، فظلت تتعقبه وتطالب بمحاكمته، ولما لم تنفع معه محاكم، قامت باغتياله والتمثيل بجثته انتقاما منه علي رصيف الشارع العام.
ويقول المخرج لارس فون تراير في حوار معه انه لم يكن يقصد ايذاء البعض بفيلمه، بل لقد اراد فقط ان يكشف عن حقيقة التصورات بخصوص المرأة عند بعض المثقفين في الغرب، فمازال بعض الرجال ينظرون الي المرأة علي انها "ساحرة" من ساحرات العصور الوسطي وتستحق الحرق. وقد اراد ان يسخر منهم ومن تصوراتهم في الفيلم، وان يتطهر هو ذاته اثناء صنعه من بعض عقده النفسانية ومشكلاته في التعامل معهن، وقد نجح. والغريب كما يقول تراير ان البعض من النقاد اساءوا فهم الفيلم، وكتبوا ضده، ويريدون حرمان تراير في عصر الانترنت وفضاءات الحرية، من توجيه الانتقادات في فيلمه الي "حضارة الرجال في الغرب".
فيلم "المسيح الدجال" بروعة تصويره، واحكام بنيانه، بايقاعه وافكاره وعظمة اداء الممثلين فيه وتألق شارلوت جانسبورج في دور الام والزوجة، وحصولها به علي جائزة احسن ممثلة في دورة مهرجان "كان" 62، يستحق المشاهدة عن جدارة. لانه باضافة الي كل ما ذكرنا، يحقق اضافة فنية جديدة وهامة الي مسيرة لارس فون تراير (اخرج اكثر من 11 فيلما روائيا طويلا ولحد الآن) كتجربة سينمائية أصيلة، تجربة متوهجة ومتفردة ومثيرة للاعجاب.