لاشك أن «مهرجان آفينيون المسرحي Festival D’Avingon» قد أصبح الأن، بعدما ترسخت مسيرته ووصل هذا العام إلى دورته الرابعة والستين، 64th Edition، أهم المهرجانات المسرحية الأوروبية من حيث انفتاحه على كل ما يدور في الساحة الأوروبية الواسعة من تجارب وتيارات وإنجازات مسرحية مرموقة. لأن له هيئة دائمة، لاتحرص فقط على متابعة ما يرد لها من شرائط مسجلة لعروض مهمة، ولا على الاستنارة بآراء أبرز نقاد المسرح الأوروبيين والعالميين، وإنما يجوب بعض مراسليها العالم بحثا عن عروض غير أوروبية جديرة بالاستضافة، وهذا ما يغني المهرجان باستمرار، ويجعله حافلا بالاكتشافات والمفاجآت المسرحية المدهشة. وقد أصبح لـ(الكلمة) موعد دوري مع هذا المهرجان الحافل بالجديد والمثير، تقدم فيه لقرائها تغطيتها لبعض ما يدور فيه. فليس في استطاعة شخص واحد مهما كانت إمكانياته، ومهما توفر له من وقت تغطية ما يدور فيه من أنشطة، سواء تعلق الأمر بالمهرجان الرسمي، الذي ستقتصر عليه تغطيتنا هذا العام، والذي كان فيه أكثر من خمسين عرضا ونشاطا، أو بالمهرجان التجريبي المرافق Avignon Off الذي تناولنا بعض ما دار فيه في أعوام سابقة، والذي يستحيل تغطية أهم ما يقدمه إلا لفريق كامل من نقاد المسرح المتفرغين، لأن ما يقدم فيه عادة يتجاوز الستمئة عرض. بل لقد قيل أن عروض هذا العام في المهرجانين الرسمي والهامشي بلغت ألف عرض ونشاط بما في ذلك النشاطات الموازية من محاضرات ولقاءات مع المخرجين ومعارض.
وكان مهرجان آفنيون الرابع والستون حافلا كالعادة بالعديد من التجارب المسرحية الأوروبية الشيقة، والتي تنحو في السنوات القليلة الماضية إلى الخروج بالمسرح من دائرة النص المسرحي التقليدي الذي يعتمد أساسا على الكلمة كأداة تعبير أساسية في المسرح، إلى دوائر مسرحية أوسع، يستخدم فيها العمل المسرحي، فضلا عن اللغة بمعناها التقليدي، مجموعة من اللغات والوسائط التعبيرية الأخرى، أكثرها إلحاحا في السنوات الأخيرة، هي لغة الجسد والحركة في تجليهما المسرحي المعاصر الذي يعرف باسم «الرقص الحديث». وهو رقص لاعلاقة له بما نعرفه في لغتنا العربية باسم الرقص، سواء أكان رقص «هز البطن» الشرقي القائم على الغواية، أو الذاتية الفردية، أو دغدغة الحواس، أو مختلف الرقصات الشعبية الجمعية المعروفة من الدبكة، إلى التحطيب، إلى مختلف رقصات العصي الثنائية منها والجمعية. ولأن كل هذه الرقصات الشرقية والشعبية يمكن وصفها ـ بشكل عام وإجمالي ـ بأنها رقصات الجملة الحركية الواحدة التي تتكرر في تنويعات تطريبية مختلفة، لها غوايتها البصرية الخاصة، بصورة يوشك فيها التطريب الحركي أن يكون هو القاسم المشترك الأعظم بينها جميعا، فإنها كلها توشك أيضا أن تكون النقيض الكامل للرقص الغربي الحديث.
الرقص كلغة حركية مثرية للغات المسرح
فالرقص الغربي الحديث هو النقيض الواضح للتطريب الحركي، بل يعتبر التطريب عيبا واضحا في العمل الذي ينحو أساسا نحو الدرامية والتركيب. حيث لا يعتمد على جملة حركية تتكرر، وإنما ينهض على بناء درامي معقد يستخدم لغة حركية كاملة لها أجروميتها ونحوها الخاص. استفادت مفرداتها من تاريخ طويل من رقص الباليه الدرامي بعدما حررته من بنية الباليه الكلاسيكية أو بالأحرى أطلقته من قيود شعريتها وجمالياتها الصارمة، وأنزلته إلى أرض النثر الحركي الواسعة، ولقحتها بمفردات كثيرة من أجرومية الأوبرا الصينية ومسرح النو والكابوكي الياباني، وأحالته إلى لغة كاملة بتنويعاتها الدلالية والانفعالية، وحتى بقدرتها على التعبير عن كوامن النفس ومكنوناتها، وعن سورات المشاعر المبهمة ودقائقها. والواقع أن هذا المنحى الجديد الذي يزاوج بين لغة المسرح التقليدية ولغة الرقص الحديث التي طورت مفرداتها وأجرميتها وعلاقات مفرداتها السياقية، هو ابن سعي مشترك من الجانبين. فالرقص الغربي الحديث أخذ يسعى بالتدريج لبلورة بنية درامية لعروضه، تستفيد من توتر الدراما وإحكام بنيتها، وتحيل الرقص، وقد تخلى في كثير من الأحيان عن اعتماده الأساسي على الموسيقى، كما هو الحال مع فن الباليه، إلى عمل درامي قادر على الاعتماد على نفسه، وتوصيل رسالته المتراكبة الدلالات والرؤى للجمهور، واستخدام الموسيقى كأحد أدواته في بناء دراميته بعد أن كانت تستخدمه.
كما أن رغبة المخرج المسرحي في أن تكون له لغته الخاصة التي يبلور عبرها تأويله المتفرد للنصوص المسرحية الكبرى، والتي اشبعتها الإخراجات المتكررة تأويلا، ورغبة كثير من المخرجين في لعب دور أكبر في العمل المسرحي، يتجاوز مجرد تجسيده المتمكن على الخشبة، أو حتى أن يكون مجرد شارح لتأويل ما من تأويلات كلاسيكيات المسرح الكبرى المختلفة، والقيام بدور المشارك في عمل مسرحي جديد. قد يعتمد على نص أدبي معروف ـ ولا يهم هنا إذا ما كان النص مسرحيا أو روائيا أو حتى سيرة ذاتية ـ ولكنه يعيد إنتاجه مسرحيا، من خلال توظيف لغات المسرح الحركية والبصرية المختلفة، بصورة يترك بها بصمته عليه. وهذا التوجه هو ابن نزعة واضحة في المسرح الأوروبي عموما لخلق علاقة جدلية حية بين كلاسيكيات المسرح في كل ثقافة من الثقافات الأوروبية المختلفة وبين الحاضر. تنامت بشكل كبير منذ كتب الناقد البولندي يان كوت Jan Kott كتابه الشهير الذي أصبح من كلاسيكيات التنظير المسرحي (شكسبير معاصرنا Shakespeare Our Contemporary) وطرح فيه مجموعة من المداخل الشيقة لتناول كلاسيكيات المسرح العالمي باعتبارها أعمالا معاصرة لنا، وليست مجرد أعمال تنتمي للتاريخ القديم، حتى ولو كانت أعمالا تاريخية.
لذلك نجد أن ضيوف شرف المهرجان ـ وضيف الشرف عادة هو مسرحي مرموق حقق حضوره وترك بصمته الواضحة في ثقافته فدعاه المهرجان لتقديم أكثر من عمل في الدورة الواحدة ـ في السنوات الأخيرة هم في الغالب من هذا النوع الطموح والخلاق من المخرجين، الذين يعتمدون على مفهوم أوسع للإخراج يقترب به مما يدعوه إخواننا المسرحيين التوانسة بالكتابة الركحية، أي الكتابة بالممثل ـ وليس بالقلم ـ على الخشبة. لكن على العكس من تجارب المسرح التونسي المرموقة من توفيق الجبالي إلى الفاضل الجعايبي وجليلة بكار وعزالدين جنون وغيرهم، فإن المخرج الأوروبي من هذا النوع يفضل أن يعمل مع كاتب محترف، كما هو الحال مثلا مع إريان ميشكين وهيلين سيكسو مثلا، وذلك بسبب أن المخرج الأوروبي هو ابن تاريخ طويل من احترام النص المسرحي ومؤلفه منذ المسرح الإغريقي وحتى اليوم، على عكس الكثيرين من صغار المخرجين العرب الذين يجترئون على النصوص المسرحية العربية القليلة بصفاقة لامثيل لها كثيرا بسبب أميتهم الثقافية.
وقد كان ضيف شرف المرجان هذا العام، والذي افتتح به المهرجان عروضه في ساحة الشرف بالقصر البابوي العتيد هو المخرج السويسري كريستوف ماثاليه Christoph Marthaler الذي اشتهر بنجاحاته المرموقة في المزج بين المسرح والموسيقى والرقص والغناء. وهذا أمر ليس بغريب عليه بسبب تمرسه الطويل في الاخراج الأوبرالي، كما أنه هو نفسه من عازفي الناي المشهورين في بلده. وهو من جيل مابعد ثورة 1968 الشهيرة حيث التحق بعدها مباشرة بمدرسة جاك ليكو Jacques Lecoq بباريس ليواصل بعدها مسيرة طويلة في العزف والتمثيل والإخراج في زيورخ، عاصمة سويسرا الاقتصادية والثقافية على السواء. ومع أنه سويسري بالميلاد والجنسية إلا أنه من أكثر منتقدي المجتمع السويسري. وقد كانت نقطة التحول في مسيرته الإخراجية ـ كما يقول في مقابلة أجراها معه المهرجان ـ هي لقاؤه بمصممه المناظر أنّا فيبروك Anna Viebrock والدراماتورجيه ستيفني كارب Stefanie Carp حيث بدأ معهما مسيرته المسرحية المتميزة في عدد من الأعمال التي صاغ عبرها معهما جماليات مسرحية جديدة توجت بفوزه بجائزة أهم مخرج مسرحي عام 1997 في ألمانيا، أو بالأحرى في الثقافة الألمانية. حيث استطاع عملهم المشترك المزج بين الواقعي والخيالي، بين العملي والمثالي، في استقصاء العلاقات الإنسانية المعقدة بين سويسرا وألمانيا. وفي الفترة من عام 2000 حتى عام 2004 أصبح المدير الفني لمسرح زيورخ الرئيسي Schauspielhus ثم عمل بعدها في الانتاج المستقل لحسابه، كي يتفرغ للعمل بشكل دوري على نصوص المسرحيين الذين يحبهم من شكسبير إلى ألفريدا يلينيك، الحائزة قبل سنوات على جائزة نوبل، وشهاب المسرح الألماني الخاطف، جورج بوشنر. ولكن بنفس المنهج الذي يجمع بين المسرحي والموسيقي والغنائي، ويجلب النص إلى الحاضر كي يكون فاعلا فيه، ومعاصرا بحق لجمهوره. هذه هي بصمة مارثاليه الدالة التي جعلته بحق شاعر المشهد المسرحي، والذي سبق له أن قدم من قبل عددا من أعماله في آفينيون. وهو هذا العام ضيف شرف المهرجان يعرض فيه عملين، كان أحدهما هو عمل الافتتاح في أهم فضاءات المهرجان، وأكثرها احتشادا بالجمهور، ألا وهي ساحة الشرف في القصر البابوي.
ضيفا شرف مهرجان هذا العام: كريستوف مارثاليه وأوليفييه كاديو
«هراء» الكنيسة وصراع الدين والسياسة:
أما العمل الذي اعده خصيصا لمهرجان آفينيون هذا العام، وبمناسبة اختياره ضيف شرف له، فهو عمل يحمل عنوانا عبثيا غريبا Papperlapapp وهو كلمة شعبية ألمانية أدق ترجمة عربية لها هي «هراء!»، لكنها في الوقت نفسه، ومن خلال نطقها الألماني تبدو وكأنها يمكن أن تختلط باسم القصر الباباوي نفسه Palais des Papes. فالعمل مصمم خصيصا لهذا الفضاء المهيب، فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي، والذي نصب فيه مركب معدني مؤقت لمقاعد تسع ألفين من المشاهدين، أمام خشبة تمتد بعرض يزيد عن أربعين مترا، وبعمق يصل في كثير من الأحيان إلى ثلاثين مترا. وبطيعة الحال فهي خشبة لاتسدل عليها الستائر، وإنما تظل مكشوفة للجمهور قبل العروض، وطوال العرض، وبعده. وعادة، وبسبب طبيعة الفضاء، ما يدخل المتفرجون للوصول لمقاعدهم والخشبة مضاءة، وبها ما بها من مشاهد وتكوينات مسرحية. لكن المهم أن اختيار هذا الإسم يكشف من البداية، ليس فقط عن نزعة السخرية التي تغلف المسرحية، وعن موقفها المضاد للكنيسة، حيث وجدت كلمة شعبية أو عامية ألمانية تنطوي على نفس الخصائص الصوتية لاسم القصر المهيب، ولكنها تعني كل ما هو مضاد لدلالاته التاريخية، حيث لم يعد مكانا لأعلى سلطة دينية في العالم المسيحي كما كان الحال قبل ثمانية قرون، ولكنه أصبح أهم فضاءات المهرجان المسرحية. لكن المسرحية لا تكتفي بهذه العتبة الأساسية، وهو العنوان في السخرية من المكان ودلالاته، ولكنها تهيؤنا به لموضوعها الأساسي وهو الكنيسة/ المؤسسة والكنسية/ الدين ودورهما السلبي في الحياة والسياسة على السواء.
وحينما ندخل لمسرحية كريستوف ماثاليه نجد أنفسنا بإزاء مسرح مضاء توزعت فيه مصاطب متباعدة لسبعة مقابر، فوق كل منها مرتبة ومخدة، وعلى أربع منها تماثيل لكلاب، وفي الجانب الأيسر للمسرح، بالنسبة للمشاهدين، هناك عدة دكك كتلك التي تجدها في الكنائس، على بعضها لعب أطفال، ووراءها في أقصى يسار المسرح كرسي أو صندوق اعتراف، بما في ذلك غرفة القسيس، في تكوين خشبي قديم منقول من كنيسة ما. أما جانب المسرح المقابل على يمين المشاهدين، فقد تراكمت فيه مجموعة من الأجهزة المنزلية الكبيرة من غسالات وثلاجات وأفران طهي منزلية وتليفزيونات قديمة، في كومة وكأنها في مقلب للنفايات. ومن ورائها مايشبة بقايا عربة قديمة مهجورة من النوع الذي يعيش فيه المشردون، ويعد المأوى الوحيد لهم في مدن الرفاهية الغربية. وهناك أيضا، وفي وسط المسرح تماما، أيقونتان للعصر الحديث: أولاهما ثلاجة عرض أفقية من ثلاجات المشروبات الغازية والأيس كريم، وسيستخدمها العرض لأكثر من غرض، ليس فقط كرمز لحضارة الاستهلاك وتفاهته، ولتزويد الممثلين بالمشروبات أثناء العمل، ولكن أيضا لإطفاء نار شبق إحدى نسائه. وثانيتهما غسالة ملابس ضخمة من النوع الذي نجده في المؤسسات الضخمة أو المغاسل التجارية التي تنتشر محالها في كثير من المدن الأوروبية. وموقع تلك الغسالة الضخمة وسط المسرح تماما موقع رمزي، فنحن هنا بإزاء عملية غسيل وتفكيك للكثير من التصورات الغربية الراسخة عن الدين والسياسة. كما يستخدم المشهد المسرحي قوسين من أقواس ساحة الشرف التي تقع في صدر المسرح، حيث يضع فيها بعض الأثاث، وكذلك بعض النوافذ التي تعلوها والتي نجدها مضاءة في البداية حيث سيستخدمها العرض فيما بعد، باعتبارها تجليات رمزية للعوالم والحيوات المختفية وراء النوافذ أو في داخل الشقق.
مشهد من المسرحية يظهر كرسي الاعتراف ومصطبة المقبرة
ومن البداية، يؤكد لنا المشهد، وهو العتبة الثانية للعرض المسرحي بعد العنوان، طبيعة المواجهة المشهدية بين تجسيد الكنيسة في الجانب الأيسر، أقوى نقطة في خط الرؤية المسرحية من المنظور الأوروبي، وموقع النفايات، أضعف نقاط الرؤية، الذي يخرج من عربته الممثلين في الجانب الأيمن. وهي مواجهة ذات دلالة تستدعي تأملها والتفكير فيها. وهو أمر سيتأكد أكثر كلما واصلنا المشاهدة، حيث سيسعى العمل لقلب قواعد المنظور، وتحويل أضعف نقاط منظور الرؤية إلى أقواها حركيا، فمنها ستبدأ المسرحية، وبها ستنتهي أيضا في نوع من الدورة المحكمة، بينما أقواها يصبح أضعفها مسرحيا. وهو قلب يناظر انقلاب وضع الكنيسة من أقوى سلطة في أوروبا أيام بناء القصر الباباوي، إلى مؤسسة هزيله، لايدور فيها غير «الهراء» في الحاضر الأوروبي، وخاصة في فرنسا المولعة بعلمانيتها.
الثلاجة: الرمز الاستهلاكي
وحينما تبدأ المسرحية يخرج رجل في حلة رسمية من قلب عربة المأوى القديمة وراء كومة النفايات، ويتبعه مجموعة كبيرة من الممثلين من رجال ونساء، هم كل الممثلين المشاركين في العرض، سبعة رجال وخمس نساء، وسرعان ما نكتشف أن الرجل أعمى، وأنه الدليل لفوج سياحي جاء بهم للقصر البابوي يشرح لهم معالم المبنى وتاريخه، ويتحدث الأعمي، ككثير من المرشدين السياحيين بطريقة يمزج فيها الانجليزية والفرنسية والألمانية، ويبدو لوهلة وكأنه يوجه خطابه للجمهور، لكنه سرعان ما يستدير للمثلين ويسألهم بطريقة تهديدية إذا ما كانوا ينصتون لما يقوله. ولا يعيره كثير من أفراد جماعته أي اهتمام، وينصرفون إلى لهوهم، أو قل «هرائهم» اليومي من مغازلات وبداية علاقات، والذهاب للكنيسة، حيث يدخل قبل وفودهم لها عامل إلى صندوق الاعتراف، يصلح شيئا فيه بقاطعه المعادن الكهربائية، فينطلق شرر من نافذته، يظن من توافدوا على الكنيسة منهم لاستخدامها مكانا هادئا لممارسة غزلهم، أنه نتيجة لمعجزة فيركعون خشوعا، ويرسمون علامة الصليب ويهللون للمسيح. بينما يضع المرشد الأعمى رأسه في قلب الغسالة الكهربائية الضخمة، ويديرها للحظة بالخطأ وهو يتحسسها لاكتشاف ماهيتها كأعمى، ويصاب عند دورانها بالصدمة، فيخرج رأسه بسرعة منها، وقد هلل معجزة ... معجزة ... لقد استعدت بصري. وليست هذه هي السخرية الوحيدة في بداية المسرحية، ولكن ما أن يخرج العامل من صندوق الاعتراف، وبدلا من أن يخرج وفي يده نبيذ التناول المقدس، يخرج ومعه مشروب غازي أمريكي في يد، وأداة القطع واللحام الكهربائي في أخرى. وما أن يكتشف من في الكنيسة حقيقة ما تصوروه معجزة، حتى ينقلب الوضع من الركوع خشوعا إلى ركوع شبقي من نوع آخر في محراب ممارسات جنسية فمّية على مقاعد الكنيسة نفسها.
فالمسرحية تستخدم الصدمة والتحولات السريعة من نقيض إلى آخر، بصورة تعتمد على شعرية التجاور الجدلي الدرامي الخلاق. وتتواصل المسرحية التي تمتزج فيها الحركة المشهدية بالغناء والموسيقى في بنية إبيسودية لايمكن بأي حال سرد كل فصولها المتعددة هنا. خاصة وأن بنيتها الأبيسودية تلك ليست مرتبة وفق أي تتابع منطقي وإنما تسعى لخلق نوع من الجدل الفعّال بين فصولها من ناحية، وبين الماضي والحاضر من ناحية أخرى. لأن هذه البنية الإبيسودية ترافقها بنية زمنية تتحرك حركة بندولية بين الحاضر الراهن، والماضي الكنسي أيام الخلاف الديني الذي استعر إبان نقل المقر البابوي لفرنسا بين الملك فيليب لوبل Philippe le Bel والبابا بونيفيس الثامن Boniface VIII ودارت بعض فصوله في متاهات هذا القصر البابوي الذي يجلس فيه الآن ألفان من المشاهدين، يشاهدون عملية تفكيك الماضي، وإعادة رؤية بعض فصوله من منظور الحاضر، ويستمعون لترجيع أصداء بعض مادار في ساحته. في نوع من إدخال المشاهدين إلى قلب العمل وإشراكهم ولو سلبيا في بعض مقولاته. والواقع أن اختيار تلك اللحظة الزمنية للتحرك بندوليا بينها وبين الحاضر كان اختيارا موفقا، فلم تكن بأي حال من الأحوال لحظة ماجدة لا بالنسبة للسلطة السياسية، ولا حتى بالنسبة للسلطة الدينية. فهي لحظة تاريخية اختلطت فيها ممارسة الحقيقة بإرادة الخداع والتزييف، والورع الديني بالمؤامرات السياسية والأكاذيب حتى من قبل رجال الدين أنفسهم وليس الساسة وحدهم، والشرعية الدينية المهددة بالشرعية السياسية التي كانت تعاني هي الأخرى مما يدعوه أنطونيو جرامشي Interregnum أي مرحلة تزعزع السلطة وافتقارها للشرعية، أو مرحلة الفراغ السياسي وافتقاد السلطة للمصداقية. وهي مرحلة مناسبة لأقصى حد لأن تكون قناعا للحاضر، أو أن تدير حوارا معه، في عالم تزعزعت فيه السلطة، السياسية منها والدينية، وافتقرت لأدنى شروط الشرعية والمصداقية، وساد فيها دور الوسطاء الإعلاميين الكذبة، وكشرت فيه العولمة الشرسة وإرادة الخداع والتزييف عن أنيابها البشعة وقدرتها على الزراية بالكثير من الرواسي والمقدسات.
وتكشف المراوحة بين الماضي والحاضر عن جمالياتها الساخرة، حينما يستعر التزاوج بين الشخصيات، بعد أن تمت عملية فرز بينهم أحالتهم إلى خمسة أزواج كل زوج فيها من رجل وأمرأة، وزوج سادس من رجلين، فنحن في عالم لم يعد باستطاعة أوروبا فيه أن تتصور نفسها دون المثليين. أقول تكشف المراوحة بين الماضي والحاضر عن جماليات الصدمة الساخرة. فما أن يؤدي التناغم الموسيقي الإيقاعي ــ والموسيقى لغة مشاركة في تطوير الحركة الدرامية في العمل ــ إلى إرهاف الأزواج الست لممارساتها الجنسية الساخرة، حتى يسقط الرجال إعياءا، ويذهب كل منهم ليستريح، ينام، أو يقبر نفسه، فوق مصطبة من مصاطب المقابر. وتدور النساء حول رجالهن الممدين على مصاطب المقابر، ويحومن حولهم وقد أصابهن الملل، وكأنهن يبحثن عن بدائل لرجالهن الذين سقطوا. وفجأة تلقى ملاءات وطيلسانات من إحدى نوافذ القصر البابوي العلوية، فينهض الرجال ويتلقفون تلك الملابس والملاءات ويتوشحون بها، فنرتد فجأة لعالم القرون الوسطى وزمن تأسيس القصر البابوي. بعد أن ارتدى الرجال السبعة طيلساناتهم الكنسية أو الملكية المزخرفة، وسرعان ما تتحول إبيسودات الشبق أو سعار الشراء الاستهلاكي، إلى إبيسودات من النوع التاريخي المترع بالمؤامرات وانقلابات القصور، ودسائس رجال الدين، وتوق الكنيسة لفرض سلطتها المطلقة على الجميع. لكننا ما أن نندمج قليلا في هذا المناخ التاريخي بطيلسانته المغوية حتى يعمد المخرج إلى صدمة أخرى، يخلع فيها الرجال طيلساناتهم، ويلقون بها في الغسالة الضخمة الموضوعة في مركز المسرح، وعندما تمتليء يشغلها أحدهم، بينما تكومت طيلسانات أخرى أمام الغسالة، في انتظار الفراغ من الغسلة الأولى.
الغسالة الأيقونية والطيلسانات المكومة
وما أن يعود الرجال إلى ملابسهم العصرية، حتى نجد أن النساء قد صعدن إلى طبقات علوية من القصر البابوي، ينادينهم من جديد، لتبدأ لعبة تبادل أدوار مسرحية شيقة وقد انتقلنا فجأة للحاضر، وهكذا بمنطق الصدمة وشعريتها تتم المراوحة البندولية بين الزمنين. وكأننا بإزاء محاولة مراوغة للبرهنة على مقولة ماركس الشهيرة بأن التاريخ يعيد نفسه، في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة. ومن العلامات الهزلية للتجلي الحديث، هذا الإبيسود الذي يهرع فيه الممثلون خوفا من سلة تسويق من النوع الذي يجره كبار السن على عجلات تركت وحدها في ساحة الكنيسة، بعدما تفحصها أحدهم بارتياب، وكانهم يهربون من فخ إرهابي على وشك الانفجار، وما أن ينفض الجميع هلعا حتى يعود صاحب السلة وهو رجل عجوز لايخيف ذبابة، ويستل منها رغيف «باجيت» فرنسي عادي، يقضمه وهو يمضي، وسط ضحكات الجمهور المتوترة، لأنه حقيقة يضحك هنا على نفسه.
ومن أبيسودات الحاضر الجميلة، ذلك الذي نجد فيه الأزواج الستة وهم يتحركون على المسرح في نوع من الكيريوجافيا الراقصة، كل اثنين معا يتحاوران، كتحاور الراقصين، ولكن لايرد على الرجل المرأة التي تراقصه، بل امرأة من زوج آخر، فيرد عليها بالتالي رجل من زوج ثالث، وهكذا في مشهد يجسد انعدام التواصل من ناحية، وتكامل الدوائر والتكرار الممل للحوار العادي من ناحية أخرى. بعدها يتصاعد الإيقاع في كريشندو واضح تهز موسيقاه مقاعد المتفرجين بذبذباتها المرتفعة، ليفضي في نهاية الأمر على الخشبة إلى تجليات مختلفة من العنف الجسدي الصادم والحسي. وبنفس منطق التغير الصادم نرتد من جديد لزمن العصور الوسطى، حيث يرتدي الرجال ملابسها السوداء، وبدلا من مؤامرات القصر أو الكنيسة تعبر هذه المرحلة عن نفسها بالغناء، وبصدمة أخرى نعود للحاضر في عملية تحكمها الموسيقى، وقدر كبير من التمثيل الإيمائي الذي ينتهي ببعض الممثلين على الأرض وكأنهم ضحايا لألم ما، والبعض الآخر على مصاطب المقابر. وهناك الكثير من الإبيسودات التي لا سبيل إلى تغطيتها جميعا هنا، ثم يعود الجميع في النهاية إلى حيث جاءوا، عربة المأوى خلف مستودع القمامة.
فنحن هنا بإزاء عمل مسرحي ساخر وقاتم معا، لا يعتمد على التتابع المنطقي، وإنما على جدل المتجاورات ليجسد تناقضات الواقع في حواره مع الماضي من ناحية، والموقع الذي يدور فيه العرض من ناحية أخرى. كما أننا بإزاء عمل ينطوي على رؤية فلسفية قاتمة، تجسد كل مقولاتها في حضور الموت، وسيطرة مصاطب المقابر السبعة على فضاء العرض الفسيح. عمل يقول لنا أنه لم يعد باستطاعة الدين أن يمنح الإنسان السلام الداخلي الذي كان يزعم بأنه يقدمه له. ولم تستطع الحضارة الاستهلاكية الحديثة بتركيزها على التسويق والجنس أن تحقق له ذلك أيضا. فقد انتهى الإنسان في هذا العمل المسرحي، في رؤية شبيهة برؤية صامويل بيكيت التهكمية القاسية، إلى أن يكون رديفا للقمامة والنفايات، وساكنا في قلب عفنها المادي والروحي والأخلاقي على السواء.
شكسبير معاصرنا وألاعيب السياسة:
«شكسبير معاصرنا» عنوان كتاب يان كوت الشهير، هو العنوان الأكثر ملاءمة للتعبير عن العرضين المختلفين جذريا واللذين شاهدتهما لمسرحه في مهرجان هذا العام. صحيح أن أولهما كان أقرب ما يكون إلى التأويل التقليدي لمسرح شكسبير التاريخي، لكنه استطاع أن يجعل العمل قادرا على محاورة الحاضر، في محاولته لإبراز شعرية اللغة الشكسبيرية، وكلاسيكية التمثيل الفرنسي العتيد، وأقصد به عرض مسرحية (ريتشارد الثاني) والذي قدمه المسرحي الفرنسي جان بابتيست ساستر Jean-Baptiste Saster، وهو أحد أشهر المخرجين الفرنسيين المعاصرين، ومن أكثرهم تمرسا بالإخراج المسرحي. حيث يحرص المهرجان على إبراز الإنجاز المسرحي الفرنسي جنبا إلى جنب مع نظيره الأوروبي. وعرض هو الآخر في ساحة الشرف بالقصر البابوي، في نوع من التتويج لمسيرة هذا المهرج الفرنسي أو الإبراز له. وقد اعتمد العرض على ترجمة فرنسية جديدة لشكسبير، هي ترجمة فريدريك بوييه Frederic Boyer التي سعت لبلورة شعرية اللغة الشكسيبرية وأدبيتها الراقية، لأن هذه المسرحية ــ بشهادة كثير من دارسي شكسبير ــ تنطوي على بعض أرقى أشعاره وأكثرها جمالا وإيحاءا وشهرة. كما أرادت الترجمة أيضا أن تكشف عن الرؤى الفلسفية الكامنة في المسرحية. لذلك كان طبيعيا أن يختار ساستر لبطولة عرضه الشكسبيري ممثل «الكوميدي فرانسيز» الشهير دينيس بوداليديس Denis Podalydes والذي يقال أنه مرشح قوي لإدارة مسرح الكوميدي فرانسيز في باريس، فللكوميدي فرانسيز تقاليد عريقة في تقديم كلاسيكيات المسرح والاهتمام بلغة العرض المسرحي وشعريته.
دينيس بوداليديس والعرق الخشبي الضخم
ولم يكن اختيار مسرحية (ريتشارد الثاني) بسبب قوة شعرها وعذوبته، ولكن أيضا لأنها واحدة من مسرحياته التاريخية التي تقدم دراسة شيقة لشراك لعبة السلطة وأهواء النفس البشرية. فقد كان ريتشارد في موعد مع أقدار لعبة السلطة وفخاخها منذ نعومة أظافره كما يقولون. فقد أصبح ملكا وهو في العاشرة من العمر، وبدأ في ممارسة سلطته كملك عندما بلغ الخامسة عشرة، وقتل غيلة وهو في الثانية والثلاثين. وتبدأ المسرحية بأحد تلك الفخاخ حينما يتهم هنري بولنجبروك، دوق لانكستر، توماس نوبراي، دوق نورفوك بتبديد أموال الدولة والخيانة، ويتحداه للمبارزة. لكن الملك ريتشارد الذي يوافق على المبارزة في بادئ الأمر، سرعان ما يغير رأيه حينما يحين أوانها، ويقرر بدلا منها نفيهما معا، أولهما، هنري، لمدة ست سنوات، والآخر، توماس، مدى الحياة. وفي غيبة ابنه هنري يموت أبوه جون أوف جونت، من حسرته على ابنه، لاعنا الملك لفعلته تلك، بعدما حاول إقناعه بالعفو عن ابنه دون جدوى. ويستغل ريتشارد الحدث فيأمر ببيع ثروة جون الواسعة ليموّل بها حملته الأيرلندية. وما أن يعلم الإبن، هنري، في منفاه بما جرى، حتى يجرد حملة لغزو انجلترا أثناء غيبة الملك في حملته الأيرلندية. معلنا أنه عاد ليسترد ميراثة الضائع، وجامعا حوله عددا من النبلاء المتذمرين من الملك. وما أن يعلم الملك بالغزو، حتى يقرر العودة من أيرلندا، ولكن بعد أن يكون أعداؤه قد نشروا شائعة وفاته فيها، مما يؤدي إلى انضمام الكثير من جنوده لجيش هنري والنبلاء المتمردين. وحينما يرى الملك أنه لاقدرة له على محاربة أعدائه، يستسلم ويأمره هنري بالتخلي عن العرش لصالحه، ويودعه في برج لندن الشهير. وبينما يستعرض هنري انتصاره باعتباره الملك هنري الرابع في شوارع لندن، يقتل أحد أعوانه الملك ريتشارد، ويقر هنري بأن عليه أن يحج إلى الأراضي المقدسة تكفيرا عن مسئوليته عن قتل ريتشارد.
هذه هي أحداث المسرحية الشكسبيرية الشهيرة، فكيف قدمها ساستر وأي تأويل أضفاه على أحداثها التاريخية القديمة؟ ما أن تدخل ساحة القصر البابوي حتى ترى مسرحا خاليا، به عرق خشب مهول موضوع بزاوية مائلة على أرضية المسرح وكأنه يقسمها، يذكر المشاهد بستارة يوري ليبوموف العملاقة في إخراجه الشهير لـ(هاملت). ونار موقدة في ثلاث مواقد تتصاعد ألسنتها كألسنة المؤامرات والفتن التي ستعج بها المسرحية، ومنضدة ضخمة تجلس عليها الأم. ويسيطر على المشهد والأثاث اللون البني. وقبل بدء العرض جاء كل الممثلين (15 ممثل) وجلسوا على عرق الخشب هذا بملابسهم المسرحية ينتظرون معنا بدء العرض. وقد نجح العرض بتقشف إكسسواراته وألوانه، وبتركيزه على ضياع الإنسان وسط فضاء المسرح الشاسع أن يبرز لا جمال النص الشكسبيري وحده، وإنما أيضا وحدة ريتشارد أمام فخاخ السياسة المشرعة في وجهه. ليس فقط لأنه يظهر دوما وحيدا، متأملا، يفكر وحده، ويذرع فضاء بلاطه، وحوله مساحة واسعة من الفضاء المسرحي تتحرك معه، تبرز وحدته حيث لا يبقى معه ولا يخلص له إلا مهرجه الشهير، الذي يؤكد هو الآخر هذه الوحدة ولا ينفيها. ولكن لأنه قدم لنا ملكا يعاني من أعباء مسئولية الملك، بقدر ما يعاني من المؤامرات المحاكة ضده. ملكا يكتشف إنسانيته، ويجد أنها تشكل عبئا خاصا عليه، لانه يكتشف أيضا أن في كل إنسان حكيم، ولكن الحكمة تبدو للكثيرين ضعفا. فإنسانية ريتشارد الثاني في هذا العرض هي سر قوته ومكمن ضعفه في آن.
حيرة ريتشارد: الصولجان والتاج وركوز القوة المضعضعة
كما أن المخرج عمد إلى أن يترك زوجة ريتشارد وحيدة دوما، تذرع الخشبة كثيرا، وتحوم حول الأحداث في نوع من توتر الرائية التي تدرك أن الكارثة محدقة، ولكنها لاتعرف كيف توقفها. تتحرك حول الأحداث كشبح أو كروح تطارد المسرحية وتكشف عن عجز الإنسان أمام الأقدار أو المؤامرات. والواقع أن العرض استخدام نساء المسرحية، الملكة والأم والوصيفة، ببراعة في هذا المجال. فدورهم في المسرحية ليس كبيرا، ولكنه حرص على حضورهم الدائم على الخشبة، حتى ولو كن مجرد وجود صامت، أو ترك الملكة ووصيفتها ممددتان تحت المنضدة التي تجلس إليها الأم. كما أنه استخدم المهرج الشكسبيري بذكاء، وخاصة في مشهد لعبة التاج، التي سنعرف أنها تجسد الخدعة التي لعبها هنري على الملك، وانتزع منه بعدها التاج لنفسه. فقد حرص العرض على أن يظهر عبء السلطة وغوايتها معا، وأن يبين طيبة ريتشارد وتردده وضعفه، وكأنه يقول لنا أننا في عالم لا تنجح فيه الطيبة وإنما الشر.
أنجيليكا ليديل: الوحش الشكسبيري في جسد امرأة
لكن العرض الشكسبيري الذي جلب شكسبير أكثر إلى حاضرنا، وجعله بحق معاصرنا، وزرعه في قلب قضايا عالمنا المعاصر هو عرض الممثلة والمؤلفة المسرحية الأسبانية أنجيليكا ليديل Angelica Liddell المأخوذ عن مسرحية (ريتشارد الثالث) والمعنون (سنة ريكاردو El Año de Ricardo). وريكاردو هو المعادل لريتشارد في الأسبانية، فهو عمل معاصر كلية استوعب روح العمل الشكسبيري الشهير، ثم أعاد خلقه من جديد في عرض من أعمال الممثل الواحد (صحيح كان هناك ممثل آخر يعمل معها على المسرح ولكنه كان أقرب إلى الإكسسوار، أو العنصر المساعد منه إلى الممثل المشارك حقا في العمل). ولم تكتف أنجيليكا ليديل بتمثيل العمل في عرض أقرب إلى عروض الممثل الواحد، ولكنها قامت أيضا بكتابة النص واخراجه وتصميم رقصاته ومناظره وملابسه. وهي هنا أقرب ما يكون إلى فنان المسرح الشامل. حيث أهلتها مسيرتها الحافلة لذلك بعد تخرجها من معهد مدريد للمسرح عام 1991. فقد أسست عام 1993 فرقة «Atre Bilis» وهو تعبير لاتينيني كان يستخدمه الأطباء القدامى للتعبير عن السوداوية أو الكأبة السوداء التي كانت تعتبر سببا من أسباب الميلانخوليا. ويوشك اسم الفرقة أن يكون برنامجا لها، فهو على مستوى ما برنامج تم تجسيده في أكثر من عشرين مسرحية حتى الآن، كتبتها هذه المؤلفة الكاتبة المخرجة الممثلة في آن. تحاول فيها أن تزيد الجمهور وعيا بسر تلك «السوداوية» التي تسود عالمنا في هذا الزمن الردئ، وتصيبة بالكأبة والميلانخوليا. وأن تحثه في الوقت نفسه على رفض هذا الواقع وفعل شيء إزاءه. فهي لاتكتفي في مسرحها التحريضي ذاك بالتعامل مع الأعراض، وإنما تسعى للوصول من خلال توجهها إلى عقل الجمهور، لا مشاعره أو غرائزه، إلى تشخيص دقيق لحالة هذه الميلانخوليا العصرية وأسبابها.
وتسعى ليديل من خلال مسيرتها المسرحية التي امتدت إلى ما يقرب من العشرين عاما إلى خلق مسرح يستطيع أن يعكس المعاناة الفردية الحميمية الفريدة والجمعية على السواء، فهما أمران لا تميز أنجليكا ليديل بينهما، وإنما تعتبرهما متكاملان ومتداغمان. والواقع أنها لاتعتبر نفسها كاتبة، بالرغم من اهتمامها بشعرية النص والعرض المسرحي على السواء، لأن الكلمات ــ كما تقول لنا ــ لاتعبر حقا عن مدى الرعب الذي يجسده المشهد ويبلوره أمام المشاهد. وفي هذا المجال تعرض جسدها لتجارب قاسية على مستوى العرض، مما يعذب هذا الجسد على المسرح أمامنا. فالجسد بالنسبة لها هو السبيل إلى الحقيقة، لأن الجراح وحدها هي التي تتخلق عبرها الحقيقة. ففي عروضها تسعى انجيليكا ليديل لتجسيد ما ينطوي عليه العالم من قتامة، وتحيل الرعب إلى أداة لجعل المسرح تعبيرا عن البقاء. ومن هذه الناحية تعتبر مسرحها، وتحرص على أن تميز نفسها وأعمالها باعتبارها نوعا من «مسرح المقاومة المدنية» التي يرودها مبدأ التعاطف وفن المشاركة في المعاناة. حيث تتجاوز من هذه الناحية مصطلح الالتزام القديم، فهي أكثر من ملتزمة، هي في الواقع مشاركة وواقعة برغمها تحت تأثير تلك «السوداوية» التي يفرضها الحاضر على كل ضمير حي. تعبر عن ألمها الشخصي، ومن خلاله فإنها تكتب في الآن نفسه عن آلام الآخرين. لذلك يهتم مسرحها بقضايا الساعة الساخنة. ففي مسرحيتها (الأسماك تنطلق لتقاتل البشر Et les Poissons Partirent Comnattre les Hommes) والتي ترجمت للفرنسية وحظيت بقدر من الشعبية، تتناول مشكلة المهاجرين غير الشرعين الذين يعبرون مضيق جبل طارق، والذين يسقطون، سواء أحياء أو أموات على شواطئ أسبانيا الجنوبية. فهي لاتميز في هذه المسرحية بين من ينجو ومن يلقى حتفه، لأنهما سقوطان يمثلان وجهي العملة نفسها: العملة التي تصك فداحة ما يدور في الحاضر من قهر وظلم؟ أما في مسرحيتها (بلغرادBelgrade ) وهي بنت ما تسميه ــ في مقابلة مهمة أجرتها معها صحيفة ليبراسيون ــ بوعيها بمسئوليتها الأخلاقية إزاء ما كان يدور في يوغوسلافيا من حروب أهلية، فإنها تتناول سكان مدينة يعانون من الهوان الذي لاسبيل لمواجهته إلا بالغضب والتمرد، حيث تواجه الشرطة ضحاياها، بينما يسعى كل شخص لتبرير نفسه أو أنقاذ ما يمكن إنقاذه، في نوع من السلبية والانصياعية المقيته، في عمل يعيد إلى ذهن المشاهد المصري ما جرى لخالد سعيد في الإسكندرية، وما يجرى في كل بلد يعاني من الاستبداد والتمزق وغياب الأمل والحرية. أما عملها الأخير والذي عرضته في العام الماضي في مهرجان برشلونه فهو (لقد أصبحت لا أقهر بسبب هزيمتي Te Haré Invencible con mi Derrota). وقد جاءت إلى مهرجان آفينيون الذي تشارك فيه لأول مرة هذا العام بعملين: أولهما هو (بيت القوة La Maison de la Force) الذي ينهض على تجربة حقيقية، تدعوها بتجربة البورنوجرافيا الروحية، لست نساء مكسيكيات عانين من سادية الرجال، وتعرضن للاغتصاب والاغتيال، في نوع من مسرح الواقعة الذي يختلط فيه الواقعي بالوثائقي، ويتذبذب باستمرار بين الدموع والضحكات. وثانيهما هو (سنة ريكاردو) وهي إعداد عصري أو إعادة صياغة كاملة لمسرحية شكسبير الشهيرة (ريتشارد الثالث)، وكان هذا العمل هو الذي شاهدته من بين العملين.
بداية دعنا نطل بسرعة على المسرحية الشكسبيرية (ريتشارد الثالث)، لأنها وبرغم انتقاد الكثيرين لها من الناحية الدرامية، حيث تنطوي على الكثير من الشروحات المطولة للخلفية التاريخية لأحداثها بصورة تؤثر على البناء المسرحي، تقدم واحدة من دراسات شكسبير النادرة في الشر، وتخلق ــ عبر ريتشارد الثالث ــ وحشا بشريا له قدرته السحرية على إغوائنا، وهذا هو سر شعبيتها ونجاحها برغم الضعف الواضح لبنائها المسرحي. ويمكن تلخيص حبكة المسرحية في جملة واحدة، هي رغبة ريتشارد، دوق جلوستر، في اعتلاء عرش انجلترا برغم أنه ليس ضمن السلسلة الطبيعية لخلافة الملك، فضلا عن أنه وبرغم ذكائه الحاد شائه الخلقة أحدب. لكن كونه ليس ضمن السلسة الطبيعية لوراثة العرش لايثنيه عن عزمه، حيث يبدأ بشراسة مطلقة في إزالة كل من يقف في سبيل تحقيقه لغايته. فيتأمر على أخيه حتى يقتله، ثم يسعى للزواج من زوجته الليدي آن، كي يسيطر على ثروتها الواسعة التي تساعده في تحقيق مطامحه، برغم أنه قاتل زوجها، ومن قبله هنري الرابع. ثم يواصل دون أدنى تردد إزاحة كل من يقف في طريقة إلى العرش، فبعد مرض أخيه، الملك إدوارد الرابع، ثم وفاته يصبح وصيا على العرش، ويستدعي ولي العهد.إلى لندن لتتويجه، ولكنه ينجح في إضعافه من خلال قتل ثلاثة نبلاء من أكبر مناصريه. ويقابل كلا من ولي العهد وأخيه، وبدلا من تتويج إدوارد الخامس يلقي بهما معا في سجن برج لندن الشهير، ثم يتوج نفسه ملكا على انجلترا، بعد أن يضحي بعدد آخر من النبلاء المعارضين. ويتمادى في شره فيقرر، بعد التخلص من زوجته الأولى آن، الزواج من إليزابيث ابنة الملك المغدور، وشقيقة ولي العهد وأخيه اللذين أمر بقتلهما. لكن تراجعه في بعض الوعود التي منحها لأحد أبرز أنصاره، يدفع الأخير للتآمر عليه مع عدد آخر من النبلاء المتذمرين، وينتهي الأمر بهزيمته وقتله، وانتهاء الصراع بين الفرقاء.
هذه باختصار هي خطوط المسرحية العريضة، لكن أنجيليكا ليديل لا تريد تقديم مسرحية تاريخية، وإنما تسعى لتقطير جوهر المسرحية الشكسبيرية: وتقديم الوحش الذي لايقف أي شيء في طريق طموحاته غير المشروعة. إنها تريد أن تطرح علينا سؤال المسرحية الشكسبيرية بصيغة معاصرة: كيف يستولي الشر على السلطة دون شرعية؟ كيف يحدث هذا لا في مسرحية شكسبير التي كتبت قبل خمسة قرون، ولكن كل يوم في حياتنا السياسية؟ كيف نتسامح مع ما لايمكن التسامح معه؟ كيف نتعايش مع الشر، ونغمض أعيننا عن فظاعاته؟ إن منطلقها في هذه المسرحية هو منطلق تفكيكي للعمل الشكسبيري ووضع جوهره أمامنا عاريا على المسرح. إن الوحش الذي تسعى لتجسيده في هذا العرض، وحش بكل معاني الكلمة، فهو أولا رجل يتجسد على شكل امرأة، حيث تقوم أنجيليكا ليديل بلعب دور ريتشارد الثالث نفسه بعد أن جعلته خلاصة لكل وحوش العالم المعاصر. ويرافقها ممثل يظل طوال المسرحية صامتا، وبالتدريج يصبح مستودع الأشباح التي تعمرها ضحايا ريتشارد الثالث في المسرحية الشكسبيرية. وفي هذه المسرحية فإن ريتشارد يجسد تجاوزات السلطة، وإساءة استخدام الاستبداد، أمام تحضر الأفراد الذين سرعان ما ينحدرون مع سقوط المجتمع المحيط بهم واستلامه لسطوة العنف الغبي. ويتحول جسد ريتشارد الأحدب، جسد الممثلة المطواع، والذي استطاعت أن تحيله من جسد أنثوي رقيق إلى نقيضه: جسد وحش، لا يقل تشوها عن الخطاب الذي يستخدمه. «لدي اسنان حصان وحوافر بدلا من الأقدام» هكذا يصف ريتشارد نفسه في مسرحية شكسبير. ونحن نعرف أن الحوافر في الثقافة الغربية مرتبطة بالشيطان. إنه جسد ثقيل مريض لروح فظة، ولا سبيل لعلاجه من هذا الداء.
أنجليكا ليديل في دورها في ريتشارد الثالث، أو (سنة ريكاردو)
فقد استغنت المسرحية الأسبانية عن أي مفردات تحيل إلى تاريخية المسرحية، ووضعتنا من البداية في قلب الحاضر. فالمشهد الذي يواجهنا حينما ندخل «دير الإخوة البيض» الذي عرضت فيه (سنة ريكاردو)، أو بالأحرى زمن ريكاردو، زمننا المعاصر الذي يتحكم فيه الوحش/ الشر، هو مشهد منزلي عادي، رغم أن أرضيته كلها مغطاة بسجادة حمراء، سجادة السلطة والغلو. به مقاعد بسيطة وأواني منزلية، وبعض التماثيل البلاستيكية التي ستستخدمها الممثلة في المسرحية، وكذلك بعض الصور المعلقة والتي تشير إلى ضحايا الحروب، وخاصة حرب فيتنام والعدوان الوحشي الصهيوني الأخير على غزة. بل إن المسرحية تضع آنيتين من الخزف الثمين في مقدمة المسرح، واحدة في كل جانب، وتسلط عليهما الضوء طوال العرض، كي لا ننسى أن كل ما يدور يمكن أن يحدث في منزل أي منا. ثم تدخل أنجيليكا ليديل بجسدها الصغير الذي يبدو هشا وضعيفا، ولكنه سرعان ما سيملأ المسرح بالحركة والحيوية، حتى أن المشاهد ينسى حقا أنه بإزاء عرض لممثلة واحدة في الأساس. فمسرح ليديل يعتمد على ما يمكن دعوته بفن الجسد، وبفن المبالغة والصدمة ومساءلة الأعراف والمواضعات.
إن المثير في مسرح ليديل هذا هو قدرته على مواجهة الشر بشجاعة، وطرح الأسئلة المدببة على الجمهور مباشرة، وعدم الخجل من مواجهتنا بكل فجاجة واقعنا المعاصر وتجسيدها أمامنا. ولهذا فإن المسرحية لا تتورع عن صدمتنا باستمرار، من خلال مشاهد القيء، والدوار، والنزيف، والتغوط وكل تجليات المواجهة البشعة بين الشر ومن يتسامحون معه. وهي لا تخجل من أن تسأل المشاهدين، بعدما وضعت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مع هتلر وموسوليني وستالين وفرانكو: هل تتعجبون من الربط بين اسم رئيس الولايات المتحدة وهؤلاء؟ وهو سؤال استنكاري بطبيعة الحال، لأنها ترينا لا من خلال ممارسات أمريكا منذ فيتنام وصور ضحاياها الإيقونية التي تعلقها في فضاء المسرح وحتى اليوم، ولكن أيضا من خلال ممارسات صنيعتها الصهيونية إزاء الفلسطينيين حيث تذكرنا بمعاناتهم، وبأطفال الحجارة الذين نساهم العالم، بل نساهم العرب أنفسهم. إنه تكشف لنا في هذا العمل كيف أن الوحش الشكسبيري البغيض لايزال يعيش بيننا، ويزدهر، رغم فظاظته التي سرعان ما يفرضها على الآخرين بصورة تخلق عالما من الرعب يحيط به. فهذا هو ما يفعله الساسة الأفظاظ في عالمنا المعاصر. والوحش الذي تجسده يطرح أسئلته عن العادية والطبيعية في مواجهة ضيق الأفق الاستبدادي الذي يتخلل جراح الديموقراطية المعاصرة وتناقضاتها. وفي تعبيرها عن هذه التمثلات المختلفة للقوة والسلطة، وتجسيدها لفظاظتها، فإنها تطرح أسئلتها على جمهورها في الوقت نفسه، وتؤكد لهم أن القوة المعاصرة تنهض على الخوف والذاتية المفرطة الثاوية في كل فرد فينا. إن اختيارها لهذا الوحش الشكسبيري، وتجسيده عبر جسدها الغض، يطرح علينا تناقضات من نوع مغاير. وحينما تصل ذروة الكريشندو المسرحي إلى التعب، يظهر الجانب الجمالي في الوحش، وتتجسد لنا غوايته وحميميته الثاوية فينا، بصورة تدفعنا إلى التفكير في كل ما دار ومساءلة أنفسنا عن موقفنا إزاء العالم.
لايزال في جعبة المهرجان الكثير، من العروض ومن القضايا المهمة والتجارب الشيقة، وهو ما ستنتابعه في الجزء الثاني من هذه التغطية في العدد القادم من (الكلمة).