يقاربنا الكاتب الأردني من أهم خلاصات التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية، والذي تصدره "مؤسّسة الفكر العربي" ، ليكون فرصة لتحليل الواقع الثقافي في الوطن العربي في مواجهة عالم تحكمه العولمة وتتنوّع فيه مطامع الغزو الثقافي. ويتكوّن التقرير الثاني من خمسة محاور رئيسية في محاولة للإلمام بأهمّ جوانب الحقل التنموي الثقافي العربي.

التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية

مفلح العدوان

ثمة مؤشرات ودلالات في الثقافة العربية خلال السنوات الأخيرة، كان لا بد من التجرؤ، ووضع توصيف لها، مع اقتراح النقاط التي من شأنها أن تعزز الإيجابيات في المنجز الثقافي، وتعمل على تجاوز السلبيات التي يتم الحديث حولها في صالونات النخبة، أو المجاهرة بها في المنابر الإعلامية، ولكن دون محددات علمية للحالة الثقافية، من خلال تشريح موضوعي لها.

ولعله من المشروعات الجادة التي يمكن قراءتها، واتخاذها نموذجا في الآلية العلمية في التعامل مع الحالة الثقافية العربية، وتحليها، ما اتخذته مؤسسة الفكر العربي، من نهج في مجموعة أنشطتها الفكرية والثقافية التي تطرحها بشكل دوري، إضافة إلى مقترحها الذي تدعم باتجاه انجازه، وتحققه، في التئام قمة ثقافية عربية، على مستوى رؤساء الدول، والذي تم طرحه بشكل جدي على جامعة الدول العربية، والرؤساء العرب، وكذلك تقريرها الخاص بالتنمية الثقافية على مستوى الوطن العربي، حيث كان منجزها الأخير هو "التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية"، الذي سنقدم إشارات تعريفية بثراء وأهمية المحتوى، وعمق الجهد المبذول في إنجازه، من خلال هذه القراءة لأهم العناوين، والنقاط التي وردت في الملفات التي تؤشر على جوانب مختلفة من بنى الثقافة في العالم العربي.

خمسة ملفات

يقع "التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية" في 522 صفحة، مشتملا على مقدمة لرئيس مؤسسة الفكر العربي صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، ومفتتح للكتاب لأمين عام مؤسسة الفكر العربي الأستاذ سليمان عبد المنعم، وخمسة ملفات هي على التوالي: الملف الأول: المعلوماتية كرافعة للتنمية الثقافية، الملف الثاني: التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي، الملف الثالث: الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام، الملف الرابع: الإبداع، الملف الخامس: الحصاد الفكري السنوي.

وقد تم اختيار هذه الملفات، لأهميتها، ولضرورة دراستها بشكل علمي، وربما تكون هناك دراسات متفرقة لكل موضوع من موضوعات تلك الملفات على حدى،  ولكنها تكون بمعزل عن المرجعية الثقافية، في الدراسة والتحليل، أو أنها درست بشكل منفصل على المستوى القطري، أو من خلال استطلاعات متفرقة لم تجمع على هيئة معمار واحد متكامل، لذلك فإن هذا التقرير يمكن تقديمه على أنه الإصدار العربي الوحيد "المعني برصد الحراك الثقافي على مستوى الدول العربية، وتحليله، وتشخيصه، للتعرف على حجم الإنجاز، والوقوف على مواطن القصور، وتقييم التطور الحاصل في آليات صناعة الثقافة، ومخرجاتها، ثم طرح النتائج على الساحة عامة، وخاصة بين أصحاب القرار الثقافي".

قراءة موضوعية للواقع

ومن خلال استعراض عناوين الملفات التي عالجتها مواد التقرير الثاني، يلاحظ التأكيد من خلال تلك الملفات والمحاور على الصلة الوثيقة بين الثقافة وبين التنمية الإنسانية بمفهومها الشامل، وأن التنمية الثقافية بتجلياتها المختلفة في التعليم والإبداع والإعلام والمعلوماتية في قوة الدفع للتنمية الإنسانية بكل أبعادها المختلفة. وفي مقدمة التقرير يؤكد صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بـ"أن حلم التقدم الذي يراود كل إنسان عربي هو حق مشروع لأمة شاركت بفعالية في صنع الحضارة الإنسانية، كما أن تحقيق هذا الحلم يجب أن ينطلق من مشروع هدفه التنوير، ومضمونه الثقافة والمعرفة، ومنهجه العلم، ووسيلته قراءة موضوعية معمقة لواقع الحاضر من أجل البناء عليها في استشراف المستقبل".

وإن نظرة تحليلية إلى اللجنة الاستشارية العليا للتقرير، والباحثين الرئيسيين للملفات التي احتواها التقرير، إضافة إلى أصحاب الأوراق المرجعية والباحثين المساعدين، يمكن أن تعطي دلالة على مدى العناية في اختيار تلك الأسماء، والجدية العالية في التعامل مع معطيات التقرير ومحاوره، حيث أن اللجنة الاستشارية هي من كل من الكاتب الياس سحاب، والمسرحي جواد الأسدي، والكاتب زياد عبد الله الدريس، والأستاذ الدكتور صالح عبد الرحمن العذل، والكاتب والناقد الدكتور علي عقلة عرسان،  ورئيس تحرير جريدة أوان الدكتور محمد الرميحي، وأمين عام اتحاد الكتاب العرب محمد سلماوي. أما الأسماء المتخصصة في الملفات والأوراق المرجعية فهم لا يقلون عمقا ومعرفة عن اللجنة الاستشارية المشار إليها أعلاه( ملف المعلوماتية: جمال غيطاس ود. نبيل علي، ملف التعليم العالي: عدنان الأمين، ملف الإعلام: محمود خليل، ملف الإبداع: الإبداع الأدبي؛ عبده وازن. الإبداع السينمائي والدرامي: إبراهيم العريس. الإبداع المسرحي: ماري الياس. الحصاد الفكري السنوي: عبد الإله بلقزيز.

وبخصوص أصحاب الأوراق المرجعية فهم كل من الباحثين المساعدين التالية أسماؤهم: أبو الحجاج محمد بشير، أحمد إسماعيل حجي، أشرف شوبك، أيمن العمري، خالد احمد الصرايرة، زيكي حبيب، شيرين سلامة، شيماء مازن، عبد العالي كعواشي، كمال أبو شديد، ماهيناز رمزي، محسن المهدي سعيد، مرفت عبد العزيز، نورما غمراوي، وسام هندي، وليد مبيض).

المعلوماتية: ملامح الحضور على الشبكة العنكبوتية!

يقدم الأستاذ سليمان عبد المنعم/ أمين عام مؤسسة الفكر العربي، منسق التقرير، مفاتيح للملفات التي عالجها التقرير، حيث يشير في ملف المعلوماتية إلى محاولة الإجابة على أسئلة من مثل: ما هي أوضاع عالمنا العربي عالمنا العربي طبقا لمؤشرات مجتمع المعلومات في ظل الاستراتيجيات الحكومية الحالية؟ وكيف تبدو هذه الأوضاع طبقا لمؤشرات البيئة الإبداعية، لا سيما في مجالات البحث العلمي والتعليم وصادرات التكنولوجيا؟ وما هي نقاط القوة ومظاهر الضعف في البنية المعلوماتية العربية من المنظور الثقافي؟ وهل يبدو الحضور الثقافي العربي على الشبكة العنقودية كافيا ومرضيا لطموحنا وما تختزنه ثقافتنا من ثراء؟ وفي الأحوال كافة ما هو الدور المحتمل للمعلومات في دعم التنمية الثقافية، وما هي ملامح الرؤية المستقبلية في هذا الخصوص.

  التعليم العالي: البحث العلمي إلى أين؟

 أما على صعيد ملف التعليم فقد كان السؤال الأبرز حول أزمة الاستقلالية الإدارية والمالية في الجامعات العربية، وهل أفضت معدلات الإنفاق على التعليم العالي في البلدان العربية إلى تحقيق الجودة التعليمية المنشودة؟ وما هي المعدلات التي تبدو في أكثرية الدول العربية أقل بكثير جدا من مثيلاتها في الدول المتقدمة؟ كما كان من ضمن الأسئلة المرتبطة بملف التعليم السؤال حول نسبة مخصصات البحوث إلى الموازنة في الجامعات العربية؟ وكذلك كان حاضرا موضوع الوقفيات الجامعية، فكان السؤال المطروح هو كيف السبيل إلى تحفيز الدور الاجتماعي والثقافي لرجال الأعمال العرب انطلاقا من مفهوم المسؤولية الاجتماعية لرأس المال؟ وهل من رؤى ومقترحات لتحفيز التمويل الأهلي ليضطلع بدوره في دعم التعليم الجامعي وتطويره؟

 الإعلام:مضمون الخطاب الثقافي!

وبشأن التساؤلات على صعيد الملف الإعلامي، فأولها هو ما يتعلق بمضمون الخطاب الثقافي في إعلامنا المكتوب والمرئي؛ ما هي القيم التي يدعو لها هذا الخطاب الثقافي العربي؟ وكيف واجه هذا الخطاب بعض الإشكاليات العربية المزمنة مثل قضية العلاقة بالآخر السياسي والديني، وعلاقة المثقف بالسلطة والمال، وقضية التراث والمعاصرة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وعلاقة اللغة بالثقافة؟ ثم هل هناك خطاب ثقافي عربي واحد أو هناك "خطابات" ثقافية عربية؟

الإبداع الأدبي: بين الرواية والشعر

وفي إطار الملف الإبداعي، يكون التساؤل في فضاء الإبداع الأدبي حول ملامح وهموم الرواية العربية، وأهم الروايات العربية الصادرة، وكان الملف الأدبي ساحة للتساؤل حول ما اتسمت به الكثير من الروايات العربية من محاولة استعادة الماضي في المكان والزمان؛ وتحولات الواقع العربي وتناقضاته؛ وكيف تواجه هذه الرواية سؤالها القديم الحديث حول العلاقة بين الشرق والغرب؟ وهل ثمة رواية نسوية مضادة؟ وكذلك يحتوي الملف على تساؤلات الشعر حول شعر الفصحى أم شعر العامية والنبطية، وأيضا تساؤلات حول قضية الترجمة، خاصة بالنسبة للأعمال الإبداعية، وما هي المعايير التي يخضع لها اختيار تلك الأعمال التي تترجم إلى لغات أجنبية؟ وهل صحيح أن بعض الروائيين العرب يقبلون على كتابة روايات صالحة للترجمة بناء على استقراء لذائقة القارئ الأجنبي؟

السينما والدراما: التمويل والإنتاج

وكان ملف الإبداع السينمائي والدرامي حافلا بالتساؤلات حول المهرجانات السينمائية العربية، لا سيما مفارقة التمويل السخي لبعض المهرجانات السينمائية من دون اهتمام مقابل بتمويل حركة إنتاجية أو دعم المبدعين في بعض البلدان. كما يتمخض الملف عن رصد حركة الإنتاج العربي في السينما والدراما العديد من التساؤلات، سواء على صعيد توزيع حصص المشاهدة أم على صعيد توزيع الأنواع السينمائية، مثل غلبة السينما الهزلية في العام 2008م على السينما الاجتماعية.

المسرح: تفاوت في المستوى

وفي ملف الإبداع المسرحي هناك إثارة لتساؤلات حول ضعف البنى الثقافية التي تشرّع لوجود المسرح العربي سواء فيما يتعلق بالمنظومات الإدارية والمالية أم بسبب إشكالية الرقابة على حرية التعبير. ولعل مقارنة حركة الإبداع المسرحي من دولة عربية لأخرى تشي بذاتها عن جملة تساؤلات حول وتيرة الاهتمام المجتمعي بالمسرح والعوامل التي تؤثر في ذلك.

الحصاد الفكري: حوار الثقافات

وآخر الملفات في التقرير هو ملف الحصاد الفكري الذي يكشف عن تساؤلات حول انشغالات العقل العربي خلال عام 2008م سواء في موضوعات القضايا المثارة أو أولوياتها، وكان من أبرز التساؤلات حول الجدل الدائر حول ممارسة الدور الإقليمي العربي، وقضايا التنمية، والتحول الاقتصادي وتداول المعلومات، كما أن هناك إثارة لتساؤلات فكرية حول جدلية العلاقة بين العروبة والإسلام، وضعف الاهتمام العربي بالقوة العالمية الجديدة البازغة، إضافة إلى إثارة التساؤل حول قضية الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، وما تتسم به من تركيز بالغ على اللغتين الانجليزية والفرنسية مقابل إهمال ملحوظ لحركة الترجمة من لغات أخرى كالصينية واليابانية والهندية؛ وهو تساؤل يتجاوز الجوانب الفنية والتجارية في عملية الترجمة ليمس في الصميم قضية حوار الثقافات وما توجبه من ضرورة الانفتاح على كل ثقافات العالم، لا سيما في ظل تنامي دور الثقافات الآسيوية في حركة التقدم العالمي المعاصر كما في حالات الصين واليابان والهند.

الإصلاح الثقافي

وتبقى هذه قراءة سريعة للتقرير الذي يرصد جوانب من الملفات المشار إليها، في عام 2008م، وفق منهجية واضحة في البحث والدراسة والرصد، يوضح الباحثين في كل ملف جوانب الصعوبات، وكذلك الأسس التي تم اعتمادها أثناء إعدادهم للجانب المكلفين فيه ضمن سياق التقرير الثقافي هذا، ليكون مادة ثرية، يمكن أن يعتمدها المعنيون بالسياسات الثقافية، في الدول العربية، كي تكون تلك النقاط، والتوصيات في كل ملف، عتبة البداية بالنسبة للإصلاح الثقافي، ولدفع عجلة التنمية الثقافية في مسار تصحيحي يتم فيه وضع سياسات ثقافية يمكن التأسيس عليها لرسم ملامح أكثر ايجابية في المرحلة القادمة.

  

أديب أردني ورئيس اتحاد كتاب الانترنيت العرب