يقارب الباحث المصري كتاب «في الثقافة المصرية» لمحمود أمين العالم وأنيس عبد العظيم الصادر عام 1955. ومن خلال دراسته التحليلية لمفهوم الالتزام يعقد أواصر الصلة الفكرية والاجتماعية العالمية والمحلية لهذا المنجز النقدي مع ماضيه وحاضره وحاضرنا الراهن.

الالتزام في الأدب.. فكرةٌ لا تقبل التقادم

يسري عبد الغني عبد الله

هذه السطور لماذا؟

دافعي لكتابة هذه السطور هو: سؤال تبادر إلى ذهني كثيراً، هذا السؤال: هل ما ورد في هذا الكتاب (في الثقافة المصرية) للأستاذين الدكتورين عبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم، والصادر سنة 1955م، لا يتفق مع عصرنا ومع ما يطرح فيه من قضايا وأفكار ومستجدات؟، وعليه فهل يمكن لنا أن نعده نتاجاً لمرحلة معينة من تاريخنا الفكري، أم أن ما أثير فيه من قضايا ما زالت قابلة للحوار والطرح أي غير قابلة للتقادم؟

هذا السؤال وما تفرع عنه كان دافعي لكتابة هذه السطور، فلعلنا نوفق في الإجابة عليه، من خلال القراءة المتواضعة لهذا الكتاب.

نقول: إنه مما لا ريب فيه أن قضية الدعوة إلى ربط الأدب بقضايا المجتمع المعاش بلغت ذروتها، من حيث التحمس الشديد، ومن حيث الوضوح النظري كذلك، في الحملة الفكرية التي شنها الدكتور عبد العظيم أنيس، والدكتور محمود أمين العالم، في كتابهما (في الثقافة المصرية) على النقاد المحدثين التقليديين (من وجهة نظرهم)، من أمثال: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والأستاذ عباس محمود العقاد، وعلى الأدباء المشهورين من أمثال: الأستاذ توفيق الحكيم، والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وعلى الشعراء جميعاً (كلاسيكيون ورومانسيون)، فيما عدا الشعراء الشبان في تلك الآونة الذين يكتبون في قالب الشعر الحر.

وقد كان الأساس النظري العام لهذه الحملة أن نقد هؤلاء وإبداعهم الأدبي (شعراً ونثراً) بعيداً عن الارتباط بقضايا المجتمع المصري.

دون أن نقحم أدبنا العربي:

ولكن قبل أن نسترسل في كلامنا نحب أن نشير إلى أن أية محاولة إلى تلمس أية آثار متبادلة بين النقد العربي القديم، والنقد الأوربي الحديث، فيما يتصل بفكرة الأدب الهادف أو الأدب الملتزم أو ربط الأدب بالمجتمع، محاولة غير علمية وغير منهجية. أما الكلام عن مسألة الأدب الهادف في النقد العربي الحديث، فمسألة تدخل في حدود التأثير والتأثر،لأن قضية الأدب الهادف في النقد العربي الحديث، كانت نتيجة مباشرة لتأثر الكتاب العرب بتيارات أجنبية، كما هو واضح لمن يدرس موضوع أثر نظرية الأدب الملتزم في النقد العربي الحديث.

والدارس للنقد العربي القديم لا يجد فيه ما يشير إلى اعتناق النقاد العرب لذلك المذهب التعليمي أو التوجيهي، الذي يربط الأدب بوجه عام بغايات أخلاقية محددة، ولكنه يجد فيه ما يشير إلى عكس ذلك تماماً، والحق الذي يجب قوله: إن المقاييس التي كان يقوم عليها نقد الشعر عند العرب مقاييس فنية بحتة في عمومها، أما الأخلاق التي كانت تعني في نظرهم التعاليم الدينية، والأهداف التعليمية، قد كانت خارجة عن مهمة الشعر.

ويمكن لنا أن نراجع محمد بن سلام الجُمحي في كتابه (طبقات فحول الشعراء)، وابن قتيبة في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء)، والآمدي في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، والقاضي عبد العزيز الجرجاني في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، لنؤكد على ما سبق قوله.

لذلك نرى أن أول من دعا إلى ربط الأدب بالمجتمع (الأدب الهادف) في العصر الحديث، كان الأستاذ سلامه موسى، سنة 1933م، ثم الدكتور محمود أمين العالم والدكتور عبد العظيم أنيس سنة 1955 م، في كتابهما (في الثقافة المصرية)، والذي نتحدث عنه خلال سطورنا المتواضعة، وبعد ذلك يأتي الدكتور محمد مندور بمنهجه الأيديولوجي في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون)، ثم الدكتور لويس عوض في دعوته إلى الأدب للحياة بدلاً من الأدب الهادف، وذلك في كتابه (الاشتراكية والأدب)، والصادر سنة 1963م. ونقول: إن هذه الدعوة إلى الأدب الهادف أو الملتزم نجدها جلية واضحة في كتاب الأستاذ سلامه موسى (الأدب للشعب) الصادر في القاهرة سنة 1956م، بينما ظهر كتاب (في الثقافة المصرية) للدكتورين محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، بعد سنة 1955م.

ولكن الأستاذ سلامه موسى بدأ هذه الدعوة ـ كما يقول ـ سنة 1934م، والحق أن كتابه عن (الأدب الإنجليزي الحديث) كتب سنة 1933م، وعليه فإن كتاب (الأدب للشعب) هو توسع واستيفاء للموضوع، وعليه لا يصح بحال من الأحوال تجاهل دور الأستاذ سلامه موسى عندما نكتب عن مسألة ربط الأدب بالحياة، مهما اختلفنا معه، ومهما وجه إليه من نقد. 

دعوة محددة:

نعود لنقول: إن دعوة هذين المفكرين المحترمين محددة، وذلك لأنها تستمد من معين فكري لا تخطئه العين، وهو ـ كما يقول الباحثون ـ المذهب اليساري الصريح، الذي يمكن أن نتعرف فيه، في كثير من الأحيان، على معالم الاتجاه الماركسي في النقد. وبداية فنحن نرفض مسألة التصنيف الفكري الذي يحلو للكثيرين منا ممارستها، فعملية التصنيف الفكري تضر بعملية الحكم الموضوعي على الفكر ضرراً جسيماً، ومن هنا تحتم علينا الالتزام التام والكامل بأصول الموضوعية والحيدة. كانت دعوة المفكرين الكبيرين دعوة محددة كذلك، في أنها لا تدعو دعوة نظرية مجردة، وإنما تربط نفسها، منذ البداية، بقوالب محددة من الإبداع الأدبي (الشعر والرواية والنقد). كما أنها تواجه في صراحة لا مواربة فيها ما يكتب من أدب في مصر المعاصرة، فتتناوله بالتحليل عبر طريقة مباشرة وجريئة. وفي رأينا: أن هذا يحسب للمفكرين الجليلين، فنحن الآن في أمس الحاجة إلى النقد الأدبي الجاد النابع من دعوة نظرية مجردة، تربط نفسها بالإبداع الأدبي، دعوة صريحة تواجه ما يكتب من أدب في بلادنا، فتتناوله بالتحليل والنقد والتمحيص وفق منهج علمي سليم، مع مراعاة الوضوح والمباشرة والجرأة.

ويجدر بالذكر هنا أن آراء الأستاذين الدكتورين ظهرت أولاً في الصحف السيارة على شكل مقالات، ثم جمعت في كتاب بعنوان (في الثقافة المصرية)، صدر في بيروت سنة 1955م.

وقد نسبت كل مقالة في الكتاب إلى صاحبها، ولكن بما أن الكتاب الذي نعيد قراءته يعبر عن رأي الكاتبين بوضوح، واختصاص الدكتور محمود أمين العالم بالشعر، واختصاص الدكتور عبد العظيم أنيس بالرواية لا يعدو أن يكون تقسيماً للعمل. ومن هنا فقد نسبنا الآراء التي اقتبسناها من كتابهما خلال سطورنا لهما معاً، وبوسع القارئ المفضال أن يعود إلى مكانها من الكتاب إذا أراد نسبتها إلى واحد منهما بالذات، وعلى كل حال فالكتاب متداول بيننا ومعروف.

مفهوم الثقافة:

تبدأ آراء الدكتور محمود أمين العالم، والدكتور عبد العظيم أنيس بتحديد لمفهوم الثقافة عندهما في صورتها العامة، وهما في هذه النقطة يكشفان عن اتجاههما الاجتماعي منذ أول خطوة، وذلك حين يناقشان رأي الشاعر والناقد الإنجليزي ت. س. إليوت في جعل الدين أساساً للثقافة الإنجليزية، وهما ينقدان هذا الرأي بشدة باعتباره رأياً لا يمثل الواقع في شيء. وتجري مناقشتهما له على هذا النحو: "وعندما يحدد ت. س. إليوت الأساس الموحد للثقافة الإنجليزية بالدين، فهو إنما يتجاهل الوضع الاجتماعي الراهن في إنكلترا بما يتضمنه من أشكال متعددة في المعارك الاقتصادية والاجتماعية، وما تحققه الفئات المختلفة من الشعب الإنكليزي من أبنية اجتماعية، وما تستهدفه من تغيرات في العلاقات الاجتماعية، داخل مجتمعهم الواحد، وما يربط مجتمعهم بمجتمعات أخرى من ارتباطات متنوعة، كرابطة الاستقلال التي تربطهم بمستعمراتهم، ورابطة التحالف والتصارع والخلاف التي تربطهم بالدول الاستعمارية الأخرى كأمريكا مثلاً، والثقافة الإنجليزية الحديثة انعكاس لهذه العملية الاجتماعية التي يمارسها الشعب الإنجليزي بجميع فئاته، وما يتفاعل داخلها من جهود وقوى وعلاقات، وأشكال من الصراع والتناقض، وما يعتريها من تقدم ونكوص" (محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، في الثقافة المصرية، ص18). وعلى هذا النحو تنتهي المناقشة إلى تحديد معنى الثقافة تحديداً يجعلها أشد تعقيداً من أن ترتبط بعامل واحد، مهما كان، ويجعلها في النهاية، قيمة اجتماعية في المكان الأول.

وفي رأينا: أن الثقافة تعني القيم والعادات والتقاليد والأعراف والدين لأي مجتمع من المجتمعات، والدين جزء مهم من الثقافة، ولا نبالغ إذا قلنا أن الدين يعد أساساً للثقافة، ومحوراً مهيمناً عليها، ومن هنا تحتم على المجتمعات الواعية المستنيرة تجديد أو تعصير الخطاب الديني ليواكب مستجدات الواقع المعاش، دون أدنى اقتراب من الثوابت الدينية التي نحترمها ونجلها ونقدرها.

وسوف نعود إلى رأي إليوت فيما بعد، ولكن ما قاله العالم وأنيس عن إنجلترا يذكرنا بحاضرنا، وكأنهما يتحدثان عن الولايات المتحدة الأمريكية الآن، حيث لا يمكن أن نتجاهل الوضع الاجتماعي الراهن لها، وانعكاس قيمها الثقافية على تطلعاتها الاستعمارية. يقول الكاتبان في التعبير عن مفهوم الثقافة عندهما: " فالثقافة كتعبير فكري أو أدبي أو فني، أو كطريقة خاصة للحياة، إنما هي في الحقيقة انعكاس للعمل الاجتماعي الذي يبذله شعب من الشعوب بكافة فئاته وطوائفه، ومظهر لما يتضمنه العمل الاجتماعي من علاقات متشابكة، وجهود مبذولة واتجاهات، فالأساس الذي تقوم عليه الثقافة إذن ليس شيئاً جامداً، أو عقيدة محددة، وإنما هي عملية عناصرها متفاعلة، واتجاهها متطور" (المرجع السابق، ص19).

ولعل القارئ يتفق معي في أن تعبير أنيس والعالم عن مفهوم الثقافة السابق هو تعميق لمفهومها، وترسيخ لها، فهي طريقة خاصة للحياة، وهي انعكاس للعمل الاجتماعي المبذول من أي أمة بمختلف فئاتها وطوائفها، وهي مظهر لما يتضمنه العمل الاجتماعي من وشائج وعلاقات متشابكة، والأسس التي تقوم عليها الثقافة ليست أشياء جامدة، وإنما هي عملية متفاعلة العناصر، ومتطورة الاتجاه. وعلى هذا النحو يتحدد مفهوم الثقافة لديهما، ومهما قيل من أن هذا المفهوم تتضح فيه بجلاء بوادر التفكير اليساري المادي، فإننا نرى أنه لم يتحدد بعد بشكل حاسم، ولا أعتقد أنهما يقصدان في كلامهما وصف الدين بأنه شيء جامد، فليس من الضروري أن يكون كذلك، ومن المحال أن يكون جامداً، فالدين قوة فاعلة متحركة، ومحركة في نفس الآن، من الممكن أن تدفع إلى الرقي والتقدم، وإلى الإبداع الجميل الهادف، بل أنه خير طريق لتحقيق عملية التفاعل الاجتماعي، ونجاح أي جهد مبذول. وقد يأخذ القارئ انطباعاً أولياً من عرضهما لآراء ت. س. إليوت من أنه قد جعل للثقافة أساساً واحداً موحداً هو الدين، مع أن الثقافة لديه إذا رجعنا إلى مجموعة أعماله، لا إلى عمل واحد فقط من أعماله، وتتبعنا رأيه في التقاليد لاحظنا تعريفه للثقافة بأنها تتصل بمجموعة من تقاليد الماضي، وروح العصر وأنها أرحب مدى، وأوسع دائرة، ولا ننسى أن آراء وأفكار وإبداعات إليوت كانت مصدراً رئيسياً لكتابات مدرسة الشعر الحر أو المدرسة الواقعية الجديدة التي دافع عنها العالم وأنيس دفاعاً مستميتاً.

ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة المصرية:

نقول: بغض النظر عن كل هذا، فإننا نأخذ تعريفهما هذا للثقافة، ونتقدم معهما لنرى كيف يصلانه بفكرتهما عن الأدب، وما ينبغي أن يهدف إليه من أهداف اجتماعية محددة، وهذا نوع من الترتيب المنطقي، يحسب دون شك لهما. يتخذ الكاتبان من تعريفهما العام للثقافة مدخلاً إلى رأيهما فيما ينبغي أن تكون عليه الثقافة المصرية، وهذا الرأي صريح في أن الثقافة إنما هي، أو ينبغي أن تكون في مصر انعكاساً لواقعها الاجتماعي. وواقع مصر الاجتماعي في الفترة التي كتبا فيها كلامهما هذا كان واقع الوطن الذي يجثم المحتل على صدره، وإذن فالمشكلة الملحة، التي ينبغي أن تحدد لون الثقافة وتجربة الأديب، هي النضال للخلاص من المستعمر، وكل مشكلة أخرى ينبغي أن ترى في ضوء هذه المشكلة، وعلى أساسها، بل إن الفنان ليس مختاراً، وهو رضي أو لم يرض، يستمد من واقعه الاجتماعي. وبالطبع نحن نتفق معهما في ذلك، دون أدنى حجر على اختيارات المبدع أو الفنان، فهو له الحرية التامة والكاملة في أن يختار الموضوع الذي يريده، مع الوضع في الاعتبار أن الفنان جزء من مجتمعه.

وهنا نريد أن نسأل: أليس الآن لدينا العديد من المشكلات المستعصية كالفقر، والجهل، والمرض، والفساد، والتسيب، والتبعية، والردة الفكرية، والظلامية، والخرافة، وعدم الالتزام بالأسلوب العلمي في التفكير.. إلخ. وعليه فما زلنا نطالب كما طالب أنيس والعالم بضرورة أن يكون الأدب في بلادنا انعكاساً لواقعنا الاجتماعي، ومشاكله العديدة، مع مراعاة الشكل الجميل الملتزم بمقاييس وأصول الفن الأدبي. وعليه فإنه لا ضرر ولا ضرار أن كل مشكلة أخرى ينبغي أن ننظر لها في ضوء مشاكلنا الاجتماعية، والفنان أو المبدع الحق عليه أن ينهل من واقعه الاجتماعي المعاش، ويقدم فناً جميلاً يرتقي بمشاعر الناس وأحاسيسهم، ويعبر عنهم، ولا ينعزل أو يتقوقع أو يبعد في برج عاجي، فيكون مصير إبداعه الإهمال والتجاهل. لابد للكاتب أن يرتبط ارتباطاً حميمياً بواقع مجتمعه الذي يعيش فيه، كما يجب أن يرتبط بهذا الواقع متخذاً موقفاً إيجابياً ومحدداً من مشكلاته.

وفي رأينا: أن عدم ارتباط المبدع بمشكلات المجتمع لا ينتج بداهة إلا أدباً ضعيفاً ليست له قيمة كبيرة، لأنه ليست له دلالة اجتماعية هادفة، مع الوضع في الاعتبار أنه ليس من المنطقي أن يضحي المبدع بالقيم والمقاييس الفنية مقابل أن يقدم مضموناً اجتماعياً، إذا فعل ذلك تحول أدبه إلى كتيب دعائي ممجوج مرفوض من الذوق العام. إن المفكر أو الفنان أو الأديب عندما يعبر، إنما يختار مادته الخام من عناصر مجتمعه المعاش، ومن علاقاته المتفاعلة، فهو جزء من مجتمعه من المستحيل أن يتجزأ. فهذه العناصر وتلك العلاقات تكشف في داخلها عن موقف محدد من هذا الإخطبوط، وكان الإخطبوط أيام كتابة العالم وأنيس لكلامهما، هو الاستعمار الجاثم على وجداننا القومي، المعرقل لعملياتنا الإنتاجية والإبداعية، ونرى: أن الأطماع الاستعمارية لم تنتهي بعد، وإن كانت قد ارتدت أثواباً أخرى أكثر زركشة وخداعاً، مثل العولمة وما ترتب عليها، وفي نفس الوقت فإن مشاكلنا الاجتماعية لم تنتهي بعد، بل استجدت مشكلات أخرى، ليس من الطبيعي أن يظل أهل الإبداع مجرد متفرجين عليها. ومن هنا فإن ما عرضه أنيس والعالم قابلاً للطرح، في وقتنا الراهن، غير قابل للتقادم. وإذا كانت الثقافة ـ كما يقول العالم وأنيس ـ إنعكاساً لعملية الواقع الاجتماعي، وكان واقعنا الاجتماعي (أيام تأليفهما لكتابهما) كفاحاً من أجل التحرر، وكان علينا أن نحدد مدلول الثقافة المصرية من داخل إطار هذا الواقع المصري.

أقول: إننا في حاجة ماسة في وقتنا الراهن إلى أن نعيد تحديد هذا المدلول للثقافة المصرية من داخل إطار الواقع المصري الآني بكل مستجداته، وعلينا أن نعي دوماً أن مشاكلنا بجميع أنواعها هي أكبر معوق للإنتاج والإبداع. يقول الكاتبان: ما هي العلاقة بين نظرية الزمان والقدر عند توفيق الحكيم، وبين تاريخنا القومي؟، وما هي العلاقة بين الرمزية الشعرية عند بشر فارس وبين مستوياتنا الاجتماعية؟، وما هي الدلالة الاجتماعية للأخلاق في شعر شوقي؟، إن الكشف عن هذه المفهومات وغيرها، وتحديد دلالاتها في ضوء واقعنا الاجتماعي هو السبيل لتحديد المدلول العام لثقافتنا المصرية، وتعميق جذورها المختلفة. (العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، ص24)

وبالطبع نحن نتفق معهما في ضرورة تحديد المدلول العام لثقافتنا، وكذلك في ضرورة السعي إلى تعميق جذورها، ولكن الذي نراه أن كلامهما لا يقلل على الإطلاق من قيمة الأستاذ توفيق الحكيم (شكسبير العرب)، ودور الأستاذ بشر فارس في الرمزية، ودور وريادة أمير الشعراء أحمد شوقي في نهضة الشعر العربي الحديث. فالذي أعتقده أن الأستاذين الدكتورين العالم وأنيس يكنان كل الحب والتقدير لهؤلاء الأعلام الكبار، وكذلك لكل من اختلفا معهم في الرأي مثل: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والأديب الإنساني إبراهيم عبد القادر المازني، والعملاق المفكر عباس محمود العقاد، فقد تعلمنا من أنيس والعالم ضرورة أن نحب الناس جميعاً مهما اختلفنا معهم في الرأي أو الفكر، فالخلاف في الاتجاه لا يفسد للفكر أو للود قضية.

إذن الأدب ينبغي أن يكون، طبقاً لنظريات أنيس والعالم ونحن معهما، تعبيراً عن حركة المجتمع الحية الناشئة من مجموع العلاقات، وضروب الاحتكاك بين فئاته المختلفة، وتعبيراً عن المشكلات الملحة، وأشواق الأمة الكامنة، بهدف دفعها نحو الأحسن والأفضل. والكاتبان يعتبران هذه المسألة من الأمور الحتمية القاطعة المسلم بها، وأن الأدب على حد تعبيرهما "نتاج اجتماعي ما في ذلك ريب"، و"من المسلم به اليوم" على حد قولهما أيضاً، وأن صور الأديب وخياله ومشاعره ومزاجه الفكري مستمدة من واقع المجتمع الذي نشأ فيه. (أنيس والعالم، في الثقافة المصرية، ص28). وعلينا أن نتنبه جيداً إلى أن الكاتبين لا يستعملان مصطلحات ماركسية، كما أنهما لا يلزمان الأدب أن يدعو إلى دعوة معينة، كما ذهب أصحاب المذهب الاشتراكي في النقد الأدبي. فما المانع من ربط الأدب بالمجتمع، ومن ضرورة تعبيره عن مشكلات الحاضر؟، وما المانع من أن يهتم الأدب والفن بمختلف طبقات الأمة، وبالذات الطبقات الدنيا التي هي في أمس الحاجة إلى من يعبر عن آمالها وآلامها، ويأخذ بيدها إلى الأفضل والأحسن؟، كل ذلك دون أدنى تجاهل للشكل الفني الجميل. إن مصر التي ينبغي أن تتكامل صورتها في وجدان كل أديب هي "مصر التي يعيش فيها الملايين من العمال والفلاحين والطلبة والموظفين الذين يعملون في المصانع والحقول والمعامل والدواوين، مصر التي يتصارع في ضميرها القلق والأمل. ومثل هذه الحياة، مثل هذه الملايين من أبناء الشعب، تستطيع أن تزود الفنان بمادة حيه لفنه". (المرجع السابق، ص30-31).

وهذا الكلام غير قابل للتقادم، ففي حاضرنا الراهن لم يتغير هيكلنا الاجتماعي كثيراً، وما زال في بلادنا ملايين من العمال، والفلاحين، والطلبة، والموظفين، والشباب الذي يبحث عن وظيفة في ظل البطالة المتفشية، وكل هؤلاء لهم آمالهم وتطلعاتهم المشروعة، في نفس الوقت الذي لهم مشاكلهم، التي يجب أن يعبر عنها الأدب بكل أجناسه. مازالت مصر يتصارع في وجدانها، في ضميرها القلق والأمل، ومازالت مشاكلنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية جاثمة على صدورنا، لتكون خير مادة حية ينهل منها الفنان أو الأديب. الكاتبان الكبيران يرفضان الواقعية بمعناها الحرفي المجرد، الذي يعنى فيه المبدع بتصوير الأحداث التي وقعت له تصويراً فوتوغرافياً آلياً، أو يرصد التجارب التي عاناها بالفعل كما هي، ويؤكدان على أن الواقعية الحق هي التي يفهم فيها المبدع أحداث حياته الخاصة، وتجاربه الشخصية، وينظر إليها، في ضوء واقع أكبر هو واقع بيئته الاجتماعية العامة.

وبناء على ما سبق وقف الكاتبان موقفاً معارضاً من الأدباء التقليديين (ومن وجهة نظرهما) ابتداء من الدكتور طه حسين، إلى الأستاذ عباس محمود العقاد، إلى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، إلى الأستاذ توفيق الحكيم، لما في أدبهم من "جمود وانفصال عن حركة الحياة"، ولما "رسبوه في وجداننا القومي من قواعد نقدية فجة، لا تفضي بالإبداع الفني إلا إلى أزقة مقفلة". وبالطبع هذا رأيهما الخاص جداً، ولكن الذي نؤكد عليه أن هذا الرأي لا يقلل من التقدير العام لهؤلاء الرواد، الذين قاموا بدور رائع متميز في مسيرة أدبنا وفكرنا ونقدنا الحديث، من المستحيل إنكاره بأي شكل من الأشكال، فاعتناق نظرية معينة لا يتعارض مع التقدير لهؤلاء الرواد. ويتخذ الكاتبان من الإعجاب بأدباء اليسار العالميين وسيلة للتعبير عن رأيهما في أدب أدباء عالميين آخرين، قد لا يمثلون نفس الاتجاه، ففي مجال الرواية يقارنون جيمس جويس في روايته المشهورة (يوليسيس)، بإليا أهبرتبرج في روايته الشهيرة (العاصفة)، فيضعان كل شيء من الإيجابية، إلى نمو الشخصية الروائية نمواً طبيعياً، في جانب (العاصفة)، بينما يسلبان من (يوليسيس) كل شيء، فهي تصور عندهما واقعاً مريضاً، متحللاً منهاراً في الحياة. وبالطبع هذا الرأي لا يقلل من أهمية رواية (يوليسيس) لجيمس جويس، التي كان لها دورها الكبير في إظهار تيار الوعي، هذا التيار الذي قلما نجد مبدعاً روائياً أو قصصياً في عصرنا الراهن لم يتأثر به.

وفي مجال الشعر، يعقدان مقارنة تهدف إلى نفس الهدف، بين ت. س. إليوت، ومايا كوفيسكي، ولأهمية هذه المقارنة في الفكرة التي نسعى إلى توضيحها، ألا وهي الكشف عن القضايا التي يعبر عنها أنيس والعالم، نسوق هذه المقارنة. يقولان: "وشعر إليوت دعوة ملحة لرفض هذه الحضارة، والعودة إلى سلطان الكنيسة كخلاص للإنسان من أزمته الراهنة، وشعر إليوت في معظمه لا يخرج عن هذا المضمون العام، ولقد تمكن من إبرازه، والكشف عنه وصياغته في صورة أدبية فريدة كذلك، مستعيناً ببعض ما استعان به جويس من منولوج داخلي، وتداع حر للمعاني، وفواصل شعرية مفاجئة، وانطباعات سريعة، وبهذه الصورة الأدبية الخاصة وقف إليوت، عند الكشف عما يجتاح الضمير الإنساني الحديث من أزمات وتناقضات واستسلام، دون أن يكشف عن الجانب الآخر من هذا الضمير، وما يتفاعل فيه من جهود صادقة للكفاح والتحرر والبناء" (المرجع السابق، ص47).

وفي هذا السياق يقارنان بين إليوت وشاعر آخر هو مايا كوفيسكي، وفي رأيهما: أن هناك فارقاً ضخماً في المضمون والصياغة، فما يا كوفيسكي ـ عندهما ـ فنان صائغ للشعر كذلك، ولكنه يمجد الحضارة الصناعية الحديثة، ويستبصر بالحركة الصاعدة للتاريخ، ويسوق كل هذا شعراً حياً دافقاً يعلي إرادة الإنسان، ويصور جهوده المظفرة من أجل البناء والحرية الفاضلة الصحيحة، وهو يستعين في صياغة هذا المضمون بوسائل تنبض بالحركة، والحرارة والحياة، فالكلمة المفردة والمقطعات السريعة، والتداخل بين العمليات النامية تشارك جميعاً في إبراز هذا المضمون الشعري الجليل. وبعد هذا الإطراء والثناء المبالغ فيه ـ من وجهة نظرنا ـ الذي أفاض به الكاتبان على مايا كوفيسكي، يقولان: لو اتخذ ماياكوفيسكي منهج إليوت الشعري سبيلاً له، لأراق دماء شعره، وأسكب نبضاته، وأصبح مضمونه مريضاً عاجزاً.

عن إليوت نتحدث:

وإذا كان الأستاذان الكبيران أنيس والعالم قد ناقشا رأي إليوت في معنى الثقافة والدين، وهاجما شعره هجوماً شديداً، وقارنا بينه وبين مايا كوفيسكي مرجحان كافة الثاني، وإذا كان الدكتور لويس عوض قد جاء بعد ذلك ليسمي اتجاه إليوت (الكثلكة الجديدة)، فلا يمكن لنا أن ننكر شهرة إليوت التي لم تأت من فراغ، ولا فضله في تكوين المعالم الأساسية للنقد الأدبي الحديث والمعاصر، ومن منا يستطيع أن ينسى مقالاته الشهيرة مثل: "التقاليد والموهبة الفردية"، و"هاملت ومشكلاته"، و"وظيفة الشعر الاجتماعية".. وغيرها.. وغيرها. لقد قاد إليوت الثورة في عالم الشعر في القرن العشرين، فقلب وجه الصورة في كل من انجلترا وأمريكا، ثم أثر في أوربا كلها، بل أثر في شعر القرن العشرين على نطاق العالم كله.

يقول الناقد والشاعر الأمريكي وليم كارلوس وليمز: إن قصيدة (الأرض الخراب) التي نشرها إليوت سنة 1922 م، قد اكتسحت عالمنا.. وقد أعادنا إليوت بها إلى حجرة الدراسة من جديد.

ولعل من الصفات التي لا يشارك فيها إليوت الكثيرون أنه مفكر تقليدي مجدد، والتناقض الذي قد يبدو في هذا الوصف تناقض ظاهري فحسب، وذلك لأن دعوته المعروفة إلى التقاليد لم تكن بحال من الأحوال دعوة إلى السير على نهج التقاليد الكلاسيكية كما فعل الكلاسيكيون الجدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر ـ كما فهم العالم وأنيس ـ وإنما كانت دعوة إلى إدراك الروح السارية في التقاليد، والتي تجعل منها وحدة تكتمل حلقاتها باندماج فكر العصر فيها.

ولعل الكاتبين الكبيرين يتفقان معنا على أن العصر لا يفهم إلا إذا نظرنا إليه باعتباره حلقة مكملة لهذه التقاليد من جهة كونه امتداداً ضرورياً لها. نقول: إن الارتباط بالتقاليد والدعوة إلى الاستفادة من عنصري الثبات والنظام الموجودين فيها، لم يطغ لحظة عند إليوت على الدعوة إلى الارتباط الشديد بواقع الحاضر الحي، وتمثيله تمثيلاً صحيحاً. ولا يخفى على الكاتبين والقراء الأفاضل: أن عصرنا الذي نعيش فيه هو عصر الذهن والذكاء، عصر العضوية والموضوعية، وإذا كان الأدب ترجمان العصر، فلا بد أن تتجلى فيه هذه الصفات. ومصداقاً لهذا كله فإن فكر إليوت يعكس مجد الإغريق، وعظمة الرومان، كما يعكس العصور الوسيطة، وعصر النهضة، وأخيراً يعكس نبض الحياة العادي، وحياة كل يوم في أوربا الحديثة (بعيداً عن الدعائية الممجوجة، والشعارات التي لا طائل منها) (محمود الربيعي، في نقد الشعر، ص147ـ148، بتصرف). ولا ننسى أن إليوت هو رائد النظرية الموضوعية في النقد الحديث، وصاحب (المعادل الموضوعية)، ولا ننسى أيضاً أنه بعث المسرح الشعري من مرقده آملاً أن يصل هذا القالب الفني الموضوعي إلى ما يريد.

الاهتمام بالقيم الفنية:

وليس معنى الإلحاح الشديد من قبل الكاتبين الكبيرين على المضمون الاجتماعي أنهما يهملان مسألة الصياغة الفنية، أو القالب الفني، أو التكتيك الفني، كما قد يتبادر إلى الذهن، وهذا اتجاه محمود دون شك، ولكن هذا لا ينفي إلتزامهما وتأثرهما بالاتجاه الداعي إلى الأدب الملتزم. ويهمنا القول هنا بأن كثيرين من النقاد الماركسيين، حتى داخل الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، كانوا يدركون أن وسيلة الفن هي التصوير للشخصيات والأحداث والمشاعر، وتقديم المضمون الاجتماعي في صورة فنية، وهذا ما نراه وندعو إليه. كما أن كثيرين من المتشددين في الالتزام بقضية الأدب للمجتمع لا يهملون الاهتمام بالعناصر الفنية المتعلقة بالقالب الأدبي، أو الجانب التعبيري. وهنا يعبر أنيس والعالم عن إيمانهما بضرورة القيم الفنية للعمل الأدبي، ويذهبان إلى القول بأن في الالتزام بالمضمون الاجتماعي عاملاً مساعداً للكاتب على تجويد أدواته الفنية. بينما ـ في رأيهما ـ عدم الالتزام بالمضمون الاجتماعي يعرض الكاتب للإخفاق الفني، وعدم السيطرة على القالب الفني. ويقولان: إن موقف توفيق الحكيم من الحياة هو الذي يحدد صياغاته الفنية في حواره الفكري، وشخصياته الجامدة غير المتطورة التي تزدحم بها مسرحياته، وعدم استيعاب طه حسين لواقعنا الحي بتفاصيله المتفاعلة المتطورة، سواء في الريف أو في المدينة في (دعاء الكروان) هو الذي أفرغ صياغة هذه القصة من الحركة، وجعلها أقرب إلى التجريدات النغمية، وهكذا، إن دراسة موقف الفنان أو الأديب من الحياة لا تمس أبداً فنية ما يكتب وما يؤلف، بل تساعد على الكشف عن كثير من الأسرار الفنية الخافية. (العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، 24ـ25، باختصار).

ونحن نتفق تماماً مع الكاتبين الجليلين في جزئية: إن دراسة موقف المبدع من الحياة لا تمس على الإطلاق فنية ما يكتب وما يؤلف، بل تساعد على الكشف عن كثير من الأسرار الفنية الخافية. رغم هذا الاتفاق فإننا لا نقرهما على ما وصفا به أعمال الدكتور طه حسين وبالذات روايته ذائعة الصيت (دعاء الكروان)، فهذه الرواية صدرت سنة 1934م، أي بعد حوالي 20 عاماً من ظهور أول رواية مصرية بالمعنى الحديث لهذه الكلمة، وأعني بها رواية (زينب) للدكتور محمد حسين هيكل باشا. ويمكن اعتبار دعاء الكروان وسطاً زمنياً وفنياً بين طراوة المحاولة الأولى ممثلة في رواية (زينب) لهيكل باشا، واكتمال النضج الفني ممثلاً في أعمال قطب الرواية العربية الحديثة الأستاذ نجيب محفوظ، الذي صدرت له أول رواية واقعية، سنة 1945م، وهي روايته القاهرة الجديدة. (محمد فتوح أحمد، نماذج تطبيقية من الأدب النثري الحديث، ص40، بتصرف). ولقد تمثل رواية (دعاء الكروان) مع ذلك صورة من كفاح الطبقة الفقيرة الكادحة في محاولة للتغلب على تعاستها.(أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر، ص217).

ورغم ملامح ومظاهر الكلاسيكية في رواية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فقد استخدم أسلوب الاسترجاع أو الفلاش باك، كما استخدم التداعي الحر أو تيار الوعي أو المونولوج الداخلي، ووحدة الروي، والوحدة العضوية في الرواية، أضف إلى ذلك براعته في رسم الشخصيات الأساسية المحورية والشخصيات الثانوية، وكذلك التحليل النفسي. كل ذلك تم بأسلوب العميد الفخم الواضح، الذي يمتاز بالحلاوة والطلاوة، هذا الأسلوب الذي يجمع فيه بين الموروث وأصالة المعاصرة. ولا نعتقد أن الدكتور العميد لم يستوعب واقعنا الحي في أي من أعماله الروائية، ومثال على ذلك دعاء الكروان تلك الرواية الاجتماعية العاطفية التحليلية، التي موضوعها الخطيئة والثأر والحب، بتفاصيله المتفاعلة المتطورة سواء في الريف أو في الحضر.

أما الأستاذ توفيق الحكيم (شكسبير العرب)، فقد كتب المسرحية الاجتماعية، وبرع فيها، وهل ننسى (الأيدي الناعمة) و(الصفقة)، وغيرهما، وإذا كان البعض يتهم الأستاذ الحكيم بأنه لا موقف سياسي له، أو أنه ملك السلب العظيم، فهذا البعض نفسه يقول: إن الحكيم ملك الحوار، وقد نجح نجاحاً كبيراً في رسم شخصياته المسرحية. على كل حال فإنه لا يمكن أن ننكر التزام الحكيم بالمضمون الاجتماعي بشكل أو بأخر، ونرى أن ذلك ـ ومن منطلق توجه الكاتبين الكبيرين ـ كان مساعداً للحكيم على تجويده في أدواته الفنية أكثر وأكثر، فليس من المنطقي القول بأن شخصيات الحكيم كلها شخصيات جامدة أو غير متطورة. وأحب أن أسأل هنا: حتى مسرحيات الحكيم الذهنية، ألم يكن بها مضمون فكري، أو قضايا تتصل بالواقع المعاش؟

عن الشكل والمضمون:

ولا تقف العناية بالناحية الفنية في رأي الكاتبين: أنيس والعالم، عند هذا الحد، وإنما تتجاوزهما إلى ناحية أخرى شديدة الأهمية، وهي الاعتقاد بأن المضمون، مهما كان مهماً وعظيماً، لا يزيد عن كونه تقريراً من تقارير الدعاية، إذا وضع في صورة فنية هابطة. وطلاب الحقيقة والكمال في الأدب، يدركون أن الأدب الذي به مضمون عظيم يجب أن يحافظ على الشكل العظيم كذلك. حقاً، فقد صدق الكاتبان، فبدون هذا الشكل الفني العظيم الجميل، ينعدم الفرق بين الأدب كفن إبداعي جميل، وكتب الدعاية، وهي حقيقة يجب أن يعيها كل الكتاب الذين يملكون مشروعاً إبداعياً، فيكونون على دراية بأن الأدب الحق هو الذي يجمع بين الشكل العظيم والمضمون العظيم، وعليهم أن يدركوا ذلك بعين الرعاية والاهتمام الشديد. يقول الكاتبان: إن كتاب البرجوازية يلقون دائماً الاتهامات جزافاً في وجوههم، بأنهم ينشدون وجه الدعاية السياسية لا وجه الأدب، ويرد الكاتبان على ذلك رداً بليغاً ـ على حد قولهم ـ حين ينتجون للشعب أدباً يهتم بدلالاته الفنية، كما يهتم بدلالاته الاجتماعية، وحين يتقدم النقاد لأعمال الكتاب الأحرار، يجلونها ويكشفون عن عيوبها الفنية. (العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، ص195، باختصار).

نعم، يجب أن يبدع الأدباء أدباً يهتم بالناحية الفنية الجمالية إلى جوار المضمون الاجتماعي، وهذا واجب على جميع الأدباء، وليس هناك من يرفض ذلك، مع التنبيه على أن تصنيف المبدعين إلى أصناف فنقول: هذا برجوازي، وهذا أرستقراطي.. إلخ، أمر مرفوض، وكذلك ليس هناك مبدعين من الأحرار، ومبدعين من العبيد، فالمبدع هو المبدع في كل زمان ومكان، والإبداع ينمو ويرتقي ويتطور عندما يجد النقاد الذين يحللون ويستكشفون ويقيمون ويوجهون، يفعلون كل ذلك في حيدة تامة لوجه الله، وحباً واحتراماً للفن والأدب، دون أدنى فرض وجهة نظر معينة على المبدعين. وما زلنا نؤكد على أن الكاتب الحق يكون كاتباً حراً عندما يعيش واقع أمته المعاش، يجمع في إبداعه بين المضمون العظيم والشكل العظيم، بعيداً عن السوقية والابتذال، بعيداً عن الخطابية والمباشرة، بعيداً عن التعقيد والغموض، بعيداً عن التعالي على القارئ المتلقي.

خلاصة الرأي عندهما:

وخلاصة الرأي عند الأستاذين الجليلين العالم وأنيس، في مفهوم العمل الأدبي أن مضمونه يعكس أحداثاً اجتماعية، وليس مضمونه المعاني، كما يرى الدكتور طه حسين (على حد قولهما)، وأن الصورة الأدبية تشكيل لهذا المضمون الاجتماعي، وإبراز لعناصره وتنمية لمقوماته، وليست اللغة كما يقول الدكتور طه حسين أيضاً (على حد قولهما). وفي الواقع أن كلامهما أو خلاصة الرأي عندهما، تجعلنا نطالب كل من يكتب رأيه في أي فكرة من أفكار عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، أن يقرأ الرجل قراءة فاحصة واعية، فهو لم ينادي بأن يكون المضمون حكراً على المعاني، ولم يقل أن اللغة هي أساس الأسلوب، القراءة الواعية للعميد تجعلنا ندرك أنه صاحب منظومة شبه متكاملة في النقد الأدبي، على كل حال فإن المجال لا يسمح لكي نستطرد في هذا الأمر. يقول الكاتبان الكبيران: إن تأكيد المضمون الاجتماعي للأدب لا ينفي تأكيد قيمة الصورة وأهميتها، وأن نقد مثل هذا العمل إنما هو استيعاب لمقوماته جميعاً، فالكشف عن المضمون الاجتماعي، ومتابعة عملية الصياغة مهمة واحدة، وأخيراً فإن العلاقة بين الصورة والمادة في العمل الناجح علاقة تآزر واتساق. (المرجع السابق، ص49ـ50، باختصار).

بين النظرية والتطبيق:

ما سبق كان خلاصة مركزة للأسس النظرية والفكرية في دعوة أنيس والعالم إلى ربط الأدب بالمجتمع. أما التطبيق فقد شمل قالبين من قوالب الأدب، هما قالبا الشعر والرواية، وإن اهتما كثيراً بالجانب الثاني. ويقول البعض: إن تسلط النظرية على ذهن الكاتبين جعلهما يصلان إلى نتائج تخرج معظم النشاط الروائي من إبراهيم الكاتب للأستاذ المازني، إلى عودة الروح للأستاذ توفيق الحكيم، إلى روايات الأستاذ نجيب محفوظ المتعددة التي كتبها قبل التاريخ الذي كتبا فيه هذه الآراء. ولم ينل التمجيد إلا الكتاب الأحرار (على حد تعبيرهما)، وبخاصة الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، في روايته (الأرض)، أما الإنتاج الشعري في مصر فقد تناول على نفس الأساس النظري (محمود الربيعي، في نقد الشعر، ص76، بتصرف). وبالطبع لا يمكن لأي باحث أن يخرج في أي حال من الأحوال رواية (إبراهيم الكاتب) للأستاذ المازني، أو رواية (عودة الروح) للأستاذ الحكيم، أو أعمال الأستاذ نجيب محفوظ، من تاريخنا الروائي، فكل هذه الإبداعات علامات مضيئة في تطور الرواية العربية، ومن المحال إخراجها من هذا التاريخ، أو تجاهلها لأنها لم تلتزم بأفكار الأستاذين أنيس والعالم.

وبالنسبة للشعر فإن الارتباط بكفاح الشعب من أجل الحرية والاستقلال هو الأساس الذي يقوم عليه الشعر المصري الحديث (من وجهة نظر الكاتبين). وفي رأيهما أن (شوقي) و(حافظ) ارتبطا بأصحاب المصالح من سراة البلاد وأعيانها، الذين ارتبطوا بدورهم، طبقاً لمصلحتهم، بالاحتلال البريطاني، وقد ترتب على ذلك أن جاء شعرهم، في مغزاه السياسي، تعبيراً عن النظرية التي تمالئ الاستعمار البريطاني، واتصف بما اتصف به من تقريرية وجمود. وإذا طبقنا النظرية العامة لأنيس والعالم على هذا الكلام، فإن معناه يكون أن شعراء هذه الطبقة لم يستطيعوا التجديد في شعرهم، لأنهم لم يرتبطوا بقضية الشعب. وإذا كان هذا الكلام مبرراً وواضحاً في ضوء نظريتهما، فكيف نطبقه على شعر كل من الأستاذ على الغاياتي، والأستاذ أحمد الكاشف، مع أنهما ـ كما يقولان ـ يمثلان اتجاهاً وطنياً حاسماً لا تأرجح فيه ولا مهادنة، يعكس مفهومات الحركة الاستقلالية التي بشر بها الحزب الوطني. (العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، ص111، باختصار).

وواضح أن شعر الأستاذين الغاياتي والكاشف لم يختلف، بشهادة الكاتبين أنفسهما عن شعر المجموعة السابقة من حيث كونه تقليدياً وجامداً. وإذن فإن الموقف النضالي الذي هو أساس الإبداع الأدبي، لم ينفع هذين الشاعرين الوطنيين في تجويد فنهما الشعري في كثير ولا قليل. ومع كل الاحترام والتقدير لرأي الكاتبين الكبيرين، فإن هذا من شأنه أن يشكك في ذلك المقياس الذي وضعاه. وغني عن البيان هنا القول بأن ما قالاه عن شاعر النيل الأستاذ حافظ إبراهيم يخالف الحقيقة جملة وتفصيلاً، فمن يقرأ سيرة حياة حافظ، قراءة واعية، يعرف جيداً كيف كان حافظ شاعراً وطنياً كبيراً، ولم يستسلم ولم يهادن، نفس الأمر بالنسبة لأمير الشعراء أحمد شوقي، رغم اتصاله بالسلطة الحاكمة منذ بواكير حياته، فإن هذا لا يقلل من وطنيته على الإطلاق. والذي لا يمكن الطعن فيه أن هذين الشاعرين الكبيرين، كان لهما دورهما الكبير في نهضة ورقي الشعر العربي الحديث في بدايات عصر النهضة الأدبية.

يذهب الكاتبان إلى أن: شعر الطبقة التي تلت الطبقة السابقة (شوقي وحافظ) من الشعراء أمثال الأساتذة: العقاد وشكري والمازني، جاء ضعيفاً متهافتاً، وذلك رغم اختلاف شعر جماعة الديوان عن شعر الطبقة السابقة، في أنه كان تعبيراً عن تجارب ذاتية، ومع أن شعراء هذه الطبقة وقفوا بالمرصاد لشعراء الطبقة السابقة، شعراء سراة البلاد وأعيانها (على حد تعبير أنيس والعالم). والسبب في ضعف وتهافت شعر هؤلاء عند الكاتبين، أن شعراء الشخصية هؤلاء لم يستطيعوا القيام بثورة أصيلة في التعبير!!، ولعل مردها أيضاً، من واقع المنطق العام للكاتبين، أنهم لم يرتبطوا ارتباطاً أصيلاً بقضايا الشعب، والتعبير عن قضاياه وأشواقه!!

وبالمثل تردت مدرسة أبوللو ـ كما تقول وجهة نظرهما ـ في نفس الخطأ، فتخلت عن الإيمان بالشعب، وانعزلت عن الحياة، وعاشت في عالمها الخاص الحافل بالرؤى والتهاويم التي تحتفظ بالقيم الشكلية، وإن استعانت بالصور والخيالات المغرقة، وهكذا كان من نتيجة انفصال هذه الطبقة من الشعراء عن الحياة أن ذهب ناجي يبحث عن عالمه وراء الغمام، وذهب على محمود طه إلى ما وراء البحار في الملاح التائه، وعانى محمود أبو الوفا أنفاسه المحترقة، وعاش الصيرفي مع الألحان الضائعة، وكان محمود حسن إسماعيل مثالاً كاملاً للانفصال عن الحياة.(العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، ص117). ونرى أن الدراسة النقدية المتأنية لشعراء جماعتي: الديوان، وأبوللو، من الممكن أن توصلنا إلى نتائج تختلف تماماً مع النتائج التي توصل إليها الكاتبان الكبيران. وكان على الشعر المصري ـ كما يقول الكاتبان ـ أن ينتظر حتى تنشأ عملية المقاومة الجديدة، ويقرر الكاتبان أنها بدأت مع تكوين (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال)، سنة 1946م، ومنذ ارتبط الشاعر بكفاح الشعب اتجه اتجاهاً جديداً في المضمون، واتجاهاً جديداً في الصياغة، وذلك لأنه لم يعد واحداً من حاشية سراة البلاد وأعيانها، أو عضواً في ناد أو مقهى للسمر، ولم يعد كذلك يحلق في أجواء خيالية خاصة، وإنما أصبح واحداً من أفراد الشعب المكافح.

وبدورنا نتمنى أن يكون لشعراء النضال هؤلاء الموقف المستقل، ولا نتمنى أن يتحولوا إلى أبواق، تهتف للحاكم أو تمجد السلطان، أو يكونوا من حاشية الحكام، أو أن يرتدوا عن مواقفهم النضالية، أو أن يركبوا الموجة، ويسبحوا مع التيار، كما نتمنى أن يبعدوا عن حاشية سراة البلاد وأعيانها، وأن يكفوا عن ارتياد المقاهي أو النوادي للسمر!!. ونحب أن نذكر هنا أن اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، التي أشار إليها الكاتبان، هي لجنة يسارية الطابع، ورغم اختلافنا مع اليسار في بعض الجزئيات، إلا أننا نؤيد كل الجهود الوطنية الصادقة في القديم والحديث، والتي هدفها تحقيق مجتمع الرفاهية لكل فئات الأمة.

في هذا الاتجاه الأخير، وهو الاتجاه الوحيد الذي ينال احتفال وتمجيد الكاتبين، يسلك شعراء الشعر الحر الذين توصلوا إلى إحداث ثورتهم في الشكل والمضمون، لأنهم توصلوا إلى هذه الحقيقة التي تعتبر فاصلة (طبقاً لوجهة النظر هذه)، بين الجمود وعدم النجاح، وهي الارتباط بحركة الجماهير وتطورها نحو أهدافها السياسية والاجتماعية. وفي رأي الكاتبين: أن شعر هذه الطبقة يمتاز بالعودة إلى الارتباط بالحياة الاجتماعية العامة، ومعالجة الذاتية من خلال المشكلات الاجتماعية، وبأنه أحدث ثورة في الشكل، حيث اعتقد بادئ ذي بدء أنه سيقضي على الشكل التقليدي قضاء أخيراً، وبأنه قضى على الازدواج بين الحس والفكر، وبأنه تبنى استخدام التعبيرات والمصطلحات الشعبية، وتبسط في الأساليب اللغوية إلى حد (النسيج العادي)، وبأنه قابل للانتشار بشكل (جماهيري واسع)، وبأن الشاعر الحر يشترك اشتراكاً فعلياً، أي بشخصه إلى جانب الاشتراك بشعره في الكفاح الوطني. (العالم وأنيس، في الثقافة المصرية، ص126، وما بعدها).

وعندنا أن الشاعر أي شاعر، حر أو غير حر، يجب أن يرتبط بمجتمعه، ويسعى كمبدع إلى تطور المجتمع نحو أهدافه المنشودة، جامعاً في جلاء بين الشكل العظيم والمضمون العظيم، دون أدنى ازدواج بين الحس والفكر، كل ذلك يأتي في لغة معبرة راقية بعيدة عن الابتذال أو السوقية، بعيداً عن الخطابية التي ينفر منها الناس، فإذا قدمنا أدباً تتوافر فيه هذه السمات، فإنه من غير شك سوف يكون محترماً، وفي نفس الوقت قابلاً للانتشار الجماهيري. والشعر الحر ـ رغم كل تحفظاتنا عليه ـ أصبح له مدرسته المقننة المقعدة، ورغم ذلك لم يقض على الشكل التقليدي، فالتنوع في الأشكال والاتجاهات الفنية يضمن للأدب أداء دوره، ويضمن له التفاعل الحق مع المجتمع. والأدب الصادق ـ في رأينا ـ لا يعاني أي ازدواجية بين الحس والفكر، ويجب أن يرتقي ويسمو بفكر وأحاسيس ومشاعر الناس، ولا ينزلق إلى مهاوي التسطيح أو الابتذال أو التبسيط المخل في الأساليب والتعبيرات إلى حد النسيج العادي، الأدب الحق هو الذي يأخذ بفكر الناس ومشاعرهم إلى الأحسن والأرقى والأفضل. والأدب الصادق في أي مكان أو زمان هو الذي يحقق الانتشار الجماهيري، لأن الصدق الفني هو جواز المرور للأدب عند الناس، بل أن هذا الصدق يضمن للأدب البقاء والخلود. والشاعر أو الأديب كلاسيكي كان أو رومانسي أو واقعي يجب أن يجمع بين الشكل الجيد والمضمون الجيد، بحيث يكون له ذاتيته الخاصة، فليس من المنطقي أو المعقول أن يكون كل الأدباء نسخة واحدة، لمجرد أنهم يلتزمون بقضايا أمتهم وبنضالها الوطني.!!

ونحن بدورنا نشجع وندعو إلى الأدب الذي لا ينفصل عن واقعنا الاجتماعي، بغض النظر عن المسمى، أدب هادف أو أدب هاتف أو أدب ملتزم أو أدب اجتماعي، ولكن ليس من المعقول أن نلغي وبجرة قلم واحدة كل الشعر العربي الحديث الذي عبر عن واقعنا وأحلامنا وأشواقنا، أو معظمه، رافضين إياه، قلباً وقالباً، فيما عدا الشعر الحر، زاعمين أن تراثنا الشعري الحديث لم يعبر عن قضايا المجتمع، ولم يشارك في الكفاح الوطني. وإذا أخذنا بذلك فسيوجه إلينا نفس النقد الذي وجه إلى الأستاذ سلامه موسى عندما حكم على التراث الأدبي بالموت على عمومه وإطلاقه.

عندما ينسحب الأديب:

إن انسحاب الأديب من المعركة، معركة مواجهة مشاكل الواقع، سقطة لا يغتفرها العالم وأنيس، وقد هاجما على أساسها أدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وبعض أدب الأستاذ توفيق الحكيم، وشعر مدرسة أبوللو الرومانسية كله. ويلاحظ أنهما لم يهاجما الشاعر الأستاذ أحمد الكاشف، وذلك لمجرد وقوفه من حركة الكفاح الوطني موقفاً إيجابياً، والدارس لحياة الشاعر أحمد الكاشف وشعره، يعرف أن الرجل اعتزل المجتمع والناس نتيجة ليأسه، وكان منطقياً أن يوجه إليه نفس النقد، أو توجه إليه تهمة الهروب من المعركة التي لا يمكن أن تغتفر أو تبرر، كما نفهم من وجهة نظر الكاتبين. وقد أورد الكاتبان بعض أبيات الكاشف الذي يعلن فيها اعتزاله الحياة في الريف، ولم يعلقا عليها أي تعليق نشتم منه رفضهما لموقفه. على كل حال لكي نفهم الإبداع الأدبي حق فهم يجب علينا أن ندرس جيداً حياة الأديب، وظروفه النفسية والثقافية، وكذلك ظروف عصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، كي تكون مساعداً لنا على هذا الفهم، مع الوضع في الاعتبار أن النقد الأدبي يجب أن ينصب على إبداع الكاتب أولاً، ولا يخوض في تفاصيل حياته الخاصة، واضعين في الاعتبار أن الكاتب أو المبدع أو الباحث هو صاحب القرار الأول والأخير في أن يستمر في عطائه أو إبداعه، أو ينسحب من الحياة الأدبية، وفي بعض الأحيان تكون الظروف القاهرة لها أكبر الأثر على المبدع.

اختيار الشواهد:

ونحن نتفق مع الكاتبين الكبيرين في تمسكهما بالقيم الفنية الخاصة، وضرورة تجويدها إلى جانب القيم الاجتماعية، ولكن ما لا نتفق فيه معهما هو الإشادة بأدب واضح الضعف طبقاً لأي مقياس فكري قد نطبقه، ووضعه فوق نماذج من الشعر المصري الحديث، لا يمكن أن يقارن بها، وذلك لمجرد أن موضوعه المعركة التي يخوضها الشعب. النماذج التي نقدمها كدليل على التزام المبدع بقضايا أمته يجب أن يكون موضوعها موضوعاً جليلاً مقدماً في صورة عظيمة، فالأدب إذا لم يقدم في صورة عظيمة، فإنه لا يعدو أن يكون كتيباً من كتيبات الدعاية، كما ذهب الأستاذان الكبيران. لا يصح أن تكون النماذج الأدبية التي نقدمها كشواهد على الأدب الملتزم نماذج متداعية فجه، كما لا ينبغي ألا نخدع بالتبسيط المخل لوسائل الفن وروحه، ولو توسل ذلك الفن إلينا بمخاطبة الروح الوطنية فينا، أو مخاطبة ارتباطنا بالريف الذي هو أصلنا ونبتنا جميعاً.  ينبغي أن نمتلك جميعاً من الشجاعة والإخلاص لمهمتنا كنقاد أو كتاب أو باحثين أن نقول: إن الشعر إذا كان سخيفاً أو ضعيفاً بالرغم من المدفع الرشاش، وشجرة الجميز، وبالرغم من حقول الصعيد، والبرسيم والحصيد... إلخ.

إذا كان الشعر هكذا ينبغي أن نقول ذلك دون مداراة أو مواربة، مهما كان اتفاقه مع وجهة نظرنا الخاصة، فالناقد الأدبي في المقام الأول قاض محايد ملتزم في كل أحكامه بالقوانين الفنية في الأدب. لا يصح أن نبدي حماساً شديداً للأدب الذي لا يتفق مع المقاييس الفنية المعترف بها في صور الفن، ولا يصح أن نخالف ذلك في التطبيق مهما كان توجهنا الفكري، فنعرض على الناس وعلى الناشئة النماذج المتهافتة كواجهة لصورة الأدب العربي الحديث. ولا ينبغي أن نقول بأن: اهتمامنا الأول والأخير هو المضمون، والمضمون وحده، ومع الاعتراف بوجود شعراء أو أدباء لا يرتقون إلى مستوى الجودة رغم اهتمامهم الكبير بالمضمون، حيث نجد ضعفهم الفني جلي واضح، ومع ذلك نؤكد على ضرورة وأهمية أن يكون الإنتاج الأدبي الجديد الجامع بين الشكل الجيد والمضمون الجيد، هو الواجهة المضيئة في تاريخ الشعر العربي الحديث كله، وذلك إذا نسينا أننا نتحدث عن فن للفن، أو أننا ندعو بصرامة إلى أن يتحول الأدب إلى مواقف اجتماعية أو قومية فقط لا غير.

وعليه فلا نريد أدباً يستوي فيه التعبير بالشعر، مع التعبير بالتقرير الدعائي، نريد أن يعود الشاعر أو الأديب العربي أو المصري إلى مجتمعه بالأمل، بالحياة، بالكفاح المستنير، نريد أن يشارك جميع الأدباء والمفكرين في معركة بناء الحياة (كما يقول الأستاذان الجليلان). ولا يهم أن يكون الشاعر صغيراً في عمره، أو حتى صغيراً في تجاربه، ولكن الذي لا نرضاه بأي حال من الأحوال أن يكون صغيراً في معرفته بأسس وقيم الفن الجميل. والأديب يجب أن يكون كبيراً في إدراك الأعباء الإنسانية الكبرى التي يتحملها، والقيم العليا التي يجب أن يؤمن بها، وهذا لا يتأتى إلا بالخبرة والثقافة والتجارب والوعي والممارسة، كل ذلك يمكنه من النضج شكلاً ومضموناً، فالشكل وحده أو المضمون وحده لا يكفي على الإطلاق لأن يكون المبدع مبدعاً حقيقياً.

الدعوة تبلغ مداها:

لقد بلغت الدعوة إلى الأدب الهادف أو الملتزم مداها المذهبي عند أنيس والعالم، وكانت بالنسبة لدعوة الأستاذ سلامه موسى أكثر تنظيماً ومنهجية، وأوضح من ناحية الأسس الفكرية التي تعتمد عليها، وأكثر دقة من حيث اهتمامها بالتطبيق على بعض القوالب الفنية الحديثة، وفي مقدمتها الشعر والرواية. لكنها لم تستطع التخلص من الدخول في مهاترات ومجادلات وصلت إلى حد الشتائم، وإن كان من الواضح أن هذه الشتائم يقابلها، في الجانب الآخر، الذي مثله الأستاذ عباس محمود العقاد بصفة خاصة، أسلوب لا يقل عنها حدة، واستعمالاً للشتائم. والشتائم والتراشق بألفاظ السب والقذف، أسلوب مرفوض تماماً في أية معركة فكرية، مهما بلغت حدتها، فاحترام الرأي والرأي الآخر، ومقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة، والدليل بالدليل، والحوار بالتي هي أحسن، كل ذلك يجب أن يكون أهل الفكر والعلم والأدب أول العارفين له، والملتزمين به، فالكلمة أمانة ومسئولية والتزام، والكلمة الطيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، بإذن الله تعالى. وعلى الرغم من تأثر العالم وأنيس الواضح بدعوة الأستاذ سلامه موسى التي سبقت دعوتهما زمنياً، وإن كانت دعوتهما إلى الأدب الملتزم قد استمدت أساساً من التيار المذهبي اليساري، فإنهما لم يشرا بكلمة واحدة إلى الأستاذ سلامه موسى ودعوته، أو إلى دوره في طرح هذه المسألة، رغم أوجه النقد العديدة التي وجهت إليه.

والله تعالى ولي التوفيق.

 

الأسانيد والمراجع

(1)           محمود أمين العالم بالاشتراك مع عبد العظيم أنيس، في الثقافة المصرية، بيروت، 1955م

(2)           محمود الربيعي، في نقد الشعر، دار المعارف، القاهرة، 1973م.

(3)           لويس عوض، الاشتراكية والأدب، بيروت، 1963م.

(4)           محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرين، القاهرة، بدون تاريخ.

(5)           سلامه موسى، الأدب للشعب، القاهرة، 1956م.

(6)           سلامه موسى، الأدب الإنجليزي الحديث، طبعة ثانية، القاهرة، 1948م.

(7)           يسري عبد الغني عبد الله، تجليات التأصيل في مسرح توفيق الحكيم، القاهرة، 2006م.

(8)           محمد فتوح أحمد، نماذج تطبيقية من الأدب النثري الحديث، مكتبة دار العلوم، القاهرة، 1974م.

(9)           أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر، دار المعارف، القاهرة، 1976م.

 

باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية، وخبير في التراث الثقافي

Ayusri_a@hotmail.com