في هذه الدراسة التي تخص بها الكلمة الباحثة المغربية، نتعرف على نقط التقاطع بين الموسيقى الأندلسية والغربية في المقطوعة الشهيرة "غراميات في حدائق الأندلس". ومن خلالها نتعرف على خصوصية الاشتغال الفني، وعن طريق التناغم بين هذين النمطين من الموسيقى تبرز القيمة الفنية للمقطوعة.

الموسيقى الأندلسية والموسيقى الغربية

في «غراميات في حدائق الأندلس»

سعاد أنقار

عند نظرتنا الأولى إلى المؤَلَّف تطالعنا صورة الغلاف وقد صيغت بأسلوب متداخل غير منظم: سطور المدرجات الموسيقية، أشكال العلامات الموسيقية، علامات التحويل، مفاتيح مختلفة، حروف لغوية، أقواس. إنها فوضى من الأشكال الموسيقية تجعلنا نتساءل حتما ونحن في بداية تلقي هذا العمل: هل صيغت موسيقى الكتاب بمثل هذه الفوضى؟ هل هي صورة تعكس عن عمد فوضى الفن في زمن ما بعد الحداثة؟ لكن استماعنا فيما بعد إلى المقطوعة ثم النظر إلى نوتاتها داخل الكتاب قد يخالف هذه النظرة الأولية، وقد يدعو إلى فكرة أخرى تقول: استمعوا إلى موسيقى جميلة تخالف دعوات لاانسجام الفن وفوضويته وضجيجه التي تعد اليوم موضة عند كثير من المؤلفين الموسيقيين.

نستطيع تلمس أشكال هذه الفكرة من خلال كثير من السمات التي يمكن للمستمع الناقد أن يستخرجها من خلال الإنصات المتكرر للمقطوعة. ذلك أن ألحانها تبتدئ بموسيقى صيغت بطريقة هادئة "Tranquillo"، من خلال عزف ثلاثة حقول ونصف للبيانو المنفرد. بعدها تنطلق آلة الساكسوفون (سي بيمول) بعزف الميلودية الأساس للمقطوعة في جملة واضحة تطرح الموضوع الرئيس الذي سيتمحور حوله العمل: 

إنها جملة موسيقية أندلسية استلهمها المؤلف من صنعة "يا نسيم الروض" التي تقول كلماتها:

يا نسيم الروض خبر الرشا   لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه حشو الحشا   إن يشا يمشي على خدي مشا
قوله قولي وقولي قوله   إن يشا شئت وإن شئت يشا
روحه روحي وروحي روحه   إن عاش عشت وإن عشت عاشا
جمع الحسن جميعا وجهه   فإذا المرء رآه دهشا


إنها أبيات تشيد بالحسن، والحب، والجمال، والطبيعة أيضا. وقد استلهم مصطفى عائشة ميلودية هذه الأبيات من نوبة "العشاق". ولعل ذلك الهدوء الذي تدعو إليه آلة البيانو في أول البارياسيون Variacion (وهو القالب الذي اختاره المؤلف لمقطوعته)، يجاري تلك المعاني التي نجدها في نوبة العشاق، فقد غلب على أشعارها «أن تكون في ذكر الصباح وانبثاق نور الفجر توخيا للتجاوب مع طبع هذه النوبة الذي يحرك في النفس الإحساس بالبدء والنشوء»(1). لذلك ندرك كيف أن افتتاح البيانو بنغمات اليد اليسرى يمضي إلى ألحان عليا تصاعدية، أما اليد اليمنى فتبقى ثابتة اللحن كأن المؤلف يصور عملية طلوع النهار، أو انبثاق الفجر في هدوء وسكينة: 

وبطلوع النهار، يعم النور الدنيا، فيضيئ حدائقها وطبيعتها، ويمضي الناس إلى أعمالهم وإلى عشقهم أيضا. وبتصوير البيانو لعملية الطلوع هذه يبدأ الساكسوفون (سي بيمول) في الغناء وأداء الميلودية التي أشرنا إليها سابقا. ومن خلال لحنها الهادئ يمكننا تلمس نقط اشتراك بين نوبة "العشاق" و "غراميات في حدائق الأندلس"، فقد عنون المؤلف مقطوعته بـ "غراميات في حدائق الأندلس"، والعشق والغرام أمران سيان في كلا العنوانين، فلامناص إذن أن تكون الجملة الموسيقية المستلهمة جملة هادئة، ولامناص كذلك من أن تدور الأبيات الشعرية حول موضوع الغرام وأن يطرح الموضوع بطريقة هادئة أيضا توحي بالانسجام وبتداخل العواطف.

لقد كان للزمن والحب والطبيعة في الأندلس قيمته العاطفية والفنية، وتُخلد كثير من أشعار الأندلسيين ذلك. كما أن الموسيقى كانت بدورها خير مرسول للحب في ذلك الزمان حسبما تحدثنا به كتب الأدب والموسيقا وتاريخها. وقد جاء في كتاب الأدوار لصفي الدين الحلي عن تأثير المقامات في النفوس: «فالعشاق والنوا وبوسليك تولد فيها الشعور بالقوة والشجاعة، أما الراست والعراق والأصفهان... فتبعث فيها الإحساس بالغبطة والسرور... في حين أن الزِّيرْفَكَنْد والحسيني والحجاز... تحرك فيها الشعور بالحزن والأسى»(2). لذلك نعاين كيف أن المؤلف قد استلهم جملته الموسيقية من مقام العشاق الموحي بالقوة والشجاعة، وإن لم يكن نفس المقام الذي كتب فيه مقطوعته، إلا أنه أراد على الرغم من ذلك أن يستلهم أجواء شعور القوة والشجاعة وأن يصوغها في إطار مقطوعته الحديثة: إنها قوة الزمن والطبيعة والحب والفن أيضا.

وبعيدا عن فوضى صورة غلاف الكتاب التي قد توحي بموسيقى غير متآلفة حسبما سبقت الإشارة، نرى المؤلف يوَشّي مقطوعته ببعض الزخارف الموسيقية حتى تبدو أكثر جمالا وانسجاما. وأظن أننا لن نأتي بجديد إذا قلنا إن الموسيقى الأندلسية غنية في هذا المجال، كما أن الشعر الأندلسي عموما معروف بأشكاله البديعية وتنويعاته اللغوية التي تتيح للمستمع موسيقى لغوية واضحة، ولا أدل على ذلك من تلك الأبيات التي استلهم المؤلف من لحنها مقطوعته.

وإذا عدنا إلى المقطوعة التي بين يدينا لاحظنا استعمال المؤلف تلك الزخارف بين الفينة والأخرى. ويتعلق الأمر بذلك النموذج الذي يطلق عليه في عالم الموسيقى اصطلاح "الزغردة Trino"، من ذلك ما ورد في التنويع الثاني:

والتنويع الثالث أيضا:

كان لا بد إذن للمقطوعة أن تحتوي بعض الزخارف الموسيقية وأن تكون لها بلاغتها التزيينية الخاصة مادامت قاعدة استلهام ما هو أندلسي تزخر بذلك، ومادام شعر الصنعة أيضا يزخر بأنواع من الزخارف البلاغية والبديعية، ولا أدل على ذلك البيتان الأول والثاني: فالأول به تصريع (الرشا ـ عطشا)، والثاني أيضا به تصريع (الحشا ـ مشا)، ولعب بحرف الشين (حشو ـ الحشا ـ يشا ـ يمشي ـ مشا)، الأمر الذي يسم اللغة بموسيقى واضحة، وإصرار على جعلها لغة طبيعية ذات نغمات جميلة ومنسجمة.

ومما يضمن للنغمات الموسيقية الارتكاز في المقطوعة، ويجعلها نغمات تدور حول مركز ومحور معنوي واحد، استعمال المؤلف لتقنيات النبر الموسيقي Acentuacion في كثير من الأحيان. إنه تمركز متناغم يخالف دعوات موسيقى ما بعد الحداثة التي تجنح إلى التعابير المتشظية، واللانظامية وإلى التجديد في كل شئ. والنبر الموسيقي يعد من أهم قواعد الموسيقى الكلاسية الذي يعطي للأصوات تلوينات نغمية جميلة، ومواضع قوة وضعف. لذلك نلفي له أنواعا في مقطوعة "غراميات في حدائق الأندلس"، ومن نماذجه: 

الوصل

العلامات المنقوطة

الشَّدَّة

لقد تحدث تيودور أدورنو (1903 ـ 1969) Theodor Adorno الفيلسوف الذي أسهم في إغناء النقاش حول الموسيقى الجديدة في أحد محاضراته فقال: «لا يمكن لوم الناقد لعدم فهم النتاجات الحديثة، طالما كان من طبيعة نهجها أنها لم تؤلف كي تفهم بل كي تعرض فقط...»(3). وتبعا لذلك نقول في نهاية هذا التحليل إن الموسيقى التي نحن بصددها لم تؤلف لكي تعرض بل لكي تفهم معانيها وتصل أحاسيس مؤلفها وبعض أفكاره إلى الناس. فقد وظف مصطفى عائشة كثيرا من مقومات الموسيقى الكلاسية الغربية، كما أنه استلهم أجواء موسيقانا الأندلسية فأعطاها جملا موسيقية جميلة ومتناسقة. وفي ظل هذا الجو الفريد نقول إنه مازال هناك أناس لا يميلون بطريقة كلية إلى لاموسيقية ما بعد الحداثة، ومن ثم فهم مازالوا يدافعون عن قوة وانسجام الموسيقى، خاصة أن المقطوعة التي نحن بصدد النظر فيها قد اختيرت سنة 2006 من قبل جمعية "النفير" لأساتذة الطرومبيط بالأندلس La Asociacion de Profesores de Trompeta de Andalucla Al Nafir، وأدرجت ضمن المقررات الدراسية، وتم طبعها في كتاب موسيقي(4). إضافة إلى أنها عزفت في كثير من المحافل والأمسيات الفنية.

تلك إذن هي السمات المميزة لمقطوعة "غراميات في حدائق الأندلس": هيمنة صريحة لسمات الموسيقى الأندلسية، وحضور حيوي لأجواء الموسيقى الغربية وآلاتها. وعن طريق التناغم الساحر بين هذين النمطين من الموسيقى تبرز القيمة الفنية لمقطوعة الموسيقار الكبير مصطفى عائشة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الموسيقا الأندلسية المغربية، فنون الأداء. عبد العزيز بن عبد الجليل. عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت. 1988. ص 185.
(2) ـ عن كتاب نوبات الآلة المدونة بالكتابة الموسيقية، نوبة العشاق. يونس الشامي ج3. مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر. الدار البيضاء. (الدار البيضاء). ط1. ص 42.
(3) ـ علي الشوك: "شتوكهاوزن وأدورنو"، انظر الموقع الاكتروني الآتي:
http://www.assuaal.com/essies/essies.169.htm
(4) ـ Amores en los jardines del Andalus, para trompeta (si bemol) y piano, coleccion Al Nafir, vol3 .Rivera Editores, Valencia. 2006.