تطرح هذا الدراسة الذكية دور القارئ في تأويل النص الأدبي الجديد، وتقدم قراءتها للنص المضمر في القصة التي تحللها، والتي تلحقها بالدراسة، كي تتيح المجال أمام قراءات أخرى تستنطق المسكوت عنه في الجدل المستمر بين الفعل، عمل الأرز باللبن، والأفعال المتاحة والمصاحبة لوصفة عمله، والشخصية، والأغنية الفيروزية.

وجبات في الإبداع بمذاقات مختلفة

قراءة في نصّ «أرز باللبن لشخصين» لرحاب بسام

إسلام أبو شكيّر

ما من شكّ في أنّ أجواء الإثارة التي رافقت الجدل حول أطراف المعادلة التي يتكوّن منها فعل الإبداع (المؤلّف، والنصّ، والقارئ) قد أغنت في النهاية فهمنا لطبيعة الأدب، وكان لها الفضل في الكشف عن آليّاتٍ مثمرةٍ جديدةٍ في التحليل والسبر والتذوّق. وما من شكّ أيضاً في أنّ التركيز على مكانة القارئ بالذات في هذه المعادلة قد غيّر ـ وعلى نحوٍ نهائيّ وحاسم ـ لا من تقاليد القراءة وحسب، بل من الكتابة نفسها، وكان له تأثيرٌ قويّ في ظهور نمطٍ من الكتابة أدنى ما يتّصف به أنّه جديدٌ ومغاير من حيث شكله وطبيعته ولغته وتقنيّاته وأدواته الخاصّة في التعبير. ولئن كان البعض يتّهم (الحداثة) وما تمخّض عنها، أو واكبها، من فلسفاتٍ ومناهج مختلفةٍ في النقد والتحليل، بما قيل عن (موت المؤلّف)، وتقديس النصّ نفسه من حيث هو بنيةٌ مغلقةٌ مكتفيةٌ بذاتها، فإنّ البعض الآخر يعزو إلى (ما بعد الحداثة) فضل (إحياء القارئ)، أو انتشاله من حالة الإهمال التي ظلّ أمداً غير قصير يعاني منها. وبالطبع، فقد كان لذلك كلّه صداه المسموع الواسع الذي ردّدته مناهجُ في النقد اجترحت لنفسها أدواتٍ ووسائل راعت حساسية الموقع الجديد الذي احتلّه القارئ ضمن سياق عمليّة الإبداع.

غير أنّ ما هو أهمّ من هذا، وأشدّ عمقاً وتأثيراً، أنّ الأدب نفسه شهد تغيّراتٍ عنيفةً بفعل تلك النظرة الجديدة إلى القارئ، ودوره المفترض، وأصبح لزاماً على النصّ الأدبي أن يعيد تشكيل ذاته بما يتيح لهذا الطرف الأساسيّ في عمليّة الإبداع أن يقوم بدوره في التحليل والتأويل وإعادة الإنتاج والكشف عن المضمرات فيه. فالنصّ ـ وقد أصبح للقارئ فيه كلّ هذه السلطة ـ أخذ يميل إلى صيغٍ مفتوحةٍ يمكن لهذا القارئ أن يتحرّك في فضاءاتها بقدرٍ كبيرٍ من الحريّة، ليصبح مبدعاً آخر له، بما يمكن أن يضيف إليه، أو يولّده من المعاني والدلالات الكامنة فيه، معبّراً خلال ذلك كلّه عن شخصيّةٍ مستقلّةٍ لها ذائقتها الخاصّة ورؤيتها وموقفها وطريقتها في التعبير عن ذاتها. ولعلّ من أكثر الظواهر دلالةً ضمن هذا السياق أنّ النصّ الأدبيّ لم يعد يظهر اهتماماً حقيقيّاً في أن يكون واضحاً فيما يريد قوله أو فعله، فالرسالة كثيراً ما كانت تصل مشفّرةً، مع إمكاناتٍ غير محدودةٍ لحلّ هذه الشيفرة، الأمر الذي يجعل من كلّ قراءةٍ للنصّ كتابةً جديدةً له بالفعل، لأنّها تحمل في داخلها ـ وعلى الدوام ـ حلاًّ مختلفاً لشيفراته.

«أرز باللبن لشخصين» ـ البنية السطحيّة:
نصّ «أرز باللبن لشخصين»(1) لرحاب بسّام هو نموذجٌ لهذه الكتابة التي تحمّل القارئَ العبءَ كلّه للوصول إلى معنى ما، قد يكون هو نفسه ما أرادت الكاتبة إيصاله، كما قد يكون معنى آخر مختلفاً أوصلت القارئَ إليه ثقافتُه وذائقتُه وطريقتُه الخاصّة في الاستكشاف والبحث والتقصّي. «أرز باللبن لشخصين» نصّ بسيطٌ عند القراءة الأولى، وهو لا يعدو كونه وصفةً لإعداد نوعٍ معيّنٍ من الحلوى، وفيه تعدادٌ للمقادير المطلوبة، والخطوات الضروريّة للوصول إلى طبقٍ ناجحٍ منه:

«لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين ستحتاجين إلى ربع كوب من الأرز. أولاً أخرجي اللبن من الثلاجة. ثم في طبق أبيض واسع ضعي الأرز ونقيه من أي شوائب». بهذه اللغة الواضحة المباشرة يبدأ النصّ بثّ أولى رسائله باتّجاه القارئ. وكما هو ظاهر فإنّ القارئ لن يجد هامشاً كافياً يمكن أن يتحرّك داخله ليمارس أيّ نوعٍ من أنواع التأويل أو إعادة الإنتاج. وإذا ما استثنينا كلمة (أبيض) التي سنتوقّف عندها فيما بعد، فإنّه ما من ظلالٍ للمفردات، وما من إيحاءاتٍ، أو انزياحاتٍ، أو خروجاتٍ مفاجئةٍ على ما هو مألوفٌ في أيّ نصّ إبلاغيّ صرف ممّا نجده في زوايا الطبخ في المجلاّت النسائيّة عادة. ويواصل النصّ سلسلة النصائح والإرشادات، مراعياً الدقّة في كثيرٍ من الحالات، وهو أمرٌ متوقّع في نصوصٍ مشابهة:

«اغسلي الأرز أكثر من مرة حتى يصبح ماؤه نقياً. انقعيه في كوبين من الماء الدافئ... في هذه الأثناء صبي مقدار خمسة أكواب من اللبن في إبريق... في إناء متوسط العمق اسكبي اللبن، وبعد تصفية الأرز من الماء أضيفيه على اللبن الدافئ... أضيفي نصف كوب من السكر واستمري في التقليب... يقدم دافئاً في طبق زجاجي».

وبالمعايير المطبقّة في الحكم على نصوصٍ من هذا النوع يبدو «أرز باللبن لشخصين» ناجحاً إلى حدّ بعيد من حيث لغته الواضحة البسيطة، والمنطقيّة في عرض الخطوات، والتركيز على التفاصيل، وسواها من مواصفات النصّ الإبلاغيّ الذي يحرص كلّ الحرص على أن تصل الرسالة إلى القارئ بأعلى قدرٍ من الوضوح، ودون أن يكون ثمّة تشويشٌ يمكن أن يؤدّي إلى سوءٍ في الفهم أو عسرٍ في التقاط المضامين.

البنية العميقة:
ولكن.. إذا جاز لنا أن نعدّ منجزاً قوليّاً ما مجرّد بنيةٍ سطحيّةٍ للنصّ الذي يمثّله، تخفي من تحتها بنى أخرى أشدّ تعقيداً، وأغزر دلالةً، فمن الضروريّ إذاً التذكير بأنّ الوصول إلى هذه البنى العميقة سيظلّ متعذّراً ما لم يشتمل السطح نفسه على إشاراتٍ أوّليّةٍ يمكن التقاطها والشروع بناءً عليها في عمليّة البحث والتقصّي عمّا يختفي وراءها. أي أنّ إعادة بناء النصّ ليست عمليّةً قائمةً في الفراغ، لكنّها مؤسّسةٌ على مادّةٍ أوّليّةٍ تقدّم نفسها من خلال الطبقة السطحيّة له.

وبالعودة إلى سطح النصّ في «أرز باللبن لشخصين»، نجد فعلاً أنّ ثمّة إشاراتٍ من هذا النوع تصلح لأن نعوّل عليها في مسعانا للحفر في العمق بحثاً عن طبقاتٍ أخرى قد تكون هي الأهمّ، أو الأجدر بالعناية والتأمّل:

1 ـ الشخصيّات:
أ ـ شخصيّة الراوي: وتستوقفنا أوّلاً شخصيّة الراوي. والراوي في النصّ يمارس دوره من الخارج. وكما هو واضح فإنّه هنا لا يمتلك ملامح محدّدة، وليس بوسع القارئ أن يدرك وجوده إلاّ عبر صوته وهو يملي على الشخصيّة الرئيسة ما ينبغي عليها فعله. فالنصّ لا يقدّم أيّة معلوماتٍ قد تفيد في التعرّف إلى جنس هذا الراوي أو عمره أو طبيعة عمله أو تاريخه أو علاقته بالشخصيّة الرئيسة. لقد ترك النصّ ذلك كلّه على شكل فراغاتٍ أو فجواتٍ مظلمة، وحمّل القارئ مسؤوليّة البحث فيما من شأنه أن يسدّها، ليكمل بناءه. إنّ بوسع القارئ أن يفترض أنّ هذا الراوي يمكن أن يكون خبيراً في الطبخ تستعين به الشخصيّة الرئيسة لإعداد هذا الطبق، وبوسعه كذلك أن يفترض أنّه قريبٌ منها، تربط بينهما علاقةٌ من نوعٍ ما (صديقة ـ جارة ـ أمّ ترشد ابنتها)، أو لعلّه شخصٌ مجهولٌ بالنسبة لها (مذيع يقدّم برنامجاً تلفزيونيّاً ـ مؤلّف لكتابٍ في الطبخ). وإذا ما أراد القارئ أن يواصل سلسلة الافتراضات هذه، فله أن يشير أيضاً إلى إمكانيّة أن يكون صوت الراوي هذا صوتاً داخليّاً، أي أنّه صوت الشخصيّة الرئيسة نفسها، ينطلق للتعبير عن موقفٍ ما، أو حالةٍ عاطفيّة، أو إحساسٍ، أو انفعالٍ ذي طبيعة معيّنة.

ب ـ الشخصيّة الرئيسة: وبغضّ النظر عن طبيعة العلاقة التي تربط بين الشخصيّتين، فإنّ الشخصيّة الرئيسة في النصّ تظلّ الأكثر إثارةً، والأجدر بمزيدٍ من التأمّل. هذه الشخصيّة يحاول النصّ ـ وبأسلوبٍ لا يخلو من المراوغة والمكر ـ أن يجرّدها من كلّ خصوصيّة، لتبدو محض أنثى لا تختلف كثيراً عن سواها ممّن اعتادت زوايا الطبخ على مخاطبتهنّ في المجلاّت النسائيّة أو البرامح التلفزيونيّة الموجّهة إلى المرأة. هي بلا اسم، ولا هويّة، ولا ملامح، ولا تاريخ. والأهمّ من هذا أنّها بلا شخصيّة. غير أنّ قراءةً واعيةً للنصّ ستكشف عن مقدارٍ غير قليل من المعلومات الدقيقة في بعض الأحيان، والتي من شأنها أن تنقلها من خانة النكرات، إلى خانة الشخصيّات الحقيقيّة التي تتمتّع فيها بكلّ مقوّمات الوجود. هي امرأةٌ إذاً، لها حياتُها الخاصّة، التي لا نستبعد أن تشبه حيوات كثيرٍ من النساء، لكنّها بالتأكيد حقيقيّةٌ لا بالمعنى الواقعيّ، بل بمنطق الفنّ وقوانينه واشتراطاته:

«تتطلب هذه الوصفة بالاً طويلاً... قومي بكل الخطوات بترو. ليست هناك طريقة سريعة لصنع الأرز باللبن، ولا تصدقي أي وصفة تحاول أن تجعلك تهرولي في صنعه... قلبي ببطء في اتجاه واحد... استمري في التقليب لمدة ربع ساعة على نار هادئة جداً... دائماً يأتي السكر في النهاية وبعد طول انتظار، وكلما هدأت النار من تحته كلما ازدادت حلاوته... يلتهم بالأصابع ببطء». هذا الإصرار على أن تكون الخطوات في تحضير الطبق بطيئةً، وأن تترافق بالصبر والانتظار مهما كان طويلاً، قد يشير إلى حالةٍ من الفراغ العاطفيّ تعيشه هذه المرأة، وتحاول أن تتغلّب عليه بالانتظار. ثمّة حبّ لم يأتِ في موعده، والمرأةُ وهي تشعر بالألم توهم نفسها بأنّ الأمر طبيعيّ جدّاً، فهذا هو الشأن مع كلّ الإنجازات العظيمة، والحالات الجميلة ـ التي عبّرت عنها بالسكّر وحلاوته ـ: «كلما هدأت النار من تحته ازدادت حلاوته».

وفي موضعٍ آخر: «في هذه اللحظة تذكرين كلمة جميلة، قبلة طويلة، ابتسامة دافئة عبر غرفة مزدحمة، أو حضن مشبع». إنّ كلمة (تذكّرين) هنا لا تحيل إلى الماضي، ولا تصوّر تجربةً سابقةً إلاّ من قبيل المراوغة، أي أنّ الكلمات الجميلة والقبل والابتسامات والأحضان ليست وقائع حقيقيّة تنتمي إلى عالم الذكريات، بقدر ما هي عناصر في حلمٍ جميلٍ ما يزال يراود هذه المرأة الوحيدة التي تعاني من الحرمان. هذه الحقيقة ينبغي على القارئ أن يصل إليها عبر نوعٍ من إعادة الكتابة، ليستبدل بمفردة (تذكّرين) مفردة أخرى من قبيل (تخيّلين) على سبيل المثال. وهو في ذلك لا يعتدي على النصّ، ولا يقحم نفسه فيه، لكنّه يقوم بعمليّة التفافٍ مضادّةٍ يحبط بها المحاولات المتكرّرة للنصّ للتعمية عليه، وتوجيه نظره بعيداً عن الحقيقة فيه. وبالطبع فإنّ حالةً من الفراغ العاطفيّ على النحو الذي قرأناه في النصّ، لا بدّ أن يقابلها سعيٌ نحو الإشباع أيّاً كان شكله أو طبيعته. وفي النصّ تبدو المرأة متّجهةً نحو ذاتها:

«من الأفضل أن تكوني وحدك في المطبخ، بل في المنزل كله، وأن تغلقي جميع الهواتف... اجلسي باسترخاء محتضنة الإبريق بين كفيك... افركي يديك سوياً، ومرريهما باستغراق على رقبتك. الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح... وبشفاه منفرجة اطبعي بصمتك الخاصة على وجهه».

المرأة التي طال انتظارها للحبّ تعزل نفسها عن الحياة. توصد بابها أمام العالم الخارجيّ، لتتفرّغ لنفسها. لتمارس الحبّ داخل عالمها الصغير، ومع أشيائها الخاصّة. إنّه الإحباط الذي حاولت من قبل أن تتجاهله: «ضعي كل شيء جانباً: مراراتك، حزنك، غضبك، إحباطك، وأي فكرة سيئة»، وها هو يداهمها ثانيةً، فتنشغل عنه بالأرز باللبن.

ج ـ شخصيّة الآخر الغائب: ولكي يكتمل فهمنا لشخصيّة المرأة يبدو من الضروريّ البحث في هويّة الشخص الآخر الذي سيشاركها طبق الأرز باللبن، فعلينا ألاّ ننسى أنّه معدّ لشخصين. وباستثناء ما ورد في العنوان، ثمّ في السطر الأوّل، ثمّ في السطر قبل الأخير «يلتهم ببطء مع شخص تحبينه» لم يكن لهذا الشخص وجودٌ على الإطلاق، أو هذا ما يمكن أن يقود إليه الوقوف عند سطح النصّ. غير أنّنا ما إن نغادر هذه الطبقة السطحيّة للنصّ قليلاً حتى نكتشف أنّه ما من جدوى وراء البحث في هويّة هذا الشخص. ذلك أنّه ليس له وجودٌ واقعيّ في حياة المرأة. ولو أنّ النصّ استخدم عبارةً أخرى في النهاية من قبيل (يلتهم ببطء مع الشخص الذي تحبينه..) لكان الأمر مختلفاً بالتأكيد.. فصيغة التنكير التي جرت الإشارة إليه عبرها قد تكون وحدها دليلاً كافياً على أنّه يمكن أن يكون أيّ شخص، بغضّ النظر عن هويّته أو ملامحه الخاصّة. هو من صنع المرأة نفسها. إنّه الشخص الذي لم يكنْ، وقد لا يكون. هو الشخص المفتقد الذي تنتظره، وتتمنّى أن تعدّ له مثل هذا الطبق.. فهي إذاً لا تحبّه، بل تنتظر ظهوره لتحبّه.

إنّ شخصيّة هذا الرجل الغائب لا تختلف في جوهرها عن سائر الشخصيات الأخرى (شخصيّة المرأة، وشخصيّة الراوي)، من حيث اتّساع الفجوات في صورته. ولكن إذا كان النصّ قد ترك هنا وهناك موادّ مختلفةً تصلح لسدّ الفجوات المتعلّقة بشخصيّتي الراوي والمرأة، وأوكل أمر جمعها وترتيبهما إلى القارئ، فإنّه ترك الفجوات فارغةً تماماً مع شخصيّة الرجل، مع غيابٍ شبه تامّ لكلّ ما من شأنه أن يخفّف من اتّساع هذه الفجوات، وقد يكون التفسير الأنسب لذلك أنّ هذا الرجل لا وجود له أصلاً إلاّ في خيال المرأة نفسها، فهو فجوةٌ في حياتها أيضاً لا في النصّ وحده، بل إنّ الشعور بالإحباط وصل بالمرأة حدّاً لم تعد تشترط في هذا الحبيب أيّة مواصفاتٍ خاصّة تميّزه عن غيره، ويكفيها فيه أن يكون (شخصاً)، ولذلك تخيّلته نكرةً مجرّدةً من كلّ صفةٍ تصلح لأن يُعرَفَ بها، ويُميَّز عن غيره.

2 ـ اللغة:
ولا تتوقّف عمليّة إعادة الإنتاج عند حدود الشخصيّات وحسب، بل تتخطّاها إلى اللغة نفسها (مفرداتٍ وجمل وتراكيب). والنصّ في هذا السياق لا يكفّ عن المراوغة أيضاً.. فهو يبدأ بلغةٍ شديدة المباشرة، ومن النوع المألوف في النصوص الإبلاغيّة الصرفة التي نجدها في الصحافة النسائيّة خصوصاً: «لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين ستحتاجين إلى ربع كوب من الأرز. أولاً، أخرجي اللبن من الثلاجة، ثم في طبق». هنا عند هذا الموضع ينحرف النصّ ـ وعلى نحوٍ مفاجئ ـ عن المسار الطبيعيّ للّغة ليستخدم كلمة (أبيض) في وصف الطبق، «ثم في طبق أبيض واسع ضعي الأرز»، وهو ما يدعو إلى التساؤل عن أهميّة لون الطبق في إعداد وجبةٍ من الوجبات. عند هذه الكلمة تحديداً يبدو من الضروريّ أن يتروّى القارئ كثيراً في التعامل مع لغة النصّ. وقد يجد في مواضع أخرى ما يؤكّد هذا الموقف لديه: «إبريق زجاجي شفاف». إذ ما من شكّ في أنّ لشفافيّة الإبريق هنا دلالةً ما تتجاوز دلالته المعجميّة، وإلاّ فما الذي سيتغيّر لو كان الإبريق غير ذلك؟ ويتكرّر السؤال نفسه عندما نلاحظ أنّ عمليّة التحضير بدأت في طبقٍ أبيض، لكنّها ستنتهي في طبقٍ ورديّ: «يقدم دافئاً في طبق زجاجي وردي اللون».

ثمّ ما الغايةُ وراء كلّ هذا الإصرار على أن تكون الأطباق زجاجيّةً دائماً؟! ألأنّها هشّةٌ سريعة الانكسار مثلاً، ممّا له علاقةٌ بإحباطات المرأة وخيباتها؟ أم لأنّ من خصائصها النعومة والنقاء؟ ممّا يغلب أيضاً على أحلامها وتطلّعاتها نحو المستقبل.

ولو بالغ القارئ، واستسلم لشهوة التساؤل هذه، وراح يبحث عن الدلالات الكامنة خلف كلّ مفردةٍ من مفردات النصّ، لكان لذلك ما يبرّره. وبالفعل، فما الذي يحول دون أن يكون للثلاّجة «أخرجي اللبن من الثلاجة» علاقةٌ بحالة البرود التي تعاني منها المرأة وهي تعيش وحيدة؟ أو أن يكون لدرجة حرارة الماء «انقعيه في كوبين من الماء الدافئ، وليس المغلي.» علاقةٌ أيضاً بالعاطفة ونوع الانفعالات التي تعيشها؟ بل ما الذي يمنع من أن يكون (الأرز باللبن) نفسه وجبةً عاطفيّةً تمنّي نفسها بها مع الحبيب المنتظر؟

والنصّ إلى ذلك يعمد إلى استفزاز القارئ بتركيباتٍ لغويّةٍ غريبة، تتحدّى ذكاءه، وتدعوه صراحةً إلى البحث عمّا يختبئ خلفها من دلالات: «تذكري أن كل ما ستقومين به سيصبح جزءاً من الأرز باللبن، يشعر به كل من سيأكله، حتى الأغنية.. خصوصاً الأغنية»، «نعم نعم.. هذه هي لمعة العيون التي تلائم الأرز باللبن»، «الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح»، «اقتربي من الإناء واهمسي بسر ما. اختاري السر جيداً». إنّ الاقتصار في التعامل مع النصّ على لغته بدلالاتها المباشرة لن يقود إلى فهمٍ حقيقيّ وعميقٍ له، الأمر الذي يوجب على القارئ أن يتدخّل، ليعيد صياغة النصّ، ليصل به أقرب ما يمكن إلى الحقيقة.

3 ـ الزمن المفقود:
ومن أشدّ ما يستثير الانتباه في هذا النصّ انشداده الصريح إلى بعدٍ معيّنٍ من أبعاد الزمن هو المستقبل، مع تغييبٍ شبه مطلق للبعدين الآخرين (الماضي والحاضر). إنّ الاتّكاء على صيغة الأمر في الأفعال المستخدمة: (أخرجي، ضعي، صبّي، تذكري، اقتربي، اهمسي) إنّما يؤكّد ذلك، باعتبار أنّ الأمر يتضمّن أحداثاً يُطلَبُ وقوعُها، وقد تقع بعد ذلك، أو لا تقع. هي أفعالٌ تومئ إلى رغباتٍ، أو أمنياتٍ، أو حاجاتٍ تبدو ضروريّةً لخلق حالةٍ من التوازن تبحث عنها الشخصيّة الرئيسة، وتسعى وراءها، ولكن دون أن يكون ثمّة ضمانةٌ بأنّ ذلك سيتحقّق فعلاً، لأنّها رهنٌ بزمنٍ من طبيعته أنّه خارج السيطرة على الدوام، هو المستقبل. إنّ الدفء الذي رافق عمليّة إعداد الأرز باللبن، والأحاسيس المرهفة التي تخلّلتها، مرتبطٌ في واقع الأمر بزمنٍ متخيّل، أمّا الواقعيّ المنتمي إلى الماضي أو الحاضر فالنصّ لا يومئ إليه إلاّ على نحوٍ خفيّ، كأنّما يُراد له أن يبقى بعيداً عن دائرة الضوء ما أمكن.

لقد سبق أن أشرنا إلى كلمة (تذكّري) التي تنتمي من حيث دلالتها المعجميّة المباشرة إلى الماضي، لكنّنا لاحظنا أنّها انحرفت إلى دلالةٍ أخرى أقرب إلى عالم الحلم المستقبليّ الجميل أو الرغبة في التعويض عن حرمانٍ ما، وافترضنا أنّ كلمةً مثل (تخيّلي) يمكن أن تحلّ محلّها، لكنّ النصّ آثر عليها كلمة (التذكّر) إمعاناً منه في لعبة المراوغة التي ما فتئ يمارسها منذ البداية. أمّا الحاضر ففي النصّ إشارةٌ إليه بدت عابرةً، وضمن سياقٍ لا يخلو هو الآخر من هذه الروح المراوِغة التي طبعت النصّ برمّته: (ضعي كل شيء جانباً: مراراتك، حزنك، غضبك، إحباطك، وأي فكرة سيئة). هذا هو الحاضر إذاً. أو لنقل هذه هي الحقيقة، أمّا ما عدا ذلك فمستقبلٌ مجهول، يحاول النصّ أن يجلو بعض ملامحه، ولكن على سبيل التخيّل لا غير.. لقد حاول النصّ أن يعوم خارج الزمن، ـ أو لعلّه في أقلّ تقدير ـ حاول أن يهرب من الوقائع الحقيقيّة التي يحفل بها ماضيه وحاضره إلى المستقبل بما أضفى عليه من دفءٍ وأناقةٍ وإيقاعاتٍ تنبض بالحياة، في مسعى منه للإيهام بأنّ هذا هو الأصل، وأنّه الجوهر الذي ينبغي الانتباه إليه دون غيره. وهو في ذلك كلّه لم يخرج على الإطلاق عن قواعد اللعبة الجميلة التي التزم بها منذ البداية.. لعبة المراوغة والمكر بالقارئ.

4 ـ النصّ الموازي:
وممّا يتعيّن على القارئ ألاّ يهمله ـ إضافةً إلى ذلك كلّه ـ هو النصّ الآخر الموازي للنصّ الأصليّ، والمتمثّل بأغنية فيروز. وأغنية فيروز هنا لم تكن مجرّد خلفيّةٍ لمجموعة العناصر المكوّنة للنصّ. وإن كانت كذلك فهي بالتأكيد ليست عبثيّةً بمعنى الخلوّ من المعنى أو الغرض. الأغنية حالمةٌ كما وصفها النصّ: «فكري أفكار سعيدة. دندني بأغنية حالمة.. أنا لحبيبي وحبيبي إلي»، وانتماؤها إلى عالم الأحلام قد يكون مفتاحاً ملائماً لفهمها، ووضع اليد على حقيقة دورها في النصّ.

لقد سبق أن أشرنا إلى أنّ الأرز باللبن نفسه قد يكون وجبةً عاطفيّةً تمنّي المرأة نفسها بها مع الحبيب المنتظر، وعنينا بذلك أنّها تمثّل معادلاً موضوعيّاً لحالة الإشباع التي تبحث المرأة عنها. ثم جاءت الأغنية لتعزّز هذا التطلّع نحو الامتلاء العاطفيّ:

«أنا لحبيبي وحبيبي إلي، وندهني حبيبي جيت بلا سؤال، وأنا على دربه». إنّه الاستسلام المطلق للحبيب، والرغبة في تمكينه من الذات دون أن يكون ثمّة مراجعةٌ أو سؤال. هذا الاستعداد للانخطاف نحو الحبيب، والارتماء في عالمه، لا تفسّره سوى حالة اليأس التي كانت المرأة تعيشها، وتسعى إلى التحرّر منها مهما كان الثمن الذي يتعيّن عليها دفعه. وفي كلّ الأحوال، ثمّة ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ هذا النصّ الموازي لم يكن مهمّاً بعناصره اللغويّة فقط، وما قد تشير إليه من دلالات. أهمّيّته الحقيقيّة إنّما كانت تكمن في كونه نصّاً موسيقيّاً. أي مجموعة من الإيقاعات المضبوطة على إيقاعات الروح نفسها.

أغنية فيروز في النصّ ليست هامشاً، أو فائضاً قوليّاً. هي الحلم الذي عبّرت المرأة عنه كلاميّاً بطبق الأرز بالحليب. وكما لو أنّها كانت تخشى ألاّ تسعفها لغة الكلام هذه في الإفصاح عنه تماماً، فاستعارت لغة الإيقاع الموسيقيّ، التي هي لغةٌ لا تخطئ هدفها أبداً، لأنّها لغةٌ عابرةٌ للثقافات، وقادرةٌ على تجاوز كلّ الحواجز التي قد تعاني منها لغة الكلام.

القارئ/ المؤلّف:
نصّ «أرز باللبن لشخصين» ذو بنيةٍ سطحيّةٍ بسيطة، لكنّه من الداخل غنيّ بالدلالات والإشارات الموحية، وغناه هذا إنّما ساعدت عليه، وأكّدته، المساحةُ الواسعة للهوامش المتروكة للقارئ كي يثبت من خلالها حضوره، الأمر الذي لا يخرج عن المزاج الأدبيّ الحديث الميّال على الدوام إلى إشراك القارئ في عمليّة الإبداع، ليصبح مؤلّفاً آخر للنصّ. ومع تعدّد القرّاء يتعدّد المؤلّفون، وتتعدّد أشكال التفاعل وزوايا النظر، دون أن يكون لشكلٍ سلطةٌ على آخر، بحيث يقصيه، أو يغضّ من شأنه. 

النص 


أرز باللبن لشخصين 

رحاب بسام 


لعمل طبق من الأرز باللبن لشخصين ستحتاجين إلى ربع كوب من الأرز. أولاَ، أخرجي اللبن من الثلاجة. ثم في طبق أبيض واسع ضعي الأرز ونقيه من أي شوائب. ضعي كل شيء جانباً: مراراتك، حزنك، غضبك، إحباطك، وأي فكرة سيئة. تتطلب هذه الوصفة بالاً طويلاً والكثير من الابتسامات المفاجئة. قومي بكل الخطوات بتروٍ. ليست هناك طريقة سريعة لصنع الأرز باللبن، ولا تصدقي أي وصفة تحاول أن تجعلك تهرولي في صنعه. من الأفضل أن تكوني وحدك في المطبخ... بل في المنزل كله، وأن تغلقي جميع الهواتف وترتدي شيئاً مريحاً. اغسلي الأرز أكثر من مرة حتى يصبح ماؤه نقياً. انقعيه في كوبين من الماء الدافئ (وليس المغلي) لثلاثين دقيقة.

في هذه الأثناء صبي مقدار خمسة أكواب من اللبن في إبريق زجاجي شفاف. اجلسي باسترخاء محتضنة الإبريق بين كفيك. سيعمل هذا الحضن اليدوي على تدفئة اللبن. بحنان بالغ ربتي على الإبريق. فكري أفكارا سعيدة. دندني بأغنية حالمة..

أنا لحبيبي وحبيبي إلي.. يا عصفورة بيضا لا بقى تزعلي.. لا يعتب حدا.. ولا يزعل حدا.. أنا لحبيبي وحبيبي إلي.

تذكري أن كل ما ستقومين به سيصبح جزءاً من الأرز باللبن يشعر به كل من سيأكله، حتى الأغنية.. خصوصاً الأغنية.

في إناء طهو متوسط العمق اسكبي اللبن، وبعد تصفية الأرز من الماء أضيفيه على اللبن الدافئ. قلبي ببطء في اتجاه واحد لمدة ربع ساعة.

حبيبي نده لي.. قال لي الشتي راح.. رجعت اليمامة وزَهّر التفاح.

في هذه اللحظة تذكري كلمة جميلة، قبلة طويلة، ابتسامة دافئة عبر غرفة مزدحمة، أو حضن مشبع. دندني.. نعم.. ابتسمي أيضاً.. نعم نعم.. هذه هي لمعة العيون التي تلائم الأرز باللبن.

وأنا على بابي الندي والصباح.. وبعيونك ربيعي نور وحِلي.

بإحساس مرهف أضيفي رشة من القرفة وأخرى من الفانيليا، كل رشة بيد. افركي يديك سوياً ومرريهما باستغراق على رقبتك. الرقبة مكان مهم للحصول على أرز باللبن ناجح. استمري في التقليب لمدة ربع ساعة على نار هادئة جداً حتى يطرى الأرز. اقتربي من الإناء واهمسي بسرٍ ما. اختاري السر جيداً. أضيفي نصف كوب من السكر واستمري في التقليب ليذوب تماماً.. تماماً.. دائماً يأتي السكر في النهاية وبعد طول انتظار، وكلما هدأت النار من تحته كلما ازدادت حلاوته.

وندهني حبيبي جيت بلا سؤال.. من نومي سرقني.. من راحة البال.

يقدم دافئاً في طبق زجاجي وردي اللون. للتزيين رشي قليلاً من القرفة عليه، وبشفاه شبه منفرجة اطبعي بصمتك الخاصة على وجهه. يُلتهم بالأصابع ببطء مع شخص تحبينه.

وأنا على دربه ودربه عالجمال.. يا شمس المحبة حكايتنا اغزلي(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رحاب بسّام: أرز باللبن لشخصين، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، مارس 2008، ص ص (12 ـ 13).
(2) الأغنية المصاحبة: "أنا لحبيبي" لفيروز.