العودة إلى "القصة"
أعلنت رجاء الطالبي الكاتبة العامة لاتحاد كتاب المغرب ـ فرع مدينة سلا عن افتتاح السنة الثقافية للفرع، إثر تقديم أول نشاط ثقافي ليومه الأربعاء ثاني سبتمبر الحالي، ويأتي برنامج الافتتاح في سياق الاحتفال بـ (مهرجان رمضان مدينة سلا الأول) الذي تسهر على إنجازه الجماعة الحضرية لمدينة سلا. يتضمن البرنامج الثقافي الافتتاحي قراءات قصصية، وموائد مستديرة حول قضايا فكرية وثقافية تهم التحولات التي تعرفها المسألة الثقافية والإبداعية ببلادنا، ولقاءات مفتوحة مع أعلام من المغرب تركوا بصماتهم في مجالات اشتغالهم وميادين إبداعهم، وتقديم كتب حديثة الصدور. كان اللقاء الأول عبارة عن قراءات قصصية شارك فيها القاصة مليكة نجيب والباحث في علم الاجتماع والقاص عبد الرحيم العطري، وقامت رجاء الطالبي بتسيير الجلسة. قرأت مليكة نجيب ـ وهي صاحبة عدد من المجاميع القصصية المميزة بخصائص سردية نوعية أشار إليها المتدخلون، وهم قصاصون وروائيون حضروا اللقاء، قصة بعنوان مثير (اللدون). تناولت القاصة موضوعا يوحي بأنه يعالج ظاهرة شعبية مستشرية عند ذوي النفوس الضعيفة وفي الهوامش والأوساط الشعبية والراقية، ذات أبعاد ومعاني متعددة. تميزت القصة ببنائها السردي المحكم، وانسجام عناصرها، وتواتر أحداثها، وهي الخصيصة النوعية التي تقوم عليها جل أعمال القاصة مليكة نجيب. وانسجاما مع النهج السردي والقيمة الجمالية التي انتهجتها القاصة منذ البدايات، اختارت التركيز على بناء حكاية متماسكة، متواترة الأحداث، واضحة الفضاء، وذات شخصية قصصية مميزة بأوصافها وأفعالها. تقوم القصة على موضوعة (البحث عن الذات) في عالم هلامي، ملتبس، متنكر للقيم العليا، يتحول فيه (اللدون) إلى (اللا ـ دون). أي تحول الشخصية القصصية إلى شخصية بلا ملامح، وبلا هوية مميزة، مطموسة، فقدت الذات ذاتها، كما جاء في القصة (أنتَ أضعت أنتَ). فمفهوم (الضياع) هنا يعبر عن الهموم التي تحملها القصة القصيرة المغربية الجديدة، التي لم تعد تنظر إلى عملية التجريب القصصي، المغرق في الشكلانية، ملاذا وملجأ، أمام الفوضى والتشظي الخارج نصي، إي في الحياة المجتمعية الأشد تشظيا وتفككا، وباتت وظيفة الكتابة موضع سؤال من جديد، ما الغاية من الكتابة؟ وهل ينبغي أن تقف عند حدود اللعب السردي، والبنائي... قالت القاصة ذلك في إطار (فضاء) مؤثث بمعالم غريبة، هي جزء لا يتجزأ من الشخصية التي لاذ بها الرجل (الباحث عن زوجته التي هجرته)، وهو أيضا ملاذ الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم، ولا إرادة حقيقية. إنه بيت العرافة (خناثة) المعبأ برائحة البخور، والمزين بكفوف الحناء درءا للعين والحسد، وقد علقت به رؤوس الضباع والحمير إلى جوارها الأحذية الرياضية...عالم غريبة، يدل على الاغتراب الذاتي، والشعور الدفين بالاضطهاد والاستسلام. وقيمة الوصف مركزية في القصة التي قرأتها مليكة نجيب، لذلك كان الوصف دقيقا أيضا لشخصية (خناثة) ومساعداتها، ولشخصية (الرجل المهتز). قيمة جمالية أخى بدت واضحة في قصة (اللدون) لمليكة نجيب وهي توظيف اللهجة الدارجة المغربية بما يناسب الفضاء الخرافي والعجيب الذي اختارته مسرحا للأحداث، محاولة أيضا التركيب بين اللسانين في ترادف وتناوب: اللسان العامي واللسان العربي الفصيح. من مجموعته الجديدة الصادرة بمصر بعنوان (القارة السابعة) قرأ القاص والباحث عبد الرحيم العطري قصة (ميتا سكيزوفرينا). قارب القاص فيها موضوعا، بل حالة إنسانية ليست طارئة على الحياة الاجتماعية والسياسية بالمغرب، ولكنها أصبحت اليوم ظاهرة للعيان، ومتفشية في جل القطاعات والميادين وحتى أنها أصبحت فيما يبدو سلوكا محمودا لدى الكثيرين ـ كما أصبح البخل مذهبا عند البعض وسلوكا اجتماعيا في كتاب البخلاء للجاحظ مثلا، إنها ظاهرة (المثقف الانتهازي) الشخصية التي تعاني، عموما، من فقدان الهوية، واهتزاز المواقف، وانحدار القيم. الشخصية/ الحالة التي عالجتها قصة عبد الرحيم العطري كانت ضحية لهاثها وراء المصلحة الذاتية، والبحث عن موقع سلطة من خلاله تمارس وهم التحقق الذاتي. لقد اختار القاص طريقة (التفكيك)، و (كتابة المشاهد)، أو (التقطيع السردي) من أجل الإحاطة بصورة الشخصية القصصية (الظاهرة) التي يكتب عنها، فتنقل بنا في مواقف ومواقع متعددة منها: بيت (العيال)، وبيت (العشيقة)، ومقر الحزب، والشارع العام، والزاوية، العيادة. لهذه الشخصية الحالة والظاهرة المتفشية في المجتمع تمظهرات بحسب المقام، في الحزب فهو (المناضل الطبقي) الذي يذود عن حمى الجماهير الشعبية والطبقات المقهورة والمسحوقة تحت أقدام الفقر والجهل والأمية، وهو الخطيب (المفوه) الذي ينتج المفاهيم ويدبج الخطابات (الرنانة)، وفي بيته الأول حيث الزوجة والأولاد، الآمر الناهي، والشاعر الذي ينبغي على الزوجة أن توجد له الفضاء المناسب لولادة بنات أفكاره وصوره، ولسانه المستعار للنفاق والخديعة، وفي بيت عشيقته (الزاهية) التي انتشلها من بين براثن العهد والدعارة ليمتلكها ويحتكرها لنفسه، فهو المنشرح اللعوب الذي لا يقوى على غير النظر واللمس مكابدا عنته، وفي (الزاوية)، ولا بد من ارتياد الزاوية كسلطة ومنفذ قد يقود إلى مصلحة وموقع محتمل، فهو المريد المطيع والمتفنن في ولادة مظاهر الخنوع والاستسلام والخدمة. أما في عيادة الطبيب النفسي فهو سليم معافى، لكن الموضا تتطلب ذلك... رسم عبد الرحيم العطري بوتريها لشخصية قصصية بلا ملامح محددة، ورسم صورة لرجل عنين، متقلب يلبس لكل حال لباسها، (ميكيافيلية) العصر الجديد، الغاية تبرر الوسيلة، صورة لظاهرة اجتماعية، وصورة لسلوك بات اختيارا صريحا لدى الكثيرين في وقت أصبح مشوش المعالم، وبلا حدود معقولة. وهي ظاهرة، كما قال أحد المتدخلين ممن حضروا اللقاء، (أنتجتها سياقات اجتماعية محددة)، واعتبر الأمكنة في المجموعة هي تلك السياقات المتحدث عنها. ولكن الشخصية الانتهازية، سواء أكانت مثقفا أو مواطنا عاديا، ليست وليدة السياق الاجتماعي بل هي في الأساس اختيار وموقف وفلسفة وسلوك يتخذه البعض لإخفاء حالة الاضطهاد الداخلي، والاهتزاز النفسي، والبحث عن مواقع سلطة لقهر الآخرين، ومحاولة إعادة الاعتبار للذات وترميم كسور داخلية وتضميد جروح نفسية عميقة نازفة. عموما التقت القصتان في ملامح نعتبرها إعلانا عن توجه واختيار بات مطلبا حاليا، وهو العودة إلى بناء حكاية واضحة المعالم، وإعادة الاعتبار لمفهوم (وظيفة الأدب)، وهو دعوة للابتعاد عن كل أشكال الهروب إلى الأمام الذي دفع بالكثير من القراء إلى هجر القراءة واللجوء إلى وسائل حديثة تنتج معرفة بسيطة وسريعة وسطحية. ولا يخفى أن الحديث عن المثقف في القصتين إدانة للمواقف المتدبدبة التي أصبح عليها المثقف فردا ومؤسسة. وأهم من القراءات القصصية الحوار والنقاش اللذين جاءا بعد ذلك من نقاد وقصاصين (رجاء الطالبي، ومليكة نجيب، وعبد الرحيم العطري، وأحمد الكبيري، وعبد الله، ومحمد معتصم الناقد الأدبي) ذهبت إلى جوهر الموضوعات المعالجة، ولامست الخصائص الفنية للقصة القصيرة اليوم، وما ينبغي أن تكون عليه، والوقوف على صورة المثقف اليوم وما ينبغي أن يكون عليه في هذه المرحلة من تحول المغرب. ناقد أدبي
أعلنت رجاء الطالبي الكاتبة العامة لاتحاد كتاب المغرب ـ فرع مدينة سلا عن افتتاح السنة الثقافية للفرع، إثر تقديم أول نشاط ثقافي ليومه الأربعاء ثاني سبتمبر الحالي، ويأتي برنامج الافتتاح في سياق الاحتفال بـ (مهرجان رمضان مدينة سلا الأول) الذي تسهر على إنجازه الجماعة الحضرية لمدينة سلا.
يتضمن البرنامج الثقافي الافتتاحي قراءات قصصية، وموائد مستديرة حول قضايا فكرية وثقافية تهم التحولات التي تعرفها المسألة الثقافية والإبداعية ببلادنا، ولقاءات مفتوحة مع أعلام من المغرب تركوا بصماتهم في مجالات اشتغالهم وميادين إبداعهم، وتقديم كتب حديثة الصدور.
كان اللقاء الأول عبارة عن قراءات قصصية شارك فيها القاصة مليكة نجيب والباحث في علم الاجتماع والقاص عبد الرحيم العطري، وقامت رجاء الطالبي بتسيير الجلسة. قرأت مليكة نجيب ـ وهي صاحبة عدد من المجاميع القصصية المميزة بخصائص سردية نوعية أشار إليها المتدخلون، وهم قصاصون وروائيون حضروا اللقاء، قصة بعنوان مثير (اللدون). تناولت القاصة موضوعا يوحي بأنه يعالج ظاهرة شعبية مستشرية عند ذوي النفوس الضعيفة وفي الهوامش والأوساط الشعبية والراقية، ذات أبعاد ومعاني متعددة. تميزت القصة ببنائها السردي المحكم، وانسجام عناصرها، وتواتر أحداثها، وهي الخصيصة النوعية التي تقوم عليها جل أعمال القاصة مليكة نجيب. وانسجاما مع النهج السردي والقيمة الجمالية التي انتهجتها القاصة منذ البدايات، اختارت التركيز على بناء حكاية متماسكة، متواترة الأحداث، واضحة الفضاء، وذات شخصية قصصية مميزة بأوصافها وأفعالها.
تقوم القصة على موضوعة (البحث عن الذات) في عالم هلامي، ملتبس، متنكر للقيم العليا، يتحول فيه (اللدون) إلى (اللا ـ دون). أي تحول الشخصية القصصية إلى شخصية بلا ملامح، وبلا هوية مميزة، مطموسة، فقدت الذات ذاتها، كما جاء في القصة (أنتَ أضعت أنتَ). فمفهوم (الضياع) هنا يعبر عن الهموم التي تحملها القصة القصيرة المغربية الجديدة، التي لم تعد تنظر إلى عملية التجريب القصصي، المغرق في الشكلانية، ملاذا وملجأ، أمام الفوضى والتشظي الخارج نصي، إي في الحياة المجتمعية الأشد تشظيا وتفككا، وباتت وظيفة الكتابة موضع سؤال من جديد، ما الغاية من الكتابة؟ وهل ينبغي أن تقف عند حدود اللعب السردي، والبنائي...
قالت القاصة ذلك في إطار (فضاء) مؤثث بمعالم غريبة، هي جزء لا يتجزأ من الشخصية التي لاذ بها الرجل (الباحث عن زوجته التي هجرته)، وهو أيضا ملاذ الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم، ولا إرادة حقيقية. إنه بيت العرافة (خناثة) المعبأ برائحة البخور، والمزين بكفوف الحناء درءا للعين والحسد، وقد علقت به رؤوس الضباع والحمير إلى جوارها الأحذية الرياضية...عالم غريبة، يدل على الاغتراب الذاتي، والشعور الدفين بالاضطهاد والاستسلام. وقيمة الوصف مركزية في القصة التي قرأتها مليكة نجيب، لذلك كان الوصف دقيقا أيضا لشخصية (خناثة) ومساعداتها، ولشخصية (الرجل المهتز). قيمة جمالية أخى بدت واضحة في قصة (اللدون) لمليكة نجيب وهي توظيف اللهجة الدارجة المغربية بما يناسب الفضاء الخرافي والعجيب الذي اختارته مسرحا للأحداث، محاولة أيضا التركيب بين اللسانين في ترادف وتناوب: اللسان العامي واللسان العربي الفصيح.
من مجموعته الجديدة الصادرة بمصر بعنوان (القارة السابعة) قرأ القاص والباحث عبد الرحيم العطري قصة (ميتا سكيزوفرينا). قارب القاص فيها موضوعا، بل حالة إنسانية ليست طارئة على الحياة الاجتماعية والسياسية بالمغرب، ولكنها أصبحت اليوم ظاهرة للعيان، ومتفشية في جل القطاعات والميادين وحتى أنها أصبحت فيما يبدو سلوكا محمودا لدى الكثيرين ـ كما أصبح البخل مذهبا عند البعض وسلوكا اجتماعيا في كتاب البخلاء للجاحظ مثلا، إنها ظاهرة (المثقف الانتهازي) الشخصية التي تعاني، عموما، من فقدان الهوية، واهتزاز المواقف، وانحدار القيم. الشخصية/ الحالة التي عالجتها قصة عبد الرحيم العطري كانت ضحية لهاثها وراء المصلحة الذاتية، والبحث عن موقع سلطة من خلاله تمارس وهم التحقق الذاتي.
لقد اختار القاص طريقة (التفكيك)، و (كتابة المشاهد)، أو (التقطيع السردي) من أجل الإحاطة بصورة الشخصية القصصية (الظاهرة) التي يكتب عنها، فتنقل بنا في مواقف ومواقع متعددة منها: بيت (العيال)، وبيت (العشيقة)، ومقر الحزب، والشارع العام، والزاوية، العيادة. لهذه الشخصية الحالة والظاهرة المتفشية في المجتمع تمظهرات بحسب المقام، في الحزب فهو (المناضل الطبقي) الذي يذود عن حمى الجماهير الشعبية والطبقات المقهورة والمسحوقة تحت أقدام الفقر والجهل والأمية، وهو الخطيب (المفوه) الذي ينتج المفاهيم ويدبج الخطابات (الرنانة)، وفي بيته الأول حيث الزوجة والأولاد، الآمر الناهي، والشاعر الذي ينبغي على الزوجة أن توجد له الفضاء المناسب لولادة بنات أفكاره وصوره، ولسانه المستعار للنفاق والخديعة، وفي بيت عشيقته (الزاهية) التي انتشلها من بين براثن العهد والدعارة ليمتلكها ويحتكرها لنفسه، فهو المنشرح اللعوب الذي لا يقوى على غير النظر واللمس مكابدا عنته، وفي (الزاوية)، ولا بد من ارتياد الزاوية كسلطة ومنفذ قد يقود إلى مصلحة وموقع محتمل، فهو المريد المطيع والمتفنن في ولادة مظاهر الخنوع والاستسلام والخدمة. أما في عيادة الطبيب النفسي فهو سليم معافى، لكن الموضا تتطلب ذلك...
رسم عبد الرحيم العطري بوتريها لشخصية قصصية بلا ملامح محددة، ورسم صورة لرجل عنين، متقلب يلبس لكل حال لباسها، (ميكيافيلية) العصر الجديد، الغاية تبرر الوسيلة، صورة لظاهرة اجتماعية، وصورة لسلوك بات اختيارا صريحا لدى الكثيرين في وقت أصبح مشوش المعالم، وبلا حدود معقولة. وهي ظاهرة، كما قال أحد المتدخلين ممن حضروا اللقاء، (أنتجتها سياقات اجتماعية محددة)، واعتبر الأمكنة في المجموعة هي تلك السياقات المتحدث عنها. ولكن الشخصية الانتهازية، سواء أكانت مثقفا أو مواطنا عاديا، ليست وليدة السياق الاجتماعي بل هي في الأساس اختيار وموقف وفلسفة وسلوك يتخذه البعض لإخفاء حالة الاضطهاد الداخلي، والاهتزاز النفسي، والبحث عن مواقع سلطة لقهر الآخرين، ومحاولة إعادة الاعتبار للذات وترميم كسور داخلية وتضميد جروح نفسية عميقة نازفة.
عموما التقت القصتان في ملامح نعتبرها إعلانا عن توجه واختيار بات مطلبا حاليا، وهو العودة إلى بناء حكاية واضحة المعالم، وإعادة الاعتبار لمفهوم (وظيفة الأدب)، وهو دعوة للابتعاد عن كل أشكال الهروب إلى الأمام الذي دفع بالكثير من القراء إلى هجر القراءة واللجوء إلى وسائل حديثة تنتج معرفة بسيطة وسريعة وسطحية. ولا يخفى أن الحديث عن المثقف في القصتين إدانة للمواقف المتدبدبة التي أصبح عليها المثقف فردا ومؤسسة.
وأهم من القراءات القصصية الحوار والنقاش اللذين جاءا بعد ذلك من نقاد وقصاصين (رجاء الطالبي، ومليكة نجيب، وعبد الرحيم العطري، وأحمد الكبيري، وعبد الله، ومحمد معتصم الناقد الأدبي) ذهبت إلى جوهر الموضوعات المعالجة، ولامست الخصائص الفنية للقصة القصيرة اليوم، وما ينبغي أن تكون عليه، والوقوف على صورة المثقف اليوم وما ينبغي أن يكون عليه في هذه المرحلة من تحول المغرب.
ناقد أدبي