فوضى عارمة تلك التي تحتاج إلى ترتيب، كوابيس وأحلام تتداخل مع واقع رديء مليء بتفاصيل الكراهية والحقد، وذات تحاول جاهدة أن تنتظم الفوضى وتخرج من الكوابيس، ولا وسيلة أمام الذات الساردة في رواية (شهوة الصمت) للكاتبة المصرية أمينة زيدان سوى أن تحكي فيها قضايا كلية وهموماً كبرى، وهموماً إنسانية مغرقة في الذاتية، وكأن السرد هو الوسيلة الأنجع في مقاومة الفناء والسعي الحثيث نحو النهاية. السرد يصبح معادلا للخروج من نفق الإظلام، إظلام الواقع، إظلام الكوابيس، وبعد أن تقوم بمراجعة وتعرية الحاضر والماضي، لتعود أيها القارئ الافتراضي أكثر طيبة وقدرة على الابتسام بكل يسر وتحرك قلبك الأغنيات القديمة التي ترتمي في أذنيك، وأنت غير عابئ تسير على رصيف ممتد. القارىء الافتراضي الذي تتوجه إليه الكاتبة بالسرد والخطاب يحاول الفكاك من فخاخ الرواية ، لكن الذات الساردة تتولى عنه دفة السرد "اذهب إليه دعني أتولى الحكي".
الحكاية الرئيسية / الإطار في الرواية هي حكاية شهوت، امرأة رغم أنها بكماء صامتة إلا أنها مغوية وشهية، تأسر كل من يقترب منها مثل ضوء قوي يجذب الفراشات، لتموت بين فراغاته، كل من يقترب من شهوت من الرجال يحبها. تترك لنا شهوت ابنة مغتربة، تعيش بحنين غامض إلى ماض وإرث تركته لها أمها، إرث من آلام وأحلام ولوحات وألوان. تقرر العودة للوطن تحت وقع الحنين والذاكرة البعيدة للوطن/ الأم، لنطلق السرد، يفض لنا أسرار الآبار المغلقة من الحكايات والأساطير واللوحات الغامضة ..... ولكن من سيتولى فتح ذاكرة الحكايات حتى تنثال علينا محملة بالألم والوجع والدهشة.؟ استخدمت الكاتبة عدة ضمائر لتقوم نيابة عنها بالسرد، اقصد بنبش الذاكرة، فقدمت لنا أمينة زيدان تعدد الأصوات أو ما أسماه باختين بالبولوفونية بمهارة عالية، فرأينا صوت الراوي العليم، كما رأينا الكاتبة تعطي الفرصة كاملة لشخوصها حتى ينوعوا في السرد وضمائره، ليحكوا الحكايا نيابة عنها، هي المؤلفة التي لم يظهر صوتها مرة وحيدة في السرد. رأينا أصوات شخوصها وهم يتحدثون ويُعطَون الفرصة للسرد، فكان عادل، وكان ممدوح، وكان يوسف وهكذا. لكن أين صوت شهوت التي يدور حولها السرد، كل السرد؟! أين صوتها والجميع يحكي عنها كل من وجهة نظره؟ ربما لأنها بكماء، فلعبت المؤلفة لعبة غيبتها بها طوال السرد، شهوت الصامتة الضاجة بالحياة، البكماء المغوية لكل الرجال، شهوت كانت حاضرة طوال الوقت، ولكن من خلال عيون وأصوات كل ساردي أمينة زيدان.
تعود ابنة شهوت من بلاد الغربة، لتبحث في التاريخ السري لأمها. لكن من أين أتت شهوت، وابنة من هي؟ بعد أن دفنت نفيسة ابنها مراد الجندي الذي قتل على الحدود مع العدو الصهويني وجدت طفلة صغيرة في المقابر، فقررت أن تربيها، صنعت لها تاريخا يربطها بابنها مراد، ولكنها فوجئت أن الصغيرة بكماء..تلك البكماء الصغيرة صارت بالنسبة لها المخلص من وجع الفقد، فقد ابنها مراد. ورغم هذه العاهة التي فصلت شهوت عن العالم إلا أن المؤلفة تعطيها قدرات غير عادية، قدرات فوق العادة منذ بداياتها الأولى، تقول: ' تعلمت شهوت أسرع مما ينبغي منذ لحظاتها الأولى تلك الأسئلة عن الحياة والموت وعن الناس، فكانت مجرد تمرينات واختبار للمعارف التي تلتقطها من بعد ..' إذن شهوت مميزة ومدهشة منذ الطفولة: ' فتاة جميلة لا تمل الاستماع إليك'.
جاءت رواية (شهوة الصمت) محملة بالأسئلة الكبرى والقضايا الكلية، طرحت فيها زيدان ليس فقط المسكوت عنه في علاقتنا بالعدو الصهيوني الذي يحتل الجزء المقابل لنا، والذي يتربص بنا، ويمر من حدودنا دون أن يعترض على وجوده أحد، ويقتل جنودنا، ولا حتى يكلف نفسه بالاعتذار عن دمائهم؟! بل الأسئلة الكلية طالت حتى نهاية العالم، العالم يفسد ويتفسخ وينهار، ويسعى الجميع إلى حتفه، وكأنها نبوءة ما من الكتاب المقدس تشير إلى النهاية المحتملة للعالم. تلك الأسئلة الكلية شغلت الجميع، فلم يكن الهم هما شخصيا ذاتيا بقدر ما كان هما جمعيا.
مراد أحد شخوص الرواية، والذي هو الأب الرسمي لشهوت كان يحمل داخله هم تغيير العالم، ويعي أنه غير قادر على هذا، ويحاول التخلص من قناعاته ولكنه غير مستطيع تقول: ' التصقت بمرآة الحمام أتأملني بهدوء، أظن أنني كنت مخلصا مع نفسي أكثر من اللازم، وعليّ أن أحدد كيف سيكون الكائن الجديد الذي سأكون عليه، قلبت ذاكرتي وقلت:ـ سأتجاهل ذلك المعتوه الذي يظن نفسه قادرا على تغيير العالم'. الصمت هو البطل الأوضح في الرواية، لكنه صمت صاخب لدى البكماء، وصمت طبقات فوق طبقات لدى الذين ينطقون، وكأنها لعنة تلبست الجميع، وكتب عليهم الصمت في وقت يجدر فيه الكلام: ' قبلت أن أظل معلقا ومحاطا بعوازل صوت من طبقات وطبقات، تصنع الصمت الذي يبدو مؤقتا وغير منته'.
تعمد أمينة زيدان من خلال بطلتها ' شهوت' إلى تشكيل العالم من خلال التشكيل والرسم واللعب بالألوان: ' تختبر اللون بأطراف أصابعها، وتنسى وتلعقه. الرمادي مع ( رتوش) حمراء كانا من خطوطها المفضلة ، فكنت تشاهد اللوحات، تضع الواقع والناس تحت طبقات من الرماد، تطارد الألغاز بالأصفر، وتدفع بسماء تبدو كسقف بيت أزرق على شكل جمجمة، جمجمة أخرجت من فراغاتها زهورا ودخانا، وفي فضاء اللوحة أطلقت الكفان وطرزتها ببذور القرنفل، ظلت ترسم حتى فقدت حاسة الشم، وفرغت ذاكرتها، ولم تعد تصاحب غير الوشيش الصغير الذي يطن حولها'. كان الرسم دفاعات ' شهوت' لمقاومة الموت صمتا، حتى لم يعد لديها حد يفصل بين العالم الواقعي والأوهام، وباتت الحياة بالنسبة لها معرضا للصور عن بقايا البشر: ' هذه لوحة تحمل اسم أميرة المأساة، وأخرى لامرأة يهودية، وفلاحة قديمة تكسر إبريق الماء، وهذا رجل يشبه الشيطان، وآخر برعونة الأطفال يرمقها عن بعد، رجل تشكله بألوانها لا يبدو كواحد ممن تعرفهم'.
تعرف أمينة زيدان كيف تفيد من مغامرات التجريب في السرد من خلال تعدد الأصوات، وتقطيع السرد إلى سرديات متجاورة لا يربطها إلا وشائج الحكاية الإطار/ حكاية شهوت. كما أفادت من اللعب بالزمن من زمن استرجاعي عن طريق الفلاش باك وزمن استباقي، وزمن آني حاضر في بؤرة السرد، قدمت لنا أمينة زيدان ما أسماه الناقد الدكتور حسين حمودة بالإشباع الزمني. كذلك تميزت لغة الرواية بطاقات شعرية خلابة حول بعض المقاطع إلى قصائد نثرية بامتياز.