لعلامات هذا العدد تم اختيار واحدة من مقالات وداد محمصاني المنشورة عام 1926 في "مجلة السيدات والرجال" الصادرة في مصر، وفيه تعلي المرأة المثقفة الصوت المكتوم، وهي تحلل صناعة التعصب في مجتمعها، لتنصر عقلانية كلية مستنيرة تقوم، كما ترى، على نفي التطرف والتفرقة.

لم التعصب؟!! نحن السبب في بلايانا

وداد محمصاني

أثير محمد على

بعد طي عقد من السنين على إعدام الأحرار العرب في كل من دمشق وبيروت، تتقدم وداد محمصاني، المرأة التي ترعرعت في نفس المناخ الثقافي العائلي للشهيدين محمد ومحمود المحمصاني، إلى ناصية الصوت التنويري تحبّر للصحافة مقالات نقدية تتعاطى نهضة المرأة وصفحة الوطن.

لعلامات عدد "الكلمة" في هذا الشهر تم اختيار واحدة من مقالات وداد المحمصاني المنشورة عام 1926 في "مجلة السيدات والرجال" التي أصدرتها روز أنطون حداد مع زوجها نقولا حداد في القاهرة عام 1922.

تتبدى أمام من يطالع سطور وداد محمصاني امرأة ولّت ظهرها لتقوى الخاص المحجّب، آن لاحقتها أسئلة رذائل العام وخرائبه. امرأة تتملص من القيود المعهودة لتمتلك صوتها كذات فاعلة في العلن وعلى العلن.

تتوهج من رؤيتها مسارات الزمان وهي تتموضع على بساط العلة والمعلول في لب الفكرة، وتنهض من وجهة نظرها سخرية ارتداد المستقبل الخائب إلى كهوف عصور السلف.

يتكشف عن نصها المكتوب القول بأن ظلمات التعصب الديني في قبة المشرق لن تنحسر إلا برسالة تنويرية، وثقافة روحية، وفلسفة أخلاق جامعة.

تعالج وداد محمصاني واقع المجتمع ضمن ثنوية فكرية قطبها الأول التعصب المرادف للجهل والاختلاف والتفرقة، وقطبها النقيض الثاني يشير إلى اللاتعصب المرادف للاستنارة والكلية والاجتماع.

من منظار هذه الرؤية الأخلاقية الثنوية ترجح وداد محمصاني كفة "رفعة" العقل الكوني، و "أنوار الحقائق" التي توحد بين مشارب أفراد أمة تتشوف بكليتها لمعارج "الرقي".

قدمت مقالة وداد محمصاني النقدية من قبل "مجلة السيدات والرجال" كـ "صرخة آنسة". ولعل ذلك لما ينسرب من نصها من صوتٌ كائنٌ على ضفاف كلمات لا تشوبها الريبة فيما يقال.

أما لقب "الآنسة" أو "السيدة" فيعود إلى العادات البطرياركية لتلك الأيام بحصر احترام المرأة ضمن ألقاب تستمد مرجعيتها من سجلها العائلي، وفي أحيان أخرى تبعاً لاسم عائلة الزوج. أما الرجل من بين الكتاب فاحتفظ بمرجعية نعته إلى اسمه الكافي الوافي، أو للقب "الأستاذ" الذي حرمت منه ومن صيغة تأنيثه النساء المثقفات عامة.

من وجهة نظر نسويّة، لا يخفى أن هذا التصنيف في الألقاب يرتد فلسفياً إلى أرسطو بتكريسه الفضاء العام للذكر، لأن جوهره محايث للعقل والسياسية، وما كلمة "الأستاذ" المخصصة للرجل والمتداولة آن كتابة المقالة إلا إشارة لهذا المفهوم.

أما إرجاع المرأة إلى شرطها العائلي (عازبة أم متزوجة) فيبدو في عمقه عدم اعتراف بأستاذيّة/ عقل تتمتع بها المرأة رغم ولوجها الفضاء العام وتكوين رؤيتها في التاريخ مما يجري حولها، إلا أنها تركت معلقة على حبائل الفهم الأرسطي الذي كان قد ترك لها جوهرانية طبيعية ملازمة لتغيراتها الجسدية والبيولوجية مما مهد الطريق لأجيال لاحقة بتعريف وتوصيف وتصنيف نوع المرأة الاجتماعي بتبعيتها لمقتضى موقعها من الرجل.

أخيراً، نترك مقالة وداد محمصاني أمام أعين القارئ، ليرنو إلى واقعنا الراهن على مرسح نص مكتوب لما ينوف عن ثمانية عقود. 

لمَ التعصب؟!! نحن السبب في بلايانا
صرخة الآنسة وداد محمصاني (بيروت)
 

ما هذه النغمة التي تصل إلى آذاننا فتثير ما تكنه الصدور المنفوخة، وما هذه النعرة القديمة التي انتزعت منا عواطف أمة قامت للنهوض وصرخت للحياة.

التعصب اسم الداء القتال الذي قام يتلاعب بالأهواء. إذا قلبنا صفحات تاريخنا الحديث نرى التعصب العامل الوبيل الذي جلب مأساة السنوات الماضية. فقد فكك القوى وأوغر القلوب بالأحقاد وأقام المشاحنات الباطلة بين أعضاء الأمة الواحدة.

أوهام يتلاهى بها الجاهلون. فكان ضلال وكان شقاق كلّفا الأمة الأثمان الغوالي.

أسنعود لظلمة سنوات مضت، بعد أن تلمّسنا الحياة بين أصوات المخلصين وجهاد المصلحين، واستبشرنا بطلائعها يوم قامت يقظة الحماس تفعل فعلها بالأمة، فتعانقت حينذاك عواطفها رمز الإخاء، ونبضت قلوبها نبضات متشابهات، وتجمعت مشاعرها حول نقطة واحدة تجذبها وتشدّها دائسة كل تعصب شائن ورامية كل تحزب مهين.

ذاك يوم شعرنا به أن الأمة حية لن تموت.

فما للمشاعر تتباعد الآن وتتفرق لوجهات مختلفات؟ وما بال من يدّعون خدمة المصلحة العامة لا يظهرون غير الوخز عند الاحتكاك؟ فبينا الأصوات تنادي نحن إخوان الوطنية نرى العواطف تتنافر في الخفاء.

لنكن عبيداً للمصلحة العامة. فإليها يلزم أن تتجه الجهود، وإليها يلزم أن تحجَّ الآمال وحولها يتحتم اجتماع كلمة الأمة.

أنتَ سليل شعوب كانت مناراً وهدى أيها الشعب اللاهي بالتوافه.

ففي بلادك وُجد أول آثار التمدن الفني، وفيها عاش أول شعب تعرف بالفلك وضبط الأوقات واخترع الأقنية. ومن خطوط شواطئك الجميلة هجمت قوة الطموح الفينيقية فكانت أول من أقام للتجارة أساساً. وبها زهت حضارة عظيمة، وقام شعب نشر ألوية التمدن والإصلاح والعدل.

فنحن السبب إذاً في بلايانا والسبب في تأخرنا. نطلب من الغير احترامنا ونحن الشعب صاحب "الإرث الثمين" المشهور بذكائه الفطري، الغني بدماغه الخصب الذي يتفوق غالباً إذا ما ساعدته الظروف ووقف مزاحماً. حقاً إنها لعطايا غالية. ولمَ إذاً هذه البسمة المرتسمة باستهزاء على شفاه الغرباء؟ يا للمرارة! إننا ضعفاء بأخلاقنا، صغار بتحاسدنا وتخاذلنا وتفرقنا وبغضائنا. إن عدونا هو انقسامنا. وظالمنا تحاسدنا، ومذلنا تعامينا.

يا للعار، أنتصاغر إلى التعصبات الذميمة؟

بالله لا تدنسوا الدين باسم الدين. تعاضدوا لعمل الواجب، ورددوا الآية الكريمة "لكم دينكم ولي ديني".

لا تجعلوا الدين عثرة تدهوركم وآفة تمسخكم وتذريكم. وهو الشعور العلوي والعاطفة السامية يرتفعان بالمرء إلى ما فوق المحسوس لينحني أمام إله غير منظور.

جراثيم التعصب ابتدأت تنمو وراء الستائر، فلا تدعوها تهجم علينا من توابيت الماضي لتفسد علينا الحياة.

لنتساهل قليلاً لئلا يحجب عنا ضلال التشدد والتعنت أنوار الحقائق.

وعندما نتعالى بإدراكنا عن التعصبات الباطلة، وعندما نسمو بأخلاقنا إلى ما فوق التحاسد الدنيء، وعندما نطهر قلوبنا من أردان البغضاء، ونصرف جهودنا لمصلحة الأمة، نكون كتلة حية ومجموعاً قوياً.

فما نهضت أمة إلا على أساس التلاحم الروحي. ولا عظمت إلا بمتانة الأخلاق. ولا سادت وسمت إلا بأنوار الأدمغة وحيوية النفوس.

فاشتغلوا لإنارة الأدمغة، واعملوا لتهذيب الأخلاق لتنالوا المكانة الرفيعة.

ما ذلّ شعب إلا لذلٍّ به، وضعف بمعنوياته، وخبل بعقليته.

أمم تقوم وتنشط فتحيا، وأمم تتواكل وتتهامل فتخذل.

فجاهدوا لتنشيط المزايا وإنارة المدركات وتوحيد المشارب. واقتلوا السفاسف والتعصبات، لتنالوا مكانتكم بين الأمم الراقية الحية.

(مجلة السيدات والرجال، ح 3، س 7، مصر، 15 فبراير 1926).