في بيانه الذي يسعي للتعامل مع مختلف مكونات العرض المسرحي يراجع الباحث العراقي الأصول الشعرية لسيرة المسرح. ويؤكد على جماليّة الشعري في المشهديّة، وعلى إبداعيّة تنفث روح الشعر في تشكيل الفراغ والنص وأداء الممثل وتجليات التلقي.

بيان نحو شعريّة المسرح في النص والتمثيل والإخراج

خزعل الماجدي

هذا البيان من أجل إعادة الاعتبار للشعر والمسرح معاً. بل ومن أجل إقامة علاقة حقيقية بينهما، لأن العلاقة الطويلة المربكة بينهما، والتي استمرت لحوالي 2500 سنة، كانت وبالاً عليهما، وما أن تحرر المسرح من الشعر، وتحرر الشعر من المسرح، وصاغ كلُّ واحدٍ نفسَه من جديد، منذ بداية ثورة الحداثة في حوالي منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، ونضج كل منهما نضوجاً حقيقياً: الشعر في حقل النثر، والمسرح في حقل النثر، حتى أصبح اللقاء، الآن، بينهما اليوم ضرورياً ومهماً. اللقاء القائم على نديَّة متبادلة وخصوبة متبادلة، وعلى شوقٍ عميق لكليهما، لكي يزدادان غنى ولكي نشهد علاقة لا تقوم على زيف الطنين والنظم الشعري ولا على الشكلانيات المسرحية الفجة؛ بل على عمقٍ خصيب يكون فيه الشعر مثل الروح الكهربية، التي تحفِّز وتنشِّط المسرحَ وتبثُّ روحاً جديدة فيه، مثلما تكون شحنةُ المسرح (في الدراما والصراع) عاملاً على تخليص الشعر من سكونه وأحاديته وركون أدواته. سيكون هذا البيان مكرساً لرصد شعرية المسرح في عصر ما بعد الحداثة الذي نعيشه غربياً كجهاز معرفي وتقني متكامل ونعيش بعضَ مظاهره عراقياً وعربياً بسبب من نزعتنا الاستهلاكية المزمنة.

لكن هذا الرصد لن يكون عرضاً للجهود في هذا المجال بل سيكون مجالاً لاقتراحِ شعريةٍ مسرحيةٍ جديدة تتخطى مثالبَ التجارب التي عرفناها وتحاول أن تقدم للمسرحيين والشعراء، بشكل خاص، تصوراً جديداً لـ (المسرح الشعري) الذي يجب أن يكون عليه الشعر الحديث في المسرح الحديث وفي مرحلة مابعد الحداثة التي نعيشها اليوم. هذا البيان من أجل مسرحٍ يعيش بيننا ونمارسه أحياناً كشذرات على مكان العرض المسرحي، لكننا لا نستطيع توصيفه جيداً ولا نستطيع لم أجزاءه المبعثرة هنا وهناك. على مستوى النص المسرحي نجد ضرورة قصوى للإعلان عنه، لأن سطحية الكتابة المسرحية وترهلها ومحدودية تنوعها وفقرها الدرامي أوحى لنا بضرورة البحث عن حلٍ ناجز ومباشر لهذه المعضلة، فقد أوغلت النصوص المسرحية في سرديتها ونثريتها وعاديتها وهي بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لأن تغتني بروحٍ شعريةٍ قويةٍ وأن تتنشَّط وتتحفَّز وتكتنز بها، لا على طريقة ما عرفناه من المسرح الشعري، الذي غرق في شكليات النظم الشعري وترك روح الشعر التي كان يجب أن تحفِّز المسرحَ كلّه.

كذلك نحن بحاجة إلى فنٍّ ثقافي واجتماعي جديد يبتكر آليات جديدة ينشِّط بها المسرح ويتمثل هذا الفن بجعل الثقافة حيّة مع المجتمع والنظر بجدية إلى التحولات الاجتماعية الجديدة التي تحدث الآن في مجتمعاتنا بعد أن كُسرت الكثير من القيود التي كانت تكبِّل الفن والثقافة من ناحية والحياة الاجتماعية من ناحية أخرى.

لم يعد هناك الآن فن نخبوي منعزل بسبب ما توفره آليات الاتصال الحديثة ولم تعد هناك ثقافة محبوسة في المتاريس والنظريات المغلقة بل تحولت الثقافة إلى سيل جارف يحول المجتمعات ويتفاعل معها وأصبح الفنُ شرطاً من شروط تقديم هذه الثقافة وقبولها.

إن المجتمعات التقليدية والمتطورة، معاً، تواجه اليوم انقلاباً جذرياً في المفاهيم والرؤى يجبرنا على تقديم صورةٍ أفضل للمسرح الذي هو مصهرٌ حقيقي لمجتمع هذه الفنون والثقافات ولمادتها الاجتماعية.

إذا كان الشعر بمعناه الإجرائي قد انحصر في حدود (القصيدة) وترك الحياة العارمة للمجتمعات فأن ذلك لا يعني أن ينعزل الشعر بمعناه العميق عن هذه المجتمعات بل هو القاع الأبدي لحركة جمالية خلاقة ستظل منجماً لحركة ونشاط تلك المجتمعات في سياقها المادي والروحي. ومن هنا توجَّب الانتباه لنقل الشعر من أعماقه إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية وجموحها الخلاّق. ولذلك كان لا بد من استثمار المنجزات الكبيرة للشعر الحديث والتي يمكن أن تساهم في إغناء ورفد وتنشيط المجتمع شرط وعينا بالكيفية النوعية لفعل ذلك وأخذنا بعين الاعتبار ما آلت إليه التحولات الاجتماعية الكبرى في عالمنا الجديد. إن حقيقة الشعر لا تكمن في شكل إجرائي واحد هو (القصيدة)، بل هو نسغ عميق لكل إبداع، لأن قوة الشعر تكمن في الحياة نفسها ثم تكمن في الفنون كلها، وكذلك تكمن في اللغة.

ولأن المسرح اليوم بمعناه الشامل أصبح يضمُّ الحياةَ والفنونَ واللغةَ، لذلك كان لا بد أن يلتقي بصنوه وندِّه الذي هو الشعر. ولأننا نرى من الصعب فهم دعوتنا هذه ما لم نمر على العلاقة التاريخية بين المسرح والشعر، لكي نتقصى جوانب الإخفاق الكثيرة التي مرت بها ونقترح علاجاً لها، أقول لا بد من عرض هذه العلاقة وتتبع تاريخها. 

تاريخ المسرح والشعر
ظهر الشعر قبل المسرح بفترة طويلة، فقد كان السومريون هم أول من أطلق كلمة (سِر sir) على الشعر، وسماه الأكديون (شيرو)، ثم سماه العرب (شعر) وكانوا يقصدون الشعر الوجداني الغنائي تحديداً. لكن الشعر كان مادةً لصناعة الأدب الديني والأدب الدنيوي على حدٍ سواء عند كثير من الأمم القديمة.

وعندما ظهر المسرح من الطقس الديونزيوسي عند الإغريق في حدود منتصف القرن السادس قبل الميلاد على يد (ثسبس) أصبح هناك مسرح دنيوي حقيقي. وقبل ذلك كانت تلك الدراما غارقة في الطقوس الدينية ولم تنفصل عنها إلا عند الإغريق. ولكن المسرح وُلدَ عند الإغريق بثوب شعري، فقد كان يُكتب شعراً وكان المؤلفون المسرحيون الكبار آنذاك (اسخيلوس، يوربيدس، سوفوكلس، ارستوفانس) كلهم شعراء أو بالأحرى ناظمي شعر.

كانت بذرة المسرح كامنة في الطقوس والشعائر الدينية لأنها فعل على الأرض، فيما كانت بذرة الشعر كامنة في الأساطير لأنه كلام مقروء أو مكتوب. ويمكننا الحديث عن ترابط أكيد في الجذور بين المسرح والشعر، من خلال الترابط الأكيد بين الطقس والأسطورة. لا أسمّي المسرح الديني أو الطقوسي، من الناحية التاريخية مسرحاً حقيقياً لأنه لم يكن مقصوداً بذاته لأن يكون مسرحاً، بل شكلاً من أشكال الفعل أو شعيرة طقسية. ولذلك أضع كل ما سعينا من أجل فرزه من مسرح في وادي الرافدين، والشام، والنيل في خانة ما قبل المسرح أو الدراما الدينية وليست الدراما الدنيوية التي هي المسرح الحقيقي.

المسرح فن دنيوي وُلدَ عندما انفصل عن الرحم الديني للطقوس والشعائر الديونيزيّة في اليونان وأقام له خشبة خارج المعبد. وغير ذلك لا يسمى مسرح بالمعنى العلمي الدقيق للمصطلح. لكن هذا المسرح الوليد للتو من الطقوس، كُتبَ عن طريق النُظم الشعري ويحلو لي أن لا اسميه بالمسرح الشعري بل المسرح النُظمي، وقد ظل هكذا على 25 قرناً. وإذا كان الشعر قد وُلد بإطار ديني، فإن المسرح ولد بإطار شعري. وهذا يعني أن المسرح لم يكن حراً تماماً، بل كان مكبّلاً بالنظم الشعري الذي قد ينجح مرة لكنه يفشل كثيراً في تدفق الروح الدرامية وطرح مشكلات الواقع كما يجب. لقد أسر الشعر المنظوم روح المسرح وحبسه في سجون النظم والقافية والبلاغة والأوزان والاستعارات وغيرها. وكان حال المسرح هكذا في كل الحضارات القديمة والوسيطة، وعندما حلَّ العصر الحديث منذ عصر النهضة ظلّت الأمور كما هي عليه، رغم أن منجزات العصر الحديث كان تجري متسارعة في خلق مدنية غربية بعيدة عن الدين. وكتب شكسبير وراسين وغوته وفايمر وغيرهم المسرح من خلال الشعر. أي أن المسرح ظلَّ في سجون الشعر. وما أن جاء النرويجي ابسن حتى كتب النص المسرحي النثري، فأُعتبر إنجازه ثورة حقيقية بدأ بها تاريخ المسرح الحديث في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو العصر الذي بدأت فيه الحداثة أساساً. وهكذا أصبح المسرح نثرياً بالكامل وأصبح المسرح الشعري فرعاً صغيراً من فروع المسرح، وكان ذلك ضرورياً جداً لانعتاق المسرح من شكلانيات الشعر التي سجنته لأكثر من 2500 سنة.

ويبدو أن الشعر هو الآخر كان سجيناً تحت قضبان هذه الشكلانيات (الوزن، القافية، البلاغة، نبالة القصد، شرف المعنى، الاستعارات الباذخة،.. الخ) وقد بدأ تحرر الشعر في الفترة نفسها التي تحرر فيها المسرح من الشكلانيات الشعرية التقليدية، واستعان بالنثر أيضاً من أجل حداثةٍ شعريةٍ حقيقية، وكان ذلك أولاً على يد مجموعة من الشعراء الذين يسمون اليوم بـ (الرومنطيقيّين الهامشيّين) مهم ألوزيوس برتران، وألفونس راب، وموريس دو غيران، وإكزافييه فورنيريه ثم جاء دور بودلير الذي تأسست على يده حداثة الشعر وقصيدة النثر. وهكذا سار المسرح حراً ليكتشف ذاته، ولتكتب منذ ذلك الوقت وإلى الآن عشرات الآلاف من النصوص وبمختلف التيارات والألوان والمشارب كتبتها كل الشعوب الحية على وجه الأرض، وظهرت حقيقة المسرح في النثر لا في النظم. أما تاريخه النثري فلا يزيد عن قرن ونصف تقريباً، لكن هذا التاريخ النثري مشوب هو الآخر بالنثر العادي وبالواقعية الفجة. وفي المقابل اكتشف الشعر ذاته مع ظهور الحداثة، وما بعدها وظهرت حقيقة الشعر بعيدة عن تلك السجون التي جاءت، من وجهة نظري، من الرحم الديني الذي وُلدَ فيه الشعر.

وعندما حاول شعراء الغرب الحديثون، بعد ابسن، إعادة الشعر إلى المسرح وقع أغلبهم في الخطأ القديم، فكتبوا مسرحيات شعرية منظومة يصعب قبولها في كلِّ وقت وفي أي مكان، وكانت تبدو وكأنها مسرحيات مناسبات يجري كتابتها لأغراض شعرية معينة يُلمح فيها صدى التاريخ والأمجاد والمآسي وغيرها. ولم يكن هناك شيء من الواقع ومن الحساسية الشعرية الجديدة. ورغم المحاولات المهمة لأليوت، وجان كوكتو، وجورج شحادة (وهم شعراء) لكن (المسرح الشعري) ظل مشوباً بل وأقول ظل الشعر يستجدي المسرح ويقف على بابه دون فائدة. كان المفروض أن يدخل الشعر ثانية إلى المسرح ويحدث شيئاً كبيراً لكن الشعر، على ما يبدو، كان ما يزال مرتدياً ثياباً مريبةً منعت المسرح من فتح الأبواب. كان جورج شحادة يرى أن المسرح الحقيقي هو (المسرح الشعري) الذي يتم فيه نقل الشعر إلى المسرح. وهنا كاد جورج شحادة أن يلامس الحلّ، لكن نصوصه لم تكن هكذا بالضبط. كان على الشعر أن يكون عارياً تماماً ليدخل إلى المسرح، كان عليه أن يكون على شكل شحنةٍ أول مصل أو كهرباء، ليأخذ دوراً جديداً في إنعاش المسرح من جديد.

ورغم أن ثائرين عظام مثل صاموئيل بيكت، وأوجين يونسكو، وأرتور آدامو، وفرناندو أربال، وحتى بيراندلو قد أعطوا شحنة شعرية للمسرح، دون أن يستعملوا السياق الشعري، لكن الأمر لم يكتمل، وكان يحتاج دائماً إلى مغامرة أكبر.

وفي عالمنا العربي كان الحال أسوأ بكثير، فقد ظهر جيلان من الشعراء في القرن العشرين كتبوا للـ (مسرح الشعري)، لكنهم وقعوا مباشرة في المشكلة ذاتها، فقد كانت تجارب أحمد شوقي، وباكثير، وعزيز أباظة، وخالد الشواف قد ازدحمت بالنمط العمودي من الشعر الذي لم يقدم مسرحاً شعرياًٍ مقبولاً بل جعلت المسرح الشعري نمطياً ويصعب استمراره على ما هو عليه. وبعد ظهور شعر التفعيلة تقدم جيل آخر من الشعراء العرب مثل صلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومعين بسيسو، وعز الدين اسماعيل، ومحمد الفيتوري، وعلي كنعان، ومعد الجبوري، ومحمد علي الخفاجي وقدموا مسرحاً شعرياً نمطياً هو الآخر.

لقد بقي الإنجاز النوعي في الشعر العربي، والذي حصل عبر قصيدة النثر والنص المفتوح، بعيداً عن المساهمة في ظهور مسرح شعري عربي حديث. لقد آن الأوان لأن نحرر المسرح بالنثر المشحون شعرياً من ترهات النظم الشعري والنثر العادي. وهذا غاية ما يسعى إليه هذا البيان الذي يريد أن يدق جرس الإنذار لنهاية علاقة مرتبطة بين الشعر والمسرح وبداية علاقة جديدة بينهما. 

محوران أم ثلاثة؟؟
وضع علماء الدراسات الإنسانية اللغة والكتابة الإبداعية في محورين أساسيين هما المحور الأفقي الزمني (السنكروني synchronic) وهو المحور السردي الذي تقع فيه كل أنواع السرد من الحكاية والقصة والرواية والسيرة وغيرها. وما يميز هذا المحور هو أن الوحدات الزمنية تمتد أفقياً في تتابع زمني متتالي في الزمان ينتج عنه سرداً متتابعاً للحدث. وكأن هذا المحور يبدو معنياً بالزمان وبالجماعة فهو محور موضوعي.

أما المحور الثاني فهو المحور العمودي التكراري الدايكروني dichronic وهو المحور الشعري الذي تقع فيه كل أنواع الشعر الغنائي تحديداً، وما يميز هذا المحور هو أن الوحدات الزمنية فيه (من الناحية النظرية) جامدة فهي لا تتوالي، لأنه وصف العاطفة والوجدان والذهن والروح والمطلق، ولذلك فهو يعمتد على التكرار بحيث أن وحداته تُستبدل أو يتم تكرارها بأوجه مختلفة، ولا نرى فيها امتداداً متتابعاً في الزمن. أنه فن المكان الثابت الذي تتبدل فيه الأشياء والحاجات، ولذلك يعبر هذا المحور عن المكان وعن الفرد فهو محور ذاتي. وبطبيعة الحال لا يوجد سرد خالص أو شعر خالص لأنه لا بد من وجود ما يحيل إلى الشعر في السرد أو ما يحيل إلى السرد في الشعر بحكم طبيعة اللغة. فاللغة ليست كلها أفعالاً حتى تكون سرداً كما أنها ليست كلها أسماء حتى تكون شعراً. ولكن هناك مقياس ضمني لاعتبار السرد سرداً والشعر شعراً، لكن السرد عندما ينفرج بزاوية ويتجه نحو الشعر فإنه لا يستطيع أن يتعدى الحدود، وكذلك الشعر رغم أن السرد فعلها وكذلك الشعر ولكن الحدود ظلت واضحة.

هذان المحوران هما الأساس في الدراسات النقدية والألسنية الحديثة (انظر الشكل). لكننا وجدنا أن هناك محوراً ثالثا يكون بينهما، ويجمع صفتي السرد والشعر، ويضيف لهما عنصراً آخر هو الصراع، ويمكننا أن نطلق على هذا المحور القطري (الدايغنولي) اسم الدراما فهي تختلف نوعياً عن السرد والشعر، ولكنها تحملهما معاً في تفاعل حيٍّ ومخصب. والدراما تتجسد في الفعل أولاً لكنها يمكن أن تتجسد في النص أيضاً.

ورغم أن لقاء الشعر بالسرد كون لنا سابقاً ما يعرف بالسرد الشعري أو الشعر السردي وهو (الملحمة). ورغم أن النص المفتوح في عصرنا هذا ينتمي إلى نوع من اللقاء بين السرد والشعر لكن النص المفتوح لم يكن لقاءاً بين الشعر والسرد فقط، بل بين كل أنواع الكتابة والفنون، فهو أوسع مدىً من لقاء كهذا رغم أن توصيفه الكتابي يقع بين الشعر والسرد، ويتطابق مع الفرضية النظرية القادمة التي سنصف بها الدراما، ولذلك فسيكون النص المفتوح حاسماً في إعادة فهم الدراما كما سنرى. نرى أن المحور الثالث بين السرد والشعر هو (الدراما) والنص المسرحي تحديداً، لأن هذا المحور يتمثل بالمحور القطري التصاعدي (Diagnoal) الذي يقع بين محوري السرد والشعر. وهذا المحور يعبر عن الإنسان وصراعه مع التراتب الزمني (السردي) ومع التكرار (المكاني) الشعري، فهو محور معني بالصراع بين الذات والجماعة، سلباً وإيجاباً، إنه صراع الإنسان مع الزمان والمكان، وما ينتج عن ذلك هو الدراما البشرية في وجودها التاريخي على الأرض. 

لكن الدراما لا تتجسد، مبدئياً، في الكلام أو الكتابة فقط فاسمها Drama مشتق من كلمة درامينون Dramenon اليونانية والتي تعني (عمل شيء ما)، أما المعنى الاصطلاحي للدراما فتعني الصراع وتصاعد الأحداث نحو ذروة معينة. إن الدراما هي ببساطة (سرد شعري عن طريق الصراع)، ويمكن أن يكون هذا أقرب وابسط تعريف لها. وهي هكذا فعلاً، فالوحدات السردية الزمنية فيها ليست متتابعة تماماً. لأن الدراما تحتوي على وحدة سردية تتلوها وحدة شعرية ثم سردية وهكذا (هذا هو الشكل النموذجي لوحدات الدراما). وتترابط وحدات السرد والشعر في الدراما بطريقة صراعية خلاّقة، ينتج عنها هذا التأثير الواضح في المتلقي.

وإذا أضفنا إلى ذلك كون الدراما ليست نصاً لغوياً أو مكتوباً هي فعل وتجسيد ينتج عن ذلك، أن الدراما تكون قد جمعت السرد والشعر وحولتهما إلى فعل على الأرض يشاهده المتلقي مباشرة. في حين يستحيل عمل ذلك مع السرد أو الشعر لوحدهما. الدراما تحتوي السرد والشعر معاً وتختلف عنهما في الوقت نفسه، لأنها تسعى نحو سرد مشحون بالشعر (عن طريق الانفعال) أو نحو شعر يسعى نحو السرد (عن طريق الحوار) وهكذا الدراما تحمل شحنة نوعية قادمة من جماليات الشعر والسرد معاً، ومصاغة نوعياً ًفي صراع خلاّق عن طريق الفعل. 

1. شعرية النص
لعل من الخطورة بمكان أن يقدم الشاعر على الكتابة للمسرح، فالفشل شبه محتم في خطوته هذه، وسيبقى عمله بعيداً عن التنفيذ والإخراج. ولا شك أن هناك ما ينِّفر المخرجين فيه بحيث يعزفون عن محاولة إخراجية. وفي ظني أن هذا الموضوع لم يُنَاقش بصورة جدية ولم تُشَخص الأسباب الحقيقية وراءه.

وأرى أن فشل الشعراء في كتابة أعمال مسرحية حقيقية يكمن في النقاط (الحقائق) الآتية:

1 ـ أن الشعراء لا يتنازلون عن شروطهم الخاصة بالقصيدة لصالح شروط جديدة خاصة بالمسرحية.

2 ـ أنهم يعتمدون على النظم الشعري (الموزون أو الموقّّّع) وبذلك يخلقون رتابةً إيقاعية تجعل المشاهد يملُّ منها عند تكرارها.

3 ـ يلجأ أغلب الشعراء الذين يكتبون للمسرح إلى موضوعات تاريخية أو دينية أو ربما فلسفية، ويتركون ما يمور به الواقع من أحداث يومية ساخنة لأسباب كثيرة منها أن البنية الشعرية الإيقاعية يصعب عليها استيعاب مشكلات الواقع، في حين يسهل عليها استيعاب مشكلات التاريخ، ثم أن التصور القديم للربط بين الشعر والمسرح يظل في الذهن وأغلبه يدور في الماضي والتاريخ وغير ذلك.

4 ـ الكثير منهم لا يعتني بالصراع والدراما، ويستعيض عنها باللغة والاستعارة الشعرية، وهو ما يحول (الفعل الدرامي) إلى (السطح اللغوي) دون أن يذهب بعيداً في فهم الصراع الفعلي.

5 ـ البنية الشعرية والبنية الدرامية تسيران متوازيتين في العمل المسرحي وبينهما مسافة تخلقها طبيعة كلٌّ من الشعر (التقليدي) والمسرح أو بين الكلمة والفعل، دون أن يتداخلا مع بعضهما في عناق حقيقي للكلمة مع الفعل.

6 ـ عدم جدية الشعراء في البحث عن أسرار المسرح، وترفّعهم عن النزول إلى أعماق الحرفة المسرحية وفهم طبيعتها وحقيقتها وأبعادها وتلك التفاصيل الصغيرة المهمة في عمل المسرح، والإكتفاء بفهم بسيط (شبه متداول) عن المسرح وحقيقته، فضلاً عن عدم الدراية بما آلت إليه تيارات المسرح ومدارسه في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

7 ـ عدم القدرة على الفصل بين إيقاع الأدب والفن في عصر الحداثة (1868 ـ 1945) وعصر ما بعد الحداثة (1945 ـ  لحد الآن)، وعدم قدرتهم على تمثل الفروق بين هاتين المرحلتين في نصوصهم والامتثال للمتغيرات الجذرية في الحياة والفن، والاكتفاء بالإصغاء إلى الوجدان فقط (وهو أمر مطلوب تماماً) لكن الجهل بما يجري يفسد طريقة الأداء. ويبدو الحال شديد التعقيد عن البحث في العلاقة بين الشعر والمسرح في هذا المجال وهو ما لا يُجهد الشعراء أنفسهم البحث فيه.

8 ـ اللجوء للطريقة اللصقية (الكولاجية) بين الشعر والمسرح حتى لتبدو أنها عملية شكلية لا يذوب فيه الشعر داخل المسرح، أو المسرح داخل الشعر، بل لا تتعدى الصناعة الخارجية الواهية.

9 ـ قصور الفهم في تقنيات الممثل والمخرج وفي التقنيات المسرحية التفصيلية كالسينوغرافيا والإضاءة والديكور وغيرها.

10 ـ على الشاعر أن يدخل متواضعاً إلى عالم المسرح، ويجلس مستمعاً مصغياً ليتعلم واحداً من أعظم فنون البشرية، وعليه وفق هذا أن يكتب بحميمية الجو المسرحي وبأدواته ووسائله، وأن يعيش المسرح من أعماقه لكي يكتب نصاً حقيقياً قريباً من المسرح لا من الأدب.

وعلى الشاعر أن يعرف بأن النص المسرحي هو واحد من أربعة نصوص تظهر تباعاً وهي نص الممثل ونص المخرج ونص المتفرج، ولكل واحد من هذه النصوص طريقة كتابة وفهم وتأويل، وقد يكون نصّ المؤلف أولها ولكنه ليس أهمها بالضرورة. إن شعرية النص في المسرح الشعري الحديث تتخلى عن العضلات الصوتية والبلاغية والإيقاعية لصالح الإلماح والتركيز والإيجاز والصورة وبلاغة المعنى. والحقيقة أن كل هذه المنجزات تحققت اليوم في قصيدة النثر وفي النص الشعري المفتوح، فلماذا لا يكون أساس المسرح الشعري الحديث (أو ما بعد الحداثي) أو المسرح الشعري البعدي هو في هذين النمطين الشعريين اللذين ما زالا بعيدين عن التعامل مع المسرح. لقد جربنا في عقد التسعينات من القرن المنصرم استخدام قصيدة النثر في أكثر من عمل مسرحي مثل (حفلة الماس، أنيما، قيامة شهرزاد) وكان نصيبها من النجاح وافراً، إذ كان المتلقي يشعر بالشعرية وهي تتسرب داخل نسيج المسرحية دون الحاجة إلى إلقاء شعري أو نظم شعري فالشعرية في الحوار وفي المعنى وفي الانتباهات المدهشة والغامضة وليس في القرع الوزني والبلاغة الطنانة والنظم. كذلك حاولنا أن نستثمر النص المفتوح في أكثر من عمل مسرحي مثل (هاملت بلا هاملت، سيدرا، نزول عشتار، تموز في الأعالي) وهي مسرحيات ذات طابع مفتوح من حيث النص، وهناك تجارب جديدة. ودليلنا على أن الشعر لم يكن في هذين النمطين شعراً محسوساً عبر أدوات الشعر التقليدية، أنه لم يصنف أحد هذه النصوص على أنها تنتمي للمسرح الشعري، وهذا هو سر نجاح هذه النصوص لأنها سربت الشعرية دون أن تقع في المسرح الشعري المتعارف عليه وهو ما لم ينتبه له أحد. وكان يشكل حيرة وسؤالاً للكثيرين. إن شعرية النص عبر استثمار قصيدة النثر أو النص المفتوح يتلخص في الاقتصاد اللغوي والتلميح والتكثيف والصورة وعمق المعنى وفي اللمسة الشعرية الخفيّة. 

2. شعرية الممثل
المسرح الشعري الحديث يرفع الممثل إلى مستوى الشاعر والمفكر، ويحفزه من هذا المقام على إعادة انتاج فنون الجسد الدرامية من المايم والبانتومايم والبيوميكانيك والكورغراف وفق آلية جديدة تنسجمُ مع المزيد من حرصه على الاقتصاد والتركيز في الحركة. ولعل أنسب وسيلة للوصول إلى هذه الغاية هو اهتداء الممثل إلى الفنون العرفانية الكبرى كالتصوف واليوغا، ففيهما منبع عطاء كبير لجعل الممثل أكثر شاعرية وأكثر عمقاً.

لا تتحقق شعرية الممثل من خلال اللغة والكلمات بل من خلال الطاقة التي يطلقها جسد الممثل والتي تتحرر بالتركيز الروحي والحسي، وربما يكون العرفان المسرحي أهم وسيلة لإطلاقها. يكاد الممثل يتقدم على النص والإخراج في المسرح ما بعد الحداثي، فقد تقدمت فنون الجسد لتحل محل الكلمة المنطوقة والنص الأدبي، وهذا يعني أن شعرية الممثل لا تجسدها أصوات اللغة بل تجسدها حركات الجسد، ويمكن في هذا الصدد الاستفادة من حركة أجساد الحيوانات وطريقتها في الفعاليات اليومية كالمشي والطعام والجنس والهرب والخوف والهجوم، ففي هذه الحركات تكمن طرائق غير مستنفذة وجديدة يمكنها أن تعطي العمل المسرحي لوناً خاصاً، مثل حركة جسد الأفعى والحلزون والنمل والكلب والقطة وغيرها.

وربما كان جاك ليكوك هو أكثر المخرجين المعاصرين الذين وضعوا أسساً عميقة لشعرية الجسد، فهو الذي أظهر أدق تفاصيل الحركة المتقنة والمدروسة لأدق تفاصيل الجسد ومنها الوجه والأصابع والعضلات، واهتم بتجريد المايم وبلاغة الحركة ومسرح ألعاب الرياضة. ويرى جاك ليكوك أن المسرحية مكونة من أربعة نصوص هي نص المؤلف ونص الممثل ونص المخرج ونص المتلقي، وهو يعتبر أن الجسد هو نقطة الميزانسين الحقيقة. من كل هذا نرى أن شعرية الجسد لا تتحقق ببساطة بل من خلال التمرين المستمر القائم على أصول جديدة في استنباط قوة وروح وحركة الجسد والمخفي منه بشكل خاص. لقد كان ليكوك يرى ضرورة كتابة نص جسدي مرافق لنص المؤلف ونص المخرج، وكان يرى أن تنفيذ هذا النص يجري من خلال تدريبات طويلة خارج الخشبة ثم داخلها ثم إطلاق الخيال الحركي لجسد الممثل بعد اكتمال البروفات الأولى. وقد ضمت مدرسة ليكوك مجموعة من المسرحيين المتميزين منهم أريان منوشكين صاحبة مسرح الشمس وفيليب أفرون ومارثالير وشانز وأتياس وبوندي وياسمينة رضا، والذين طوروا تقنيات الجسد وأنتجوا نمطاً جديداً من العروض المسرحية. 

3. شعرية العرض والإخراج
كان جاك كوبو قد انتبه إلى أن تاريخ المسرح الذي بين أيدينا هو تاريخ مزيف لأنه تاريخ نصوص ودراسات، بينما تشكل العروض المسرحية التاريخ الحقيقي للمسرح، ولأن هذه العروض قد محاها الزمن، حتى تلك التي أنقذتها بعض العدسات والكاميرات، لذلك يبقى تاريخ العروض المسرحية شبه غائب في تاريخ المسرح. العرض هو المسرح وجوهر العرض هو الممثل (وقد ناقشنا دوره) لكن الممثل هنا هو الروح المتحركة للمنظر المسرحي والذي يحرك العرض على امتداد وقته. لقد ركزت الدراسات والآراء الشائعة على مرجعيات تقع خارج المسرح، مثل الواقع والحقيقة والتاريخ والأيديولوجيا، وكان ذلك يغمط حقيقة العرض المسرحي كعرض دراماتورجي أولاً وقبل كل شيء، وهذا يعني أن أدوات فحص ونقد ودراسة المسرح كانت تتم بأدوات أدبية وسياسية، وليس بأدوات مسرحية وهذا هو السبب الأول في تخلف المسرح وقصوره. يأتي المخرجون أيضاً، في الغالب، من مشارب سياسية وأيديولوجية وثقافية عامة، ولا يأتون من مشرب جمالي درامي خالص، وهو ما يجعلهم يقعون في الفخاخ الغبية والجاهزة لاصطيادهم، وهكذا يبقى الإنشاء الجمالي للعرض بعيداً عنهم وربما لا يفكرون به أساساً. إن الإنشاء الجمالي للعرض هو أول مهمة للمخرج ويساعده فيها مصمم السينوغرافيا، ثم تعمل التقنيات الجمالية من إضاءة وأزياء وموسيقى وأشياء أخرى على الترافق مع عرض ناجح. وهكذا يكون البناء الدرامي والجمالي والشعري للعرض المسرحي من مهام المخرج المسرحي، حيث يتم ذلك عبر إحكام الصراع الدرامي، وعبر إعلاٍء التقنيات الجمالية، وعبر بث الروح الشعري في كل زاوية من المسرح بدءاً من لمسات العرض إلى الممثل إلى كل التفاصيل الصغيرة. 

4. شعرية السينوغرافيا
لعل السينوغرافيا هي الأكثر استجابة للثورة الشعرية العميقة، حيث يمكن أن تُشحن بالصور الضوئية والمادية المثيرة التي تجمع بين الشعرية البصرية التشكيلية والشعرية الوجدانية. يمكن للسينوغرافيا الرجوع إلى منجزات الفن التشكيلي الحديث والتمثل بها، مثلما يمكنها استعمال هذه المنجزات في تشكيل مسرىً لا ينقطع من الصور والظلال الشعرية التي تلامس بل وتغوص في الوجدان. شعرية السينوغرافيا يمكنها أن تثير الخارق والجميل والمدهش وتحكم بناءَه، ويمكنها أن تفك الحواجز بين الشعور واللاشعور وتدع المسرى المذهل للرموز والإشارات والصور الوجدانية العميقة للفرد وللجماعة.

إن شعرية السينوغرافيا تتخطى الواقع وتمزجه مع الخيال والأعماق... وكذلك تتحقق في جماليات الخطوط والكتل والألوان والحركات والإشارات والرموز. يمكن لشعرية السينوغرافيا البعدية استثمار المنجزات الرقمية التي تحققها الشبكة العنكبوتية ومجال استخدامات الحاسوب، خصوصاً أن الحروف والكتابات الضوئية والصور والأفلام يمكنها أن تعطينا الكثير في هذا المجال خصوصاً... توازن الجوانب التناظرية مع الجوانب الرقمية وهو ما يلبي حاجة العقل والروح إلى الإشباع الحقيقي. إن قسمي الدماغ البشري اليمين واليسار يتحكمان بالجانبين التناظري والرقمي وتكون مسألة إشباعهما ضرورية في حال تقديم السينوغرافيا وهي في وضعي التناظر والرقمية ليتم الجمع بين الصورة والفكرة بطريقة متوازنة. ولعل أهم أشكال الشعرية السينوغرافية هي في إعطاء اللمسة الطقسية الغامضة في العرض المسرحي وتوزيع الصور في الفراغ وإحداث إيقاع صوري عميق. 

5. شعرية الفونوغرافيا
عندما يستلم المشاهد أو المتلقي العرض المسرحي، فأن أهم حاستين تعملان لديه، من أجل الاتصال والتذوق، هما حاسة البصر وحاسة السمع، وسيكون دور الحواس الأخرى الثلاث ثانوياً.

وإذا كانت السينوغرافيا متكفلة بتوصيل وإشباع وتذوق العينين، فإن الفونوغرافيا (وهو مصطلح ننحته نبتكره هنا ونضعه كمصطلح مرادف للفضاء السمعي للعمل المسرحي) سيكون كفيلاً بالاتصال والتذوق والإشباع للأذنين وللسمع. الفونوغرافيا (Phonographia) هو مصطلح مكون من مقطعين هما (فونو= صوت وغرافيا=تشكيل) ويعني حرفياً تشكيل الصوت، لكن معناه الاصطلاحي يعني الفضاء الصوتي للعمل المسرحي أو التخطيط للصوت، والذي يشمل اللغة والموسيقى والمؤثرات الصوتية وأصوات الموجودات والأشياء الأخرى. ويقينا إن وظائفه تُدغم وظائف السينوغرافيا، لكننا، الآن، نجد ضرورة فصلهما ووضع الفونوغرافيا موضعاً خاصاً والبحث في ما يوسع مدياتها وكيانها.

إن شاعرية الفونوغرافيا تتجسد في أصوات لغة الممثل الدالة العميقة الموحية المختصرة المكثفة، وليس في الثرثرة والإطناب الصوتي والإيقاعي المبالغ به. وتختلف طبقات الأصوات المؤثرة من وضع لآخر، ومن حالة إلى أخرى، مثلما تختلف أصوات النساء والرجال والأطفال والشيوخ في تشكيلها وطبقاتها. أما شاعرية الموسيقى فيجب أن تتناسب مع طبيعة العمل المسرحي، وطبيعة الحالة الدالة عليها، ويمكن أن تكون الموسيقى حية داخل العمل إذا تطلب الموقف ذلك، كذلك يتوجب علينا استخدام الآلات المفردة أو الأوركسترا الصغيرة أو الكبيرة. ومثل هذا يصح مع المؤثرات الصوتية وأصوات الموجودات والأشياء، وهي تنسجم بينها ومع العمل المسرحي وتؤدي دورها بشكل مبدع. المسرح الشعري الحديث إذن هو كل هذا الحشد مجتمعاً في شعرية منسجمة وعميقة (النص، المخرج، الممثل، السينوغرافيا، الفونوغرافيا)، لأن شعرية هذه الأركان الخمسة وليس شعرية النص فقط، هي التي تجعل من المسرح الشعري الحديث حديثاً حقاً. أما إذا بقينا في التصور الباهت القديم للمسرح الشعري التقليدي الخاص بالنص والمقيد بالنظم، فأننا لن نحصل على أية نتيجة جديدة ولن يكون وفاؤنا للمسرح الشعري في مكانه، لأننا سنكرس الصورة النمطية التقليدية التي يعزف عنها المخرج المسرحي الحديث والمتلقي المسرحي الحديث أيضاً، وسيكون من الوفاء للشعر والمسرح معاً إذا نحن بدلّنا تصوراتنا عن الربط فيما بينهما بطريقة جديدة.

أن هذا البيان المسرحي الشعري، هو للفت انتباه المعنيين بالحقلين معاً من أجل تقديم أعمال جديدة لا يكون فيه الشعر شعراً فقط، بل يتحول إلى دراما حقيقية ولا يعود فيها المسرح مسرحاً فقط، بل يتحول إلى شعر حقيقي وملموس. ونحن على ثقة كاملة بأننا بهذا الإجراء سنفتتح بابا جديداً للمسرح، لأننا سنهيئوه لولادة جديدة، غير قيصرية، من رحم الشعر وهو الشعر بمعناه الحقيقي والعميق. وكذلك تتعزز ثقتنا بأن مثل هذا التحول سيعود بجدواه على الشعر نفسه، حيث ستظهر فيه ألوان وخطوط وشحنات جديدة مختلفة من الدراما، وبذلك سينتعشان المسرح والشعر معاً.

وإذا أردنا الإجمال في هذا المنحى فسنقول أن شعرية المسرح ليس في النص الشعري المسرحي، بل في أكثر من اتجاه، وهي من حيث الطبقات ستكون في المستوى الصوتي عبر فونوغرافيا شعرية مدروسة، وفي المستوى الدلالي عبر سينوغرافيا شعرية مدروسة، وفي المستوى الدلالي عبر سيموغرافيا شعرية مدروسة توفر المعنى العميق للعمل. وأن اتحاد وتخاصب هذه المستويات الثلاثة هو الذي يقدم لنا ذلك الهارموني الوجودي العميق في الشعري والدرامي والحياتي، والذي سيشيع جواً إبداعياً عميقاً ينقل المتلقي إلى حالة جديدة من الجمال والوعي والثقافة. لقد ولد المسرح الدرامي منذ زمن بعيد ووضع أرسطو القواعد الأساسية له، وفي زمن الحداثة ولد المسرح الملحمي على يد الألماني برخت ووضع هو وتلامذته قواعده، ونرى اليوم أن ولادة المسرح الشعري أصبحت ضرورة أساسية بالمعنى العميق لكلمة شعري في هذا العصر المابعدي.

المسرح الشعري الحديث هو المسرح الحقيقي الذي لا يمكن أن يُصنف كفرعٍ أو تنويع صغير ضمن الأنواع المسرحية، بل هو المسرح ابتداءً، لأنه يقف بالضد من كلِّ السطحية والعادية التي غمرت المسرح وأغرقته بالأخطاء.