في نصه المُهدى إلى محمود درويش ضمن احتفاء (الكلمة) بذكراه، يلتفت الباحث المغربي لمرآة ذاته يسائل جوهر الكتابة، كفعل كلام وإدراكٍ لوجود المفرد رغم أنواء الحدثان والسنين. لعل معرفة الزوال هي ما جعلت الذاكرة تولد وهي تنفلت وتتعرى على مدارج سرد تتعدد فيه التحولات.

الكتابة ووعي الوعي

سعيد بوخليط

(إلى روح محمود درويش) 

لا شك أن أعمق ارتجاج تحدثه الكتابة، تقويضها السهل وبجرة قلم، لكل أطروحات متون أقسام الحالة المدنية، وكذا بداهات الكائن المجتمعي الخيميائي القابل للانصهار والذوبان، وأخذ شتى صور التنميط والتحديد. ترسم، الكتابة تاريخاً للمرء، بين ما قبلها وما بعدها. فهل، نجازف إذن بالاستفسار: أي مصير محتمل لبيولوجية الثورة داخل مجتمع يشتغل جلّ أفراده بالكتابة وعلى الكتابة، ويرفضون عن هذا التقسيم للعمل بديلاً؟

يتحرر المرء بالكتابة، وهي تطويه إلى أبد الآبدين، حيث يهزم القدر والسلطة المكان ثم يسكن ذاته، وقد تمثل أقصى ممكناتها  

كنت طفلاً مدرسياً، بالمعنى المؤسساتي للكلمة، أواظب على مواعيدي دون أن أحشر نفسي في أي شيء، أهم قضية في رأسي الهرولة نحو حضن أمي عند انتهاء كل موسم دراسي، وأنا ألوح بورقة تزخرفها خربشات المدرسين، تطمئن أمي على أنني مهيأ جداً لمرحلة البحث عن الكلأ في أقاصي هذه الصحراء التي تقبض مصائرنا. قد ألتقي علي بابا ذات صبيحة وينقلني بسرعة البرق إلى دهاليز خزائنه. هكذا، ظلت المدرسة سكينة، وطمأنينة وحلماً جميلاً. لكن بالأخص حفظنا عن ظهرقلب ما معنى أن تدق فصول التنوير في بلدان العالم السفلي. 

أذكر بالضبط وبالضبط، أختي، انتفاضة 1984، كمال، خالي، كتاب الأسبوع، موسم الهجرة إلى الشمال، شرق المتوسط، تعلقي الشبقي بعطر رجاء ولا أظن بأنني كنت أحبها، أدبيات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وأكشاك الجرائد التي التجات إليها وأنا طفل طلباً لقروش أمد بها أمي، ثم ألتهم ما استطعت من أخبار السياسة وصور الزعماء.

يصعب، مع حجم هذه الورقة، تفتيت مختلف دقائق تلك المولدات، وإلا فإن الأمر يحتاج لصفحات طويلة. لكن احتراماً للذاكرة، وسؤال الكتابة، فإنني كلما توجهت لزيارة جدتي، أجد أختي التي كانت تعيش معها آنذاك، وهي تحلق شرقاً وغرباً بشغف ولذة حالميتين، صفحات من أساطير جورجي زيدان، أو حكايا الروس، حيث تعرفت على تولستوي، دوستويفسكي، غوركي، تورجنيف، وبوشكين... ومن خلالهم "الحرب والسلم"، "الأبله"، "آنا كارنينا"، "الجريمة والعقاب"... 

كان الأمر، بالنسبة إليّ ولادة جديدة، أدركت يومها بأن العالم مفرط في التعقد. يتجاوز بكثير، ما اعتقدته وزملائي تحت وابل صفعات المدرسين. تلبسني اليوم، على الرغم من ذلك، نوستالجيا إلى جلسات مدرسة حيّنا. كل واحد منا، يأتي للمدرس بشيء ما، نريده أن يرضى عنا ولا تفارق البسمة محياه، وإلا فأن أقلّ تضليل لحركة إعرابية أو التشويش على سلامة معادلة رياضية، قد تحول خريطة أجدادك الأولين إلى غبار وحفنة رماد. هذا يقدم تفاحة، والآخر برتقالة، وذاك قطعة خبز من القمح الطري صنعته الأم بعناية فائقة. أما، الفتيات فيكفيهن أن تفوح من شعرهن رائحة الثوم أو القطران. وحينما، يكتب المعلم على السبورة بنوع من الشبقية المضمرة، عبارته الشهيرة: "رأيت وردة ترقص في الحفل"، يجدر بأجملهن النهوض بسرعة وأن تكشف دون تغنج عن المكونات البلاغية، بحيث تتحول إذا كان جوابها صحيحاً، إلى موضوع تغزل ماجن، يستحسن به المدرس حذقها ونباهتها.

-"اجلسي أديك البطيبطة" ثم يفرط "التفيفيحة، الكريميسة، البينينة، الفنيدة،..."

وهكذا دواليك. وإذا، انفلتت قهقهة للواحد منا، قد يرجع يومها إلى بيته، في غنى عن بعض أعضائه الآدمية. 

لست أدري راهناً، هل كان من الضروري أن أتعرف على كمال، الصديق البوهيمي، الذي اشتهر بين مجموعتنا، إضافة إلى ذكائه، بسعة اطلاعه على جوانب عتيدة من الآداب العالمية. من يقدر، وهو في مقتبل العمر، على تحمل عذابات كافكا وبيكيت وكامو ويونسكو...

عاش كمال في خصام دائم مع أبيه، يترك البيت لفترات طويلة، يتسكع بين جنان وبساتين مراكش يوم انتمت مراكش حقاً لأبنائها وإذا ابتسم له الحظ يلتقطه أحد أبناء الجيران كي ينام عنده خلسة ليلة واحدة لا غير، دون دخان أو كلام، ومع أول خيط للصباح يتسلل خارجاً كقط جائع. اكتشفت مع كمال، عبثية الوجود، لكن على المرء أن يستميت في الدفاع عن حريته. فمثل ذلك لي، عزاء حقيقياً وحصناً متيناً، حيال كل أوجه المكر والخداع والضغينة والعدوانية، ثم يوميات الواقع وهي تطحننا بلا رأفة ولا رحمة. اختفى كمال إلى الأبد، انقطعت أخباره، ربما مات أو أصابه الجنون. كثير من أصدقائي انتهوا إلى مصير سيء للغاية. وأنت جسد صغير، يستحيل إنهاء المشهد حتى آخر متوالية منه، ورأسك تتزاحمه الحياة، الواقع، القائم، الممكن، الأنا والأنت... 

أترك أختي متوحدة بعوالمها الحكائية، وأصعد بحركة رياضية نحو الطابق العلوي للمنزل، وبالضبط الغرفة الشهيرة 3x3، حيث خالي في عراك دائم مع أشيائه وهو يبحث عن أفضل الأسطوانات بهاء وصحة، كي ندمن لساعات طويلة في اليوم صوت الثوار والشعب، والشعب والفلاح والعامل والحرية... بالطبع، في ذلك الزمان، إذا افتضح المتلصصون هويات الشيخ إمام، أحمد قعبور، مارسيل خليفة، سعيد المغربي...، فسيتم انتشالك بسرعة البرق إلى غياهب الجحيم. لذلك، كان يفترض منا، ونحن نستعذب بحماسة الحياة الجديدة، ترقب تموجات الصوت، تجنباً لحدوث ما لا تحمد عقباه. لازلت، أستحضر بخشوع الحس الإنساني الباذخ لنصوص اللعبي، وهو يكتب إلى كل العالم بجلده وحواسه، ظلمات وغياهب ما تصنعه الهمجية بنا، في أية لحظة من اللحظات، إذا أضعنا الإنسان، ثم توقف على أن يمكث إلى اللانهائي قضيتنا الأولى. إذن، في عمق الغرفة 3x3، فهمت لماذا يولد الإنسان بين الألم والدماء، بقدر كون العالم ليس تلك الهدية المجانيّة. 

تغيرت مؤشرات القراءة عندي، ثم صرت أكثر انتقائية وإلحاحيّة. لم يعد، جائزاً حينما انفتحت أمامي عوالم الحقيقة، أن يغريني أي مصنف أو تضحك على جثتي نصوص اللغو والثرثرة الزائدة. أحسست بنضجي حد العماء، في كثير من الأحيان. هل يجب فقط معانقة أدب القضايا والأسئلة الكبيرة؟؟ فأخضع المبدعين لمحكمة الضمير والحقيقة والقيم؟؟ أشتاق كلياً إلى استعادة السكينة ذاتها، وأنا أقرأ لأول مرة: صنع الله إبراهيم، عبد الرحمان منيف، غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، جورج أورويل...

مقارنة مع الوضع الحالي لمراكش، كانت فضاءاتها زاخرة بمجموعة مكتبات توفر للمهتمين من أبناء المدينة، مختلف الإنتاجات العلمية والمعرفية، وإن كانت الأثمنة تتعالى بجفاء أمام ضيق جيوبنا المقفرة. لقد كنت بالكاد، أحارب مع أسرتي الشقية من أجل توفير لقمة اليوم المعلوم، بينما الغد يتكفل به عبث آخر يحدث صدفة أم لا؟ الأمر رهين بحظي. وحدها الصدفة صنعت صنيعها فوضعت أحد الأفراد في طريقي، سيرشدني إلى طريق سحرية سأتمكن معها من الحصول على الكتب بطريقة ميسرة، دونما حاجة إلى فلس. يلزمني فقط الحصول على بطاقة الانخراط من موظف يشتغل بمؤسسة تسمى"الخزانة البلدية"، فأتمكن مع هذا الوضع الجديد من استعارة كتابين لمدة 15 يوماً. بالفعل، شكلت هاته الوسيلة نقلة نوعيّة في مسار علاقاتي بالقراءة والمعرفة والكتابة. لا أعرف ماذا فعلت الحياة بهؤلاء الموظفين الطيبين: الشريف، السي عبد الرحيم، السي عبد الصادق، السي عادل... خاصة الشريف كان خدوماً ورؤوفاً إلى جانب كونه وثيقة يلتهم بدينامية هائلة، كل عناوين ومحتويات الخزانة، لاسيما ما ارتبط منها بالثقافة العربية والمغربية. ينبعث مني الآن، ضحك هستيري، وأنا أستعيد حالات الضجر الناتجة عن العقبة الكأداء التي مثلها مقدم الحي عند بداية كل سنة دراسية جديدة، فللحصول ثانية على بطاقة عضوية الخزانة، يلزم الإدلاء بشهادة حديثة العهد تثبت عنوان ومحل سكناي. والحالة هاته، يتحتم علي الاستعداد لتعقب آثار صاحب الصلاحية لأسابيع عديدة، مادام يستحيل لقاءه في مقر خاضع لإحداثيات المدينة. بل، وإذا قدر الله لي التملي بطلعته البهية، فإن قضيتي تزداد تعقدا، إذا أخبرته بوظيفتي ودواعي زيارتي!!! 

لا شك أن الكتابة وهي تبحث عن شهادة ميلاد مشروعة، تضع ذاتها بشكل من الأشكال ضمن خانة وتصنيف محددين. هكذا، تمنح حيزها مساحة من التروي والتأمل، يخفف من وطأة "الارتياب" اتجاه ما يلتصق بالكتابة على سبيل التبخيس، من قبيل: الفلتة والنزوة والبغثة والفجائية. فما، يحيط بك وأنت تكتب إلى جانب مستويات الحميمية والصدق، يخلق في جميع الأحوال بؤرة سميكة للتواصل والتأثير، من تم تلاشي كل المسافات المفترضة بين الكتابة والواقع. نشير، إجمالاً إلى تاريخية للقراءة ووعي بالكتابة. لحظتان، بقدر تماثلهما السلس، ينهضان على صراعات حادة في مطلق الأحوال. يمكننا، التلاعب بحدي العلاقة وقول ما شئنا: الكتابة تهذيب لما قرأناه. الكتابة نسيان للقراءة. الكتابة ورطة القراءة. قد تقرأ جيداً، وتستعصي عليك الكتابة. في المقابل، تصل إلى تحقيق إمكانية تطويع جسد للكتابة، بغير قدرتك على تحقيق معدلات مقبولة لعشق القراءة. إنها، جدلية دقيقة تزاد حساسيتها بشكل مفرط، حينها ننتقل بها إلى الحياة، ونستفسر ببراءة الطفولة: لماذا اختلق المرء حجة الكتابة؟ طبعاً، حجة لك وعليك. فتواريخ اللاسلطة، اللاهوية، والرحيل اللانهائي، كما تتأتى مع الكتابة، تجعل من لعبة الوجود أمراً ممكناً.

يبقى وفاء المرء لتاريخية القراءة، ساكناً ومهادناً، يتمرد في إطاره على قوانين الزمان الحياتية، ومواصفات القوانين والتحديات المجتمعية. إنها مداواة، علاج، أفيون، حرية، احتماء... بحيث يمكن اختيار أي واحد من تلك المفاهيم، كي تؤدي دورها الاستدلالي المطلوب. لقد فهمت أبعاد المعادلة جيداً، وأنا أجد نفسي دون سابق رغبة، محلقاً براهني السيئ، عائداً بعقارب الساعة إلى أواسط الثمانينات، وبالضبط، جدران ثانوية "سحنون" حيث أستاذ اللغة العربية، أصدقائي، طُهر العلاقات، أريج رجاء، بطولات كرة القدم، وعذوبة ما يقع...

وقفت، متجمداً أمام عنوان: "يوميات نائب في الأرياف" لصاحبه توفيق الحكيم، أعني، النص الأدبي الذي فككنا أجزاءه بمتعة سجالية في حصة دراسة المؤلفات، بالموازاة مع رواية: "LE LION" للكاتب جوزيف كيسيل، على مستوى اللغة الفرنسية.

هكذا سافرت مرة أخرى عبر الزمان، اقتلعت جذوري كلية من هذا الحاضر البئيس، ثم استعدت وفق غاية مقصودة لحظات دافئة ومبهجة. حيث القراءة فعلاً لذيذة وأم حنون نلجأ لها، ونحتمي بها، من كل العذابات، التي تنبتها بلادة الآخر وذاتيته المريضة. 

باحث من المغرب