العدد الـ 23 من مجلة البوتقة الالكترونية للترجمة

هالة صلاح الدين حسين

صدر العدد الثالث والعشرون من مجلة البوتقة. البوتقة فصلية إلكترونية مستقلة تعنى بترجمة آداب اللغة الإنجليزية. يضم العدد الثالث والعشرون قصة (الحافلة الليلية) للكاتبة النيجيرية أدا أوديتشوكوو وقصة (يسوع يَخرج إلى البحر) للكاتب الأمريكي جيمز لي بيرك وقصة (كيف تتحدثين إلى صياد) للكاتبة الأمريكية بام هيوستِن وقصة (فدية زعيم الهنود الحمر) للكاتب الأمريكي الراحل أو. هنري. حصلت البوتقة على الحق في نشر قصص العدد الثالث والعشرين من مبدعيها, عدا قصة الراحل أو. هنري, فقد توفي المؤلف في 5 يونيه 1910.

جيمز لي بيرك روائي أمريكي وُلد في مدينة هيوستِن بولاية تكساس في 5 ديسمبر عام 1936. حصل على ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية من جامعة ميزوري عام 1958 وماجستير الفنون عام 1960. عمل أستاذاً للغة الإنجليزية في برنامج الكتابة الإبداعية بجامعة ويتشيتا الحكومية في ولاية كنساس. نال بيرك منحة من مؤتمر بريدلوف للكُتاب عام 1970 وجائزة كاتب لويزيانا عام 2002 لمساهمته المتواصلة في (التراث الفكري الأدبي للويزيانا). أشادت جريدة نيو يورك ديلي نيوز ببيرك قائلة إنه (ليس مجرد كاتب روايات بوليسية ـ إنه جرام جرين الرافد)، ولقَّبه الكاتب الأمريكي جوناثان كيلِرمان بـ (فوكنر أدب الجريمة).

(بوسع جيمز لي بيرك أن يكتب أفضل مشاهد العنف في الأدب الأمريكي. بوسعه أيضاً أن يقذف باستعارة مكوَّنة من عبارة وصفية موجزة تصدم القراء صدمة مدوية)، حسبما تعلن ذا واشنطون بوست بوك وولد. يَشغل السجناء السابقون والعاهرات والعصابات الإجرامية وتجار المخدرات والمهربون ومدمنو الكحوليات ورجال الشرطة الفاسدون والقتلة المضطربون عقلياً والسفاحون معدمو الإحساس ساحة حرب الوجود, الحياة على الهامش. لا تنقص رجال بيرك الخشونة ولا العنف, تَسوقهم تكتيكات التستوستيرون داخل أرض خراب داعرة, أرض تحوي ضواري مشحونة بالعنف في عالَم إجرامي مترامي الإطراف دنيء النيات. غالباً ما تشترك نساؤه في نفس الخصال, عدا قلة تمكنت من النجاة والحب. يرسم بيرك هذا العالَم بنثر يتوغل في الواقع على غرار الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي, نثر يتعذر فك ألغازه ويتسم بالفجاجة في أكثر الأحيان. إن أسلوب بيرك يتراوح غير ثبات بين السادية والأحاسيس, الرعب والرقة.

(حوار بيرك واقعي وكأننا نستمع إلى تسجيل). هكذا يقول ملحق لوس أنجلوس تايمز بوك ريفيو. يجلب بيرك إلى مدرسة الواقعية الأدبية إحساسه بخسارة عالَم عدن المتمثل في طفولته في جنوب لويزيانا وسبره الجذور النفسية لمشاعر الذنب والهوس واحتقار الذات التي تصيب شخصياته. ومع استخدام الصيغة البوليسية الممتزجة بعملية التكشف المحسوب, يعري بلا انقطاع الجانب القاتم المرتعب من أمريكا المعاصرة, ورغم أن المجتمع يقبض في النهاية على المذنبين أو يقتلهم, يظل هذا المشهد الأسود قائماً بوحشيته واستبداده دون أن يمسسه أذى.

تكشف مجموعته القصصية يسوع يخرج إلى البحر (2007) أبعاداً جديدة لأستاذ من أساتذة الأدب الأمريكي. تتسم القصص بتنوع أمزجتها وحدة النبرة, قصص مشحون بكآبة لا تنقطع سوف تنتاب خيالات القارئ طويلاً بصورها عن النجاة والخسارة والذاكرة. يمزج بيرك بقلمه الرشيق بين نزعته إلى الحكي المثير وأسلوبه الشجي في الكتابة وصور معقدة آسرة للشخصيات. تغطي المجموعة مدى واسعاً من التجربة الإنسانية ـ من الصداقة والحب والجنس إلى الاعتداءات العائلية والحرب والموت. تنفض أحداث أغلب القصص في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين وتستند إلى خبرات بيرك خلال نشأته في منطقة ساحل خليج المكسيك في تكساس ولويزيانا. تتخلل المجموعة أيضاً مواضيع عرَّفت أدب بيرك خلال ثلاث العقود الماضية: مجابهة الأشخاص العاديين لقوى الشر, تجاور الجمال الطبيعي لعنف البشر, التركيز الشعري لحياة الطبقة العاملة في الجنوب الأمريكي. سوف يستغرق القارئ في الجمال السوداوي لهذه التشكيلة الرائعة من القصص.

أو. هنري قاص أمريكي وُلد تحت اسم ويليام سيدني بورتر في 11 سبتمبر 1862 في مدينة جرينزبورو بولاية نورث كارولينا. اتصف هنري بغزارة الإنتاج, إذ نشر خلال حياته عشر مجموعات قصصية وحوالي 600 قصة قصيرة. عرَّفت هذه القصص فعلياً فن القصة القصيرة باعتبارها شكلاً أدبياً مستقلاً لمدة عقود تالية, ولا يزال التلاميذ يطالعونها في المدارس الأمريكية ويترجمها المترجمون في العالَم أجمع إلى جميع اللغات الحية. تخلل الإدمان على الكحوليات واعتلال الصحة والمشاكل المادية سنوات هنري الأخيرة. توفي من جراء التليف الكبدي ومضاعفات مرض السكر وتضخم القلب بمدينة نيويورك في 5 يونيه 1910.

لا ريب أن هنري كان نتاج عصره. إذ تُقدم أعماله مثالاً نموذجياً على أسر نكهة زمن برمته. انطوت أحداث الغالبية العظمى من قصص هنري إبان عصره, السنوات الأولى من القرن العشرين. وسواء كان يطوف في مزارع الماشية بتكساس أو يسبر فنون (المحتال الدَمِث) أو يبحث توترات تتسلل إلى الطبقات الاجتماعية وأصحاب الثروات في مستهل القرن العشرين بمدينة نيويورك, تمتع هنري بمقدرة لا تضاهى على عزل أحد العوامل الاجتماعية ووصفه بإيجاز مبهر ولغة رشيقة. وعلى الرغم من موهبته الكوميدية الاستثنائية, تتجلى عبقريته في قوة ملاحظته لحياة سكان مدينة نيويورك. غالباً ما تلقي قصصه الضوء على حيوات البسطاء والأشخاص العاديين في تلك المدينة. وهكذا تتبدى بصيرته النافذة القادرة على تعرية أحوال عصره الاجتماعية.

أطلق النقاد على أو. هنري لقب المرادف الأمريكي لجي دو موباسان. فقد برع كلا الكاتبان في نسج النهايات المفاجئة بيد أن قصص هنري اصطبغت بالمزيد من الهزل والتفاؤل. إنه أستاذ من أساتذة المغامرات العظيمة والقصص الرومانسية المثيرة والتشويق الآسر, المتمكن من السرد البارع, صاحب نهايات مدهشة لا تخفق في مباغتة القارئ. لقد أضحت انعطافات الحبكة التي تنتج أحداثاً ساخرة أو عرضية نموذجاً لقصص أو. هنري. روح الدعابة, السخرية اللاذعة, المآسي, الكوميديا السوداء, نكات خفيفة الظل تطلقها الحياة على مَن يكافحون ويحتالون ويحبون, كلها في ضربات سريعة مباغتة ـ إنها خصائص تنفرد بها قصص هنري الكلاسيكية.

إن قصة (فدية الزعيم الحمر) نموذج لإبداع أو. هنري الهزلي. ظهرت القصة في المجموعة القصصية دوامات الخيل عام 1910. صدرت مرة أخرى عام 1918 في كتاب المختارات القصصية أفضل القصص القصيرة في عام 1918 وحولية القصص القصيرة الأمريكية. يدل أسلوب هنري المتقد بالفكاهة والحيوية على تأثره بأعمال الكاتبين الأمريكيين مارك توين وأمبروز بيرس. تمتع هنري بعين كوميدية فذة تسبر حقائق الحياة من منظور هازيء لاذع. تتعاطى قصصه معه المحتالين والغشاشين والمخادعين (السذج)، وتتمحور حول منعطفات القدَر باعتبارها حقيقة من حقائق الحياة لا مفر منها. لا تخلو حكاياته من ألاعيب الحظ والصدفة ودوماً... دوماً مفاجآت بارعة لا تنتهي. إن قصص هنري في مثل إدهاش الحياة نفسها. حكايات تتردد بين الضحك والدموع, الحب والخسارة. حكايات العُجز والشبان, الغني والفقير, الخير والشر, لا تتجنب الأكاذيب ولا الحقائق, مترعة بالأنانية وكذا التضحية, بها من الإخلاص قدر ما بها من الخيانة. ترين عليها خفة الدم والتصوير الحميم للشخصيات. لقد ضمن عامل التشويق والتحولات الساخرة ألا يصاب القراء من أصحاب الذائقة الأدبية السلمية بالإحباط على الإطلاق.

أدا أوبي أوديتشوكوو شاعرة ورسامة نيجيرية وُلدت في مدينة إينوجو النيجيرية عام 1960 لأب ينتمي إلى قبيلة الإيبو النيجيرية وأم أمريكية بيضاء. نالت ليسانس الآداب في الأدب الإنجليزي والأفريقي من جامعة نيجيريا في بلدة نسوكا عام 1981 وحصلت على ماجستير الفنون الجميلة في الكتابة الإبداعية من كلية بينينجتِن في ولاية فيرمونت الأمريكية عام 2005. وعلى العكس من أعمالها الفنية التي تُدمج قطعاً من الإرث النيجيري العتيق، تصطبغ قصصها بصبغة معاصرة تماماً. إذ تصور كفاح النيجيريين في العصر الحالي وتسلط الضوء على موضوعيّ الاغتراب والخيانة. ولو أن فنها يتأمل المساحات وحالات الصمت، فقصصها تُرسل ضجيجاً يصم الآذان ويَحجب أصوات العلاقات الإنسانية ويقوض أركان أمم بأكملها. تدور أغلب قصصها في نيجيريا، كما تتناول تجربة هجرة النيجيريين إلى أمريكا.

أصدرت أوديتشوكوو قصة (الحافلة الليلية) في صيف 2006 بمجلة ذا أتلانتيك مانثلي. رشحت القصة لجائزة كين للكُتاب الأفارقة عام 2007. عدها كتاب المختارات القصصية أفضل القصص القصيرة الأمريكية 2007 واحدة من أفضل مائة قصة ظهرت في المجلات الأمريكية والكندية عام 2006. قد ينتاب المطلعين على فن أوديتشوكوو البصري قدر من الصدمة عند قراءة هذه القصة. إذ تخلو الحكاية من أقواس رقيقة وحالات صمت مدوية. فمع السطور الأولى يرتطم القارئ بجو قاس ثقيل الوطأة بل وباعث على الاختناق في بعض الأحيان. إنها قصة سوداء غاية في السواد، بطلتها في حالة من القلق الشديد منذ البداية وحتى النهاية، كل مَن حولها إما لا مبال وإما مهدِّد بالخطر. حين سألت الصحفية جيني روثينبرج جريتس إن كانت القصة تعليقاً على حالة نيجيريا المعاصرة، أجابت أوديتشوكوو: (بمعنى ما، أجل. ففي السنوات العديدة الماضية ـ منذ بدأ في الواقع الحكام العسكريون يهيمنون على البلد ـ ساء مناخ الشك المحيط بالنيجيري العادي وما يجابهه في حياته اليومية سوءاً مستفحلاً). فرغم أن القصة لا تعالج الاضطرابات السياسية في نيجيريا معالجة مباشرة، تنفض أحداثها في جو من الفوضى والخوف لتعكس شيئاً من تجربة المؤلفة في طفولتها. وفي سياق آخر تقول أوديتشوكوو إن قصصها (تهتم اهتماماً خاصاً بما لا يسمعه المرء دوماً عن جوانب الحرب وضحاياها: ما هو تأثير الحرب على العائلات؟ ماذا تفعله الحرب حقاً بالفرد العادي، بالإنسان)؟

وُلدتْ هيوستِن في ولاية نيو جيرزي الأمريكية عام 1962 ونشأت بها. تعمل مديرة برنامج الكتابة الإبداعية للماجستير في جامعة كاليفورنيا بمدينة ديفيس بدرجة أستاذ مساعد, وكذا مديرة حلقات خليج توماليس باي الأدبية التابعة لجامعة كاليفورنيا بمدينة ديفيس. نشرت هيوستِن قصة (كيف تتحدثين إلى صياد) في مجموعتها القصصية رعاة البقر هم نقطة ضعفي عام 1992. (تنعم هيوستِن بجرأة أي جرأة ونبرة لا تشوبها شائبة... نثرها حاد اللهجة نقي الأسلوب). هكذا كتبت مجلة نيو يورك تايمز بوك ريفيو ذات يوم عن هذه المجموعة. تفتح تلك الحكايات لاسعة اللسان نضرة الإيقاع عوالم جديدة ـ عوالم تمتد من الصحاري المرتفعة إلى سهول ألاسكا الجرداء, من مياه بيضاء محفوفة بالمخاطر إلى جبال روكي المكسوة بالثلوج, من (رعاة البقر) إلى النسوة القويات. وقد قارن النقاد بين هيوستِن وإرنست همنجواي وريتشارد فورد اللذين مجدا مباهج الخوض في العالم الطبيعي. يكاد نثر هيوستِن المقتصد يماثل نثر إرنست همنجواي بيد أنه بليغ بلاغة الثراء في وصفه لمشاعر الغرب الأمريكي.

يشيد الناقد الأمريكي بيتر فلورنس بهيوستِن في مجلة ذا وييك قائلاً إنها (صاحبة حرفة تكتب بقلم موحش جميل). وتلتقط الروائية الأمريكية كيري رايكس التناقض والتنوع في شخصيات المجموعة القصصية رعاة البقر هم نقطة ضعفي، فنساؤها (قويات إنما حنونات, حكيمات إنما سريعات التأثر, ساخرات إنما مفعمات بالأمل. هيوستِن قاصة موهوبة, ونساؤها ذكيات خفيفات الظل يسهل الإعجاب بهن). يتجلى في المجموعة بأكملها صوت نسوي أصيل غض.

تنضح قصة (كيف تتحدثين إلى صياد) بنبرة حسية ومواقف ذكرية تقليدية بينما تتغلغل في عقل امرأة تحب رجلاً ينطق بأقل القليل من الكلمات. يلعب التجاذب الجنسي دوراً لا يستهان به في كشف تفاصيل الحبكة, كما تحلل هيوستِن الجنس من منظورين متباينين, بعين الرجل وعين المرأة. إذ تسيء الراوية تفسير الجنس وتعده حباً بينما يستخدمه الصياد كوسيلة للمتعة وطريقة لتعزيز ثقته بنفسه ليس إلا. وتعترف الراوية في جزء مبكر من القصة (الرجل يرغب في إشباع رغبته، المرأة ترغب في حالة الرغبة). أي أن الاثنين بمقدورهما الاستفادة من هذا الترتيب على الرغم مما يبدو فيه من تضارب. حينما اختار الروائي الأمريكي ريتشارد فورد القصةس لتَصدر في كتاب المختارات القصصية أفضل القصص القصيرة الأمريكية 1990, قدَّم إلى الأدب الخام صوتاً جديداً ثورياً إنما حميم مستقل أمين. وفي خلال ستة أشهر أعقبت نشر رعاة البقر هم نقطة ضعفي, فاز الكِتاب باستحسان القراء والنقاد وتسلق قوائم أفضل المبيعات واجتذب العروض السينمائية من هوليوود وحوَّل كاتبته إلى رمز من رموز الكتابة النسوية. لقد قذفت تلك المجموعة القصصية كاتبتها إلى الصفوف الأولى لكُتاب الغرب الأمريكيين.