في هذه الدراسة الشاملة تقدم الناقدة اللبنانية يمنى العيد قراءة تحليلية لأعمال ربيع جابر، وهو أحد أبرز الروائيين اللبنانين الذين ظهروا في العقدين الأخيرين، وتكشف عما تنطوي عليه أعماله المتلاحقة من بنى ورؤى ودلالات.

ذاكرة الزمن وإيقاع الحياة

يمنى العيد

بإمكان المتابع لمسار ربيع جابر الروائي منذ صدور روايته الأولى "سيد العتمة" (1992) وحتى صدور الجزء الثاني من روايته "بيروت مدينة العالم" (2005)، أن يلاحظ أمرين أساسيين: الأول هو توجُّه هذا الروائي الشاب لكتابة رواية تستعين أكثر فأكثر بعناصر من التاريخ. التاريخ ليس باعتباره ماضياً يدخل في مفهوم الحكاية التي ترويها الذاكرة، كما يقول التنظير ما بعد الحداثي للسرديات(1)، بل باعتباره مادة موثقة [بالمقارنة، أو المعاينة، أو التدقيق والتحقيق...] تحتضنها كتب تنتمي إلى جنس من الكتابة هو الكتابة التاريخية التي تتوخَّى الوصول إلى الحقيقة في حدثيَّتها المرجعيَّة، وليس شأن السرد الروائي الذي يصوغ حقيقته بآلياته البنائية وضمن عالمه الفني المبتكر. ويمكن القول بأنَّ التاريخ بهذا المعنى، أي بصفته مادة تنتمي إلى كتب التاريخ، صار مرجعاً أولياً لروايات ربيع جابر الأخيرة، أعني بشكل خاص "بيروت مدينة العالم" بجزأيها، وقبلها "يوسف الإنكليزي" (1999)، وكذلك، وإن بشكل أقل وضوحاً، "نظرة أخيرة على كين ساي" (1998) ، و"رحلة الغرناطي" (2003)، وربما "الفراشة الزرقاء" (1996)، التي يمكن اعتبارها أقل توكُّـأً على التاريخ الموثق الذي بدا واضحاً في "بيروت مدينة العالم" (الجزء الأول 2003). 

أما الأمر الثاني، وهو ما يهمنا في هذه الدراسة، فهو أن التاريخ الذي تستعين به، أو بعناصر منه، روايات ربيع جابر ليس مقصوداً، شأن معظم الروايات التاريخية، بهدف إعادة قراءته، أو إضاءة قضيةٍ من قضايا الحاضر، أو للإفصاح عمَّا لا تسمح سلطات الحاضر بالإفصاح عنه. هكذا، فلئن كان عبد الرحمن منيف، مثلاً، يعيد في "أرض السواد" صياغة تاريخ العراق الحديث (زمن داوود باشا) ليضيء ما أُغفل عنه، وليعيد الحياة إلى هذه الأجواء الشعبيَّة بكل ما هي عليه من بساطة وطيبة وثراء، وجمالية في السلوك والرؤى والمواقف المعقودة على حب بلدهم وخلاصه من نفوذ الغرب (الإنكليزي) عليهم... وكان جمال الغيطاني في "الزيني بركات" قد أبرز كيف يعيد الشرط التاريخي بتكراره إنتاج القمع والتسلُّط والانتهازية والفساد، وصاغ، روائياً، دلالات القمع التي يحيل فيها الحاضر على الماضي، أو يكشف فيها الماضي معنىً له قائماً في الحاضر... وكانت رضوى عاشور في "قطعة من أوروبا" قد وظَّفت السرد المتخيّل التجريبي لكشف حقيقة تاريخ القاهرة الحديث في زمكانيَّته الجميلة، المتنوعة والمتداخلة باعتبارها حقيقةً شُوِّهت وغُيِّبت عن الوعي الجمعي في الحاضر... فإنَّ ربيع جابر يذهب إلى التاريخ، أو يتعامل معه بهدفٍ آخر لا نُحدِّده قيميّاً. بل، اختلافاً، كون هذا الهدف يتركَّز على المعنى العميق لتحوُّلات التاريخ بما هي، أي هذه التحوُّلات، حركةُ الزمن التي وإن تحدَّدت بوقائع تاريخيَّة، فإنَّها تطرح سؤال الزمان ـ لا سؤال التاريخ ـ حتى ليمكن القول بأنَّ ما يكتبه ربيع جابر من روايات تستمد مادتها الأولى من التاريخ، وحكاياته، لا ينتمي، كما يُمكن أن يُظَن، إلى الرواية التاريخيَّة..ذلك أنَّ فكرة الزمان وسؤاله هو المعنى الكامن خلف مسروداته الروائية المستعينة بعناصر من التاريخ، أو تلك التي صار التاريخ مرجعاً أولياً لها.

يذهب ربيع جابر في حكايته للتاريخ، أو عن التاريخ ـ تاريخ المدينة، بيروت، بشكل خاص ـ أبعد من التاريخ إذ يواجه ما يمحوه الزمن: الزوال. زوال الأماكن والناس.. كأنَّ التاريخ هو حمولة الزمن في ديمومته، وكأنَّ هذه الديمومة لا تكون إلاَّ على قاعدة المحو والتحوُّل.. فلا حاضر إلاَّ على ركام ما مضى.. حتى لكأنَّ الحياة هي من رماد الموت.. والتاريخ سجل لحركة التحوُّلات المحكومة بالموت والولادة، بالغياب والحضور، بالفقدان، بعوامل الصراع والحروب، باهتزازات الطبيعة، بالتراكم ومتغيِّرات الزمن. يُغذِّي التاريخُ، وبما هو كذلك، الذاكرة، لكنها ـ الذاكرة ـ هي التي تحفظ له الحياة، إذ تعود بها إلى الوجود. هكذا، ومن منظورٍ يتعامل مع الزمن والوجود، أو مع معنى لهما، يسعى ربيع جابر إلى إبداع زمن الرواية بما هو ذاكرة ليس لها أن تتصف باليقين: فالزمن زوال ومحو، والسرد تذكُّر لما كان، وكل تذكُّر لا يستقيم إلاَّ بذاته، ولذاته! طارحاً بذلك سؤاله على معنى الوجود وحقيقته..

ربما لهذا راح ربيع جابر يمعن، حين الحكاية عن هذا الزمن، في الاستعانة بالتاريخ، التاريخ في تسجيليَّته، التاريخ الموثَّق، بأكثر من ذاكرةٍ مرجعيَّة.. شأنه في الجزء الأول من روايته "بيروت مدينة العالم" [ حيث أثبت من ص 40 ـ 48 لائحة بأسماء عددٍ من الكتب والمخطوطات الموثَّقة بلغ عددها الخمسين]. لكن، ورغم هذه الاستعانة بالتاريخ، وبما هو أحياناً، وبشكلٍ صريح، مدوَّنات، وكتب ومرويَّات محالة على مراجع لها، يبقى السؤال مطروحاً داخل الرواية، على هذه الذاكرة السرديَّة، على المتخيَّل، داخل عالمه، داخل نسيجه المشوب اشتغاله بالشك والالتباس أحياناً، والمتأرجحة هويةُ عالمه، غالباً، بين الحضور والغياب، أو بين الواقع والمنام وبما هي العلاقة بينهما ـ الواقع والمنام ـ حركةٌ بين اليقين والشك، بين الواقع والتذكُّر، بين المرئي في حضوره الزمني واللاَّمرئي الذي طواه الزمن.

تستعيد الذاكرة السردية، وبما هي فعل تأليف، الزمن باعتباره عالماً كان. وإذ تمارس الذاكرة هذه نشاطها، تبدو فعلاً يتجاوز التاريخ.. فالزمن أزمنة، والذاكرة تجوال يهدم الحدود كلما رسمها التاريخ. هكذا يعيش عالم روايات ربيع جابر قلق وجوده في الزمن، ومعناه الذي يتداخل فيه ما تراه الشخصية في المنام بما تعيشه في الواقع، أو يتداخل ما تستحضره ذاكرة الشخصيَّة وتحكيه، مما يخصُّ ماضيها، بما تمارسه هذه الشخصيَّة في حياتها الحاضرة. حتى لكأنَّ الكتابة الروائية عن التاريخ، أو هذه التي تستعين به وتحيل، داخلها، عليه، هي استحضاراً للزمن وإعادةُ تشكيلٍ له، للذاكرة به.. للذاكرة نفسها التي تستحضره. تستحضر الذاكرة لا مرئيّاً نعتقد أنه غير موجود، أو مضى في الزوال، لكنه، وحسب الرواية، قائم في إيقاع الكون، في طبقات الأرض.. أو في ما يمكن تسميته: أركيولوجيا زمكانيَّة. بهذا، ولهذا، تنبني الرواية، رواية ربيع جابر "التاريخيَّة"، وكأنَّها سؤالٌ عن الزمان حين لا يعود الزمن سوى ذاكرة، وحين لا تكون الكتابة إلاَّ كتابة من تلك الذاكرة.  

ولعلَّه من المفيد أن نشير هنا إلى أنَّ هذا السؤال عن الزمان، وبما هو في بعده الأعمق سؤال عن الوجود وحقيقته، لا يقتصر على روايات ربيع جابر المستعينة بعناصر من التاريخ أو التي مالت، في رواياته الأخيرة، إلى اعتماد التاريخ مرجعاً أولياً لما ينسجه عالم الرواية، بل هو، أي هذا السؤال، بمثابة منظور فكري نتبيَّنه في أكثر من رواية من رواياته التي شكَّلت مرحلة أولى من نتاجه الروائي والتي انتمى زمنها السردي إلى زمن حاضر تعيشه الشخصيَّات من حيث هو زمنٌ معاصر لنا، نحن القرَّاء. الأمر الذي يؤكِّد، كما سنرى، ما ذهبنا إليه من قول بأنَّ احتفال روايات جابر بالتاريخ هو احتفالٌ معنيٌّ لا بكتابة رواية تاريخيَّة، بل بسؤال الزمان الذي قد يطرحه التاريخ علينا حين نطرحه عليه بصفته الزمكانيَّة القائمة بحركة الزوال والوجود، وما يترتَّب على ذلك من تراكم وتداخل بين الأزمنة وعوالمها، بحيث تصبح استعادتها مُناطةً، أبداً، بالذاكرة. الذاكرة التي تروي، والذاكرة الموازية لها والتي تتشكَّل لدى من يقرأ. في ما يلي سنتناول، وفي حدود ما يهمنا في هذه الدراسة، عملين روائيين هما: "شاي أسود"، و"رالف رزق الله في المرآة" باعتبار أن زمن عالم كل منهما ينتمي إلى زمن حاضر يعاصرنا. ثم نتناول ثلاث روايات هي: "رحلة الغرناطي"، و"نظرة أخيرة على كين ساي"، و"يوسف الإنكليزي" باعتبارها روايات استعانت بعناصر من التاريخ القديم، أو أوحت بذلك، لنتوقف أخيراً عند رواية " بيروت مدينة العالم" بجزأيها التي حكت عن التاريخ وجعلته مرجعاً أوليّاً وأوحت بأنَّها رواية تاريخيَّة بامتياز.

1 ـ شـاي أسـود (2)
 في هذه الرواية يعيش حسام، وبما هو شخصيَّة رئيسة في الرواية، وحدته وقلقه في المدينة ـ بيروت ـ المسكونة بخرابها. يمشي حسام في شوارع المدينة وبين أبنيتها الحزينة منطوياً على ذاته. الحكاية في هذه الرواية، وكما يبدو، هي حكاية الذات في معاناتها لزمنٍ قائم في حاضره الماثل واقعاً يعيشه حسام. إنه زمن بيروت ـ الحرب ـ المتزامن، حسب الرواية، وزمن كتابتها. وهو زمن له، ومن حيث علاقة حسام به، وعيشه له، دلالة الفقدان. زمن لا معنىً حقيقياً لوجوده في نظر حسام. إلاَّ أنَّ دلالة الفقدان لا تحيل في الرواية على الحرب وما خلفته، كما قد يمكن أن يكون الحال بالنسبة لحسام، وإن كانت الحرب زمناً يعيشه حسام في هذه الرواية. إنَّ مشاعر الفقدان التي يعانيها حسام تعود إلى فكرٍ يتبنَّاه. يتبنَّى حسام، وكما تقول لنا الرواية، "النظريَّة الكوميدية القائلة بكون العالم وهماً، أو في أحسن الأحوال مناماً". وبناءً على ذلك "توصَّل حسام إلى أن يكتشف أنَّه غير موجود إلاَّ في الخيال" (ص6).

يعيش حسام، منذ بدايات زمنه في الرواية، فقدانه لوجوده. وحين ينتهي حسام من حكايته الحواريَّة مع زمنه الحاضر هذا، يؤكِّد لنا ما كان قد توصَّل إليه، فكرياً، قبل أن يبدأ حكايته، أي ما كان قد فكَّر فيه وقاله بدايةً من "أنَّه غير موجود إلاَّ في الخيال". كأنَّ ما راح يعيشه في ما بعد في واقع زمنه، جاء ليؤكِّد ما كان قد فكَّر فيه قبل ذلك. يقول في نهاية حكايته عن ذاته: "إنَّ الحياة سلسلة من القصص الخياليَّة(3). ذلك أنَّها لا تُفهم على حقيقتها إلاَّ من خلال الذاكرة، وليس ثمة خداع يفوق خداع هذه الذاكرة". ثم يضيف: "العالم وهم" (ص135). وهمٌ هو ما نعيشه ويشكِّل عالماً، تقول الرواية، وخداع هو ما نظنّه حقيقةً سبيلُها الذاكرة. فما نعيشه يمضي، والذاكرة هي أداة الاستعادة للزمن الموسوم بالفقدان. وهي عماد التشكيل لما ينهض على مستوى المتخيّل. ويبرز السؤال أمامنا، نحن المتابعين لروايات ربيع جابر، في توالي صدورها: هل كان هذا المنظور القائل بأنَّ "الحياة سلسلة من القصص الخياليَّة" وبأنَّ "العالم وهم"، يهيء لمزيدٍ من الاستعانة بالتاريخ، والتاريخ الموثَّق؟؟ 

2 ـ "رالف رزق الله في المرآة" (4)
ينتمي زمن الحكاية في هذه الرواية، كما في الرواية السابقة، إلى زمنٍ حاضر يعيشه الراوي ويشهد أحداثه. ومع هذا، ولهذا، يستوقفنا قول رالف رزق الله، الشخصيّة الرئيسة في الرواية، للراوي. يستوقفنا هذا القول، كوننا نعرف ـ من خارج الرواية ـ يأنَّ حكاية رالف التي ترويها الرواية وكذلك شخصيته هما مما يحيل على واقع حقيقي: فرالف رزق الله أستاذ جامعي معروف في بيروت من قِبَل كثيرين، وقد انتحر من فوق صخرة الروشة، ونشرت معظم الصحف اللبنانية خبر انتحاره [ وهذا ما ترويه الرواية]. نحن إذن أمام حكاية تنتسب إلى تاريخٍ معاصر، واقعي، لكنَّ سردها الروائي الصادر عن الذاكرة والمُناطة صياغته بالتخيّل يجعل من شخص رالف شخصيّة هي، في عين ذاتها، مجرد خيال، أو وجود في منام.

لم يعد رالف رزق الله في الرواية، أي في زمن الكلام عليه، زمن الحاضر المحيل على ماضٍ مضى، سوى خيال، أو رؤية في منام ـ منام الراوي ـ لقد أدخله الراوي، ومن خلفه المؤلف القابع خلفه أو المفصح عن نفسه بأنه هو الكاتب، في منظوره لمعنى الزمن والوجود. هذا المنظور الذي أخذ يشفّ، في ما بعد، أي في روايات لاحقة، كما سنرى، عن رؤية فكريَّة ترى إلى حركة الكون والحياة كحركة حلوليَّة: يحلُّ ما كان في ما هو كائن (في زمن حاضر)، أو في ما سيكون (في زمن مستقبل). وهو مما يفسِّر، أو يسمح، بهذا التداخل بين الشخصيات في اختلاف أزمنة وجودها. أو بين واقع معيش وآخر انتقل إلى زمن المنامات، أو بين حضور وحضور آخر له صفة الفقدان. حضوران متداخلان تلتبس فيهما الحقيقة بالوهم، ويحل الوجه في الآخر. يقول الراوي بعد أن حكى لنا حكاية رالف، وقدَّم أدلَّة على معرفته به، ولقائه به قبل انتحاره في مدخل جريدة النهار: "نظرتُ في موضع وجهه رأيتُ وجهي" (ص98).

كأنَّ وجه رالف، في هذه العلاقة المرآتية، يستعيد حضوره في وجه الراوي، ومن خلفه المؤلف الضمني، كأنَّه حلَّ فيه، ولو في مشهدٍ هو مجرد لحظة زمنية في هذه الرواية. [سوف تبدو هذه اللحظة أكثر امتداداً أو تكراراً زمنياً في روايات لاحقة. "رحلة الغرناطي" مثلاً، أو الجزء الثاني من رواية "بيروت مدينة العالم". كما سنرى]. المنام قيمة بارزة في روايات ربيع جابر. وهو ـ أي المنام ـ باعتباره مساحة رؤيويَّة للتداخل بين موتٍ وحياة لزمنين وكائنين، أو لحضور وجهٍ غاب في وجه حاضر، مؤشرٌ على هذه الحلوليَّة التي تحكم حركة زمن الوجود وإيقاعها. ما يحملنا على القول بأنَّ روايات ربيع جابر التي راحت تستعين أكثر فأكثر بعناصر من التاريخ أو بمرجعيَّات تنتمي إلى التاريخ، لم تكن، في وجه هام منها، بهدف كتابة رواية تاريخية بقدر ما كانت تعمُّقاً في سؤالها عن معنى الزمن. عمَّا يزول وعمَّا يبقى، عن علاقة الكتابة بهذا الزمن، بأناسه الذين يرحلون فيه.

يتمثَّل سؤال الرواية في هذا الحوار الضمني، المنسوج به عالم الرواية، الحوار اللائب، سردياً، بين ما يغيب وما يحضر، بين ميتافيزيقية كونية لحركة الزمن، ومخلفات مدفونة، متراكمة في الأرض، للموجودات والكائنات. يتوالى الزمن التاريخي، لكن تواليه في الرواية يشف عمَّا ينفي تواليه: يشف عن حركيَّة هي استعادة تشي بالحلوليَّة والتقمص، بما لا يعود معه الماضي ماضياً، ولا الحاضر حاضراً، فكلاهما حركة.. والموت، بهذه الحركة، غياب، لكنه في الآن نفسه، حضور في الحياة. إنَّه طبقة من طبقات الزمان والمكان الذي يختلط فيه ما نراه في المنام بما نعيشه في الواقع لكأنَّ ما نعيشه ليس سوى منام، لكنه منام يحفل بالحياة ويُحال إلى وجود. يتعمَّق منظور الرواية الفكري، يقارب سؤالاً فلسفياً عن معنى الوجود كما سنرى. يحكم هذا المنظور معظم روايات ربيع جابر، إن لم يكن كلها، بغض النظر عن المروي، أي سواء انتمى هذا الزمن بحكايته إلى مرجع حي منسوب إلى زمن الحاضر، أم انتمى هذا الزمن بحكايته إلى مرجعيَّة تاريخيَّة منسوبة إلى الماضي ومدوَّناته.

3 ـ "رحلة الغرناطي" (5)
يعود زمن المروي، في هذه الرواية، إلى سنة 1091 ميلاديَّة. في هذه السنة يفقد محمد، الشخصيَّة الرئيسة في الرواية، أخاه الربيع. هكذا يبدأ رحلته بحثاً عن أخيه. ينتقل محمد من مدينة إلى أخرى، من أسبانيا إلى أفريقيا إلى بلاد الشام. رحلة محمد الطويلة تنتهي في أنطاكية الواقعة، وقت ذاك، تحت حكم الروم، تنتهي الرحلة دون أن يعثر محمد على أخيه الربيع. ذلك أن الربيع، وكما هو في عالم الرواية المنسوج على خلفيَّة التداخل بين الواقع والمنام، شخصيَّة لشخص تلتبس علينا حقيقته. شأننا في ذلك شأن محمد الذي تلتبس عليه حقيقة ما يراه ويحدث له في هذه الرحلة. كأنَّ هذه الرحلة حياته، أو كأنَّ حياته رحلة، رحلة هي منام، أو هي زمن يستعاد ويختلط فيه العالم الحقيقي بعالم الخيال. نقرأ: 

" تذكر محمد أنَّه رأى كل هذا [ أي الذي يراه في هذا الزمن الحاضر من حياته] قبل سنين في المنام، وأنَّه رأى أيضاً وجه الربيع بين وجوه العبيد آنذاك... أحسَّ أنَّه ما زال يرى ذلك المنام. وأنَّ كل ما يحدث له منذ غادر بيت أهله في غرناطة... لا يحدث في العالم الحقيقي بل في عالم الخيال" (ص164).

ليس هذا المنام لحظة عابرة، أو ومضة في عتمة النوم. فمحمد، وكما تخبرنا الرواية، أحسَّ أن هذا المنام بدأ قبل مغادرته غرناطة "بوقت طويل"، أي قبل رحلته. كأنَّ الرواية تقول: ليست الرحلة هي المنام، أو، ليس المنام مجرد رحلة في زمن محمد، بل إنَّ حياته هي منام. أو، إنَّ المنام هو حياته. ذلك أنَّ المنام، وحسب ما تضيف الرواية، بدأ "حين كان لا يزال (أي محمد) ولداً يرعى الخراف مع أخيه الربيع في البريَّة" (ص165). كأنَّ محمد في ما يحياه يستعيد حياة كانت له. فبدا ما يحياه مناماً!! لذا يختلط "الواقع" بالمنام. يتداخل زمن كل منهما بالآخر. فما يحدث في الواقع يراه محمد، كما هو، في المنام. وإذ يتأكَّد محمد أنه في منام، يؤكِّد لذاته، أن زمن المنام بدأ منذ كان "ولداً يرعى الخراف مع أخيه..". أي يؤكد أنَّ زمن المنام هو زمن كان له مع أخيه.

على خلفية هذا الزمن المشترك في الحياة بين محمد وأخيه، يجري التداخل بين محمد وأخيه الربيع. هكذا، وعندما يعود محمد إلى غرناطة، دون أن يعثر على أخيه، تقول له أمه:

" ابني، ابني الربيع يرجع بعد كل هذه السنين" (ص176).
لا ينفي محمد "ظن" أمه، بل يقول لها:
"رجعت" (ص176).
يترك محمد أمه لـ ظنِّها، أو لما هو لها حقيقة. لكن ليعود ويوضح، لنا!
" لم تعرف مَنْ أنا. ظنتني أخي" (ص178).

 غير أنَّ السرد الروائي يدع هذا الوضوح لينمو ناسجاً دلالات الالتباس والتداخل بين محمد والربيع، أو بين وجهين يشبه أحدهما الآخر دون أن يكونه. ثمة ندبة ـ أو علامة على وجه محمد الذي يشبه وجه أخيه. كأنَّ محمد تقمَّص أخاه الربيع، فجاء يشبهه، أو كأنَّ الربيع حلَّ في أخيه محمد دون أن يكون محمد هو الربيع: تخبرنا الرواية بأنَّه، وبعد رحلة محمد الطويلة، "بعد آلاف الفراسخ"، [أو بعد زمن هو حياة محمد ـ التي هي رحلته في الزمان ـ] لم يجد محمد أخاه، لكنه "كان يرى قبالة عينيه، على بعد خطوة واحدة، وجه أخيه الربيع" (ص216). وحين حاول محمد أن يلمس وجه أخيه ـ كأنَّما ليتيقَّن منه ـ وجد أنَّ الربيع "مازال في الثالثة عشرة" من عمره (ص214).

 

كأنَّ الربيع يشير إلى لا جدوى بحث أخيه عنه. ويدعوه، بعد نهاية رحلته، إلى بداية، إلى استمرارية تتمثَّل في أولادٍ يرون وجه محمد في وجوههم كما رأى محمد وجه الربيع في وجهه. تحل حياةٌ في حياةٍ بعدها، ويحضر الوجه الذي غاب في وجه آخر، كأنَّ من يغيب لا يغيب، أو كأنَّ من يموت يعود هو وليس هو، إلى الحياة. كأنَّ زمن الحياة في هذه الرواية يتكوكب إذ يتوالى. إنه زمن الوجود الذي يطرح السؤال عن معنى حقيقته.

 يسمع محمد كلام أخيه الربيع الذي يشبه النداء.. لكنه لا يراه، لا يرى، وكما تقول الرواية، إلاَّ العتمة. وتنتهي الحكاية التي ترويها الرواية ومحمد جالسٌ على الأرض يبكي فبحثه عن أخيه كان، حسب الرواية، كمن يبحث عن غبار. غبار يبعثر اليقين ولا يوصل إلى حقيقة. غبار ينمُّ عن حياة لا تقوم إلاَّ على فقدانٍ نبحث عن وجودٍ كان له وحين لا نراه إلاَّ في مرايا وجوهنا، ندرك بأننا كنا، في ما نبحث عنه، كمن يبحث عن غبار.

4 ـ "نظرة أخيرة على كين ساي"(6)

يقول الساحر، ومنذ الصفحات الأولى لهذه الرواية:
"... والإنسان حفنة غبار، أينما شاءت السماء تقذفه، فيرسم أشكالاً فوق خطوط الأرض، ثم يتبعثر ويتلاشى في الهواء" (ص7).

لا يشير التلاشي، هنا، إلى الفناء، فالغبار الذي يتبعثر إنما يتلاشى في الهواء. أي أنه يبقى فيه، وليس تلاشيه إلاَّ تذرّيه، أو وجوده في حالة أولى هي حالة من حالات تحولاته. وهذا ما يعبِّر عنه مسار السرد، وتفصح عنه الرواية في صفحاتها الأخيرة على لسان الساحر نفسه. يقول الساحر وكأنه يتابع كلامه موضحاً ومفسراً للجارية التي كان يخاطبها:

" حفنة الغبار تراب"، ومن هذا التراب "تفقس جرثومة الحياة".. هذه الجرثومة التي منها "يفرخ النبات والحيوان والطير والإنسان أيضاً" (230).

قد نظن، وللحظة، بأنَّ ما نقرأه يستند إلى نظرية النشوء والارتقاء الداروينيَّة، وإلى ما تقوله بخصوص وجود الإنسان: أصله وتكونه ونشأته. لكن متابعتنا لما يقوله الساحر للجارية، ومحاولتنا فهم ذلك من حيث علاقته بسياق الرواية السردي، وبالمنظور الذي يبني لا هذه الرواية وحسب، بل معظم روايات ربيع جابر على اختلافها وتنوعها، تحملاننا على القول بأنَّ ما نقرأه يفصح عن نظرية التحوُّل ضمن حركة الكون الدائريَّة، الكون الكلي. بمعنى أنَّ ما يتحوَّل لا يتبع حركة خطيَّة من النمو والارتقاء، بل يتحوَّل مرتداً أحياناً إلى ما هو أدنى في سلم الارتقاء. يقول الساحر للجارية، متابعاً كلامه على التحوُّل:
" عرفت رجلاً تحوَّل إلى وطواط بعد أن جرح أخاه" (ص 230).

التحوُّل هنا له معنى العقوبة، وليس له صفة الارتقاء. يتكرر هذا المعنى للتحوُّل، ويتأكَّد، في رواية أخرى لربيع جابر، هي رواية " كنت أميراً" (1997). ففي هذه الرواية يتحوَّل الأمير إلى ضفدعة. أما في رواية "الفراشة الزرقاء" (1996) فإنَّ التحوُّل يتمثَّل في ارتدادٍ ينتهي بالفراشة إلى أن تتحوَّل إلى غبار، إلى ذرة، بعد أن تستكمل دورتها الكليَّة. تعود الذرة إلى الكلي، كأنَّ ما ينتهي، أو يموت، يتلاشى في الكون ليعود، في ولادة أخرى، مختلفة، إلى الحياة. ولئن كان مثل هذا التحوُّل يُذكِّر، في وجه منه، بما قدمه الشاعر أوفيد في كتابه "مسخ الكائنات"، وكان هذا الكتاب يشكِّل مرجعيَّة مضمرة لرواية ربيع جابر "كنت أميراً"، فإنَّ مفهوم التحوُّل، والتعبير عنه، في هذه الرواية، كما في غيرها، يختلف عن تحوُّل كائنات أوفيد، ويتميَّز عنه من حيث ارتباطه بمفهوم الزمن، وتعبير روايات ربيع جابر عنه.

يرتبط مفهوم التحوُّل في روايات ربيع جابر بزمنٍ حاملٍ لمعنى العبور، وبما يترتب على هذا المعنى من مشاعر الفقدان، وهو ما يجعل رؤية الشخصيَّة، في الرواية، لما يجري في هذا الزمن، وكأنَّه يجري في منام. يعبر الزمن، وتعبر معه الحياة، ولكن على قاعدة التحوُّل، وهو ما يفضي إلى التداخل كأنَّ ما هو الآن كانت له حياة سابقة. كأنَّ ما نراه نتذكره. نتذكر مناماً رأيناه. هكذا تبدو مدينة كين ساي "وهي تتشكل وتكتمل... مشهداً من منام". منام رآه الساحر قبل أربعين سنة، وها هو يستعيده فجأة. "إذ يرى حقاً، وفوق أرض هذا العالم، مشهداً مطابقاً له" (ص8). كأنَّ ما بدا مناماً للساحر هو ما رآه واقعاً. أو كأنَّ ما هو واقع (المدينة)، كان كذلك في زمنٍ مضى، وليس وجوده سوى استعادته. ثمة تداخلٌ، توحي به الرواية، بين الواقع والمنام، أو بين حقيقتين: حقيقة الواقع وحقيقة المنام. تداخل لا ينبني في رواية ربيع جابر هذه وفق مفهوم الثنائيات والتقابلات الضديَّة أو التناقضية: واقع/ منام أو خيال، موت / حياة، ماضي / حاضر.. بل وفق مفهوم التحوُّل التداخلي. فالزمن، شأن حياة الأنهر، يجري، لكنه يُراكم ويتمخض جريانه عن تحوُّل ما يُراكم.. وتبدو البشرية هي هذا الفضاء المخيالي الذي تُستعاد به، وفيه، صور العالم الماضي العائد إلينا حيناً في مناماتنا، وحيناً آخر في وجوه الآخرين، الموتى، في المرايا التي تبصر فيها الذاكرة وجوهها التي راكمها الزمن.

يقول الساحر لهوي مقاطعاً حديثه عن ذاته التي يتلمس اختلافها:"رأيت أنك أنا"(ص217).
" لا شيء يفنى، حسب منظور الرواية، بل يتحوَّل، ويحلَّ في... كأنَّ الوجود حركة زمنه أو تاريخه بما هو مراكمة واستعادة وتحوُّلات.

التحوُّلات هي حركة الزمن والوجود، أو هي التاريخ، وحركتنا، نحن البشر، بهذا الزمن وفيه، هي هذه الرحلات التي تقوم بها الشخصيّات في أكثر من رواية من روايات ربيع جابر، إن لم يكن فيها كلها. شأن محمد في "رحلة الغرناطي"، يقوم الحكيم، في رواية "نظرة أخيرة على كين ساي"، "برحلاته داخل ما يخشى عليه الفقدان ويبقى معه حتى النهاية". وذلك بعد أن يقول له الساحر ـ في نهاية الرحلة التي هي نهاية الرواية ـ "إنَّ التمسك بالصورة البشرية مصدر للمتعة. لكن هناك في المجرى اللانهائي ألوف الصور المساوية في الصلاح. وإنَّه لنعيمٌ لا نظير له أن تقع تحت هذه التحوُّلات التي لا تحصى. ومن هنا يقوم الحكيم برحلاته داخل ما لا يخشى عليه الفقدان ويبقى معه حتى النهايى" (ص230)، وحين تتساءل الجارية عن هذا الذي "لا يُخشى عليه الفقدان"، يقول الساحر بأنَّه "الخلاء".

" ـ والتحولات؟". تسأل الجارية. فيقول الساحر:
" ـ حفنة الغبار تراب، من التراب تفقس جرثومة الحياة.." (ص230).

هكذا تعيدنا نهاية الرواية، دلالياً، إلى بدايتها، أو إلى قولٍ قاله الساحر في بداية رحلته في زمن الرواية حيث قال:" الإنسان حفنة غبار" (ص17). تلك البداية التي ليست بداية. فزمن الرحلة هو زمن التحوُّلات وليس زمن البدايات والنهايات. تتكرر الرحلة.. فهذه هي المرة الثالثة، كما تقول الرواية لنا، التي تسدِّد فيها السماء خطى الساحر إلى هذه النقطة: "الهضبة المطلة على كين ساي"، أو على مدينة السماء. وإذ يدوس الساحر فوق العشب يبتسم. يتذكر ويبتسم.. فهذا العشب هو "ذاته داسه قبل عشرين سنة. هذا العشب من ذاك العشب. ليس هو، ولكنه هو " (ص7). يقول الساحر لنفسه. يدرك الساحر بأنَّ لا شيء يفنى في هذا الخلاء. فموجودات الكون، بما فيها الإنسان، في حال تبعثر، وتذري، وتحوُّل مستمر. إنه الفقدان، ولكن ما نفقده نستعيده لا كما هو. نستعيده صوراً في منام، في مرايا الوجوه وفي قلق الذاكرة.

5 ـ يوسف الإنكليزي(7)
تتناول هذه الرواية كثيراً من الأحداث التي وقعت في جبل لبنان، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتحكي أكثر من حكاية تخص أحداث ذاك التاريخ وأشخاصه من حكام وعلماء ومشايخ (من الدروز) ومرسلين أجانب، وتحفل بالكلام عن عادات وتقاليد أناس ذلك الزمن، وتصف معالم الأمكنة القديمة وما طرأ على الحياة من تغيُّرات. وهي بكل ذلك تكاد تكون رواية تاريخيَّة، إلاَّ أنَّها تبقى، بالرغم من ذلك، مندرجة في المنظور نفسه الذي حكم الروايات السابقة، من حيث تركَّز هذا المنظور على مفهوم الزمن وحركة التحوُّل والتداخل، ما يجعلنا نعتبر أن هذه الرواية ليست رواية تاريخية بقدر ما هي رواية تستعين بالتاريخ لتطرح السؤال نفسه عن الوجود ومعناه. ففي هذه الرواية تميل حركة الزمن إلى أن تكون حركة تحوُّل ومعاودة [ لا حركة توالي تأريخي ونمو ] تتجلى بها، وبشكل واضح هنا، حياة الشخصيَّة في عالمها الذي تعيش، كحياة ثانية تتذكر فيها حياةً أولى كانت لها في هذا العالم نفسه. كأنَّ الزمن مجرَّد متغيِّرة مرشحة لفقدان مرجعيتها الموضوعية أو انتمائها إلى تاريخ محدَّد. أو كأنَّ التاريخ هو حركة من التوالد لحياة كان لها حياة سابقة. وقوام هذه الحياة، ومؤشرها في الآن نفسه، هو ذاكرة تتذكر: يتذكر يوسف "غرفة يوسف الأول" (ص312)، بل ويفكر يوسف، بعد متابعته القراءة في كتاب "الحكمة" بأنَّه "ربما قد عاش فعلاً حياةً سابقة على هذه الحياة، وأنَّه في تلك الحياة السابقة امتلك مهارات ظلت فيه"، أو ربما "كان يعيش في أميركا! قبل ثلاثين سنة! قبل مئة سنة" (ص249).

تتداخل الأمكنة في هذه الرواية كما الأزمنة، لكن لا في المنام وحسب شأنها في الروايات السابقة، بل أيضاً في الفكر الذي يفكر به يوسف. يوسف الذي لم يذهب، في زمن الرواية التي تحكي حكايته إلى أميركا، يفكِّر بأنَّه قد يكون ذهب في حياة سابقة له إلى ذلك البلد. يذهب المسار الروائي، في هذه الرواية في اتجاه تأكيد ما كان تلميحاً في روايات سابقة. كأنَّ الرواية هذه تؤكد سؤالها حول مفهوم الزمن بما هو حركة وتحوُّل، والوجود بما هو حلوليَّة وتقمُّص. وإذ يمعن السرد، في هذه الرواية، باستعانته بالتاريخ بصفته مرجعاً موضوعيّاً. يميل هذا المفهوم للزمن والوجود إلى التبلور والوضوح بصفته سؤالاً فكرياً. فيوسف، وكما تقول الرواية، يفكر، ولا يرى فقط في المنام. وهو في تفكيره يعتقد (ولا يحلم) بأنَّه ربما عاش فعلاً حياة سابقة. كأنَّ منامه الذي رآه ليس مجرد منام، بل هو، واقع فعليّ يشير إلى حياة سابقة، ويستند إلى مرجع هو كتاب "الحكمة" المعني بـ الماوراء.    بدل المنام يتذكر يوسف ويفكِّر.

وبدل أن تكون وظيفة زمن السرد هي، وكما في الرواية التاريخيَّة، صياغة الزمن التاريخي استناداً إلى تاريخيَّته، تصبح وظيفة زمن السرد هذا توليد دلالات التشكيك بمفهوم هذا الزمن التاريخي استناداً إلى كتاب "الحكمة". لا تنفي الرواية الزمن التاريخي بل تصوغ له مفهوماً يتركز على حركة الغياب والحضور، على حركة دائرية، لا خطيَّة، تطوي الزمن ولا يعود. حركة.. هي إيقاعٌ كوني يتجاوز حدود المدوّنات، أو ذاك التاريخ لمجريات الأمور المعاشة فوق هذه الأرض. يتجاوز المادي الموضوعي المحدّد إلى اللاَّمرئي المنفلت من التحديد.

فيوسف يتذكَّر "الزمن القديم" (ص289). يتذكَّر "ذلك النغم الحي يرتفع كأنه يخترق الكون كصرخة لطيفة من أقصاه إلى أقصاه، يربط كل شيء بكل شيء، يتعرج في الأرض والسماء، متردداً كالصدى في دماء شراييته، وفي النبض المدوِّي داخل رأسه [...] وفي مسام جلده. يذكر النغم، ونسيم أول المساء" (ص290) النغم الذي يتذكره يوسف، ويسمعه، هو، وكما يبدو، من عزف الكون. وهو بذلك يحيل على مرجعية فوقية، مجهولة، تتجاوز مدوَّنات التاريخ المعنية بواقع الحياة فوق هذه الأرض. لكنه في الآن نفسه نغم الحياة الذي يشبه صرخة الولادة. وهو داخل الكائن، كأنه بذلك رابط بين الكائنات والموجودات في شموليتها وزمانيتها التي لا يحدُّها تاريخ. كأنَّ النغم هو الزمن الكوني بما هو، أي الزمن، حركة، أو إيقاع لكنه مرهون بالإنسان ومثاله، في الرواية، يوسف الذي تروي الرواية حكايته من الذاكرة.

وكأنَّ حياة يوسف تعبير دال على حركة هذا الزمن وما يتوالد فيه في عالمنا. أي هذا التناسل الموصول الذي يشير إلى ديناميَّة الزمن على قاعدة موت له معنى الفقدان وولادة لها معنى الاستعادة للحياة ولديمومتها. ديناميَّة زمنيَّة ـ تاريخيَّة رمزها في الرواية "ساعة يوسف الإنكليزي" التي ورثها أبوه عن جدِّه"... الساعة (الزمن) لا تتوقف عن الدوران. ودورانها ليس تكراراً، بل استمرار هو زمانية الزمن. زمن الجد والأب والابن يوسف. يوسف الذي يتذكَّر "الزمن القديم"، يستعيده. يستعيد غرفة يوسف الأول، حياة سابقة عاشها معبِّراً عن زمانية لها بُعدها الكوني ولها تمثلها فوق كوكبنا الأرضي. ديناميَّة من التحوُّل، من الفقدان والاستعادة، "أداتها" الذاكرة التي وإن استعانت بالتاريخ، بمروياته ومدوناته، تطرح أبداً السؤال على هذا التاريخ، على زمنه الذي في مداه الكوني، أو بنغمه الذي يخترق الكون، يميل، في الرواية، إلى أن يكون سحرياً.   يسأل يوسف الذي يتذكَّر النغم:
  "متى كان ذلك؟ في أي زمن سحري مندثر؟ (ص290)

يتراجع الزمن التاريخي لحساب الزمن السحري موحياً بسؤال عن الزمانيَّة وحقيقة الوجود. ويمكن القول، في خلاصة أولى تمهِّد لتناولنا رواية "بيروت مدينة العالم" ومن حيث علاقتها بالتاريخ، بأنَّه لئن كان هذا السؤال ـ سؤال الزمانيَّة ـ يتمثَّل في الحوار اللائب، سردياً، بين ما يغيب ويحضر، فإنَّه يتمثَّل أيضاً في انتقال السرد بمسروده من رؤية تعيينية للمكان والزمان تتسم بالموضوعية كونها تحيل إلى التاريخ الموثَّق، إلى رؤية للزمان غير موضوعيَّة، كونها لا ترتبط بتحديد أو بحقيقة موضوعية مرجعها التاريخ (الموثق بعضه وبشكل واضح ومقصود في رواية "بيروت مدينة العالم"). توضيحاً نقول: بأنَّ الرؤية للزمان قائمة هنا على مستوى التفكير، وهي، وكما يبدو لنا، ترتبط بما هو غير مدرك (زمن سحري مندثر، أو زمن ملتبس يتداخل فيه الواقع بالمنام، أو الحقيقي بغير الحقيقي..)، وهي، أي هذه الرؤية الزمانيَّة منسوبة، وحسب بول ريكور، إلى "التأمل المنفلت"، أي إلى ما لا يحيل على ما هو موضوعي، محدَّد(8)، أو على التاريخ (باعتباره واقعاً مادياً) وإن كانت الحكاية في رواية ربيع جابر (بيروت مدينة العالم) هي حكاية التاريخ. وهذا ما يحملنا على القول بأنَّ السرد في روايات ربيع جابر عامةً وفي رواية "بيروت مدينة العالم" خاصة يتحرك بين الإحالة على ما هو مرجعي ـ تاريخي وبين ما هو تأمُّلي يخصّ الـ ما بعد، ولا مرجع تاريخيّاً له. وبهذا الحراك السردي بين ما هو تاريخي وما هو تأمُّلي تنبني حبكة الرواية جاعلة من الشخصية التي تغيب، أو تموت، وتعود ثانية، أبرز عناصرها.

تموت الشخصيَّة، تغيب عن مسرح هذه الدنيا. تذهب في مجهول، هو قرين الـ ما بعد إن لم يكن هو الـ ما بعد. لكنها إذ تعود ثانية إنما لتعيش تجربة أخرى في واقع اجتماعي هو، بالضرورة، تاريخي. يؤول مثل هذا العود بالشخصية إلى الوقوع في التباسات فكرية واجتماعية وتاريخية.. وبذلك تبدو رؤية ربيع جابر للزمانيَّة مفارقة، مثلاً، لرؤية الصوفي المجردة، أو المطلقة: يخلق الصوفي عالماً ما ورائياً يؤول إليه، خالياً من كل التباس(9)، وهو بذلك يردم الهوة بين الذات والعالم. في حين تقع الشخصيَّة ، في روايات ربيع جابر، في التباسات قوامها الذاكرة، أو التذكُّر الذي لا يني يداخل بين حياتين، أو بين واقع ومنام، بين ما هو حقيقي معيش وبين ما هو متخيّل أو حلم.

يلتبس المجرد بالواقعي، والماورائي بالحياتي، وما هو زمني يحيل على مرجعي تاريخي بما هو زماني مجهول وموضوع تأمل.. إنَّ الشخصية بعودتها ـ بعد موتها أو غيابها ـ ثانية إلى الحياة تحاول عيش تجربة أخرى بإقامة علاقة زمكانية مع العالم. تتذكَّر عالماً كانت فيه ولا تخلق عالماً ما ورائياً تلوذ به. وكأنَّها بهذا التذكُّر تعيش متغيِّرة ملتبسة لا يستقر عالمها الزماني (التاريخي) على حال، ولا تعرف هذه الشخصيَّة يقيناً، أو حقيقة عن مآلها. ثمة صورة تحاول الشخصية ـ الراوية أحياناً أو التي يختبئ خلفها المؤلف الضمني معبِّراً عن منظور الرواية ـ ردمها بالتذكر وليس بخلق عالم مطلق ترتاح إليه، لذا تبقى مسحوبة إلى سؤالها القلق عن حقيقة ما تعيش ولا ثباته الزمكاني، مخالفةً بذلك المطلق الموصوف بالتجرد والثبات. يتحرك العالم في رواية ربيع جابر بين واقع موضوعي مرجعي وبين مآل يُدرِج أناس هذا العالم في زمن حاضر (يعودون إليه)، أو يكونون مدعوين لحضورٍ مستقبليٍّ يتسم بالمجهول، أو بما سيكون عليه هذا المستقبلي باعتبار زمانيَّته. غير أنَّ هذا المستقبلي ليس سوى عودٍ ثانٍ ولكن مختلف: إنَّه هو وليس هو، لذا فهو موسوم بالقلق وحاملٌ أبداً لسؤاله المضمر عن معنى الزمان وحقيقته.

يفهم ربيع جابر زمانيَّة الوجود في مثولها المتكرر في هذا العالم، وهو لهذا يعيد الماوراء إلى زمانيَّته التاريخية. وكأنَّه بذلك يستفيد من الظاهراتيَّة دون أن يكون ظاهرتياً: فالظاهراتيَّة تعيد الجواهر إلى الوجود بهدف ردم الهوَّة بين الذات والموضوع(10)، في حين يسعى ربيع جابر في روايته التي تحكي حكاية التاريخ، ردم الهوَّة بين الأزمنة وذلك بإعادة "ما بعد التاريخي" إلى تاريخيَّته، أو إلى حاضرٍ زمني يصوغ تاريخيَّته المسكونة بالالتباس وبقلق البحث عن معنى الحقيقي. في هذا البحث ـ السردي طبعاً ـ تبرز العلاقة بالمكان كمؤشر مادي طاغٍ يحول دون إحالة معنى الزمانيَّة إلى مجرد، أو النزوع بها إلى مطلق.. وإذ يحد في الحلوليَّة، أو التقمص حلاً إنما يمنح معنى الزمانية بُعداً مادياً يتمثَّل في تاريخيَّتها. هكذا وإذ يحترق المكان، أو تهدمه الحروب (كما في رواية "بيروت مدينة العالم")، ويمحوه الزمن، فإنَّ الذاكرة تستعيده متأملة في ما تراكم وشكَّل طبقات عبر الأزمنة. كأنَّ الزمانيَّة ترى إلى زمكانيَّتها لكنها تعجز عن التحرر من نزوعها التأمُّلي، وبالتالي من سؤالها عن معنى الوجود وحقيقته.. لذا يبقى الالتباس القائم على التداخل بين الواقع والمنام، بين المرئي واللامرئي، بين الوجود والفقدان.. هو السمة الأبرز لروايات ربيع جابر ومتخيّله السردي.

6 ـ "بيروت مدينة العالم" (11)
يمعن الزمن بمروره في "المحو"، فيمعن ربيع جابر في الحكاية، روائياً، عن التاريخ، أو عن الحياة التي صارت تاريخاً. كأنَّ الحياة قرين الزوال، أو كأنَّها ليست سوى تذكُّر به ترفع الكتابةُ ركامَ الزمن، تلمُّ تبعثره وترمِّم ما دُمِّر منه واندثر. تحييه... ربما لهذا يحضر التاريخ بغزارة في "بيروت مدينة العالم"، الرواية التي سنفرد لجزأيها القسم الأخير من دراستنا. تبدو هذه الرواية بطابعها الملحمي تتويجاً لمشروع كان ربيع جابر قد ضمَّن فكرته أكثر من رواية من رواياته السابقة. هكذا يقول الراوي الذي يعلن عن نفسه بأنه هو الكاتب، بأنَّ "بيروت مدينة العالم" هي الرواية التي أراد "منذ زمن بعيد" تأليفها. يتمثَّل هذا المشروع في معادلة فكرية تقول:

إنَّ ما يمضي ويغيب موجود في إيقاع الكون وحركة الزمن، كما في طبقات الأرض، أي في ما يمكن تسميته، زمكانية أركيولوجية [تجمع بين الناس وأماكن عيشهم"، أو تشير إلى الزمن في روحيَّته وماديَّته]. وعليه فإنَّ مهمة الكتابة وقيمتها تتحدَّد بقدرتها على بناء هذا العالم الذي يمضي وإقامة ما كان له من حياة. هكذا يسأل الكاتب / الراوي الذي أراد تأليف هذه الرواية، وألَّفها: " ما قيمة رواية لا تحملك إلى عالمها؟". ثم يتابع معرِّفاً بهذا العالم، ومشيراً إلى ما ابتغاه بتأليف هذه الرواية: " أردت دائماً أن أسحب القارئ إلى عالم الأسلاف: لكي يرى ما أراه، لكي يحسّ بما أحسّ" (الجزء الأول ص14).

العالم الذي يودّ المؤلِّف أن يحمل القارئ إليه هو عالم الأسلاف. وهو العالم الذي مضى، زال من الوجود المرئي، لكنه موجود، يراه المؤلِّف ويحسّ به. وتكون مهمته استعادته بتخليق ذاكرة له. ذاكرة لا تؤرّخ، أو لا تناظر التاريخ، بل تواجه الزوال بإعادة هذا العالم، عالم الأسلاف، ثانيةً إلى الحياة. على أنَّ مثل هذه الإعادة هي، وبقيامها على مستوى الكتابة، بمثابة ذاكرة تمارس، وبحكم طبيعتها، لعباً مجاله الإزالة والاستحضار، أو تمارس حركة تجول بين ما زال وما هو موجود، بين الماضي والحاضر، اللامرئي وما صار مرئياً. إنها ذاكرة الكتابة حين تداخل، في اشتغالها التأليفي، بين عالم واقعي مضى أو التاريخ، وبين المتخيّل الذي على مستواه يتخلَّق هذا العالم. ربما لهذا يطلب الراوي من قارئ روايته أن ينظر إلى مبنى البلدية [ بلدية بيروت] ويحفظه في خياله [ كما تحفظ طبقات الأرض آثار ما يزول أو يُدمَّر]، "ثم أن يزيله كاملاً بتلويحة يد [ كما يزيله مرور الزمن أو الحروب] لكي يرى في مكانه خلفه تماماً، في زمن غير مرئي لكنه موجود، أن يرى تلك الحارة القديمة، حارة البارودي البائدة" (الجزء الأول ص 14 ـ 15).

ينهض عالم الأسلاف إذن على مستوى ذاكرة يصوغها التأليف ويدعو القراءة إلى ممارسة لعبها الذي به تعود الحياة إلى هذا العالم. لذا وبسبب هذه الذاكرة، يبقى هذا العالم قابلاً للالتباس، فهو واقع بين حقيقتين: الأولى منسوبة إلى واقع تاريخي(12). والثانية تنتمي إلى فنيَّة السرد وتخليقاته، وهي بالتالي، متروكة إلى القارئ وتأويلاته. هكذا، وإذ يؤكِّد لنا الراوي ومن خلفه المؤلف الضمني، بأننا "لا نقرأ حكايات خيالية الآن، بل القصة الحقيقية الكاملة لحياة الشامي صاحب الذراع الواحدة عبد الجواد أحمد البارودي" (الجزء الأول ص84). نجده يقول، في صفحات أخرى من هذه الرواية، بأنَّ ما يرويه هو مجرد خيال. كأنَّه في ما يؤكِّده يرهن الحقيقة (حقيقة الحكايات) بالتاريخ باعتباره مرجعاً مسنداً. وكأنَّه في ما ينفيه يحيل على ذاكرة التأليف وارتباط حقيقة الحكايات بسؤال الرواية. فالحكايات ليست سوى حكايات أسلاف يصنعون حياةً تمضي، وإذ تروي الرواية حكاياتهم إنما تحكي لا عن حقيقة وجودهم وحسب، بل تتناول معنى هذا الوجود وتطرح سؤالها عليه بما هو، أي هذا الوجود، حركة من الزوال والحضور، أو بما هو وجود يمضي ولا نعود نراه فنسأل عن حقيقته وجوده.

لا تقف الرواية بسؤالها عند حدود التاريخ وعالم الأسلاف، بل تذهب به إلى الكون والوجود. لذا فهي إذ تدعم حقيقة المروي بـ حقيقة التأريخ أو تدعم المتخيّل الروائي بالمرجعي التاريخي المروي والمدوّن، نجدها تطرح سؤالها على قدرة هذا المتخيّل حين يواجه الكون ولا محدودية زمنه. يسأل من يروي الرواية ويكتب حكاية عالم الأسلاف: " لكل ذلك العالم، هل نقدر أن نتخيّله؟ أم أنَّ أصوات ذلك الكون المتلاشي ضاعت في السديم (في الفراغ الكبير اللامتناهي) ضاعت إلى الأبد؟" (الجزء الأول ص71).

تبدو الكتابة الروائيَّة، ومن منظور رواية "بيروت مدينة العالم" نفسها"، فعل وجود يواجه، إبداعياً، الزوال، ويوازن في الآن نفسه، بين حقيقة وجودنا الواقعي، وبين أسئلتنا عن هذا الوجود ومآله. نصنع وجودنا، وكما تقول ـ الرواية ـ "خارج هذا العالم الزائل، خارج النبض السريع للكون" (الجزء الأول ص116). ونسأل: أليس هذا جوهر كل إبداع: ديمومة الوجود. وتبدو بيروت بأركيولوجية عالمها التاريخي الأكثر جاذبية واستثارة لسرد ربيع جابر الروائي. وربما كانت الحرب الأخيرة اللبنانية ـ اللبنانية (1976 ـ 1990) التي دمَّرت وسط المدينة، أي مدينة بيروت القديمة، والتي كانت قد دُمِّرت قبلاً أكثر من مرة، بسبب الحروب والزلازل، هو ما يفسِّر جاذبية اختيار بيروت عالماً يصوغ السرد المتخيّل ذاكرته، وتعيد الرواية إليه وجوده. فالراوي الذي يفصح عن نفسه بأنه هو الكاتب يعاين بنفسه المشهد، مشهد الدمار ويرى ما نهض فوقه من عمران، ويتذكر ما كان عليه وسط المدينة قبل دماره وما صار تحت عمرانها الجديد. كأنَّه إذ يكتب عن عالم بيروت يحفر في أركيولوجية عالم المدينة، شأن علماء الآثار الذين جاؤوا إلى وسط هذه المدينة يحفرون ويكشفون عن عالم قديم كان حياً تحت ما راكمته السنون من دمار.

يحفر السرد في بيروت ليكتشف ويكشف بأنها مدينة العالم. مدينة لأكثر من دين وقوميَّة وثقافة. عَبَرها كثيرون فبنوا ودمَّروا، وتركوا أثراً في الدم والسلوك والعمران. يحفر السرد، في ما يروي، ليصل إلى ما كانت عليه بيروت في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر. في ذلك الزمن كان لهذه المدينة حياة صارت حكايتها التي هي، في الآن نفسه، حكاية عبد الجواد أحمد البارودي وأولاده الكثر، والعديد من أناس ذلك الزمن. يسند الكاتب ما تحكيه روايته، أو معظم ما تحكيه، إلى راوٍ هو الكونت سليمان دي بسترس المولود سنة 1905 والذي "عرف حارة البارودي قبل زوالها. هناك قضى قسماً من طفولته" (ج1 ص20) يتمتع الكونت إذن بمصداقيَّة في ما يحكيه للكاتب الذي يتخذ صفة راوي الرواية فهو، أي الكونت، إضافة إلى كونه شاهداً معاصراً، ينتسب بجدِّه لأمِّه إلى عبد الغني البارودي [حفيد عبد الجواد البارودي] المسلم، كما ينتسب بجدِّه لأبيه إلى ميشال دي بسترس المسيحي.

هوية الكونت (الراوي) الدينية، وكما يبدو، تمثيل لهوية "بيروت مدينة العالم"، هوية يشكلها أكثر من دين كما أكثر من رافد قومي. وهي كذلك على مدى أكثر من جيل: فابنة الكونت "هنرييت"، المسيحية، تعتزم الزواج بطبيب سوري، مسلم، من اسرة البكري الأرستقراطية (الجزء الأول ص73)، ما يشير إلى هذا التداخل الأنتربولوجي بين الشام وبيروت، والعائد، في الرواية، إلى البارودي الأول، عبد الجواد أحمد، الشخصيَّة الرئيسة في الجزء الأول من الرواية، والأب والجد لشخصيات رئيسة في الجزء الثاني منها. يبدو البارودي الأول الذي جاء إلى بيروت من الشام بداية العقد الثاني من القرن التاسع تمثيلاً لهوية تاريخية، اجتماعية، مدينيَّة، لبيروت. سوف تتعدد مكونات هذه الهوية وتتنوع لتشمل اليهودي موسى يعقوب مرزاحي الذي قال للبارودي خذ دكاني، وصار في ما بعد صديقاً حميماً له، ولتشمل، أيضاً، الشركسية كلفدان [الأخت الصغرى لزوجة الأمير بشير جهان] زوجة البارودي الخامسة التي زرع بذرته في رحمها وسمعها تتأوَّه بكلمات فارسية وتركية.

لكن من هو البارودي، أو هذا الرجل الذي تقول لنا حكايته كيف كانت حياة بيروت، مدينة العالم؟ جاء عبد الجواد أحمد البارودي بيروت، هارباً من دمشق، بين عامي 1820 و1822. ولم يكن جاوز الخمس والعشرين سنة من عمره "حين ظهر للمرة الأولى أمام أسوار بيروت بقميص ملطَّخ بالدم، ونعل سختيان مثقوب، سرواله الأسود الفضفاض كان ممزَّقاً أيضاً عند الركبتين، وبين الساقين، كانت رأسه عارية. لا طربوش، لا كوفيَّة ولا عمامة. والعباءة المشدودة على جسمه لا تحميه من المطر الغزير الذي يبلله حتى النخاع" (الجزء الأول ص21). جاء هارباً من وجه القانون والعساكر السلطانية، فقيراً وبذراع واحدة. ولم يكن يعرف هذه المدينة، شأنه شأن القارئ: اثنان "لا يعرفان بيروت القديمة" كما تقول الرواية (ص39 من الجزء الأول)، ملمحة إلى هدفها: المدينة وحياة الرجل. كأنَّ الرجل في ما سيحياه هو المدينة في تاريخٍ هو حياتها. وكأنَّ قراءتنا لحكايته المروية هو تعرفنا على المدينة، بيروت القديمة، على عالمها الذي لم يكن عدد أناسه يتجاوز الخمسة آلاف نسمة: في جوفة توتة، تدعى توتة شاكر، قبع البارودي لدى وصوله من دمشق إلى المدينة التي لا يعرف شيئاً عنها. توتة خارج السور الذي كان يطوِّق بيروت القديمة. وعندما عثر عليه جنود الأنكشارية وجرّوه داخل السور لم يكن يعلم أنَّ الباب الذي عبروا منه اسمه "باب السراي" وأنَّه أكبر أبواب بيروت، يومذاك، الخمسة.

ترتسم معالم المدينة ويتشكَّل عالمها في مخيَّلتنا ونحن نقرأ الحكاية، حكاية بحث البارودي عن عمل، عن دكان يبيع فيه الخضر: بحث في سوق الفشخة ولم يعثر على دكان هناك. لكنه سرعان ما يقع على "دكان آخر في زقاق الحدادين، وراء الجامع العمري الكبير (شارع الأحدب اليوم) وعلى مسافة سبعين خطوة تقريباً جنوب جامع السراي" (ص76 . الجزء الأول). عثوره على هذه الدكان له حكاية ضمن الحكاية الكبرى لحياته. هي حكاية لقاء البارودي باليهودي العجوز موسى يعقوب مرزاحي: كان البارودي يمشي شبه تائه من متجر إلى متجر، من بسطة إلى أخرى ليجد نفسه "أمام جامع منصور عساف (جامع السراي)" (ص78 الجزء الأول). ويرى على بعد خطوات عجوزاً بأسنان صفر قاعداً على طرّاحة "أمام دكان عميق مظلم في نهايته" (المرجع السابق نفسه). سأله العجوز:
" هل أنت ضائع يا بني؟. وعندما أخبره البارودي بأنه يبحث عن دكان قال له العجوز:
"خذ دكاني".

ينضم اليهودي الذي صار صديقاً للبارودي إلى عالم بيروت معبراً عن هوية دينية لها طابع التعدّد. عالم بيروت القديمة هو حكاية البارودي وقد صار له دكان وبيت:

دكان مظلم في زقاق الحدادين لبيع الخضر. وبيت يتبع أوقاف الجامع العمري. إمام الجامع الشيخ عبد العزيز الحوت، عطف على الرجل مقطوع الذراع وأسكنه فيه. في ما بعد يبني عبد الجواد أحمد البارودي بيتاً صغيراً في جلال التوت إلى الشمال من جامع السراي في جوار مبنى بلدية بيروت اليوم. حسب إشارة الرواية. ترتسم الحياة، تدريجياً، لعالم المدينة القديمة.. وتأخذنا قراءة الرواية إلى عالم الأسلاف. إلى ما كان موجوداً وصار في أعماق غير مرئيَّة، أعماق الزمان والمكان.

الرواية كلام.. به يعود ما زال إلى الوجود. كأنَّها بذلك عالم لا يزول. أو عالم (متخيَّل) خارج العالم الزائل. كأنَّ زمنها زمن آخر، زمن يبقى، زمن "خارج النبض السريع للكون" كما تقول الكتابة. يحرص السرد للحكاية التي ترويها الرواية على الإشارة إلى ما هو قائم من الأمكنة اليوم فوق، أو إلى جانب، ما كان قائماً منها بالأمس. كأنها بذلك تجعلنا نرى طبقاتٍ للمدينة. وأكثر من زمنٍ لزمنها: نرى سوق الفشخة [ بدل شارع "ويغان" اليوم]، وفي الشارع الذي يسمونه اليوم "بارلمنتو"، سوق العطارين. وقرب مطعم Scoozi اليوم مدخل سوق البازركان وبوابة الدركاة. ومكان جامع الصديق اليوم جامع الدباغة والمخازن أسفله..

بيروت القديمة، بيروت النصف الأول من القرن التاسع عشر، تنهض، روائياً، من تحت أنقاضها: جلول التوت، ظلال شجرة الجمّيْز الوارفة عند مدخل زاروب بيت البارودي، باعة الجلاب والسوس والبيض المسلوق، متجر البارودي الجديد الذي فتحه بعد أن اغتنى ليبيع فيه "الطنافس الفارسية والمنسوجات الحلبيَّة المزركشة بالقصب وخيوط الذهب في سوق البازركان" (ص193 من الجزء الأول). تستعيد حياة البارودي حضورها، يَمْثُل لنا الرجل جالساً حيّاً على مصطبة دكان الخضرة. نتأمَّله ونتعرَّف عليه من ذراعه المقطوعة.. سندعه غارقاً في هواجسه، قلقاً على ابنه شاهين الذي ذهب مع الثوار وننعطف شمالاً كي نصل إلى الطريق البيضاء. ننظر إلى نهاية الطريق التي صار اسمها طريق عبد الجواد، أو "زاروب عبد الجواد"، حيث بنى البارودي بيتاً، بل أكثر من بيت بعد أن كبرت عائلته وازدهرت تجارته كما التجارة في بيروت.

لن نستفيض في الكلام على هذا العالم الذي راح ينبض بالحياة ويوهمنا بحضوره الفعلي حتى لنظن أننا نراه ونخاطب أناسه ونمشي معهم ونرى، كما يرون، ساحة العصافير [بدل ساحة البرلمان اليوم]، وسهلات المرج [بدل بيوت الصيفي اليوم].. ونتعرَّف إلى زوجات البارودي: صفية كريمة السيد مصطفى غندور الفاخوري أم شاهين زوجته الأولى، وسهيلة حسن النابلسي زوجته الثانية، وهيلانة زوجته الثالثة، النصرانية ت الحلبيَّة التي جاءت مع أهلها إلى بيروت سنة الفتح المصري، وسعدية الحص التي تزوجها بعد وفاة هيلانة بالحمى المالطية، وكلفدان الجارية الشركسية...

نترك هذا العالم للقارئ لنقول بأنَّ رواية "بيروت مدينة العالم" لا تحكي التاريخ بل كيف عاش الأسلاف عالمهم، كيف أقاموا حياتهم وحياة مدينتهم، وذلك من خلال حراكهم، وسلوكاتهم، وتعبيراتهم، ومشاعرهم.. اتجاه نوائب زمنهم: يوم قصفت البارجة "ليفربول" المحجر الصحي خرجت نساء عائلة البارودي من البيوت، يتراكضن إلى تحت الجميزة يسألن عن هذا الذي يحدث "يرتبن المناديل على وجوههن". عبد الرحيم (ابن عبد الجواد أحمد البارودي) يقول لأبيه بأنَّ "الإنكليز يحرقون المحجر بالقنابل، وأنَّ العسكر المصرية تقصفهم ولا تصيبهم" (ص345 من الجزء الأول). الشركسية كلفدان "أوصدت على نفسها باب الغرفة وجلست تنتحب بين الحيطان الراجفة" (ص351 من الجزء الأول). في ما صعد الأهالي إلى السطوح ليروا ما الذي يجري هناك حيث ترسوا البوارج قبالة الميناء وتقصف المحجر..

عبد الجواد أحمد البارودي يقول لصديقه موسى يعقوب مرزاحي:
"أفزعوا النسوان اليوم".
"غداً ستقع قنابل على المقابر" يقول له مرزاحي:
قدَّر البارودي بأنهم سيتفاوضون وينتهي القصف، لكن مرزاحي أكَّد له بأنَّهم "غداً يقصفون أيضاً، ثم يترك المصريون البلد". يستغرب البارودي ويسأل صديقه: كيف يعلم بذلك. يبتسم العجوز مرزاحي، ويقول: "إنَّهم هناك، في الجانب الآخر من العالم. يستطيعون السير عبر الأيام إلى الأمام وإلى الوراء، فهو يتذكر الآن مثلاً الأماكن التي سيقصدها بعد شتاء أو شتاءين" (ص356 من الجزء الأول). يتذكَّر مرزاحي العجوز زمناً قادماً، وليس فقط زمناً مضى، ربما يتذكر زمناً من حياة كانت له وسوف يستعيدها، أو زمناً يشبه زمناً دون أن يكون هو نفسه. هو وليس هو! وربما هي دورة الزمن في الزوال والوجود، في الهدم والعمران... في حياة هي هي وليست هي.. تهدم القنابل قسماً من سور المدينة. ثم تكمل المعاول عمل القنابل في هدم السور وتعيش المدينة زمن تحوُّلها العمراني.

زوال السور علامة فارقة بين بيروت عبد الجواد أحمد البارودي الأب، بين عبد الرحيم البارودي الابن الذي ورث عمل أبيه في البناء والتجارة وراح يشهد، في حياته، "التحولات الكبرى لبيروت". المدينة التي كانت بلدة زراعية مسورة راحت تتسع لتصير "باب البلاد الشامية على البحر"، وتُبنى البيوت خارج السور. يموت الأب قبل زوال السور. يتابع عبد الرحيم، الابن، مسار أبيه ويبني أكبر خان في بيروت. إنَّه خان البارودي الذي غلب عليه، في ما بعد، اسم خان القزاز، أو خان البلد. أما شاهين فيذهب مع المقاتلين ولا يعود. عبد الرحيم الذي ذهب إلى مكان المعركة (بحرصاف) ليفتش عن أخيه شاهين يعثر على جثة عملاق، يدفن الجثة وهو يعتقد أنَّه دفن أخاه. يموت شاهين ولا يموت. تلعب الرواية على الزمن فنقدر ما هو، سردياً، تاريخي موثق، هو تأليفي بتصرُّف المتخيّل: في التاريخي الموثق يقول الراوي [الذي أفصح أكثر من مرة بأنه الكاتب] بأنَّ عبد الجواد أحمد البارودي مات عام 1840 بعد بكره (أي بعد موت ابنه شاهين) بوقت قصير (ص75 من الجزء الأول).

في التأليف تشتغل الرواية على معنى الزمان فتترك موت شاهين، الموصوف، في الرواية، بالعملاق، ملتبساً، قابلاً للعودة به ثانية إلى الحياة.. وكأنَّها بذلك تجعل من الذاكرة الروائيَّة فضاءً للتداخل والتساؤل، وللإحالة لعالمها على أكثر من زمن، على أزمنة ليس تعاقبها في التاريخ سوى وجودها معاً، وفي آن، داخل هذه الذاكرة وإيقاعات متخيّلها. يسأل شاهين في بدايات الجزء الثاني من رواية "بيروت مدينة العالم" مخاطباً نفسه:" أين أنت". ويصغي إلى إيقاعات الوجود حوله:

     

    • إيقاع حركة الماء، ماء البحر والأنهار. بما هو، في الرواية، رمز لإيقاع زمن كوني.
    • " إيقاع نمو الشجرة بما هي رمز لحركة الولادة والموت المتجددة باستمرار: تخلع الشجرة قشرتها اليابسة لتكتسي، من جديد، بلحا آخر أخضر طري.
    • إيقاع تاريخ المدينة بما هو إيقاع لزمن الدمار والعمران.

يشير الإيقاع في كل تجلّياته الكونية إلى زمانيَّة الزمن، ويختزن سؤال شاهين لنفسه بُعداً ما ورائياً ينزع نحو الما بعد متجاوزاً بذلك المرجعيَّة التاريخيَّة الموثَّقة باعتبارها إحالة إلى ماضٍ معاش، إلى مرجعيَّة تنتمي إلى المجهول،، إلى هذا الما بعد الذي هو قرين الغيبي والمطلق. وبذلك لا يعود خطاب الرواية مجرد خطاب يروي عن التاريخ، شعريَّته في سرديَّته وصياغة حبكته. إنَّه، وبما هو كذلك، ينحو إلى مضاعفة شعريَّته السردية بشعريَّة الخطاب التأملي الذي ينتقل بمعناه من الظاهر إلى ما وراء الظاهر. وهو بهذا، وحسب تعبير دريدا(13) يفترض "حضور المتعالي" أو "ميتافيزيقا الحضور". ينحو خطاب الرواية الذي يروي عن التاريخ، عن زمن مضى إلى زمانيَّة، أي إلى فهم لا يقتصر على الماضي، بل يتعدّاه إلى مستقبلٍ هو إمكان يخصُّ الوجود الإنساني. ويمكن القول أنَّ الزمانيَّة في رواية ربيع جابر لا تكتفي "ببعد واحد هو تصورها وجوداً ـ نحو ـ الموت" (حسب هايدغر) (14) بل هي، أي الزمانيَّة، وكما سبق وذكرنا، إيقاع كوني لحركة الموت والولادة، أو هذه الحلولية التقمصيَّة المتمثلة بالعودة ثانية إلى الحياة. العودة الملتبسة بحيث يبدو ما يعود ومن يعود، أو الوجود الإنساني، هو هو وليس هو.

في نهاية الجزء الأول يسقط شاهين في معركة بحرصاف الملحمية، يموت ولا يموت.. هكذا وحين يظهر في بداية الجزء الثاني تقول لنا الرواية بأنَّه نسي موته. ولم يعد يتذكَّر وجهه. أو يعرف اسمه ولا من أين يأتي. لا يذكر ولا يعرف "من أنا". يدخل في الإيقاع. إيقاع زمنه وحركة وجوده.. هكذا تعود إليه صورٌ من زمن تبدو معه هذه الصور كأنها من منام (ص65 الجزء الثاني). في الرواية يوضع شاهين المنتمي إلى عائلة لها تاريخ بتصرف المتخيّل وفي سياق المنظور الفكري للرواية. يعيش في الجزء الثاني من هذه الرواية حياته الثانية. شأنه شأن العشب في رواية "نظرة أخيرة على كين ساي". هو وليس هو.. يتذكر شاهين حياة كانت له قبل موته.. يتقمص حياة الولد سلمان الذي قتله الوحش. يقول شاهين للجندي الذي يسأله عن اسمه: "اسمي سلمان". يحسُّ العملاق، [ الذي هو في الجزء الأول من الرواية شاهين] بأنَّه "فعلاً يُدعى سلمان" (ص73/74 الجزء الثاني). سلمان حلَّ في شاهين فبدأ هذا الأخير حياته الثانية بعد موته. إنَّه شاهين وليس هو. بعد عودته إلى بيروت يذكر شاهين هذا المكان، كما تقول الرواية، "كأنَّه" كان هنا في بيروت من قبل. يلتبس موت شاهين، كما تلتبس حقيقته حين يعود إلى الرواية.. كأنَّه بذلك حمولة وجود وحركة زمن. حين يعود شاهين إلى المدينة بيروت، يجدها بلا سور، مختلفة، فيقول: "كان ذلك حلماً إذاً! لا يعرف هذه الأرض. لكنه يعرف أرضاً تشبهها" (ص73 الجزء الثاني).

على خلفية التشابه والاختلاف يتشكَّل الوجود ويحضر الزمن في الرواية. يتراجع التاريخ وحقيقته لصالح حقيقة أخرى تشتغل عليها الرواية. لا تنفي الرواية التاريخ، بل تعتمده لتقول قولها في معنى الزمن وفكرة الوجود. هكذا تؤكِّد موت شاهين في التاريخ وتعيده إلى الحياة في التاليف. يعود شاهين إلى الرواية في جزئها الثاني معبراً بشخصيَّته الروائيَّة، وليس التاريخية عن فكر الرواية وراويها: يرى الراوي، ومن خلفه الكاتب، في ما يعيشه في حاضره، يرى بيروت وقد دمَّرت الحرب وسطها التجاري وحوَّلته، كما يقول، إلى متاهة، ورأى بعد ذلك، عمرانها الذي نهض فوق أنقاضها. يعبر هذا الراوي الذي يفصح عن نفسه بأنَّه كاتب الرواية، يعبر سنة 1990 أو 1991، خط التماس الذي كان يفصل، خلال الحرب اللبنانية ـ اللبنانية، الشطر الغربي من مدينة بيروت عن شطرها الشرقي. يعبر من "الشرقية" إلى "الغربية". الحرب انتهت الآن، يقول. يدخل "الوسط التجاري المحروق من جهة وادي أبو جميل وباب ادريس"، يدخل وسط الدمار [ ولا يعرف أنَّه يقطع "أمام جامع النوفرة ثم أمام الجامع العمري الكبير ثم أمام البلدية]".

" الشوارع متاهة غامضة محروقة من الأسلاك والأخشاب والحديد المحطَّم والبراميل وتلال التراب التي ينبت عليها العشب" (ص230 الجزء الثاني). متاهة غامضة بيروت، تعيده إلى التاريخ ليكتشف ويعرف بأنَّ وسط بيروت الذي دمَّرته الحرب اللبنانية ـ اللبنانية هو بيروت التي ارتفعت بين عامي 1925 و1929، زمن الانتداب الفرنسي على ركام بيروت العثمانية التي دمَّرتها حروب سابقة، وكان لها عالمها، وأناسها.. كان لها حكاياتها.. من هذا التاريخ تتكون ذاكرة الراوي. الذاكرة حياة في أكثر من زمن.. كأنَّها منام... منام تستعاد به الحياة: يموت شاهين في زمن ولا يموت في زمن آخر هو زمن تذكره!! فمن يتذكره يكونه ولا يكونه. يشبهه... يقول عمر (أخ شاهين الأصغر) بأنَّ كارا سلمان يشبه اخاه شاهين. وعندما يقول عمر بأنَّ شاهين مات، يسمع كارا سلمان يقول له:
    ".. عمر أنا شاهين" (ص413 الجزء الثاني).

يعود شاهين في كارا سلمان، يعود في ما يسمعه عمر وما هو صوت كارا سلمان. يعود في الشبه والذاكرة.. وتعود بيروت القديمة، في ذاكرة الكتابة، إلى الحياة. يصغي الراوي الذي يكتب إلى صوت الكونت سليمان ده بسترس... يحسّ أنَّه خارج العالم.. كأنَّه، وكما يقول، غادر "عصورنا السريعة الصاخبة ومضيتُ مستدلاً بصوته إلى تلك الأزمنة البائدة، إلى مدن قديمة زالت ولن تعود". (ص11 الجزء الأول).

يمضي إلى تلك الأزمنة مسكوناً بسؤاله، عن ذلك العالم، عن الزمن والوجود، عن الذاكرة ومقدرتها على التخيُّل... عن حقيقة ما يُستعاد.. " كل ذلك العالم، هل نقدر أن نتخيَّله؟ أم أنَّ أصوات ذلك الكون المتلاشي ضاعت في السديم (في الفراغ الكبير اللامتناهي) ضاعت إلى الأبد؟.. (ص71 من الجزء الأول).

يمضي الراوي الذي يكتب مصغياً إلى الكونت الذي يروي، إلى آخرين رووا وكتبوا ليقدِّم لنا عملاً ملحمياً لحياة مدينة وعالمها.. لم يسبقه إليه أحد ولم يجاره فيه سوى ندرة من الروائيين خلَّدهم الزمن. مع ربيع جابر تعيش بيروت ذاكرتها ونعيشها متعة في جمالية الإبداع، وحقيقة في متخيّل التاريخ، وإصغاءً إلى اصوات الكون وإيقاع الحياة في الزمن الممكن والزمانيَّة الملتبسة.

بيروت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- للتوسع في هذا الموضوع والاطلاع على مرجعيّات له أنظر: نادر كاظم: الرواية وإعادة تحبيك التاريخ". مجلة "البحرين الثقافية". العدد 41 مارس 2005.
2- صدرت عن دار الآداب. بيروت 1995. سوف نكتفي عند الاقتباس بذكر رقم الصفحة. وكذلك بالنسبة لبقية الروايات.
3- يحيلنا قول الرواية هذا على ما يقوله بول ريكور من أنَّ الحياة "هي حياة تُروى". أنظر: "الحياة بحثاً عن السرد" في "الوجود والزمان والسرد. فلسفة بول ريكور". ترجمة وتقديم سعيد الغانمي. المركز الثقافي العربي. بيروت 1999 ص53.
4- صدرت عن دار الآداب. بيروت 1997.
5- صدرت عن المركز الثقافي العربي. بيروت. لبنان 2002.
6- صدرت عن المركز الثقافي العربي. بيروت. لبنان 1998.
7- صدرت عن المركز الثقافي العربي. بيروت. لبنان 1999.
8- بخصوص مفهوم الزمانيَّة والإحالة إلى ما هو مرجع موضوعي من جهة، وإلى ما هو، من جهة ثانية، تأملي يطرح سؤاله على الـ ما بعد. راجع: بول ريكور "الحياة بحثاً عن السرد". مرجع مذكور.
9- راجع: معن عبد القادر زكريَّا: "الزمان والمكان في الظاهراتيَّة والصوفيَّة". مجلة "البحرين الثقافية". العدد 42 خريف 2005. ص26.
10- المرجع السابق نفسه.
11- صدر الجزءان عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب. الأول عام 2003 والثاني عام 2005. بيروت. لبنان.
12- ربما من أجل دعم هذه الحقيقة القائمة بروائيتها، يثبت المؤلِّف، داخل روايته، العديد من المراجع. وقد بلغ عددها الخمسين مرجعاً وهي: كتب تاريخ، وسير، ورسائل، ورحلات، ومذكرات، ولافتات ما زالت تعلو مداخل بعض الأبنية في بيروت، وهي كلها مراجع تحكي عن مدينة بيروت في زمن الحكاية التي ترويها الرواية، حكاية عبد الجواد أحمد البارودي وعائلته.
13- أنظر: "الوجود والزمان والسرد. فلسفة بول ريكور". مرجع مذكور. المقدمة ص23.
14- المرجع السابق نفسه ص29